31 - رقصة الجنون الارجواني

[من منظور بابادوك]

الهواء كان يئن، ليس من الريح، بل من ثقل الكراهية التي تملأه. حديقة القصر، التي كانت يومًا واحة من الهدوء، تحولت إلى مسرح لجحيمٍ أخضر. أوراق الشجر تتراقص بعصبية، والظلال الطويلة التي ألقتها أشجار السرو العتيقة بدت وكأنها أيادٍ تمتد لتمسك بي.

أمامي، لم تكن تلك ميساكي التي عرفتها. لم تكن الشبح الهادئ الذي يهمس، أو الروح التي تبحث عن السلام. كان الوحش الهلامي قد اتخذ هيئة ميساكي مشوهة، كابوسًا متجسدًا. عينها اليمنى التي عادت مغطاة بالرقعة الطبية البيضاء غير موجودة أرى فقط عين سوداء فارغة، تمدد وتشوه، صار مزيجاً من اللحم الشاحب الذي يتلوى والارجواني القاتم الذي يمتص الضوء. عيناها كانتا بحراً من العدم، لا لمعة حياة فيهما، فقط وعد بالدمار.

ومن جلدها، بدأت تنبثق أشياء.

لم تكن مجرد أطراف إضافية، بل كانت رماحاً عظمية حادة، تبرز من كتفيها وظهرها، تلمع ببريق خبيث تحت ضوء القمر الخافت. كانت تتحرك بتشنج، كأنها أطراف كائن غريب لا يملك أي قيود في جسده.

"ميساكي..." تمتمتُ، لكن الصوت لم يكن لي. كان مجرد همسة من الريح.

لم تجب. فقط، انطلقت نحوي.

كانت سريعة بشكل لا يصدق، أسرع من أي زومبي، أسرع حتى من بعض الجن. اندفعت نحوها، جسدي يتحرك بحدسه الخاص، متجنبًا الرمح الأول الذي انطلق من كتفها الأيمن، والذي اخترق الأرض خلفي تاركًا حفرة عميقة.

تجنبت الرمح الثاني، ثم الثالث، بينما كانت تلتف حولي في رقصة مميتة. لم تكن مجرد هجمات عشوائية؛ كانت هجماتها محسوبة، موجهة نحو نقاط الضعف،

"الوحش اللعين يعرف كيف يقاتلني."

"هذا ليس الوحش الهلامي العادي،انه اقوى بمئة ضعف" فكرتُ، وأنا أصد هجومًا آخر بساعدي، لأشعر بقوة الضربة التي كادت أن تكسر عظامي.

فجأة، تمددت أطرافها. لم تعد رماحًا عظمية فقط، بل مجساً مشوكاً سميكاً، يخرج من أسفل ظهرها، يتلوى كالثعبان، وينتهي برأس مدبب مليء بالأشواك الحادة. انطلق المجس نحوي بسرعة البرق، محاولاً اختراق صدري.

قفزتُ عاليًا، لأرى المجس يضرب المكان الذي كنت أقف فيه قبل ثانية، محطماً الأرضية الحجرية للقصر.

هبطتُ على قدمي، ثم انطلقت نحوها. أنا لا أقاتل بجدية عادةً، لكن هذا الكيان... هذا الكابوس... كان يجب أن يتوقف.

كانت المعركة عنيفة. كانت ميساكي المشوهة تستخدم جسدها المتحول ببراعة مرعبة. كانت الرماح تبرز وتختفي من جلدها، تتحول إلى سيوف حادة، ثم إلى دروع مؤقتة. المجسات المشوكة كانت تلتف حولي، تحاول الإمساك بي، أو اختراقي.

في إحدى اللحظات، بينما كنت أصد رمحًا عظميًا بيدي، انطلق مجس آخر من جانبها، التف حول ساقي، وشدني بقوة نحوها. شعرت بالأشواك تخترق جلدي، لكنني لم أصرخ.

سحبتني بقوة نحوها، ثم رفعت يدها الأخرى، التي تحولت إلى مخلب ضخم من الهلام الارجواني، محاولة شق وجهي.

في جزء من الثانية، كسرتُ قيد المجس عن ساقي، ودفعتها بعيدًا. اصطدمت بجذع شجرة قديمة، لكنها لم تتأثر. عادت لتهاجمني فورًا، عيناها الفارغتان تشتعلان بضوء خبيث.

"لماذا انت متنكر بهيئة ميساكي؟" سألتُ، لكنها لم تجب.

