[منظور ميساكي]
كانَ جسدُ نيمو ما زالَ دافئًا بجانبي، دمهُ يلتصقُ بوجهي. لكنَّ صرخةَ بابادوك، صرخةً تُشبهُ زئيرَ كائنٍ أسطوريٍّ خرجَ لتوّهِ من كوابيسِ العالمِ، اجتاحتْ أذنيَّ. رفعتُ رأسيَ، والدموعُ تملأُ عينيَّ الشفَّافتينِ، لأرى المشهدَ الذي لن يُمحى من ذاكرتي أبداً.
لم يعدْ بابادوك الذي عرفتُهُ. أمامي وقفَ عملاقٌ أسودٌ ضخمٌ، يرتفعُ شامخًا بطولِ القصرِ المشتعلِ، قرونٌ سوداءُ عريضةٌ تشقُّ الهواءَ من رأسهِ، وأجنحةٌ هائلةٌ كالأشرعةِ المظلمةِ تمتدُّ خلفهُ. كانَ جسدهُ مغطّىً بحراشفَ سوداءَ مخيفةٍ، وعضلاتهُ المفتولةُ تبرزُ بوضوحٍ، كلُّها توحي بقوةٍ جنونيةٍ تفوقُ أيَّ خيالٍ. كانَ مجردَ كتلةٍ من الغضبِ الخامِّ، يصرخُ زئيرًا يهزُّ الأرضَ.
الوحشُ الهلاميُّ، الذي كانَ قد انتصرَ للتوِّ على بابادوك في هيئتهِ السابقةِ، بدا الآنَ ضئيلاً، لا حولَ لهُ ولا قوةَ أمامهُ. عيناهُ الصفراوانِ اتسعتا بصدمةٍ ورعبٍ، وكأنهُ أدركَ أخيرًا من هو الخصمُ الحقيقيُّ الذي يواجهه.
اندفعَ بابادوك المتحولُ. لم تكنْ مجردَ خطواتٍ، بل كانتْ هزَّاتٍ زلزاليةٍ. كلُّ خطوةٍ تُحدِثُ دوياً عميقاً يترددُ صداهُ في الأرضِ. كانتْ قبضتاهُ العملاقتانِ، اللتانِ استعادتا قوتهما بالكاملِ وأصبحتا أضخمَ وأكثرَ فتكًا، تومضانِ بطاقةٍ مظلمةٍ.
لا توجدْ كلماتٌ تُمكنُني من وصفِ المشهدِ الذي تلا ذلكَ. بابادوك لم يهاجمْ بأسلوبٍ أو تكتيكٍ. كانَ يهاجمُ بدمارٍ خالصٍ. لكمةٌ واحدةٌ من قبضتهِ العملاقةِ اخترقتْ جسدَ الوحشِ الهلاميِّ، ليسَ لتمزقهُ، بل لتُفجّرهُ بالكاملِ. تناثرتْ أجزاءُ الوحشِ الأرجوانيةِ في كلِّ مكانٍ، لا كشظايا، بل كرذاذٍ يتلاشى في الهواءِ وكأنهُ لم يكنْ موجوداً قط.
صرخَ بابادوك زئيرًا آخرَ، زئيرَ غضبٍ أعمى، ثمَّ اندفعَ نحو أجزاءِ الوحشِ المتبقيةِ التي حاولتْ التجمعَ. لم يدعْ لها فرصةً. كلُّ قطعةٍ، مهما كانتْ صغيرةً، كانَ يجدُها ويسحقها بضربةٍ واحدةٍ من قبضتيهِ، أو يطحنها تحتَ قدميهِ العملاقتينِ. كانتْ الأرضُ تئنُّ، وجدرانُ القصرِ المشتعلةِ ترتعشُ.
لقد كانَ جنيًّا، أسطورةً، خرجتْ من صفحاتِ الكتبِ المظلمةِ لتمحو وجودَ هذا الشرِّ. لم ينطقْ بكلمةٍ واحدةٍ، فقط صرخاتٌ وزئيرٌ يُعبّرُ عن غضبِهِ الذي لا حدودَ لهُ. كانَ يُمزِّقُ الوحشَ، يمحوهُ من الوجودِ، قطعةً قطعةً.
