كان الهواء في حديقة القصر محملًا برائحة الاحتراق الكاوية، ووهج النيران المتصاعد من المبنى المنهار يلقي بظلال راقصة على المشهد الفوضوي. بين هذا الجحيم المشتعل، كان بابادوك يقف شامخًا، لم تعد مظلته سلاحه الوحيد. لقد كشف عن حقيقته، أو جزء منها على الأقل. يداه، اللتان كانتا تقتصران على حجمين بشريين، تضخمتا الآن بشكل هائل، تحولتا إلى قبضتين عملاقتين، قويتين، تشبهان مخالب مخلوق أسطوري، يكسوهما سواد حالك، وتبرز منهما عضلات مفتولة.
أمامه، كان الوحش الهلامي الذي اتخذ هيئة ميساكي المشوهة يلتوي ويتشكل، مجسدًا للّعنة المتفشية. كان جسده الأرجواني الداكن يتقلص ويتمدد، يطلق مجسات حادة كالحراب، ويبصق سائلًا كاوياً يذيب الأرض. لكن بابادوك لم يعد يراوغه ببراعة خفة الظل المعتادة. لقد حان وقت القوة الغاشمة.
اندفع الوحش نحو بابادوك، محاولًا تطويقه بمجساته اللزجة. لكن بابادوك لم يتحرك من مكانه. في لحظة خاطفة، ارتفعت إحدى يديه العملاقتين، قبضة بحجم صخرة، واصطدمت بالمجسات القادمة. لم تقطعها، بل سحقتها. تحوّلت الأطراف اللزجة إلى سائل أرجواني تناثر في الهواء، وكأنها لم تكن سوى هلام بلا قوام. تراجعت بقايا الوحش مذعورة، متخذة شكل درع كثيف.
"أحمق!" زمجر بابادوك بصوت عميق، يتردد صداه في الحديقة المحترقة. "هل تظن أن هلامك الواهي سيصمد أمام قبضة جن؟"
قفز بابادوك بخفة غير متوقعة لضخامته، واهتزت الأرض تحت قدميه العملاقتين. سدد لكمة غاشمة نحو الوحش. لم تكن مجرد ضربة، بل كانت قوة تدميرية خالصة. اخترقت قبضته جسد الوحش الهلامي بسهولة مروعة، ليسطع وهج أرجواني من نقطة الارتطام، وكأن انفجاراً داخلياً قد حدث.
تطايرت أجزاء من الوحش في كل اتجاه، لكنه سرعان ما بدأ يتجدد. لم تكن هذه مفاجأة لبابادوك. كان يعلم أن الوحش لا يموت بالطرق التقليدية، فهو تجسيد لعنة. لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تدميره مؤقتاً أو تشتيت انتباهه.
رفع بابادوك يديه العملاقتين عالياً، ثم أطبقهما بقوة على ما تبقى من جسد الوحش. كان المنظر أشبه بآلة ضغط هائلة تسحق شيئاً طرياً. صدر صوت فرقعة مكتوم، وتناثرت بقايا الوحش في رذاذ أرجواني كثيف، اختلط بدخان الحريق. هذه المرة، كانت الشظايا أصغر بكثير، وأخذت وقتاً أطول لإعادة التجمع.
"لست خالدًا، أيها القذر." قال بابادوك وهو يراقب الوحش وهو يحاول لملمة نفسه ببطء. "ما تفعله الآن هو مجرد تأجيل للموت الحتمي. أنت مجرد انعكاس. لكن أصلك... سيُسحق."
كان بابادوك يدرك أن تدمير هذا التجسيد للّعنة يتطلب ضربة مباشرة للكتاب نفسه. لكن قبل أن يفعل ذلك، كان عليه أن يضمن أن هذا الوحش لن يعترض طريقه، وأن ميساكي ونيمو قد غادروا. ابتسم بابادوك ابتسامة مرعبة، ورفع إحدى يديه العملاقتين مجدداً، مستعداً لتسديد ضربة أخرى، أكثر تدميراً هذه المرة، لضمان تشتيت الوحش تماماً بينما يبحث عن الكتاب.
تجمعت أجزاء الوحش المشوهة من جديد، لكن ببطء أشد هذه المرة. بدأت تتخذ شكلاً أكثر عدوانية، محاولةً تشكيل مخالب حادة من جسدها الأرجواني الداكن، وعينيها الصفرواين تلمعان بكراهية عمياء. لقد استوعب الوحش أن القوة الغاشمة هي ما يواجهه، فقرر أن يرد عليها بالمثل، مستجمعاً كل طاقته ليتحول إلى كتلة ضخمة من الهلام المتوحش.