كانت تهاجم، تهاجم، تهاجم. لا تتوقف. لا تتعب.

تراجعتُ إلى وسط الحديقة، حيث كانت الأرض أكثر اتساعًا. كانت هجماتها لا تزال قوية، لكنني بدأت ألاحظ نمطًا. كانت تعتمد على القوة الغاشمة والسرعة، لكنها كانت تفتقر إلى التفكير التكتيكي الذي يميز المقاتلين الحقيقيين.

في لحظة، انطلقت نحوي، رماحها تلمع، ومجساتها تتلوى كالأفاعي. بدلاً من تفادي الهجوم، اخترقتُ دفاعاتها.

اندفعتُ نحوها بسرعة خاطفة، متجنبًا رمحًا اخترق الهواء بجانب رأسي، ثم انزلقت تحت مجس حاول الإمساك بي. وصلت إليها.

قبضتُ على أحد رماحها العظمية التي كانت بارزة من كتفها، وبكل قوتي، سحبته بعنف.

صرخ الوحش. صرخة لم تكن بشرية، بل كانت صرخة وحش يتألم.

تراجع جسدها قليلاً، وظهر شق صغير في جلدها حيث سحبت الرمح. لكن الشق التئم بسرعة مذهلة.

"قوة التجديد؟" تمتمتُ. هذا الكيان كان أكثر خطورة مما ظننت.

استمر القتال. كنت أصد، أتفادى، وأبحث عن نقطة ضعف. كانت تهاجمني دون توقف، تطلق سيلاً من الرماح والمجسات، تارة من الأمام، تارة من الخلف، كأن جسدها كله تحول إلى ترسانة أسلحة.

في إحدى اللحظات، بينما كانت تهاجمني بمخلبها الضخم، رأيت لمعة خافتة في عينيها الفارغتين. لمعة لم تكن شريرة، بل كانت... حزينة.

و فجأة تذكرت وجه ميساكي اللطيف

هذا التفكير جعلني أتردد للحظة، وكانت تلك اللحظة كافية.

انطلق مجس مشوك من خلفها، وضربني بقوة في ظهري. شعرت بألم حاد، وأُلقيتُ بعيدًا، لأصطدم بجدار الحديقة الحجري.

لكنني لستُ مخلوقًا يُستسلم بسهولة. الجن لا يركع.

في اللحظة التي بدأت فيها مخلبها بالنزول، دفعتُ بنفسي للأمام. لم تكن مجرد حركة، بل كانت انفجارًا من الطاقة الكامنة. جسدي تحول إلى وميض أسود، تاركًا خلفه أثرًا من الضباب.

الوحش ضرب الأرض بضربة هائلة، مخلفًا حفرة عميقة، لكنني كنتُ قد ابتعدت عنها. أطلقتُ صرخة مدوية، صرخة جنية تمزق الهواء، ثم أخرجتُ مظلتي من ظهري.

لم تكن مجرد مظلة. كانت رفيقتي الأبدية، سلاحي، درعي، امتدادًا لكياني.

توسعت قفصها الصلب المصنوع من معدن أسود لامع، وتحول طرفها المدبب إلى نيزك حاد. أمسكتُ بها بكلتا يديّ، وشعرتُ بالقوة تتدفق في عروقي.

اندفعتُ نحو الوحش، مظلتي مرفوعة. كانت تطلق رماحها العظمية بانتظام مخيف، لكنني كنتُ أصدها كلها. المظلة، التي كانت قبل لحظات مجرد هيكل، أصبحت درعاً منيعاً. كل رمح ارتطم بها، انكسر أو انحرف، تاركاً شقوقًا بالكاد مرئية على سطحها الأسود.

وصلتُ إليها، وبسرعة خاطفة، استخدمتُ المظلة كـسيف. شققتُ الهواء بدقة مميتة، مستهدفًا النقاط الضعيفة في جسدها المشوه. ضربتُ أولاً في ساقها، محاولًا قطع أحد مجساتها المتلوية. سمعتُ صرخة من الوحش، وتراجع جسدها قليلاً.

لكن جسدها الهلامي الملتئم بسرعة مذهلة. الشق الذي أحدثته تلاشى في ثوانٍ.

"لا فائدة من الشق!" تمتمتُ، وأنا أتفادى موجة أخرى من الرماح العظمية التي خرجت من ظهرها كطفرة مفاجئة.