كانت قبضتا بابادوك العملاقتان تُمزّقان الأثير، تُسدّدان ضرباتٍ تُزلزلُ القصرَ، لكنَّ الوحشَ الهلاميَّ كانَ يُظهرُ مرونةً مروّعةً. لم يعدْ مجردَ كتلةٍ تُسحقُ، بل كياناً يتشكّلُ ويتكيّفُ. كلُّ جزءٍ يُفجّرهُ بابادوك، يعودُ ليتجمعَ بسرعةٍ جنونيةٍ، وأحيانًا بشكلٍ أكثرَ كثافةً وقوةً. رأيتُه يُشكّلُ مجسّاتٍ صلبةً كالسيوفِ، تندفعُ لتقطعَ أجنحةَ بابادوك، أو أذرعاً سميكةً تُحاولُ تطويقَ جسدهِ العملاقِ.
زمجرَ بابادوك، صوتهُ يهزُّ أركانَ العالمِ. لكمةٌ أخرى هائلةٌ مزّقتْ جزءًا كبيراً من الوحشِ، لكنَّ هذا الجزءَ لم يتبخّرْ. بدلاً من ذلك، تجمّعَ في شكلِ كرةٍ سوداءَ كثيفةٍ، وانفجرتْ بوميضٍ أرجوانيٍّ صاعقٍ، ألقى ببابادوك بضعةَ أمتارٍ إلى الخلفِ. لم يتأثرْ بابادوك بشكلٍ كبيرٍ، لكنَّ الغضبَ في عينيهِ السوداوينِ ازدادَ.
كانَ القتالُ تحوّلَ إلى رقصةِ دمارٍ مجنونةٍ. بابادوك يهاجمُ بقوةٍ خالصةٍ، بضرباتٍ لا يمكنُ لأحدٍ أن يوقفها، لكنَّ الوحشَ كانَ يمتصُّها، يتجدّدُ منها، ويُعيدُ تشكيلَ نفسهِ. كانَ يبدو وكأنهُ لا يمكنُ قتلهُ، كيانٌ لا يستمدُّ قوتهُ من جسدهِ، بل من اللعنةِ نفسها، من اليأسِ الذي يغذّيهِ.
صعدَ الوحشُ، متشكّلاً بشكلٍ مُخيفٍ يُشبهُ أخطبوطًا هلاميًا ضخمًا، مجساتهُ تلتفُّ حولَ أعمدةِ القصرِ، تُحطّمها في طريقها. اندفعَ نحو بابادوك، ليسَ للهجومِ المباشرِ، بل لمُحاولةِ تطويقهِ وخنقهِ بمجسماتهِ اللزجةِ. كانتْ قوةُ بابادوك هائلةً، لكنَّ قوةَ الوحشِ تكمنُ في قدرتهِ على التجددِ اللانهائيِّ والتكيفِ معَ كلِّ ضربةٍ. كانَ صراعَ إراداتٍ لا ينتهي، قوةٌ لا تُصدّقُ ضدَّ مرونةٍ لا تُصدّقُ.
كان الصراعُ بين بابادوك والوحش الهلامي قد وصلَ إلى ذروةٍ لم أتخيلها. لم يكن مجرد قتال، بل دمارٌ مطلقٌ يلتهمُ كلَّ شيءٍ حولهما. بينما كان بابادوك يُسدّدُ ضرباتٍ تُزلزلُ القصرَ، استخدمَ أجنحتهُ السوداءَ الهائلةَ ليُحلّقَ عالياً، مُطلقًا زئيرًا عنيفًا. انقضَّ على الوحشِ من الأعلى، مُستخدماً أظافرهُ الحادةَ كالسيفِ لتقطيعهِ. تمزّقَ الوحشُ إلى أجزاءٍ ضخمةٍ، لكنها سرعان ما تشكّلتْ إلى مجسّاتٍ ضخمةٍ شبيهةٍ بالرماحِ، اخترقتْ صدرَ بابادوك.