"ما زلت تحاول، أيها الملعون؟" تمتم بابادوك، ونبرته تحمل سخرية جليدية. "إصرارك مثير للشفقة."
اندفع الوحش نحو بابادوك، هذه المرة بقوة دافعة أكبر، محاولاً ابتلاعه داخل جسده اللزج. لقد ظن أنه سيتمكن من إعاقة الجني بقوامه الملتف، لكنه لم يدرك مدى القوة التي يمتلكها بابادوك.
رفع بابادوك قبضتيه العملاقتين، وبدلاً من أن يهاجم، قام بضربهما معاً في حركة دائرية سريعة. صدر صوت دوي هائل، أشبه بصوت صخرتين عملاقتين تتصادمان، وأحدثت موجة هوائية قوية دفعت بالوحش إلى الخلف لمسافة بعيدة. لم تكن مجرد قوة دفع، بل كانت قذيفة من الطاقة المظلمة التي مزقت جسد الوحش في الهواء.
تناثرت أجزاء الوحش في كل مكان، بعضها ارتطم بالجدران المحترقة، وبعضها الآخر سقط في المسبح الذي كان يغلي بسبب الحرارة. كانت كل قطعة تحاول أن تتجمع مجدداً، لكن بابادوك لم يمهله.
خطا بابادوك بخطوات واسعة وسريعة، محطماً الأرض تحت قدميه. انحنى، ومد إحدى يديه العملاقتين ليقبض على جزء ضخم من الوحش كان يحاول إعادة تشكيل نفسه بالقرب من عمود محترق. أمسكه بقبضة لا ترحم، ثم ضغط عليه ببطء، بتركيز بارد. كانت تلك القطعة من الوحش تصرخ بصمت، تتلوى، وتحاول الإفلات، لكنها كانت محبوسة بلا أمل. تحولت إلى سائل أرجواني كثيف يقطر من بين أصابع بابادوك العملاقة.
ثم، ودون أدنى تردد، سدد بابادوك لكمة مباشرة إلى الأرض، مما أحدث فجوة عميقة وتهشم البلاط المحيط به. كانت هذه حركة متعمدة. عندما بدأ ما تبقى من الوحش يتجمع مجدداً، وبدأت أجزاؤه الزلقة تتلوى في محاولة للهروب، انقض بابادوك عليها بضربات متتالية من قبضتيه العملاقتين.
كان المنظر أشبه بمدقة عملاقة تسحق طحينًا. كل ضربة كانت تحدث دوياً مزلزلًا، وكل جزء من الوحش كان يتعرض للسحق والتمزيق، لا يمكنه المقاومة. تحوّل الوحش تدريجياً إلى بقعة واسعة من السائل الأرجواني المنتشر على الأرض، يختلط بالدماء الميتسو المتناثرة وحطام القصر. لم يمت بشكل كامل، فجوهر اللعنة لا يزال باقياً، لكنه أصبح مجرد "لطخة" مشوهة، عاجزاً عن التجمع أو المهاجمة في الوقت الحالي. لقد شلّ بابادوك حركته تماماً.
"هذا كل ما لديك أيها التافه؟" قال بابادوك بصوت هادئ، وعيناه تلمعان ببرود في الظلام. "والآن... حان وقت البحث عن مصدر هذا الهراء."
رفع بابادوك رأسه، وعيناه تبحثان في بقايا القصر المحترق عن الإشارة التي تدله على مكان "كتاب شمس المعارف" الحقيقي. كانت مهمته الآن هي الوصول إلى "المفتاح" الذي سيوقف هذه اللعنة تماماً.
بعد أن سحق الوحش الهلامي إلى كتلة مشوهة من السائل الأرجواني، كان بابادوك يراقب بقايا الوحش بتفحص. لم يكن يتوقع أن يموت، بل أن يتشتت بما يكفي ليتمكن من التحرك بحرية. لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن في حسبانه.
بدأت البقع الأرجوانية تتوهج بشدة، وتنبض بطاقة غريبة. وبدلاً من أن تتجمع ببطء، انكمشت على نفسها بسرعة هائلة، ثم انفجرت فجأة في تكتل واحد، لتشكل جسداً جديداً. هذه المرة، لم يكن مجرد هلام بلا شكل. لقد اكتسب الوحش ملامحاً أكثر تحديداً، وأصبحت قوامه أقسى، وأنيابه ومخالبه التي برزت منه تبدو أكثر فتكاً. عيناه الصفرواوان، اللتان كانتا تلمعان بالكراهية، أصبحتا تتوهجان الآن بذكاء خبيث. لقد بدأ الوحش في التكيف.
