[من منظور ميساكي]
كانت كوغامي جنونية. عيناها الحمراوان تشتعلان بشر مستعر، وكل حركة منها كانت تصرخ بالقتل. اندفعت نحوي بسرعة لا تُصدق، يدها تحمل خنجر الأشباح الذي يلمع ببريقٍ بارد، وكنتُ أقف أمامها، لا أملك شيئًا سوى جسدي الشبحاني الهش.
علمتُ أنني لن أستطيع تفادي هجومها القاتل بالكامل. كانت سرعتها وقوتها تفوقني بمراحل. لم يكن أمامي خيار آخر سوى التضحية. قررتُ أن أضع يدي في مسار الشفرة، لأدفع الثمن بها كي لا تُصاب منطقة حيوية في جسدي الشبحاني.
وفعلًا، طعنتني كوغامي بوحشية. اخترق خنجر الأشباح كف يدي بقوة، وشعرت بألم حاد مزق كياني الشبحاني. صرختُ بأعلى صوتي، صرخة حقيقية اهتز لها كياني كله، صرخة ألم يتردد صداها في الفراغ. لم تكن مجرد همسة شبحية، بل عويلًا حقيقيًا يعبر عن العذاب الذي أشعر به. حاولتُ إبعاد الشفرة عني بكل قوتي، أدفع وأقاوم، لكن كوغامي كانت أقوى مني بكثير. كانت يدها كالفولاذ، تثبت الخنجر في كفي، تزيد من عمق الجرح مع كل ثانية.
كان الألم لا يُطاق، كأن جزءًا من روحي يُنزع قسرًا، كأنني أُحرق من الداخل بلهب بارد.
وبوحشية مروعة، نزعت كوغامي الخنجر المغروس من كف يدي. لم يكن الأمر مجرد سحب. كان عنيفًا لدرجة أن اثنين من أصابعي قد قُطعا عندما سحبت كوغامي الخنجر. صرختُ مرة أخرى، صوتي يرتجف من الألم. لم يخرج دم، لأنني شبح، بل تصاعد بخار رمادي كثيف من كف يدي المشطور، دليلًا دامغًا على الإصابة الجسيمة.
نظرتُ إلى يدي، أرى الفراغ المروع مكان الإصبعين المقطوعين، بينما اليد الأخرى ترتجف بعنف. شعرتُ بالبرد يتسلل إلى كياني، يزداد مع كل نبضة ألم.
كوغامي لم تتوقف. كانت تتقدم نحوي ببطء، عيناها تلتمعان بانتصار قبيح. لم تكن تشعر بأي ندم. كانت تستمتع بعذابي. كانت تريد رؤيتي أتحطم.
تراجعتُ، ألهث من الألم الذي لا يُحتمل، بينما وقفت كوغامي أمامي. نظرت إليّ بوجه خاوٍ، خيبة أمل واضحة في عينيها الحمراوين.
"تباً!" تمتمتْ بملل، صوتها بارد كجليد الشتاء. "ظننتُ أنكِ ستنزفين الكثير من الدم، لكن للأسف، موتك شاحب مثلكِ تماماً."
حاولتُ الهرب، أن أختفي في ضباب كياني الشبحاني، لكن كوغامي كانت أسرع. كانت قريبة جداً، لا مجال للمناورة. اندفعت نحوي بخفة مفترس، قبضت على معصمي بقوة مذهلة، ثم سحبتني بعنف قبل أن ترفع ساقها وتدفعني بكل قوتها في صدري. سقطتُ أرضاً، وسمعتُ صوت ارتطام كياني الشبحاني الخافت بالأرضية الحجرية.
وقبل أن أستوعب ما حدث، كانت كوغامي فوقي، تثبتني أرضاً بكلتا يديها على كتفيّ. كان جسدها ثقيلاً بشكل لا يصدق، كأن صخرة ضخمة تكبلني. كلما حاولتُ التحرر، زادت قبضتها، وشعرتُ وكأنها تمزقني إرباً.
"هل هذا كل ما لديكِ؟" قالت كوغامي، وهي تضغط على كتفيّ بقوة أكبر. "ظننتُ أنكِ ستكونين أكثر تسلية. هذا مجرد ألم طفيف بالنسبة لكيان مثلكِ، أليس كذلك؟"
"ماذا تريدين مني؟" همستُ، صوتي بالكاد مسموع، الألم يقطع أنفاسي.
"أريد أن أرى اليأس في عينيكِ، الشبح اللعين!" زمجرتْ، عيناها تتسعان بانتشاء شيطاني. "أريد أن أرى نور حياتكِ الشاحب ينطفئ، وأنا من يطفئه. لا شفقة، لا رحمة. فقط العدم."