كانت تهاجم بضراوة، وتعتمد على قدرتها الفائقة على التجديد. كلما ألحقتُ بها ضررًا، كانت تلتئم بسرعة أكبر. أدركتُ أن هذا الكائن لا يُهزم بالأسلحة التقليدية أو الضربات المباشرة التي تهدف إلى القتل. يجب أن أجد نقطة ضعف مختلفة.

في لحظة، بينما كانت تحاول الإمساك بي بمجساتها المشوكة، قفزتُ إلى الأعلى، وتمدد جسدي في الهواء. ثم ألقيتُ مظلتي نحوها.

لم تكن مجرد رمية. تحولت المظلة في الهواء إلى رمح أسود ضخم، يندفع نحو الوحش بقوة دفع هائلة. اخترق جسدها المشوه من منتصف الصدر، ليخرج من ظهرها، ويصطدم بجذع شجرة نخيل قديمة خلفها، مثبتًا إياها بقوة.

صرخ الوحش صرخة هائلة، هزّت أرجاء القصر. جسدها تشنج بعنف، والمجسات والرماح خرجت منه بشكل عشوائي، تدمر كل ما حولها في محاولة يائسة للتحرر.

اندفعتُ نحوها قبل أن تتمكن من التئام جرحها. كان الرمح الأسود يثبتها، لكنني علمتُ أن الوقت قصير.

كانت ترفض الاستسلام. مجساتها الأربعة، المليئة بالأشواك، انطلقت نحوي من كل زاوية، كأنها أفاعٍ جائعة. صدها بيدي، وبدأ جسدي يتعافى من آثار الإصابات. كلما مر الوقت، كلما استعدتُ قوتي.

كانت تصرخ وتتلوى، تحاول سحب المظلة من جسدها، لكنها كانت مثبتة بقوة خارقة. نظرتُ إليها، وتمعنت في عينيها الفارغتين. لا حياة. لا وعي.

هذا الكيان يجب أن يُنهى.

مددتُ يدي نحو جسدها. لم يكن هدفاً جسدياً، بل روحياً. شعرتُ بطاقة اللعنة تتجمع في مركز كيانها، هي مصدر وجودها وتجديدها.

بدأتُ بسحب تلك الطاقة، كانت تتمسك بجسدها بعناد، ترفض الإفلات. كان الأمر أشبه بسحب قلبٍ من مكانه. قوة اللعنة في هذا الكيان كانت هائلة.

صرخ الوحش بألم لم أسمعه من قبل. لم تكن صرخة جسدية، بل صرخة كيان روحي يتمزق. جسدها بدأ يتلوى بشكل جنوني، ويتحلل. الجلد الأسود والقرمزي بدأ يذوب، وينفصل عن اللحم الأبيض. الرماح العظمية بدأت تنكمش وتختفي. كانت تتفكك من الداخل.

مع كل جزء من الثانية، كانت تلك الهيئة المشوهة تتقلص، تذبل. لم يتبق سوى سائل لزج الارجواني يتسرب من المكان الذي كانت فيه.

أخيرًا، وبصرخة مدوية أخيرة، تحول الوحش الهلامي بالكامل إلى بركة من السائل اللزج الذي تبخر في الهواء بعد ثوانٍ.

سقطت المظلة من حيث كانت تثبت الوحش. التقطتها و نظرتُ حولي. الحديقة كانت في فوضى عارمة. الأشجار مكسورة، الأرض محطمة، والجدران مهدمة. لكن الوحش الهلامي قد ذهب.

سقطت المظلة من حيث كانت تثبت الوحش. التقطتها، وهي تعود إلى شكلها الأصلي. نظرتُ حولي. الحديقة كانت في فوضى عارمة. الأشجار مكسورة، الأرض محطمة، والجدران مهدمة. لكن الوحش الهلامي قد ذهب.

لكنني لم أكن لأعلم أن اللعنة لها حيلها الخاصة.

اهتزت الأرض بعنف. لم يكن زلزالًا، بل نبضًا عميقًا، شنيعًا، ينبع من باطن الأرض. البركة اللزجة السوداء التي تبخرت منها بقايا الوحش الهلامي بدأت تتكتل من جديد!

فجأة، انبعثت منها موجة سوداء كثيفة، مثل دخان نفطي كثيف، تتشكل وتتجمع في الهواء. أدركت على الفور.

"مستحيل...!" تمتمتُ، بينما كانت تلك الكتلة تتخذ شكلاً مألوفاً.

تجلت أمامي مرة أخرى. نفس هيئة ميساكي المشوهة، لكن هذه المرة كانت أضخم، وأكثر قتامة، وعيناها الفارغتان تلمعان بشر لا يُصدق. لم يكن هناك أي أثر للألم أو الصرخة التي أطلقتها آخر مرة. كان مجرد شكل خالص من اللعنة، لا يشعر بالألم، يتجدد حتى لو تفتت.