"تطوّرت، أيها العفن؟" قال بابادوك، نبرته تحمل مفاجأة خفيفة ممزوجة بتقدير بارد. "جيد. هذا يجعل الأمر أكثر إثارة."
اندفع الوحش، هذه المرة، لم يكن مجرد هجوم عشوائي. لقد تحرك بسرعة فائقة، مستخدماً خفة جديدة لم تكن لديه من قبل. تجنب ضربة بابادوك الغاشمة، ثم قفز عالياً، محاولاً الالتفاف حوله. أدرك بابادوك أن الوحش بدأ يواكب قوته، مستخدماً سرعته وقدرته على التغيير المستمر لتجنب القبضات العملاقة.
سدد بابادوك لكمة جارفة بيده اليمنى، لكن الوحش انزلق من بين أصابعه العملاقة مثل الماء. ثم، وبسرعة مذهلة، شكل الوحش جسده إلى رمح ضخم من المادة الأرجوانية الصلبة، واندفع به نحو ذراع بابادوك المفتوحة.
توقع بابادوك الضربة، وحاول صدها بساعده، لكن قوة الرمح كانت غير متوقعة. اخترق الرمح جسد ذراع بابادوك العملاقة، وأصدر صوتاً مشابهاً لصوت تمزق الحجارة. لم يكن جرحاً بسيطاً. لقد بدأ الشق يتسع، وظهرت تشققات عميقة على طول ذراع بابادوك المفتولة، كأنها زجاج يتكسر.
"مثير للاهتمام..." تمتم بابادوك، وشعر لأول مرة بألم حقيقي، وبدأ وهج خافت يخرج من الشقوق.
لم يمهله الوحش. تحول الرمح فجأة إلى مخالب حادة، وبدأ الوحش بتمزيق ذراع بابادوك، مستغلاً الشق الذي أحدثه. كانت قبضتا بابادوك العملاقتين، رمز قوته الغاشمة، تتعرضان لهجوم لم يسبق له مثيل. حاول بابادوك أن يضرب الوحش بيده الأخرى، لكن الوحش كان أسرع، مستمراً في تمزيق ذراعه المصابة.
وبقوة أخيرة، استجمع الوحش كل طاقته، وتجسد في شكل كرة ضخمة من الطاقة الأرجوانية، ثم اندفع بقوة مدمرة نحو يد بابادوك اليمنى. صدر صوت فرقعة مدوية، أشبه بانفجار قنبلة. تناثرت الشظايا السوداء من ذراع بابادوك في الهواء، وتهاوت يده العملاقة اليمنى إلى جانبه بلا حراك، وقد تحطمت بالكامل عند الكوع، ولم يتبق منها سوى كتلة مشوهة من المادة الممزقة.
تراجع بابادوك خطوة إلى الوراء، وعيناه تحدقان في يده المكسورة. لقد تمكن الوحش من كسر إحدى يديه العملاقتين. كانت هذه هي المرة الأولى التي يُصاب فيها الجني بمثل هذا الضرر في هذا القتال. لكن على الرغم من الألم والخسارة المفاجئة، لم يظهر بابادوك أي علامة على اليأس. بدلاً من ذلك، ظهرت ابتسامة باردة على وجهه.
"هذا... لم يكن في الحسبان." تمتم بابادوك، ثم رفع يده اليسرى السليمة، مستعداً لمواصلة القتال. كان القصر يحترق، والقتال قد وصل لتوه إلى ذروته.
---
[منظور ميساكي]
كنتُ أنا ونيمو نراقُب المعركةَ من بعيد، واقفين على حافةِ الهاويةِ التي أحدثها الدمار. ألسنةُ اللهبِ كانت ترقصُ خلفنا، ودويُّ الاصطداماتِ يزلزلُ الأرضَ تحتَ أقدامنا. كان بابادوك مهيباً بقبضتيه العملاقتين، يمزِّقُ الوحشَ الهلاميَّ بضرباتٍ غاشمةٍ تقلبُ موازينَ المعركة. كنا نشعرُ بانبهارٍ مطلقٍ بقوتهِ الخارقة، وكأنهُ إلهٌ من أساطيرَ قديمةٍ نزلَ ليُعيدَ النظامَ لعالمٍ مجنون. صرخَ نيمو إلى جانبي، تكسو وجههُ نظرةُ الذهولِ ذاتها التي ارتسمت على وجهي: "لا أصدقُ ما أراه! هذهِ قوةٌ لا تُصدَّق!"