توقفت للحظة، ابتسامة باردة ارتسمت على شفتيها. "لكن لا تقلقي، لن تكوني وحدكِ في العدم. هذا مجرد بداية النهاية للجميع."
وبالفعل، حانت اللحظة. رفعت كوغامي خنجر الأشباح بكلتا يديها عالياً فوق رأسها، لكي يكون الجرح عميقاً جداً، متجهة به نحو قلبي الشبحاني. لم أستطع التحرك، كانت تثبتني بقوة هائلة، وذراعيّ كانتا مثبتتين بإحكام تحت قبضتها.
نظرتُ إلى عينيها، وهي تنظر إلى عينيّ الفارغتين. توقعتُ منها أن تتردد للحظة، أن أرى لمحة من الإنسانية، لمحة من الخير الذي ربما ما زال يكمن في هذه الفتاة. لكنني كنتُ مخطئة. كانت هذه الفتاة كتلة من الشر المطلق، لا شيء سوى الكراهية تعشش في روحها. استعدت كوغامي لغرس الخنجر، وابتسامة النصر المظلمة تتسع على وجهها.
ولكن، قبل ثوانٍ فقط من اختراق الخنجر لجسدي، سمعتُ صوتاً عالياً مدوياً. صوت شيء سقط بقوة هائلة من مكان مرتفع، كأن صخرة ضخمة هوت من السماء. وفي نفس اللحظة، اختفت ملامح كوغامي المتجهمة، وتجمدت حركتها. سقط خنجر الأشباح من يدها، وسمعتُ صوت ارتطامه الخافت بالأرض.
وبدأ الدم يخرج من رأسها. لم يكن مجرد نزيف بسيط، بل تدفق أحمر غامق يقطر على وجهها. كان الدم يخرج من جهة شعرها وينساب عبر جبهتها، يمر عبر وجهها بالكامل، يخفي ملامحها الوحشية ببطء، حتى بدأ يقطر من ذقنها على جسدي.
فجأة، سقطت كوغامي على جانبي، جسدها ارتخى بلا حياة. كانت ميتة. دفعتها بجانبي بسرعة، متحررة أخيراً من ثقلها، لأستطيع الحراك. نهضتُ بصعوبة، يدي المصابة تؤلمني، وأنظر إلى كوغامي التي كانت ملقاة على الأرض.
من فعل هذا؟ من أتى في اللحظة الأخيرة؟
نظرتُ إلى الأعلى، نحو مصدر الصوت، ورأيتُ...
... نيمو. كان يقف في الطابق العلوي من القصر، يطل من الفتحة التي أحدثتها المطفأة على ما يبدو. رأسه يبرز من الظلام، ووجهه يعكس قلقاً شديداً.
فرحتُ كثيراً لرؤيته، ومعرفة أنه بخير. كان وجوده نوراً في هذا الجحيم. نزل نيمو بسرعة، متجاهلاً الحطام والأرضية المكسورة، ووجهه ما زال يحمل علامات القلق العميق. وما إن وصل إليّ، حتى حضنني بقوة.
كان حضناً خائفاً، حضناً قلقاً، لكنه كان دافئاً بشكل لا يوصف. دفء لم أتخيل أنني سوف أحصل عليه مجدداً. لسنوات، لم أشعر سوى ببرودة العالم الآخر، بوحدة الروح التائهة. لكن في هذه اللحظة، شعرتُ بالأمان، وكأنني عدتُ إلى الحياة.
بعد الحضن الذي استمر للحظات بدت كأنها أبدية، ابتعد نيمو قليلاً. نظر إلى يدي المصابة بخوف واضح، ثم سألني وصوته يرتجف:
"ميساكي، هل أنتِ بخير؟ هل تتألمين؟ هل أصابتكِ في مكان آخر؟"
ابتسمتُ له، رغم الألم المتبقي في روحي. "لا بأس يا نيمو، أنا بخير. لقد اختفى الألم الآن. لكن ما الذي فعلته أنت بالضبط لها؟" أشرتُ إلى جسد كوغامي الملقى على الأرض.
"عندما كنتُ في طريقي للوصول إليكِ، وجدتُ مطفأة حريق. فاستخدمتها في رميها على كوغامي بينما كانت فوقكِ،" قال نيمو، وعلى وجهه مزيج من القلق والارتياح.
"لم أعلم أنك دموي هكذا،" قلتُ بابتسامة خافتة.
"إنها تستحق ذلك،" أجاب نيمو بنبرة جادة، قبل أن يضيف ببرود أدهشني قليلاً، "على الرغم من أنني تمنيتُ لها ميتة أكثر ألماً."