"لا تتوقف، أليس كذلك؟" همست لنفسي.

لم تعطني فرصة للتفكير. انطلقت نحوي كصاروخ.

كانت هجماتها بلا رحمة. سرعتها ازدادت، وكل حركة كانت تهدف إلى التدمير المطلق. صدتُ مظلتي التي أصبحت درعي الأسود الصلب، موجة من المخالب العظمية التي حاولت تمزيقي. صوت الاصطدام كان كصدى عشرة سيوف تضرب درعاً واحداً.

لم تعد تعتمد على أطرافها الداخلية فقط. بينما كنت أصد هجومًا من الأمام، انطلقت يدها اليمنى، التي تحولت إلى مطرقة عملاقة من الهلام المتراكم، لتسحق الأرض بجانبي. الحجارة تطايرت كالشظايا.

تراجعتُ، والمظلة في يدي تتحول ببراعة إلى رمح حاد. وجهتُ ضربة قوية نحو ركبتها، بهدف إبطائها. اخترقت المظلة جسدها، لكنها لم تتوقف. السائل الارجواني تدفق للحظة، ثم التئم الجرح في لمح البصر.

"لا ألم... لا توقف..." زمجرتُ. هذا الكيان كان مجرد تعبير عن قوة اللعنة الخام.

انطلقت نحوي مرة أخرى، هذه المرة لم تهاجم بيديها. التقطت سيارة قديمة مهملة كانت مركونة بجانب الحديقة، رفعتها بيد واحدة كأنها لعبة، وألقتها نحوي.

قفزتُ عالياً، تاركًا السيارة تتحطم على الأرض حيث كنت أقف قبل لحظة، لتتحول إلى كتلة من المعدن الملتوي. لم يكن لدي وقت لأستفيق.

وبينما أنا في الهواء، ظهرت أربع مجسات هائلة من ظهرها، كأنها أذرع أخطبوط شيطاني. كل مجس كان سميكاً ومليئاً بالأشواك، وتمدد كل منها بسرعة مخيفة ليطوقني من جميع الجهات.

استخدمتُ مظلتي كـسيف دوار. أدرتها بسرعة جنونية، لتقطع الهواء وتصد المجسات التي كانت تحاول إمساكي. صوت احتكاك المعدن بالعظام المشوكة كان كصفير الريح في كهف. نجحت في قطع اثنين من المجسات، لكنهما سرعان ما بدآ يتجددان ويتمددان مرة أخرى.

هبطتُ على الأرض، متجنبًا آخر مجسين حاولا الإمساك بساقي. أطلقتُ صرخة جنية أخرى، واندفعتُ نحوها.

"لن تدمر هذا المكان!" صرختُ، والمظلة في يدي تتحرك برشاقة قاتلة.

وجهتُ سلسلة من الضربات السريعة، الواحدة تلو الأخرى، مستهدفًا أطرافها، مجساتها، وكل بروز في جسدها المشوه. كانت المظلة تتحول بين سيف يمزق، ودرع يصد، ورمح يخترق، كل ذلك في جزء من الثانية.

كنتُ أقطع، وهي تتجدد. كنتُ أضرب، وهي لا تتألم. كان الأمر أشبه بالقتال ضد موجة لا نهاية لها.

في لحظة، لم تهاجمني مباشرة. بدلاً من ذلك، ارتفع جسدها، وتمدد أحد مجساتها الضخمة نحو شجرة عملاقة من أشجار البلوط في الحديقة، اقتلعتها من جذورها بسهولة مخيفة، وألقتها نحوي.

هذه المرة، لم يكن هناك مكان للهروب.

مددتُ مظلتي أمامي، وحولتُها إلى درع ضخم ومتين. اصطدمت الشجرة بالمظلة بقوة هائلة. شعرتُ بقوة الدفع الهائلة تدفعني للخلف، وأقدامي تحفر الأرض، لكنني صمدت. المظلة اهتزت، لكنها لم تنكسر.

الوحش الهلامي ضحكت. ضحكة مجنونة، بلا صوت، مجرد تشنج في ملامحها المشوهة، كأنها تستمتع بهذا القتال اللانهائي.

"لن أسقط!" صرختُ، وأنا أدفع الشجرة المكسورة بعيداً عني.