لكنَّ المشهدَ تبدَّلَ في لحظةٍ خاطفةٍ. رأيتُ يداً عملاقةً من يديْ بابادوك تتحطمُ وتتناثرُ. لم أستوعبْ ما حدثَ إلا عندما بدأَ يحاولُ إعادةَ تجديدها، لكنَّ الوحشَ كانَ أسرعَ مما توقعتُ. لقدْ أصبحَ يتكيفُ، يتخذُ أشكالاً جديدةً، ويهاجمُ بذكاءٍ لم يكنْ لديهِ في السابقِ. كانتْ حركاته أسرعَ من لمحِ البصرِ، ولم يتركْ لبابادوك فرصةً ليتعافى.
وبسرعةٍ لم تتمكنْ حتى عيني من رؤيتها، انقضَّ الوحشُ على يدِ بابادوك الثانيةِ. سمعتُ صوتاً مُريعاً، أشبهَ بانفجارٍ، ثمَّ رأيتُ اليدَ العملاقةَ الأخرى تتحطمُ وتنهارُ إلى أشلاءٍ متناثرةٍ. سقطَ بابادوك على ركبتيهِ، وباتَ بلا يدينِ، وعمليةُ التجددِ كانت بطيئةً بشكلٍ مُخيفٍ. كانَ الوحشُ في أوجِ قوتهِ، يلفُّه وهجٌ أرجوانيٌ قاتمٌ يوحي بانتصارهِ الوشيكِ.
كانَ يجبُ أن نفعلَ شيئاً! كان بابادوك سوفَ يموتُ. في لحظةِ يأسٍ، نظرتُ إلى نيمو. كان يقفُ، بعد أن كانَ مختبئاً خلفَ حطامٍ، وعيناهُ تلمعانِ بقرارٍ غيرِ متوقعٍ.
"هاي أيها الوحشُ اللعينُ!" صرخَ نيمو بأقصى صوتهِ، محاولاً جذبَ انتباهِ الكائنِ المُرعبِ. "أنا هنا! ما رأيكَ أن تمسكَ بي؟"
تفاجأتُ بشدةٍ مما فعلهُ نيمو. كانَ تصرفاً متهوراً، لكنني فهمتُ السببَ على الفور. أرادَ أن يلهيَ الوحشَ، أن يمنحَ بابادوك الوقتَ الكافي لاستعادةِ قواهُ. نظرَ إلينا الوحشُ بنظرتهِ الصفراءِ والأرجوانيةِ الباردةِ، التي اخترقتْ أرواحَنا. كنتُ واقفةً بجانبِ نيمو، مستعدةً للهروبِ في اللحظةِ التي يلاحقنا فيها الوحشُ.
لكنَّ الوحشَ لم يلاحقْنا.
فجأةً، بسرعةٍ لم تتمكنْ حتى عينيَّ من رؤيتها، امتدَّ مجسٌ صغيرٌ أرجوانيٌ من جسدِ الوحشِ. كانَ رفيعاً، شبيهاً بالإبرةِ، لكنهُ قاتلٌ. اخترقَ قلبَ نيمو مباشرةً.
وبجانبي، انفجرَ صدرُ نيمو بالدماءِ. تدفقَ الدمُ الدافئُ على وجهي، وسقطَ نيمو على الأرضِ أمامي، جسدُهُ يرتعشُ. لم أستطعِ أن أصرخَ. لم أستطعِ أن أتحركَ. كانَ العالمُ يدورُ بي، وكلُّ ما رأيتُهُ هو الدمُ، ودماءُ نيمو، وهو يرتعشُ أمامي.
اندفع الدمُ الدافئُ من صدرِ نيمو، ملطخًا وجهي وملابسي. لم يكن ذلك مجرد سائل أحمر؛ لقد كانَ الحياةَ نفسها تتدفقُ من جسدهِ، تتبخرُ في الهواءِ الباردِ. سقطَ أمامي، يرتعشُ، وعيناهُ المفتوحتانِ تحدقانِ في الفراغِ. لم أستطعِ أن أصرخَ. الصوتُ علقَ في حنجرتي، كصخرةٍ ضخمةٍ تسدُّ طريقَ الهواءِ.