ضحكتُ خافتةً، الألم يتلاشى مع دفء وجوده. "شكراً لك لأنك أتيت."
ابتسم نيمو ابتسامة دافئة، وقال: "بالتأكيد. سوف أكون معكِ في أي وقت."
---
[منظور بليك]
ركضت.
لا أعرف إن كنت أهرب… أو أبحث عن شيء أتشبث به.
كل ما أعرفه أن قدميّ تتحركان، وأن الظلال خلفي تتحرك بسرعة أكبر.
وسمعت الخطوات.
منتظمة… واثقة… باردة.
ثم لم أعد أحتاج إلى السمع.
رأيتَه.
سورا.
كان واقفًا في نهاية الممر، جسده مائل قليلًا، ويده تتدلّى منها شفرة قصيرة…
خنجر… صغير، لكن شيء فيه جعلني أشعر وكأنه سيف حُكم إعدام.
نظراته فارغة.
بلا مشاعر.
لا غضب، لا كراهية… ولا حتى متعة.
فقط… صمت.
> (لماذا؟
لماذا هو؟)
خطوتُ للوراء، لكن الهواء نفسه كان أثقل من جسدي.
أردت أن أصرخ، أن أطرح ألف سؤال،
لكنه لم يعطني وقتًا.
تحرك.
بسرعة غير بشرية.
الخنجر انطلق نحوي في خط مستقيم، لا زخرفة، لا أسلوب… فقط نية واحدة: القطع.
رفعت يدي لأحمي وجهي، لكنني كنت أبطأ بثانية واحدة.
شعرت بالشفرة تمر.
خطّ حاد.
من فوق حاجبي الأيسر إلى خدّي الأيمن.
تجمدت.
حرارة، ثم برودة، ثم شيء لزج يسيل على شفتي.
لم أُدرك أنني أصرخ حتى سمعت صوتي يرتد في الممر الفارغ.
> (هذا ليس سورا... هذا ليس هو...)
(كان يبتسم أمس. كنا نضحك سويًا على مقطع تافه... كيف؟ متى تحوّل هذا الهدوء إلى سلاح؟)
نظرت إليه.
ما زال صامتًا.
ما زال يحدق.
اقترب خطوة.
ثم أخرى.
بدا وكأنه لا يمشي… بل ينزلق في الهواء.
كل شيء فيّ أراد الهرب.
لكن شيء آخر داخلي — شيء قديم، محطم، خائف — وقف.
> (إن ركضت الآن... فلن أستحق كل ما مضى.)
(لن أستحق موت هوتارو. ولا دموع ميساكي. ولا حتى عيني اليسرى التي تكاد تنغلق من الدم.)
شدّدت قبضتي.
حتى لو لم أكن أملك سلاحًا…
فلن أتركه يقتلني بلا مقاومة.
وقفتُ، رغم الألم الذي مزق وجهي. كان بإمكاني الشعور بدمائي تتدفق، لكنني لم أهتم. سورا كان أمامي، العدو. لم أعد أهتم. كل ما يهم الآن هو إسقاطه. يجب أن أقتله. يجب أن ينتهي هذا.
لم أكن أحمل شيئًا. لا سيف، لا درع. كنتُ ضعيفًا، لكن إرادتي كانت فولاذية. اندفعتُ نحو سورا، مجرد كتلة من الغضب الخام. كان سريعًا. دفعني في صدري بقوة، كأن حائطًا متحركًا اصطدم بي. أُلقيتُ للخلف، لأرتطم بالجدار الحجري للرواق. شعرتُ بالهواء يخرج من رئتيّ في انفجار مؤلم.
وقبل أن أستعيد أنفاسي، كان سورا فوقي. أمسك رأسي بيد واحدة ورفعه، ثم ضربه بالجدار مرة أخرى. تكررت الضربة، ثم مرة ثالثة. كل ضربة كانت كفيلة بتحطيم الجمجمة. شعرتُ بالنجوم تتراقص أمام عيني، والألم يمزق رأسي. لا... لن أسمح له بذلك. لن أسقط!
أفلتَني للحظة، لأشعر بركلة قوية في جنبي، ثم أخرى. كان يضربني بلا رحمة، لا يستخدم أسلحة، فقط قبضتيه وركلاته. كل ضربة كانت مصممة لتحطيمي، جسدي وروحي. انزلق جسدي على الأرض، الدماء تسيل من رأسي ووجهي، وشعرتُ بقوة تخذلني تدريجيًا. هذا هو الموت. لكنني لن أستسلم له.