كانت تهاجمني بمزيج من رماحها، مجساتها، والمخالب التي تنمو من جسدها. أحياناً كانت تحاول سحقي تحت جسدها العملاق، وأحياناً كانت تطلق دفعات من السائل الأسود اللزج من فمها، الذي كان يحرق كل ما يلمسه.

المظلة في يدي كانت رفيقة لا تُقهر. كنتُ أدور بها، أصدّ الهجمات من كل جانب. كلما زادت هجمات الوحش، كلما زادت سرعتي وقوتي. الجن ليسوا مجرد مقاتلين، نحن نستمد القوة من الصراع نفسه.

كانت هيئة ميساكي المشوهة قد أصبحت أكثر جنوناً، لكنني كنتُ أعلم أن هذا القتال لم ينتهِ بعد. يجب أن أجد ثغرة. نقطة ضعف حقيقية في هذا الكيان الذي يتجدد بلا نهاية.

المظلة في يدي كانت رفيقة لا تُقهر. كنتُ أدور بها، أصدّ الهجمات من كل جانب. كلما زادت هجمات الوحش، كلما زادت سرعتي وقوتي. الجن ليسوا مجرد مقاتلين، نحن نستمد القوة من الصراع نفسه.

كانت هيئة ميساكي المشوهة قد أصبحت أكثر جنوناً، لكنني كنتُ أعلم أن هذا القتال لم ينتهِ بعد. يجب أن أجد ثغرة. نقطة ضعف حقيقية في هذا الكيان الذي يتجدد بلا نهاية.

لم يعد القتال يدور حول القوة الغاشمة، بل حول الرشاقة والذكاء. الوحش الهلامي كان بحرًا من اللحم المتجدد، يطلق عليّ سيلاً لا يتوقف من الهجمات. في إحدى اللحظات، تحول ذراعها الأيمن إلى مدفع عضوي ضخم، يطلق قذائف من السائل اللزج الأسود التي تنفجر عند الاصطدام، محولة الأرض إلى حمم حارقة.

قفزتُ، تدحرجتُ، التفتُ في الهواء، كل حركة كانت محسوبة بدقة. أحياناً كنتُ أقف على أطراف أصابعي، أتمايل بمرونة تفوق المخلوقات البشرية. أحياناً أخرى، كنتُ أتدحرج تحت سيلاً من الرماح العظمية، لأخرج من الجانب الآخر بسلاسة كالأفعى. المظلة كانت ترقص في يدي، تدور كدولاب الموت، تصد القذائف وتُشتت المجسات.

في إحدى المرات، حاصرني الوحش بين شجرتين عملاقتين. انطلقت عشرات الرماح من صدرها، كل رمح يهدف إلى شقي لقطع صغيرة. لم يكن هناك مفر أمامي أو خلفي.

لكنني لستُ أسيراً للمنطق البشري. انحنيتُ لأسفل، ثم قفزتُ للأعلى بشكل غير متوقع، لأجد قدمي على أحد الرماح المتجهة نحوي. استخدمتُها كمنصة انطلاق، ثم قفزتُ من رمح إلى آخر، متنقلاً عبر هذا الحاجز المميت من الأشواك الهلامية بخفة بهلوانية، كأنني أرقص على رؤوس الإبر.

وصلتُ إلى الوحش، والمظلة تتحول إلى سيف حاد في يدي. وجهتُ ضربة قوية نحو رأسها، لكن جسدها الهلامي انقسم بسرعة، لتتحول الرأس إلى مجرد كتلة من السائل الأسود، بينما يتشكل جسد آخر من الخلف.

"ذكية...!" همستُ. كانت تكيّف نفسها مع كل هجمة، تتعلم أسلوبي.

بدأت الوحش في استخدام البيئة من حولها بذكاء مرعب. في مرة، تحول جسدها جزئياً إلى جسور هلامية، رفعت أجزاء من الأرض، أو استخدمت بقايا السيارات المحطمة كقذائف عائمة. أصبحت الأرض نفسها فخاً، والمباني أسلحة.

كانت تُسقط عليّ أجزاء من جدران القصر المهدمة، ثم تتبعها بسيول من مجساتها. كنتُ أتفادى، وأقفز من قطعة حطام إلى أخرى، المظلة تحميني تارة، وتصد تارة أخرى. جسدي كان يتحرك بدافع غريزي، يسبق تفكيري. كنتُ أرى الهجمة قبل أن تحدث، وأتجنبها قبل أن تكتمل.