ركعتُ على الأرضِ بجانبهِ، يدايَ ترتعشانِ بشدةٍ. كانتْ رؤيتي مشوشةً، الضبابُ يلفُّ كلَّ شيءٍ حولي، لكنني رأيتُ الثقبَ في صدرهِ، صغيراً لكنه مميتٌ. وضعتُ يديَّ على الجرحِ، أحاولُ إيقافَ النزيفِ الذي لم يكنْ يتوقفُ. كانتْ يدايَ الشفَّافتانِ، اللتانِ لم تكونا تلمسانِ شيئاً حقيقياً منذُ زمنٍ طويلٍ، الآنَ تغرقانِ في دمهِ الدافئِ اللزجِ. شعرتُ بالحرارةِ الحارقةِ، رائحةِ الموتِ، وعجزٍ لا يوصفُ.
"نيمو..." همستُ، صوتي بالكادِ يُسمعُ. "لا... لا تتركني."
كانَ يلهثُ بصعوبةٍ، كلُّ نفسٍ كانتْ صراعاً، معركةً خاسرةً ضدَّ الموتِ الزاحفِ. عيناهُ تحوَّلتا ببطءٍ نحوي، كانتْ باهتةً، لكنها حملتْ نظرةَ حزنٍ عميقٍ، ووداعٍ. حاولَ أن يرفعَ يدهُ، ربما ليلمسَ وجهي، لكنها سقطتْ بلا قوةٍ
كنت أحاولُ بكلِّ جهدي أن أُوقفَ النزيفَ، أضغطُ على جرحِ نيمو بيديَّ الشفافتينِ اللتينِ لم تُصبحا أبداً حقيقيتينِ بما يكفي. لكن لا فائدةَ. كانَ الدمُ يتدفقُ بلا توقفٍ، بركةٌ دافئةٌ ولزجةٌ تتسعُ تحتَ جسدهِ الساكنِ. كنتُ أعلمُ ذلكَ، أعلمُ أنَّ محاولاتي عقيمةٌ، لكنني لم أستطعْ أن أتوقفَ. لم أستطعْ أن أقبلَ هذا.
فجأةً، أمسكَ نيمو معصمي. كانتْ قبضتهُ واهنةً، بالكادِ يمتلكُ قوةً للإمساكِ بي، لكنها كانتْ موجودةً. كانَ محاطاً بدمائهِ المتناثرةِ، وجههُ شاحبٌ، وعيناهُ غائمتانِ.
"ميساكي، أرجوكِ توقفي،" همسَ، صوتهُ كانَ مجردَ خفقةِ قلبٍ متعبةٍ.
"لا! لا، لن أفعلَ! أنتَ لن تموتَ اليومَ! من المستحيلِ أن تموتَ اليومَ!" شهقتُ، الكلماتُ خرجتْ مني مقطَّعةً، ممزوجةً بدموعٍ شفافةٍ لم يرَها أحدٌ قط. كانتْ كلُّ خليةٍ في كياني ترفضُ هذا الواقعَ القاسيَ.
لكنَّ نيمو أكملَ، صوتهُ يوحي بالموتِ، باللحظاتِ الأخيرةِ التي تتسربُ من بينِ الأصابعِ. "ميساكي... لديَّ شيءٌ لأعترفَ لكِ."
استغربتُ، رغمَ هوفي ويأسي. "ماذا؟"
أخذَ نفساً بصعوبةٍ، وكأنهُ يجمعُ آخرَ ما تبقَّى من قوةٍ. "كنتُ أعرفُ أنَّ كوغامي هي سببُ موتِكِ من البدايةِ."
تجمَّدتُ. الكلماتُ صدمتني كصاعقةٍ باردةٍ. علاماتُ الصدمةِ ارتسمتْ على وجهي الشفَّافِ. "ماذا... ما الذي يعنيهِ هذا؟"
"كنتُ أعلمُ أنَّ كوغامي كانتْ تبتزُّكِ... لكني لم أردْ أن أتدخلَ. لأني كنتُ خائفاً." صوتهُ تكسَّرَ، وكلُّ كلمةٍ كانتْ تنهيدةً مؤلمةً. "كنتُ أظنُّ أنَّكِ سوفَ تتولَّينَ الأمرَ. وكنتُ أشعرُ بالغيرةِ..."
"الغيرةِ؟" كررتُ، لا أصدقُ ما أسمعُه.