لم يتوقفْ بابادوك. سحبَ المجسّاتِ بقوةٍ مُذهلةٍ، مُقطعاً إياها، بينما تحوّلتْ يدا الوحشِ إلى مفرمةٍ عملاقةٍ دوارةٍ حاولتْ فرمَ جسدهِ. تفادى بابادوك الهجومَ ببراعةٍ، وفي المقابلِ، تحوّلَ رأسُ الوحشِ إلى فكٍّ عملاقٍ حاولَ عضَّ ذراعِ بابادوك. ارتطمتْ الأسنانُ بذراعِ الجنيِّ الأسطوريِّ، مُحدثةً صوتاً مُرعباً، لكن ذراعَهُ صمدتْ.
كانَ بابادوك يزأرُ، كلُّ زئيرٍ يعكسُ غضبَهُ الأعمى على موتِ نيمو. لكنَّ هذا الغضبَ لم يكنْ كافياً. بدأَ الوحشُ يبتكرُ أساليبَ أكثرَ وحشيةً. تحوّلَ إلى سائلٍ هلاميٍّ أسودَ، ينسابُ كظلٍّ عبرَ الحطامِ، ثمَّ يرتفعُ فجأةً في شكلِ شوكاتٍ حادةٍ تخترقُ جسدَ بابادوك. كانَ يمتصُّ الهجماتِ، يتكيّفُ معَ قوةِ بابادوك، ويُحوِّلُها إلى نقطةِ قوةٍ لهُ.
شعرْتُ أنَّ الأرضَ تحتَ قدميَّ تهتزُّ بعنفٍ. لم يكنْ مجردَ اهتزازٍ، بل كانَ دويًّا يُشيرُ إلى أنَّ القصرَ بدأَ ينهارُ من كلِّ جانبٍ بسببِ قوةِ القتالِ. رأيتُ تشقّقاتٍ عميقةً تمتدُّ عبرَ الجدرانِ القريبةِ، وقطعًا من السقفِ تسقطُ بفعلِ الاهتزازاتِ المتتاليةِ. الغبارُ والدخانُ كانا يملآنِ المكانَ، مما جعلَ الرؤيةَ صعبةً، لكنني لم أستطعْ أن أُزيحَ عينيَّ عن هذا الصراعِ الأسطوريِّ.
كانَ بابادوك يتألمُ، ليسَ جسدياً فقط، بل روحيًا. كانَ يقاتلُ بلا هوادةٍ، لكنَّ الوحشَ كانَ لا يُقهَرُ. كانتْ هذهِ هي اللعنةُ التي لم أُفهمها حقًا من قبلُ؛ إنها ليستْ مجردَ كيانٍ يمكنُ قتلهُ، بل تجسيدٌ حيٌّ لليأسِ، يتغذى من كلِّ ألمٍ، من كلِّ هزيمةٍ.
صرخةٌ جديدةٌ، لكن هذهِ المرةَ ليستْ من بابادوك. بل كانتْ صرخةَ غضبٍ مخلوطةٍ بصوتِ دويٍّ هائلٍ جاءَ من مكانٍ بعيدٍ في القصرِ. صرخةٌ لم أسمعها من قبلُ، لكنها حملتْ معها طاقةً غريبةً، وكأنَّ شيئًا قد تغيّرَ في مكانٍ آخرَ. لم أستطعْ معرفةَ ما حدثَ، لكنني شعرتُ بأنَّ هذا الصراعَ الأبديَّ ربما لن يكونَ وحدهُ الذي يحددُ مصيرنا.
[منظور الراوي]
******
في قلب الدمارِ الذي ابتلعَ القصرَ، استمرَّ الصراعُ الوحشيُّ بينَ بابادوك بكيانهِ الجنيِّ الأسطوريِّ والوحشِ الهلاميِّ الذي لا يُقهرُ. تحوَّلتْ المعركةُ إلى لوحةٍ من الفوضى المطلقةِ، حيثُ كانتْ الضرباتُ تُدوّي، والقصورُ تنهارُ، والأرضُ ترتجفُ.