في لحظة، غطت الوحش مساحة واسبيرة من الحديقة، وكأنها بساط من اللحم المشوه. انطلقت منها آلاف الشظايا العظمية الحادة من كل اتجاه، كأنها أمطار من الخناجر. لم يكن هناك مفر.

لم أصد. لم أقفز. بدلاً من ذلك، دخلتُ في حالة من التدفق المطلق. جسدي أصبح ضباباً أسود، أتحرك بسرعة لا تُصدق، أرقص بين تلك الشظايا، الواحدة تلو الأخرى، بصعوبة تفوق التصور. كل حركة كانت أشبه بالرقص في حقل ألغام مميت. شعرت ببعض الشظايا تخترق جسدي، لكنني تجاهلت الألم. التركيز كان على النجاة.

عندما توقفت الشظايا، ظهرتُ في منتصف بساطها الهلامي. الوحش، الذي لم يكن يتوقع ذلك، تشنج.

هذه هي فرصتي.

مددتُ يدي، وجمعتُ طاقة الجن في كفّي. لم أكن أهدف إلى التدمير الجسدي، بل إلى نقطة الضعف الحقيقية: مصدر طاقتها الخام، لعنة الكتاب.

بدأتُ بسحبها. شعرتُ بمقاومة هائلة. الوحش الهلامي صرخ صرخة بلا صوت، لكنها اهتزت في أعماق روحي. بدأت هيئتها المشوهة في الراقص بعنف، تفقد تماسكها.

لكنها لم تستسلم. فجأة، بدأت تنفجر من حولها فقاعات ضخمة من السائل اللزج الأسود، كل فقاعة بحجم سيارة، تنفجر بعنف عند ملامستها، مطلقة المزيد من الشظايا الحارقة.

لكن فجأة، حول الوحش الهلامي يده إلى مضرب ضخم من اللحم المشوه، وضربني بقوة هائلة. شعرتُ بقوة دفع جبل ينهار، وأُلقيتُ في الهواء بعيدًا. جسدي يرتطم بالفراغ، بينما أُطير فوق الحديقة المدمرة. لكنني أمسكتُ المظلة بإحكام، وحشرتُ طرفها المدبب في الأرض المتهالكة تحتنا، كخطافٍ أسود. اخترقت المظلة التربة، وأصدرت صوتاً قاسياً مع كل شبر تتوغل فيه، وببطء مجهد، توقفتُ عن الطيران من شدة قوة الضربة.

الارتطام جعل الأرض تحتي تتصدع، لتتحول إلى شبكة من الشقوق العميقة. وقفتُ، ألهث، أرى بخارًا يتصاعد من جسدي المنهك. أمامي، وقف الوحش الهلامي، هيئة ميساكي المشوهة، يبتسم بابتسامته الشريرة البلا ملامح. ابتسامة لم تكن تصل إلى عينيها الفارغتين، بل كانت مجرد تشوه للشر المطلق. كنتُ ممسكاً بالمظلة، مستعداً للهجوم.

وفي لحظة، هاجمني الوحش من بعيد. لم تكن مجرد بضع فقاعات، بل عشرات من الفقاعات الهلامية، كل منها يحمل لونه الأرجواني الخبيث، انطلقت نحوي مرة واحدة كوابل من القنابل الحية.

حاولتُ تفاديها، دورتُ المظلة أمامي كدرع، لكنها كانت كثيرة جداً، وسريعة جداً. لم أستطع. بدأت الفقاعات تضرب جسدي، الواحدة تلو الأخرى، تنفجر بعنف. شعرتُ بلسعات حارقة مع كل انفجار، ثم بدأ السائل الأرجواني الذي تناثر منها ينهش جسدي ويحللني بشدة.

شعرتُ باللحم ينفصل عن العظم. ساقي اليمنى اهتزت وسقطت، ثم تبعتها يدي اليسرى. كنتُ أرى جسدي يذوب أمامي، يدي وقدمي تتبخران في سائل أرجواني متوهج. الألم كان لا يطاق، لكنني كنتُ أقوى من ذلك. الجن لا يستسلمون أمام الموت.

في كف يدي اليمنى المتبقية، صنعتُ بسرعة قرصاً أسوداً صغيراً من طاقة الجن، ووضعته على صدري حيث بدأ اللحم يتحلل. بعد بضع ثوانٍ، شعرتُ بطاقة باردة تنتشر في جسدي. العظام بدأت تتشكل من جديد، اللحم ينمو، الجلد يلتئم. وبفترة لا تُصدق، شفيتُ بالكامل، يدي وساقي عادتا كما لو لم يحدث شيء.