"كنتُ أشعرُ بالغيرةِ من شينتو لأنَّكِ كنتِ معه طوالَ الوقتِ ونسيتني. كنتُ أريدكِ أن تكرهيهِ... لكني لم أظنَّ أنَّ الأمرَ سوفَ يصلُ إلى مرحلةِ الانتحارِ..."
سكتُّ، الصدمةُ تخنقُني. كانتْ هذهِ هي الحقيقةُ البشعةُ، المدفونةُ تحتَ طبقاتٍ من الألمِ والوهمِ. كانَ نيمو، صديقي المخلصُ، يحملُ هذا السرَّ الثقيلَ في قلبهِ، هذهِ الندبةَ التي لم تُشفى قط.
"أنا آسفٌ يا ميساكي،" قالَ، وعيناهُ غارقتانِ في دموعٍ لم أكنْ لأرىها لولا ضوءِ النيرانِ المنعكسِ فيهما. "كانَ يجبُ أن أساعدكِ. كانَ يجبُ ألا أكونَ جباناً. أنا مجردُ حثالةٍ حقيرةٍ نكرةٍ..."
نظرتُ إلى عيني نيمو التي اِنتشرتْ فيها العروقُ الحمراءُ كخريطةٍ للألمِ الأخيرِ. بدأتْ دموعي تتساقطُ، شلالاتٌ من نورٍ شفَّافٍ لا يراهُ أحدٌ، لكنني شعرتُ بثقلها يحرقُ روحي. انحنيتُ أكثرَ، وكأنني أحاولُ أن أُخبِّئَ وجهي في صدرهِ الذي لم يعدْ ينبضُ، وقلتُ بصوتٍ مُتقطِّعٍ:
"أنا أُسامحُكَ."
اِنتفضَ نيمو، اِنفتحتْ عيناهُ قليلاً، صدمةٌ باهتةٌ ارتسمتْ عليها. "ماذا...؟"
"أنا لا أهتمُّ!" صرختُ، الكلماتُ خرجتْ مني كجمرٍ مشتعلٍ. "أنتَ كنتَ صديقي الوحيدَ عندما كنتُ وحدي. أنتَ من ساعدني للوصولِ إلى هنا، أنتَ من حاولتَ مساعدتي، أنتَ الوحيدُ الذي رآني ولم يتخلَّ عني. أنتَ صديقٌ حقيقيٌّ، ولا أهتمُّ لكلامكَ أبداً! لذا، لا تَمُتْ اليومَ أبداً! سوفَ نخرجُ من هذهِ المعركةِ ونحنُ نضحكُ!"
كنتُ أقولُ هذا، وشهقاتي تُمزِّقُ صدري. كانتْ دموعي تنهمرُ بغزارةٍ على قميصِ نيمو، مُبلِّلةً الدمَ الذي لم يتوقفْ عن التدفقِ.
رفعَ نيمو يديهِ بصعوبةٍ، بالكادِ يمتلكُ القوةَ. اِرتفعتْ يداهُ، مُتَّجهتينِ نحو وجهي، محاولاً لمسَ خصلةٍ من شعري الشفَّافِ. كانَ صوتهُ أضعفَ من أيِّ وقتٍ مضى، همساً يكادُ يختفي معَ أنفاسهِ الأخيرةِ:
"لا تحزني عليَّ كثيراً."
ثمَّ أغمضَ عينيهِ، وابتسامةٌ باهتةٌ، مُتعبةٌ، ظهرتْ على شفتيهِ. "وداعاً يا ميساكي."
سقطتْ يداهُ على الأرضِ، بلا قوةٍ، بلا حياةٍ.
توقفتْ عيناهُ عن الحركةِ. أصبحَ جسدُهُ ساكناً. توقفَ النزيفُ، ليسَ لأنهُ توقفَ، بل لأنَّ كلَّ شيءٍ فيه قد توقفَ. الصدمةُ تحوَّلتْ إلى غضبٍ جامحٍ. غضبٍ أحرقَ روحي، وحوَّلَ قلبي الشفَّافَ إلى جمرةٍ من نارٍ. نظرتُ نحو الوحشِ الهلاميِّ، الذي كانَ يرمقُنا بنظرةٍ باردةٍ منتصرةٍ.
لقد ضحَّى نيمو بحياته، براءته، من أجلِنا. لن أدعَ موتهُ يذهبُ سدىً. لن أدعَ هذا الوحشَ ينتصرَ. لقد حانَ وقتُ أن أُقاتلَ، ليسَ كشبحٍ عاجزٍ، بل كقوةٍ لا تُقهرُ تُطالبُ بالانتقامِ.