اندفعَ بابادوك، أجنحتهُ السوداءُ تمزّقُ الهواءَ، وقرونهُ تُشيرُ إلى الأمامِ، مُطلقًا لكمةً مدوّيةً نحو قلبِ الوحشِ. لكنَّ الوحشَ لم يتراجعْ. بدلاً من ذلك، تشكّلتْ ذراعاهُ الهلاميتانِ بسرعةٍ، وأمسكَ بكتفِ بابادوك. في الوقتِ ذاتهِ، قبضَ بابادوك بيدهِ العملاقةِ على كتفِ الوحشِ، مُثبّتًا إياه.
توقفتْ الحركةُ للحظةٍ، وكأنَّ الزمنَ قد تجمدَ. كانا يقفانِ وجهاً لوجهٍ، عملاقينِ من القوةِ النقيةِ. النيرانُ كانتْ تلتهمُ بقايا القصرِ خلفهما، تُلْقي بظلالٍ مرعبةٍ على جسديهما الضخمينِ. لم تكنْ هناكَ مساحةٌ للمناورةِ، فقط قبضتانِ تُثبّتانِ، وعينانِ تُحدِّقانِ.
فجأةً، وبصوتٍ واحدٍ، صرخا.
لم تكنْ صرخةَ ألمٍ، بل صرخةَ غضبٍ مطلقٍ. زئيرُ بابادوك كانَ عميقًا، يصدحُ كصوتِ الرعدِ القادمِ من أعماقِ الأرضِ، مُعبرًا عن غضبِ الجنيِّ الذي لا يعرفُ حدودًا. بينما كانتْ صرخةُ الوحشِ الهلاميِّ حادةً، مُخيفةً، تُشبهُ همسَ آلافِ الأرواحِ المعذبةِ التي تتجمعُ في صوتٍ واحدٍ، صرخةٌ تُعبّرُ عن قوةِ اللعنةِ الأبديةِ.
كانتْ صرختانِ تُعلنانِ عن حقيقةٍ واحدةٍ: التعادلُ في القوةِ. كلاهما يمتلكُ قوةً كافيةً لتدميرِ الآخرِ، لكنَّ لا أحدَ منهما يستطيعُ أن يُنهي هذا الصراعَ وحدهُ. كانتْ هذهِ هي المواجهةُ التي لا نهايةَ لها، صراعٌ بينَ كيانينِ عظيمينِ، محبوسينِ في حلقةِ دمارٍ لا تنتهي.
الآن وقد تأكد التعادل في القوة بين بابادوك والوحش،
فجأةً، أحسَّ الوحشُ وبابادوك وميساكي بشيءٍ غريبٍ. لم يكنْ اهتزازًا في الأرضِ، ولا دويًّا جديدًا من القتالِ المستعرِ. كانتْ هالةٌ هائلةٌ، قويةٌ للغايةِ، تغطي القصرَ بالكاملِ، وكأنَّ طاقةً قديمةً وعظيمةً قد استيقظتْ. في تلكَ اللحظةِ، ابتسمتْ ميساكي ابتسامةَ أملٍ، وبصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ مليءٌ بالنصرِ، قالتْ: "وأخيرًا ربحتَ يا بليك."
[منظور بليك]
في ذلكَ القصرِ المشتعلِ بالنيرانِ، حيثُ كنتُ أستعدُّ لمواجهةِ سورا مجدداً، أمسكتُ بكتابِ شمسِ المعارفِ. انبعثتْ منهُ تلكَ الهالةُ القويةُ للغايةِ. شعرتُ بها تتغلغلُ في عروقي، طاقةٌ لم أعهدْها من قبلُ، وكأنَّ الكتابَ قد عادَ إلى مالكهِ الحقيقيِّ، وكأنَّ لعنةَ الأيامِ الثلاثةَ عشرةَ قد انتهتْ للتوِّ.
كانتْ الهالةُ ضخمةً لدرجةٍ أنَّها جعلتْ النيرانَ حولنا تبدو خافتةً. رأيتُ سورا، الذي كانَ يندفعُ نحوي بغضبٍ أعمى، يتوقفُ فجأةً. اتسعتْ عيناهُ بصدمةٍ تامةٍ، وارتجفَ جسدهُ. كانَ ينظرُ إليَّ، لا كشخصٍ، بل كظاهرةٍ غريبةٍ. وجههُ تحوّلَ من الغضبِ إلى ذهولٍ مطلقٍ، ثمَّ إلى خوفٍ لم أرهُ عليهِ من قبلُ. لقد شعرَ بالهالةِ، وأدركَ ماذا يعني وصولُ الكتابِ إليَّ.