ركض سورا للخلف قليلاً، ثم انطلق نحوي مرة أخرى، هذه المرة بجسده كله، بهدف ضربة أخيرة لينهي الأمر. أغمضتُ عينيّ، أستعد للضربة القاضية. شعرتُ ببرودة الموت تزحف نحوي.
لكن في اللحظة الأخيرة، قبل أن يصل إليّ، سمعتُ صوت ضربة مدوية. صوت شيء ثقيل صلب يخترق اللحم والعظم.
فتحتُ عينيّ بصعوبة. رأيتُ سورا يتوقف فجأة، جسده يتصلب. ثم رأيتُ أكيهيكو. كان يقف خلف سورا، وفأسٌ ضخم، لامع ببريقٍ احمر خافت، مغروس في ظهره. الفأس كان عميقًا، وشعرتُ بالقوة التي صدرت من الضربة.
تصلبت عضلات سورا، ثم انهار على الأرض أمامي، بلا حراك.
.
وقفتُ بصعوبة بالغة، كل عضلة في جسدي تصرخ من الألم. يدي ارتفعت لتلامس وجهي، الدماء كانت غزيرة. رغم الدوار، لم أستطع كتم الصرخة التي انبعثت من أعماقي: "أكيهيكو!"
جرى أكيهيكو نحوي فورًا، أسقط الفأس من يده وهو يهرع لمساعدتي. "لا تقف يا بليك! أنت مصاب بشدة!" قال بصوت مليء بالقلق.
لم أهتم لكلماته. الألم كان حادًا، لكنني قاومته. أمسكتُ أكيهيكو من كتفه، واستندتُ عليه، ثم وقفتُ بشكل مستقيم. شعرتُ بشيء غريب يحدث في جسدي. الألم يتلاشى، الكدمات تختفي بسرعة غير طبيعية، وكأن جروحي تلتئم في لمح البمصر. لكن هذا لم يكن وقته.
"شكرًا لك أكيهيكو. لقد أنقذتني،" قلتُ، محاولًا إظهار بعض القوة رغم ما حدث.
"لا شكر على واجب،" أجاب أكيهيكو، وهو يتفحص جروحي بقلق.
"من أين حصلت على هذا الفأس؟" سألتُ، نظري مثبت على الفأس الضخم الملقى بجانب سورا.
"أوه، وجدتها ملقاة في إحدى غرف القصر،" قال أكيهيكو، وهو يلتقطها مرة أخرى.
فجأة، أحسسنا كلانا ببرودة قاتلة تجتاح الرواق. لم يكن مجرد شعور، بل كان رعبًا حقيقيًا يزحف إلى أرواحنا. اهتزت الأرض قليلاً، وارتفعت هالة من القتل النقي، هالة سوداء كثيفة، تنبعث من جسد سورا الملقى.
وببطء شديد، بدأ سورا يتحرك. عضلاته تشنجت، ثم وقف وكأن الضربة في ظهره لم تكن شيئًا على الإطلاق.ضربة الفأس في ظهر كانت عميقة، لكنه لم يظهر أي أثر للألم. وجهه كان خاليًا من أي تعبير، وعيناه السوداوان كانتا تتوهجان بشر لا يصدق.
"زاد عدد الحشرات التي يجب علي قتلها،" قال سورا بصوت أجش، خالي من أي عدرك. صوته لم يكن سوى صدى للشر.
ارتعبنا من هالة القتل التي خرجت منه. كانت قوية جدًا، كفيلة بشل الحركة. لكننا لم نهرب. على الرغم من أن أكيهيكو كاد أن يبكي من الرعب، إلا أنه وقف ثابتًا بجانبي، يمسك بفأسه بإحكام، جاهزًا للقتال.
كانت هذه هي المرة الأولى التي أقول فيها شيئًا كهذا، لكن الحقيقة كانت واضحة. كانت عيناي تركزان على سورا، أرى الوحش الذي أصبح عليه.
"نحن لن نستطيع هزيمته وحدنا. لنهرب!"
لم تكن الكلمات قد فارقت شفتي تمامًا، وحتى قبل أن نتمكن من اتخاذ خطوة واحدة للهرب، وقبل أن يباغتنا سورا بهجومه التالي، اهتز الرواق بعنف شديد.
انفجارٌ هائلٌ مزق الصمت. لم يكن مجرد صوت، بل قوة مدمرة. انفجر الرواق نارًا ودخانًا. اندلعت النيران فجأة، التهمت الأخشاب القديمة، وتصاعد الدخان الأسود الكثيف ليملأ المكان في لحظة. تحولت الجدران إلى ألسنة لهب تلتهم كل شيء، والأرضية بدأت تتصدع تحت وطأة الحرارة.