لكن لندم، بدا الوحش سعيدًا بذلك كثيرًا. ضحكته الشريرة اتسعت في ملامحه المشوهة. كانت تعلم أنني أمتلك قوة التجديد، ويبدو أنها كانت تستمتع بتعذيبي.

تقدمتُ بسرعة نحو الوحش، المظلة في قبضتي، مستعدًا لإطلاق هجوم مضاد. لكن الوحش سبقني بقوة غاشمة.

أخرج من جسده، ليس العشرات، بل مئات من الرماح الهلامية في لحظة واحدة. كل واحدة منهم كانت تتحرك في جهة، في زاوية مختلفة، لكن الهدف واحد: أنا. كانت السماء فوقي تمتلئ بالرماح، الأرض تحتي ترتجف.

بسرعة ابتعدتُ، وفتحتُ المظلة فوق رأسي، محولاً إياها إلى درع أسود محصن لأحمي نفسي. لكن لا فائدة. الرماح كانت آتية من كل مكان: شمال، جنوب، شرق، غرب، يمين، يسار، فوق، وحتى تحت. وجدتُ رماحًا قد خرجت من تحت الأرض التي كنت واقفًا عليها، لكي تخترقني.

في جزء من الثانية، عشرات الرماح اخترقت جسدي في مختلف الأماكن. شعرتُ بها تتغلغل في صدري، ساقي، ذراعي، كتفي. لكنني لم أسقط. الألم كان حادًا، لكنني كنتُ أعلم أن هذا هو مجرد اختبار.

اللعنة تحاول أن تريني حدود قوتها. لكنها لا تعرف حدود قوة الجن.

بعد أن دخلت عشرات الرماح جسدي، توقفتُ عن الحراك. الأدرينالين تراجع، وترك مكانه صمتًا مطبقًا. سقطت مظلتي من يدي على الأرض بصوت خافت، كصوت تنهيدة أخيرة. ما تبقى مني كان مجرد أنفاس ميتة، صوت خافت يخرج من صدري المثقوب.

نزع الوحش الهلامي جميع مجساته ورماحه من جسدي ببرود، وأسقطني على الأرض بعدما كنت معلقًا بها. سقطتُ غارقًا في دمي الأسود اللامع، ألهث بعنف. اقترب الوحش مني بثبات، حركاته خالية من أي انفعال، فقط فضول كيان يرى فريسته تتهاوى. انحنى عليّ، وعيناه الفارغتان تحدقان في وجهي.

المفاجأة...

حتى بعد كل هذا، بعد كل ما عانيتُه، ما زلتُ أتنفس. عيناي، رغم الألم الذي مزق جسدي، كانتا تنظران إلى عيني الوحش الفارغتين بنظرة تحدٍ لا تتزعزع. وعلى شفاهي، ارتسمت ابتسامة نصر خافتة. ابتسامة الجن الذي يعرف أن نهايته لم تأتِ بعد.

حتى الوحش استغرب من ذلك. جسده الهلامي تشنج قليلاً، كأنه لم يفهم ما يراه. وبسرعة فائقة، كون من يده الهلامية فأسًا كبيرًا من اللحم والعظم. رفعها عالياً، وبسرعة البرق، قطع رأسي.

انفصل رأسي عن جسدي. رأيتُ جسدي يسقط أرضاً من منظور غريب، ثم رأيتُ رأسي يدور في الهواء قبل أن يهبط على العشب المتسخ بالدم. ظن الوحش أنني متُ أخيراً. ظن أنه انتصر.

لكن هيهات!

في مشهد غريب للغاية، رأيتُ جسدي المقطوع الرأس يمسك برأسي. لا يوجد دماغ، لا يوجد عقل يفكر، لكنه يتحرك بدافع غريزي، بدافع جن أزلي لا يعرف الموت. وبكل سهولة، أعاد جسدي رأسي إلى مكانه، وألصقه في رقبتي. شعرتُ بطاقة باردة تنتشر في جسدي، الجروح تلتئم بسرعة مذهلة، العظام تتصل، الأنسجة تلتصق. خلال ثوانٍ، عدتُ للتحرك وكأن شيئاً لم يحدث. كل تلك الجروح البشعة التئمت، تاركة جلدي ناعماً بلا أي ندبة.

وقف بابادوك، أطول قامةً، أكثر قوة، بينما الوحش الهلامي كان غاضباً ومفاجئاً. كانت هيئته المشوهة تتلوى بعنف، وعيناه الفارغتان تشتعلان بلون أحمر قبيح.