لم أُضيِّعْ الوقتَ. فتحتُ الكتابَ تلقائياً. بدأتْ الصفحاتُ تتقلبُ بسرعةٍ جنونيةٍ تحتَ أصابعي، وكأنَّها تتسابقُ لتكشفَ عن نفسها. لم أكنْ أُقلّبها، بل كانتْ تفعلُ ذلكَ بنفسها، تقودني. توقفتْ عندَ صفحةٍ معينةٍ، صفحةٍ رسمتْ عليها رموزٌ غريبةٌ وخطوطٌ مظلمةٌ. كانَ عنوانُها "طقسُ تكوينِ وحشِ المهام".
بهدوءٍ لم أكنْ أعرفُ أنني أمتلكهُ، أمررتُ إصبعي على الصفحةِ، مُنهيًا الطقسَ. شعرتُ وكأنَّ طاقةً هائلةً قد انقطعَ تدفقُها، وكأنَّ تيارًا كهربائيًا قد توقفَ فجأةً. ثمَّ، رفعتُ رأسي، وعينايَ تُحدِّقانِ في سورا الذي كانَ لا يزالُ متجمداً في مكانهِ.
"لا تملكُ أحدًا في صفِّكَ الآنَ يا سورا،" قلتُ، صوتي هادئٌ لكنَّهُ يحملُ ثقةً لم أعهدْها في نفسي.
[منظور بابادوك]
في تلكَ اللحظةِ التي تشابكتْ فيها قبضتي بكتفِ الوحشِ، وصرخنا معاً في تعادلٍ لا نهايةَ لهُ، شعرتُ بتلكَ الهالةِ الهائلةِ. كانتْ طاقةً مختلفةً، ليستْ كقوتي أو قوةِ هذا اللعينِ الذي أُقاتلهُ. إنها طاقةٌ مألوفةٌ، لكنها أقوى بكثيرٍ مما تصوّرتُ.
ثمَّ حدثَ ذلكَ.
بدأَ الوحشُ أمامي يتبخرُ. لم يكنْ ذلكَ ببطءٍ، بل بسرعةٍ جنونيةٍ، وكأنَّهُ لم يكنْ موجودًا قطُّ. كانتْ أجزاؤهُ تتلاشى في الهواءِ، تُصبحُ رمادًا أرجوانيًا يتطايرُ معَ الدخانِ. في غضونِ لحظاتٍ، لم يبقَ منهُ شيءٌ. لقد اختفى، هو الذي كانَ يجسّدُ قوةَ اللعنةِ، وهو الذي كانَ يُصنّفُ ضمنَ أقوى الكائناتِ، تلاشى وكأنهُ لم يكنْ.
شعرْتُ بقوةٍ هائلةٍ تُستنزفُ مني، بقوةٍ كانتْ تُغذّي شكلي الجنيَّ. سقطتُ على الأرضِ، جسدي يرتجفُ، منهكاً تماماً. بدأتْ أجنحتي وقروني تختفي، وعضلاتي تتقلصُ. عدتُ إلى شكلي البشريِّ، ألهثُ، بالكادِ أستطيعُ الحفاظَ على وعيي.
رأيتُ ميساكي تجري نحوي، وجهُها مليءٌ بالقلقِ، لكنَّ عينَيها تُشرقانِ بالأملِ. انحنتْ عليَّ، تضعُ يدها على جبهتي.
"عرفتُ أنكَ سوفَ تفعلُها يا بليك،" همستُ لها، ابتسامةٌ واهنةٌ ترتسمُ على وجهي، بينما أغمضتُ عينيَّ. لقد فعلها.
[منظور بليك]
وقفتُ، الفأس في يدي، والكتابُ في اليدِ الأخرى، أُحدّقُ في سورا. كانَ القصرُ لا يزالُ يشتعلُ، لكنَّ نيرانَ غضبي كانتْ أقوى. الهالةُ القويةُ التي انبعثتْ من الكتابِ كانتْ قد صدمتْهُ، جعلتهُ يتجمدُ في مكانهِ. لكنَّ صدمتَهُ سرعانَ ما تحوّلتْ إلى ابتسامةٍ قذرةٍ، كعادتهِ.