كان الانفجار قوياً لدرجة أن جميع النوافذ في الرواق تكسرت إلى آلاف الشظايا الزجاجية المتطايرة، التي تناثرت في الهواء كالمطر الحارق، لتُضيف إلى الفوضى والدمار. دفعتني الموجة الانفجارية بقوة، لأرتطم بالجدار مرة أخرى، لكن هذه المرة كان الجدار يشتعل.
شعرتُ بلسعات حارقة في جسدي. لقد أخذتُ حروقًا خفيفة، لكن الألم كان كافيًا لإيقاظي تمامًا. نظرتُ إلى أكيهيكو. كان ملقى على بطنه، والنيران تحيط به من كل جانب. الدخان يتصاعد من جسده، ورأيتُ بقعة سوداء تتسع على ظهره. لقد أصيب بحروق بالغة في منطقة البطن.
"أكيهيكو! أكيهيكو استيقظ!" صرختُ، صوتي يختنق من الدخان واليأس. لم أعرف ماذا أفعل. كانت النيران تتراقص حولنا، ألسنتها تزداد ارتفاعًا، والحرارة لا تُطاق. الدخان كان كثيفًا لدرجة أنني بالكاد أرى يدي أمامي، وكل نفس كنت آخذه كان يحرق رئتي. لم أستطع التركيز في هذا الجحيم.
وفجأة تذكرتُ سورا، الذي اختفى عن ناظري وسط الانفجار والدخان. كنتُ أتمنى من كل قلبي أن يكون قد احترق حتى الموت. أن تكون هذه النهاية لذلك الوحش.
لكن لم تدم فرحتي لحظة واحدة.
من وسط الدخان المتصاعد، ظهر ظل أسود. خطى ثابتة، لا تتردد. ثم خرج سورا. كان يقف هناك، بلا خدش واحد، محتميًا بعباءته السوداء التي لم تتأثر بالنيران. كان يبدو وكأنه خرج من قلب الجحيم.
صرختُ، الكلمات تخرج مني بصعوبة: "كيف لم تحترق بحق الجحيم؟!"
نظر إليّ سورا، وعيناه الزرقاوان تلمعان ببريق بارد، وقال بصوت خشن وممل: "أيها الغبي، إن عباءتي منيعة ضد النيران."
كانت كلماته كالصدمة. هذا الكائن... لا يمكن قتله بالنار. لا يمكن قتله بالفأس. لا يمكن قتله بالضرب. اليأس بدأ يتسرب إلى روحي.
----
[من منظور بابادوك ]
توقفتُ، عيناي مثبتتان على تلك الكتلة الهلامية السوداء التي بدأت تتشكل من جديد. لا ينتهي... هذا الكائن لا ينتهي. اليأس تسلل إلى قلبي لثوانٍ معدودة، شعرت ببرودته، لكنني نفضته عني فوراً. الجن لا يعرف اليأس. الجن لا يستسلم.
كان الوحش يتخذ هيئة ميساكي المشوهة مرة أخرى، أكبر وأكثر قتامة من ذي قبل. ابتسامته الشريرة البلا ملامح كانت كافية لتخبرني أنه يستمتع بمعاناتي. لقد أظهرتُ له قوتي الكاملة، وأظهرتُ له قدرتي على التجديد، وهو الآن يلعب معي، يستعرض عليّ تفوقه الذي لا ينتهي.
اندفع نحوي، هذه المرة لم يهاجم بالرماح فحسب، بل بجسده كله الذي تحول إلى كرة ضخمة من اللحم الهلامي المتذبذب، تتدحرج نحوي بسرعة مخيفة، تدمر كل ما في طريقها. قفزتُ عالياً، مظلتي في يدي كعصا طويلة، دفعت بها نفسي عن الأرض المرتفعة، لأهبط على أحد أغصان الأشجار المتكسرة.
ليس هناك فائدة من تدمير جسده. يجب أن أصل إلى الكتاب. لكن الكتاب في حوزة سورا؟ كانت هذه الفكرة تدور في ذهني بينما كنت أتفادى موجة أخرى من الهجمات. الوحش أطلق عليّ سيلاً من المقذوفات الهلامية الكاوية، كل منها بحجم رأس بشري، تنفجر عند الاصطدام وتترك وراءها بقعاً سوداء حارقة على الأرض.
تجنبت المقذوفات بالقفز والتدحرج، جسدي يتحرك بمرونة تفوق العادية. كتاب شمس المعارف... يجب على ان أنتظر حتى يستطيع بليك أخذ الكتاب و إيقاف اللعنة لكن متى لن أستطيع التحمل ضده اكثر.