قفز الوحش بعيدًا عني، لم يعد واثقاً في هجماته القريبة. وما إن وصل إلى منطقة أبعد وأكثر أمانًا بقليل، بدأ يحضر مئات الرماح مرة أخرى، ليعيد الكرة. هذه المرة، كانت الرماح أمتن وأكثر سمكاً، تلمع بشر لا يوصف، واضحةً أنها ستكون أقوى من سابقتها.

نظر بابادوك إلى الرماح المتجمعة في السماء، ثم رفع يده، وابتسم ببرود.

"بسببك، لقد سقطت قبعتي."

لم تكن مجرد كلمات. بعد ذلك، بدأ شيء ينبت من ظهري. شيء أسود، ضخم، يشبه الوريد العملاق، يتلوى ويبرز من جسدي. بدأ يخرج ببطء من ظري، مكوناً ذراعاً سوداء تنتهي بأطراف متعددة. لم تكن مجرد أصابع، بل كانت تشبه الكتل المنتفخة ذات العيون السوداء أو الفتحات، كأنها أقراص سوداء عملاقة، لا تزال مرتبطة بي. كان المنظر غريباً، مرعباً، وقوياً.

"حان الوقت لأريك قوتي الحقيقية."

غضب الوحش. هذه الميساكي المشوهة، هذا الكيان اللعين، لم يدرك مع من يتعامل حقاً.

بسرعة فائقة، تحركت جميع الرماح المئة في نفس الوقت، مستعدة وبقوة لإنهاء بابادوك. لكنني أيضاً حركتُ الكتل المنتفخة المرتبطة بظهري. انطلقت هذه الكتل السوداء الضخمة، الواحدة تلو الأخرى، لتلتقي بالرماح القادمة.

كانت المفاجأة للوحش صادمة. عندما تصادمت الرماح العظمية بالكتل المتعددة، لم تنكسر الكتل. بدلاً من ذلك، بدأت الرماح تذوب وكأنها ثلج سقط عليه ملح. تآكلت الرماح بسرعة، وتقلصت، ثم اختفت تماماً.

الكتل تتقدم، لا تتوقف، بينما الرماح تذوب أمامها. كنتُ أجد صعوبة نوعًا ما في التحكم في كل الكتل في نفس الوقت، فطاقتها كانت هائلة، لكنني كنتُ لا أزال مستمراً، أركز كل قوتي للسيطرة عليها.

واصلت الكتل الزحف، تذيب كل ما يقف في طريقها، حتى وصلت إلى الوحش نفسه.

صاح الوحش صرخة هائلة، صرخة ممزوجة بالرعب المطلق. بدأت الكتل السوداء تلتهم جسده الهلامي، تذيبه ذوبانًا تامًا، كأنها أحماض قوية تأكله. جسده المشوه تقلص، وتآكل، وتحول إلى بركة من السائل اللزج الذي كان ينبض بالشر.

وبينما كانت الكتل تلتهم آخر جزء من الوحش، انفجرت جميعها في نفس الوقت، مسببة انفجاراً أسود ضخماً اهتز له القصر بأكمله. موجة من الطاقة المظلمة اجتاحت الحديقة، تاركة خلفها دماراً أكبر.

عاد ظهري إلى طبيعته، اختفت الأذرع والكتل، وكأنها لم تكن موجودة قط. التقطتُ مظلتي التي كانت ملقاة على الأرض، وأمسكتُ بها بإحكام، ثم تحركتُ إلى الأمام. ظننتُ أنني منتصر. ظننتُ أن اللعنة قد هُزمت في هذا الكيان.

لكن المفاجأة...

على الرغم من ذوبان الوحش وانفجاره الذي مزق المكان، إلا أنه لا يزال يتجدد. السائل الأسود، الذي كان يغطي الأرضية، بدأ يتكتل مرة أخرى. ببطء، بدأت هيئة ميساكي المشوهة تتشكل من جديد، كما لو لم يحدث أي شيء على الإطلاق. كان الأمر بلا نهاية.

عندها عرفتُ.

الطريقة الوحيدة لهزيمة هذا الوحش ليست في تدمير جسده. الطريقة الوحيدة لهزيمته هي إتلاف الطقس السحري من الكتاب نفسه. إنه ليس مجرد وحش، إنه تجسيد مباشر للطاقة الخام لللعنة، وطالما ظل الطقس قائماً في الكتاب، فإنه سيعود مراراً وتكراراً.

2025/07/24 · 7 مشاهدة · 3533 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025