"إنهُ هالةٌ؟ هل سيخيفُني هذا، د؟" قالَ ساخرًا، وكأنَّهُ يُقلّلُ من شأني. "أنتَ فقط لمستَ الكتابَ، لكنكَ لا تعرفُ استخدامَهُ. أنتَ ما زلتَ هذا الضعيفَ. والآنَ، أعطني الكتابَ و مت بهدوءٍ."
ضحكتُ. ضحكةٌ لم أكنْ أظنُّ أنني قادرٌ عليها في هذهِ اللحظةِ. "لا أعرفُ لماذا تظنُّني ضعيفًا لهذهِ الدرجةِ يا سورا."
استغربَ سورا، ثمَّ قالَ مستهزئًا: "ماذا؟ أنتَ لا تستطيعُ فعلَ شيءٍ بالكتابِ، لذا أعطِهِ لي الآنَ. لو كنتُ أستطيعُ فعلَ شيءٍ، لكنتُ قتلتُني فورًا."
ابتسمتُ ابتسامةً باردةً. "آسفٌ، لكني لن أقتلكَ."
تلاشتْ ابتسامةُ سورا الساخرةُ، وحلَّ محلَّها استغرابٌ واضحٌ. أردفتُ: "لكنَّهم من سيفعلونَ."
رفعتُ يديَّ، أشرتُ إلى أعلى، إلى الممرِّ، إلى الجدرانِ، إلى السقفِ. نظرَ سورا إلى حيثُ أشرتُ، وما رآهُ جعلَ عينيهِ تتسعانِ بذهولٍ خالصٍ.
في الممرِّ... على الجدرانِ... على السقفِ.
عددٌ هائلٌ من الجنِّ.
مخلوقاتٌ بأحجامٍ وأشكالٍ لا تُصدّقُ. بعضها يزحفُ على أربعةِ أطرافٍ نحيلةٍ تنتهي بمخالبَ حادةٍ، أجسادها شفافةٌ كالدخانِ المتصاعدِ من النيرانِ، وعيونها تتوهّجُ بضوءٍ أحمرَ خافتٍ. بعضها يطيرُ بأجنحةٍ رقيقةٍ كأجنحةِ الخفافيشِ، تُحدثُ خفقاتٍ سريعةً تُحرّكُ الهواءَ الساخنَ، أشكالها تُشبهُ البشرَ، لكنَّ ملامحها مُشوّهةٌ وشريرةٌ. وبعضها يُشبهُ الظلالَ أكثرَ من الأجسادِ، تتدفقُ كالدخانِ الأسودِ الكثيفِ على الجدرانِ والأرضِ، بلا ملامحَ واضحةٍ سوى أزواجٍ من العيونِ المُتّقدةِ في الظلامِ.
كلُّها كانتْ تُحدّقُ نحوَهُ.
لا، بل نحوَ سورا.
ابتسمتُ ابتسامةَ نصرٍ باردةٍ. "هؤلاءِ الشيءُ الوحيدُ الذي كانَ يمنعُهم عن قتلكَ هو الكتابُ. والآنَ أنتَ لستَ بحوزتهِ. أنتَ نكرةٌ بدونهِ."
تحوّلَ وجهُ سورا إلى قناعٍ من الصدمةِ والخوفِ الشديدينِ. اتسعتْ عيناهُ حتى أقصى حدٍّ، وارتعشَ جسدهُ كلهُ. كانَ ينظرُ إلى الجنِّ وكأنَّهُ يرى كابوسَهُ الأسوأَ يتجسّدُ أمامهُ. تلاشى غرورُهُ، وانهارتْ كلُّ مظاهرِ قوتهِ. كانَ الخوفُ يرسمُ كلَّ تفصيلةٍ على وجههِ.