كانت معركة جسدية وعقلية في آن واحد. أقاتل الوحش جسديًا، بينما عقلي يصارع للبحث عن حل. كانت ضربات الوحش لا تزال قوية، يده تحولت إلى سوط هلامي ضخم يمزق الهواء، ثم إلى مطرقة عملاقة تسحق الأرض. كنت أصد بمظلتي، أتحرك بسرعة خاطفة، أرد الهجمات لأشتت انتباهه، بينما عيناي تمسحان محيطي، تبحثان عن أي دليل.
لا وقت للتفكير في مكان الكتاب الآن، يجب أن أسيطر على هذا الوحش أولاً. يجب أن أُبطئه، أُضعفه، مهما كلف الأمر.
رميتُ مظلتي، ووجهتها لتندفع نحو الوحش كأنها رمح أسود ضخم، تندفع بقوة دفع هائلة. بينما هي تشق في الهواء، كنتُ أركز طاقتي لتُصبح أكثر حدة وقوة، لكي تخترقه. في نفس الوقت، قفزتُ نحو الوحش نفسه، يدي تتوهج بطاقة الجن.
"لن تدمر هذا المكان!" صرختُ.
كانت المظلة تخترق جسد الوحش، لكنه سرعان ما يلتئم. في المقابل، كنتُ أركز على نقطة واحدة. يجب أن أجد نقطة ضعفه الروحية. كل كيان له ضعف.
كان الوحش يضحك، ضحكة خالية من الصوت، لكنها كانت ترن في أذني كصوت الجحيم. سوف أجدها. مهما كلف الأمر، سوف أجدها وأنهي هذا العذاب.
.
وفي غمرة جنون القتال، ومع كل ضربة أتلقاها وأصدها، أدركت شيئًا. لمعت فكرة في ذهني كالصاعقة. الحل ليس في القوة. الحل في الكلمات.
توقفتُ فجأة عن الهروب والصد، ووقفتُ ثابتًا أمام الوحش. كانت المظلة في يدي مستعدة، لكنني لم أستخدمها. نظرتُ إلى هيئة ميساكي المشوهة، وإلى عينيها الفارغتين.
"هاي أيها الوحش،" قلتُ بصوت عالٍ وواضح، "هل تعرف أنك أحمق؟"
توقف الوحش عن الهجوم. جسده الهلامي تشنج للحظة، كأنه استمع إلى كلماتي. عيناه الفارغتان كانتا تحدقان بي، فضول غريب يملأهما. أكملتُ، مستغلاً صمته:
"بما أنك وحش خُلق فقط لكي تقتل جميع الأشخاص الذين تسببوا في موت ميساكي... وعلى الرغم من ذلك، أنت تعمل ككلب لهم!"
بدأ الوحش يتشنج بعنف. اهتز جسده الهلامي، وارتعدت ملامحه المشوهة. كان الأمر وكأنه بدأ يستوعب ما أقوله. أكملتُ، موجهًا الضربة الأخيرة:
"أليست كوغامي هي السبب الرئيسي في موت ميساكي؟ إذن، لماذا لم تقتلها؟!"
وفي تلك اللحظة، جن جنون الوحش. صرخة بلا صوت، لكنها اهتزت في أعماق روحي، انبعثت منه. بدأ جسده يضرب كل مكان بمجساته بعشوائية تامة. الأرض تحته تمزقت، الأشجار اقتلعت من جذورها، والجدران انهارت تحت وطأة ضرباته العشوائية. كان الأمر وكأنه أصيب بخلل داخلي. بدأ لونه يتحول بسرعة إلى الأرجواني القاتم، وشكله يتغير مرارًا وتكرارًا، يتمدد وينكمش في فوضى عارمة.
ابتعدتُ بسرعة عن جنون الوحش، أترك له المجال ليدمر نفسه والبيئة المحيطة به. كان هدفي هو جعل الوحش ينقلب على سورا وكوغامي، لكن يبدو أن الوحش قد جن تمامًا وأصبح أداة دمار شاملة، لا يعرف من معه ومن ضده. كان مجرد غضب خالص، يدمر بلا تفكير.
من شدة جنونه، تراب الحديقة وسورها قد انجرفا إلى طريق السيارات أمام القصر. كان المشهد كالحرب، غبار ودخان يتصاعدان، وصوت التحطم يملأ الأجواء.
ثم، ووسط هذا الجنون، اتجه الوحش كـكرة هدم عملاقة نحو القصر. كان في حالة هيجان لا يمكن السيطرة عليها. اندمج جسده الهلامي مع مجساته في كتلة واحدة، مما جعل شكله يبدو طويلاً للغاية، أشبه ببرج من اللحم المشوه يتقدم نحو البناية الضخمة.