بعد أن لفظ نيمو أنفاسه الأخيرة، تحوّلت صدمتي إلى صرخة. صرخة لم أكن أعلم أن حنجرتي الروحية يمكن أن تصدرها. كانت صرخة ألمٍ عميقٍ، ممزوجةً بغضبٍ جامحٍ وشعورٍ بالعجز لم أعرفه من قبل. بعيناي الغاضبتين الدامعتين، استدرتُ نحو الوحش الهلامي الذي كان يرمقني بنظرةٍ باردةٍ ومنتصرةٍ.
"أيها الوحش اللعيـ..."
قبل أن أُكمل كلمتي، اندفع الوحش نحوي بسرعةٍ جنونيةٍ. كان على بعد شعرةٍ من تحطيم رأسي، وحشيةُ نظراته كانت تَعِدُ بموتي الثاني. في تلك اللحظة الحرجة، اندفع شيءٌ أسودُ بسرعةٍ قصوى، ودفعَ الوحشَ بقوةٍ دمرتْ الأرضَ من شدتها. تطايرَ الوحشُ بعيداً، وارتطمَ بالحطامِ، تاركاً فجوةً عميقةً في الأرضِ.
وقفَ الوحشُ بعد أن طارَ بعيداً، وجههُ كانَ غريباً مشوهاً من شدةِ الضربةِ. عينهُ اليمنى كانت في خدهِ، وفمهُ في جهةِ أذنيهِ، وأنفُهُ في جبهتهِ، بينما اختفتْ أذناهُ تماماً من شدةِ الضربةِ.
كانَ من ضربهُ هو بابادوك. لقد استعادَ يديهِ! كانتْ قبضتاهُ العملاقتانِ سليمتينِ تماماً، وكأن شيئاً لم يحدثْ. نظرتُ إليهِ بصدمةٍ، ثمَّ نظرتُ إلى جثةِ نيمو الملطخةِ بالدماءِ. كانَ بابادوك ينظرُ إلى نيمو، وعلى وجههِ غضبٌ لم أرَهُ فيهِ من قبل. غضبٌ حقيقيٌّ، يُلوِّنُ ملامحَهُ القاتمةَ.
"سوفَ تندمُ أشدَّ الندمِ على ما فعلتَهُ أيها الوحشُ المقرفُ!" زمجرَ بابادوك، صوتهُ كانَ أعمقَ وأكثرَ رنيناً من أيِّ وقتٍ مضى، يرتجفُ بالغضبِ المكبوتِ.
فجأةً، بدأَ بابادوك يتحولُ. ظلهُ أصبحَ أكبرَ، يتمددُ ليغطيَ جزءاً كبيراً من القصرِ المشتعلِ. جسدهُ أصبحَ أكبرَ، يكبرُ ويكبرُ بشكلٍ مرعبٍ. كلُّ ما رأيتهُ هو ظلهُ العملاقُ الذي غطاني، بينما كنتُ أقفُ مندهشةً، حتى الوحشُ نفسه كانَ مندهشاً من هذا التحولِ المفاجئِ.
أمامَ الوحشِ الآن، لم يكنْ بابادوك القديم. ظهرَ وحشٌ ضخمٌ بطولِ القصرِ، يملكُ قرنينِ أسودينِ بارزينِ عريضينِ يرتفعانِ من رأسهِ، وأجنحةٌ سوداءُ كبيرةٌ تمتدُّ خلفهُ، وجسدهُ داكنٌ وذو ملامحَ مخيفةٍ. كانَ أسودَ اللونِ للنخاعِ، وجسدهُ مليءٌ بحراشفَ سوداءَ مخيفةٍ، ويمتلكُ اليدينِ العملاقتينِ اللتينِ كانتا عندَ بابادوك سابقاً، لكنهما الآنَ تبدوانِ أكثرَ فتكاً ووحشيةً.
عندها عرفتُ تماماً. هذا هو الشكلُ الحقيقيُّ لبابادوك بقوتهِ الكاملةِ. لقد خرجَ الجني من قمقمهِ، والآنَ سيعلمُ الوحشُ معنى الندمِ.
الآن وقد كشف بابادوك عن شكله الحقيقي.