فجأةً، وكأنهم تلقّوا إشارةً خفيةً مني، بدأَ الجنُّ بالاقترابِ. لم يتحرّكوا بشكلٍ عشوائيٍّ، بل كأنهم موجةٌ واحدةٌ من الرعبِ، تتدفقُ نحو سورا. الزاحفونِ انقضّوا من الجدرانِ، الطائرونَ هبطوا من السقفِ، والظلالُ اندفعتْ من الأرضِ. كلهم، بلا استثناءٍ، توجّهوا نحوَ سورا، مُستعدينَ لالتِهامِهِ حرفيًا.
صرخَ سورا. صرخةٌ اخترقتْ صخبَ النيرانِ، صرخةٌ يملؤها الرعبُ واليأسُ المطلقُ. "ابتعدوا! ابتعدوا!" بكى، محاولًا التراجعَ، لكنَّ الجنَّ كانوا أسرعَ.
حاصرَهُ الجنُّ في لحظةٍ. التفتوا حولهُ، غطّوا كلَّ جزءٍ من جسدهِ. لم يكنْ هناكَ قتالٌ، ولا مقاومةٌ. كانَ الأمرُ أشبهَ بإلقاءِ قطعةِ لحمٍ في بحرٍ من الأسماكِ الجائعةِ. بدأوا في التهامِهِ. لم يكنْ هناكَ صوتُ تمزيقِ لحمٍ أو تكسُّرِ عظامٍ بالمعنى المألوفِ. كانَ الأمرُ أشبهَ بامتصاصٍ، أو تبخُّرٍ. كانتْ أجسادُ الجنِّ تندمجُ معهُ، تخترقُهُ، تُفنيهِ. رأيتُ جسدَ سورا يرتعشُ بعنفٍ، ثمَّ يتقلّصُ، وكأنَّهُ يذوبُ فيهم. في غضونِ ثوانٍ معدودةٍ، اختفى سورا تماماً. لم تبقَ دماءٌ على الأرضِ، ولا أطرافٌ ممزقةٌ، ولا حتى بقايا ملابسَ. لقد تلاشى كأنهُ لم يكنْ موجوداً قطُّ. وكأنَّ الجنَّ لم يأكلوهُ، بل محوهُ من الوجودِ، استوعبوا كلَّ ذرةٍ منهُ، فلم يتركوا خلفهم سوى فراغٍ باردٍ في المكانِ الذي كانَ يقفُ فيهِ.
لقد انتهت المعركة. مات سورا، واختفى كأن لم يكن، التهمته الكائنات التي كان يعتقد أنه يسيطر عليها. والآن، لم يعد أمامي سوى مهمة واحدة: الخروج من هذا القصر المشتعل قبل أن ينهار فوق رؤوسنا.
وضعت كتاب شمس المعارف بعناية داخل ملابسي، شعرتُ بطاقته الخافتة تتدفق تحت أصابعي. نظرتُ حولي بسرعة، وبصيصُ أملٍ انبعثَ في صدري عندما لمحتُ أكيهيكو ساقطًا على الأرضِ منهكًا تمامًا.
"أكيهيكو!" صرختُ، وجريتُ نحوه. كانَ ما زالَ حيًا، الحمد لله. وضعتُ يديهِ حولَ رقبتي، وحملتُ جسدهُ الواهنَ، أعدُّ نفسي لأُخرجهُ من هذا القصرِ المحترقِ.
كانت الحرارةُ شديدةً، والدخانُ يكادُ يخنقُنا. كلُّ خطوةٍ كانتْ مؤلمةً، فجروحي الجديدة والقديمة كانت تصرخُ في كلِّ حركةٍ. لكنني لم أهتم. أكيهيكو كانَ فاقداً للوعي تماماً، وجههُ شاحبٌ، وكتفهُ يرتخي بلا قوةٍ. يجبُ أن أُخرجهُ من هنا.