ممتاز. الآن عليّ فقط أن أصل إلى الكتاب.
----
[منظور ميساكي]
كانت كلمات نيمو الدافئة تملأ قلبي بالراحة، وكنا نقف هناك، في وسط الرواق، نشعر بالأمان للحظات. لكن هذا الأمان لم يدم طويلاً.
فجأة، ومن الطابق العلوي، حيث كان المطبخ، انفجر المكان كله. لم يكن مجرد صوت، بل دويٌ هائلٌ هزّ القصر بأكمله. تصاعدت نيران شديدة وقوية، ألسنة لهب برتقالية وحمراء تتراقص بجنون، تلتهم كل شيء في طريقها. تبعها وابل من الشظايا شديدة السخونة، قطع من الخشب المحترق، الزجاج المتكسر، والمعادن الملتوية، محلقة نحونا بسرعة جنونية.
صرختُ، صوتي يكاد يضيع في دوي الانفجار: "ماذا يجري؟!"
"إنه غاز المطبخ!" صرخ نيمو، وجهه شاحب من الصدمة والرعب. "لقد احترق بالخطأ، وبسببه اندلع حريق، لكني لم أتوقع أن يصل إلى هذا الحد!"
ثم تذكر نيمو شيئًا، واتسعت عيناه بخوف حقيقي. "لكن... أكيهيكو وبليك هناك! يجب أن نساعدهم!!!!"
لكن قبل حتى أن أجيب، استدرتُ لأجد كوغامي واقفة. كانت تبدو دائخة، تتمايل قليلاً، ولا ألومها؛ تلك الضربة على الوجه كانت قوية للغاية. لحسن الحظ، لم تكن تشكل أي خطر الآن بعد أن رميتُ خنجر قاتل الأشباح بعيدًا.
لكن فجأة، من خلفنا، وفي اتجاه الباب الأمامي للقصر، اهتزت الأرض بعنف مرة أخرى. دُمر الجدار الأمامي بالكامل، تحول إلى ركام من الحجارة المتناثرة والتراب المتصاعد. كان دمارًا شاملاً، يفتح فجوة هائلة في واجهة القصر.
وداخلًا من تلك الفجوة، ظهر وحش اللعنة. كان مجنونًا، وعملاقًا بشكل لا يصدق، بسبب العدد الهائل من المجسات الهلامية المرتبطة بجسده، والتي كانت تتلوى وتتضخم، مما جعله يبدو ككتلة ضخمة من الفوضى والدمار. كان يتقدم نحونا، لا يبالي بالنيران أو الحطام، وعيناه الفارغتان تشتعلان بشر خالص.
نظرتُ نحو الوحش. كان يشبهني تمامًا في هيئته المشوهة، لكنه كان عملاقًا ومرعبًا. شعرتُ بالرعب الحقيقي يتملكني من هذا الوحش الهلامي الهائج. ما هذا؟ ما الذي يحدث؟
لكن فجأة، سمعتُ صوت صراخ. كانت كوغامي! كانت تصرخ على الوحش، على الرغم من تدفق الدم من رأسها، وتشققات في جمجمتها باتت واضحة. "في الوقت المناسب!" صرختْ، وصوتها الأجش يعكس غضبًا جنونيًا. "هيا! اقضي عليهم جميعًا!"
حتى بعد تلك الضربة، لا تزال هذه الحثالة تقف وتأمر!
لكن الوحش توقف عن جنونه المفاجئ. نظر إلى كوغامي، وعيناه الفارغتان تومضان بنظرة غريبة. في جزء من الثانية، التفتت حولها مجسات الوحش الأرجوانية، كالأفاعي الجائعة، وقبضت عليها بقوة. بدت كوغامي غاضبة وهي تصرخ: "ما الذي تفعله أيها الوحش الغبي؟ اتركني!"
وبدون هوادة، رفع الوحش كوغامي بعيدًا جدًا عن الأرض، أصبحت تبدو كنقطة صغيرة في قبضته الهلامية. ثم بقوة شديدة، أنزلها وحطمها على الأرض بقسوة مروعة. سمعتُ صوت ارتطام جسدها بالأرض، تبعه صوت تحطمٍ مروع. ارتعد جسدي الشبحاني من الصدمة.
نظرتُ إليها، ورأيتُ جسدها يتشوه. أضلاعها تحطمت واندفعت للخارج، ممزقة جلدها. الماء في كل مكان من جسدها كان يندفع خارجًا من كل فتحة، مختلطًا بالدماء المتخثرة. كانت تتألم بشدة، صرخة مكتومة تكاد لا تُسمع تخرج من حنجرتها.