---
[منظور بليك]
كان الخوف يتملَّكني. لا، لم يكن خوفًا واحدًا، بل اثنان: رعبٌ من سورا الواقف أمامي، شبيهًا بشيطانٍ خرجَ من الجحيم، وخوفٌ آخرُ يعتصرُ قلبي على أكيهيكو، صديقي، أخي، الساقطِ على الأرضِ بلا حراك. تناثرتْ شظايا الزجاجِ الملتهبِ حولنا، تضيءُ أروقةَ القصرِ الفخمِ الذي ابتلعتْهُ النيرانُ بلا رحمةٍ. كانَ وجهي يتشوَّه من الألمِ، ليسَ فقط من الجروحِ العميقةِ التي خلَّفها سورا بخنجرِهِ، بل من صدمةِ الخيانةِ التي فتَّتتْ روحي. صديقي، الذي لطالما رأيتُ فيه سندًا وعونًا، تحوَّلَ إلى كائنٍ لا يعرفُ الرحمةَ، ينتمي لطائفةٍ شريرةٍ تسعى لإحياءِ كائناتٍ مرعبةٍ.
كانَ أكيهيكو يكافحُ لينهضَ، جسدهُ يعتصرُهُ الألمُ، والنيرانُ تلتهمُ الجدرانَ حولنا بوحشيةٍ. الدخانُ الكثيفُ كانَ يخنقُ رئتيهِ، لكنه كانَ يرفضُ الاستسلامَ. "لن أترككَ!" ردَّ، وهو يجرُّ نفسَهُ بصعوبةٍ لجرِّي بعيدًا عن ألسنةِ اللهبِ المتصاعدةِ. الحروقُ كانتْ تلتهمُ ذراعَهُ، لكنه لم يتراجعْ، عيناهُ تلمعانِ بتصميمٍ لا يلينُ. "قلتُ لكَ أننا إخوةٌ، ولن أتركَ أخي يواجهُ هذا وحدهُ!"
ظهرَ سورا من بينِ النيرانِ، عباءتُهُ السوداءُ سليمةً تمامًا، وكأن النارَ لا تمسُّهُ. عيناهُ تلمعانِ ببرودٍ قاتلٍ، ومنظرهُ كانَ أشبهَ بشيطانٍ حقيقيٍّ. "كم هذا مؤثِّرٌ. صداقةٌ تافهةٌ في وجهِ القوةِ الحقيقيةِ." قالَ سورا بصوتٍ خالٍ من أيِّ عاطفةٍ، صوتهُ كصقيعٍ يخترقُ العظامَ. "لن تذهبا إلى أيِّ مكانٍ. المفتاحُ... يجبُ أن يبقى هنا."
أدركتُ أن "المفتاح" الذي يتحدَّثُ عنه هو أنا، أو بالأحرى، الكتابُ الذي أحملُ لعنتهُ. كان سورا يخطو نحونا، خنجرهُ يلمعُ في وهجِ النيرانِ الراقصِ. كانَ عليَّ أن أفعلَ شيئًا، أيَّ شيءٍ، لأحمي أكيهيكو.
وقفتُ، الفأسُ في يديّ، مقبضُها الخشبيُّ خشنٌ لكنه يمنحني شعورًا غريبًا بالأمانِ. كانَ أكيهيكو ما زالَ يكافحُ لينهضَ من مكانهِ، جسدهُ المنهكُ يرفضُ الاستجابةَ. كانَ الفأسُ ساخنًا في يديّ، حارقًا، وكأنَّ لهيبَ النيرانِ التي تلتهمُ القصرَ قد تغلغلَ فيهِ. لكنني كنتُ أعرفُ، في أعماقي، أنَّ هذا الفأسَ هو الشيءُ الوحيدُ الذي قد ينقذني من سورا.
كانتْ أعينُنا تتقابلُ، نظراتٌ باردةٌ، مليئةٌ بالترقبِ. أنا، الفتى الذي لم يمسكْ سلاحًا في حياتهِ، أقفُ أمامَ صديقي القديمِ الذي تحوَّلَ إلى عدوٍّ قاتلٍ. أدركتُ أنَّ هذهِ لن تكونَ مجردَ مواجهةٍ، بل معركةُ حياةٍ أو موتٍ.
أخرجَ سورا خنجرهُ، نصلهُ الفضيُّ يلمعُ ببرودٍ في وهجِ النارِ المتصاعدِ، ومستعدًا للمعركةِ. قبضتُ على الفأسِ بكلِّ ما أوتيتُ من قوةٍ، ذراعايَّ ترتجفانِ، لكنَّ عزمي لم يرتجفْ. كنتُ مستعدًا للمعركةِ الأخيرةِ.