لكن الوحش لم يكتفِ. أرجع لرفعها، ثم حطمها مجددًا على الأرض. مرة، مرتان، ثلاثة، أربع مرات متتالية. كل ضربة كانت أقوى من سابقتها، كل ارتطام كان يحول جسدها إلى كتلة أكثر تشوهًا. كانت صرخاتها تتلاشى تدريجيًا مع كل ضربة.
حتى ماتت كوغامي. أخيرًا، رماها الوحش بعيدًا، لتسقط جسدًا بلا روح وسط الحطام.
كان جسدها مجرد كتلة من اللحم الممزق والعظام المحطمة. أصبحت كتلة من الدم والجلد المشطور، ممزوجة بالأوساخ والغبار. لم يعد بالإمكان التعرف على ملامحها، فقد تحولت إلى مجرد كيس من العظام واللحم المهروس، غارق في بركة من دمائها الخاصة. كل عظمة في جسدها كانت مهشمة، كل عضلة ممزقة، وكل قطرة دم قد تسربت من جسدها الذي لم يعد يحتمل الحياة.
كان جسد كوغامي قد تحول إلى كتلة من اللحم الممزق والعظام المحطمة.
بعد موت كوغامي، عاد الوحش إلى حالة الهيجان الشديد. التفت عيناه المليئتان بالشر إليّ أنا ونيمو، وبدت مستعدة لقتلنا في ثانية. شعرنا بالخطر الشديد، وتملّكنا الرعب.
وبينما كانت إحدى مجساته المسننة الضخمة تتقدم نحونا بسرعة فائقة، قبل أن تضربنا بلحظة واحدة، أتى المنقذ.
ظهر بابادوك فجأة أمامنا، كحاجز أسود منيع. استعمل مظلته كدرع لنا، حمانا من الضربة المحتمة. ثم أغلقها بسرعة واستعملها كسيف ليقطع عشرات من المجسات في ضربة واحدة، وكأنها مجرد خيوط رفيعة.
قال نيمو، وهو يلهث من الصدمة والارتياح: "هذه أول مرة أسعد برؤيتك، لكن أين كنت؟ ظننت أنك سوف تستطيع أن تتعامل معه."
نظر إليه بابادوك، وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه. "من تظنني أيها الأحمق؟ أنا لست قويًا لتلك الدرجة. كما قال المثال: دائمًا ما ظن النمل أن البشر آلهة."
وفجأة، بينما كان يتحدث، هاجمته عشرات المجسات مرة أخرى. فتح بابادوك مظلته بسرعة خارقة، وحمانا مرة أخرى، ثم قال بنبرة جادة: "إن القصر يحترق، يجب أن تخرجا قبل أن تصل النيران إليكما!"
لكني لم أستطع قبول ذلك. "وماذا بشأن بليك وأكيهيكو؟ إنهم في قلب النيران مباشرة!" صرخت، القلق على صديقيّ يمزق قلبي.
"لا تقلقوا بشأنهما. إنهما أقوى مما تتظنون،" أجاب بابادوك، وعيناه ثابتتان على الوحش الهائج. ثم أضاف بجدية: "ففي النهاية، بليك هو مالك شمس المعارف."
فجأة، تحولت يدا بابادوك بشكل غريب. بدلاً من يديه العاديتين، نما مكانها يدان عملاقتان، كأنهما يدان ديناصور ضخم. كانتا أكبر من جسده بالكامل، ومع ذلك كان يستطيع تحريكهما ببراعة مذهلة. كانتا سوداوين كالفحم، ذو مخالب حادة وعضلات عملاقة، تنبض بقوة غير طبيعية.
سألتُ بابادوك، وقد ذهلت من المنظر: "ما هاتان اليدان؟"
أجابني بابادوك بفخامة، نظرة من العظمة في عينيه: "إنه شكلي الحقيقي يا عزيزاي."
وبدون سابق إنذار، شن بابادوك هجومًا مفاجئًا. ضرب الوحش في جسده بلكمة قوية من يديه العملاقتين. كانت اللكمة هائلة لدرجة أن الوحش طار خارج القصر، مخترقًا الجدار المحطم الذي جاء منه، وعاد إلى الحديقة. ذهب بابادوك خلفه، وهو يقول لنا: "اهربوا حالًا!"
وبالفعل، لم نفكر مرتين. خرجنا من القصر بسرعة، وهرولنا بعيدًا عن جدرانه المشتعلة. نظرنا إلى منتصف القصر، لنرى النيران تلتهمه التهامًا، أعمدة الدخان تتصاعد لتصل إلى السماء، كأن القصر أصبح مقبرة مشتعلة.