بدأتُ أبحثُ عن طريقٍ للخروجِ. كلُّ الممراتِ كانتْ متشابهةً الآن، ملتويةً بفعلِ النيرانِ التي غيرتْ معالمَ المكانِ. كانتْ النيرانُ تزدادُ قوةً، تلتهمُ الجدرانَ والأخشابَ، وتُصدرُ أصواتَ تشقُّقٍ وانهيارٍ مرعبةٍ. كلما توغلتُ أكثرَ، زادَ شعوري بالضياعِ. أينَ المخرجُ؟ هل كانَ هذا الممرُّ الذي جئنا منهُ؟ أم كانَ ذاكَ؟
بدأ جنونُ النارِ يسيطرُ على المكانِ. كانتْ الألسنةُ الحمراءُ والبرتقاليةُ ترقصُ في كلِّ زاويةٍ، وتُلقي بظلالٍ مُخيفةٍ تجعلُ الممراتِ تبدو وكأنها تتلوّى. شعرتُ وكأنَّ القصرَ يتنفسُ نارًا، يزدادُ قوةً في احتراقهِ. كانتْ الحرارةُ تزدادُ لدرجةِ أنني شعرتُ بجلدي يحترقُ، والهواءُ يكادُ ينصهرُ. بدأَ السقفُ يتهاوى في بعضِ الأماكنِ، مُحدثًا دويًّا يُغطي على كلِّ الأصواتِ الأخرى.
كنتُ أركضُ، أتعثّرُ، ثم أُتابعُ الركضَ، أُمسكُ بأكيهيكو بإحكامٍ. 'يجبُ أن نخرجَ. يجبُ أن نخرجَ.' ترددتْ هذهِ الكلماتُ في رأسي، بينما كانَ اليأسُ يتسللُ إلى قلبي. هل سننجو من هذا الجحيمِ؟
بدأتْ النيرانُ تشتعلُ أكثرَ فأكثرَ، والسقفُ بدأَ يسقطُ في قطعٍ ضخمةٍ، والقصرُ كلّهُ بدأَ يئنُّ، ينهارُ ببطءٍ تحتَ وطأةِ اللهيبِ. لم أستطعْ إيجادَ المخرجِ. كلُّ الطرقِ بدتْ مسدودةً، وكلُّ زاويةٍ كانتْ تُصدرُ أصواتَ تشقُّقٍ وانهيارٍ. حالةُ أكيهيكو الصحيةِ كانتْ تتدهورُ بسرعةٍ؛ كانَ يحتاجُ هواءً نقيًا، فورًا.
لم أجدْ ما أفعلهُ. كلُّ ما أراهُ هو النيرانُ المشتعلةُ في كلِّ مكانٍ، وكأنَّ الجحيمَ قد ابتلعَ القصرَ. بدأتُ أفقدُ الأملَ في الخروجِ حيًا من هذا الكابوسِ. لكنْ فجأةً، أحسستُ بضوءٍ أمامي. كانَ ضوءًا صغيراً أصفرَ يشعُّ أمامي، يُشبهُ اليراعةَ، لكنَّهُ أكثرَ لمعانًا.
"ما هذا؟" تساءلتُ بصوتٍ خافتٍ، وقد غمرني الاستغرابُ.
بدأَ النورُ الصغيرُ بالتحركِ إلى الأمامِ، وكأنَّهُ يُشيرُ لي إلى طريقٍ. تبعتهُ بلا ترددٍ. تحرّكَ النورُ في متاهةِ القصرِ المشتعلةِ، يمرُّ عبرَ الأروقةِ المُنهارةِ، ويُضيءُ لنا الطريقَ وسطَ الدخانِ الكثيفِ. بينما كنتُ أتبعهُ، وجدتُ أنَّهُ أوصلني إلى مدخلِ القصرِ الذي لم أكنْ لأجدَهُ وحدي في هذهِ الفوضى. وفجأةً، اختفى النورُ، تاركًا لي شعورًا بالدهشةِ والامتنانِ. لم أفهمْ ما كانَ ذلكَ النورُ، لكنني كنتُ شاكرًا لهُ. لولاهُ، لما خرجتُ من القصرِ حياً.
خرجتُ مُسرعًا إلى الحديقةِ، وأنا أكحُّ دمًا، كلُّ نفسٍ كانتْ مؤلمةً. وضعتُ أكيهيكو على الأرضِ بلطفٍ، ثمَّ نظرتُ ورائي لأجدَ القصرَ وقد تحطّمَ بالكاملِ. لم يبقَ فيهِ أيُّ شبرٍ سليمٍ سوى الزخارفِ الخارجيةِ التي بدتْ كأشباحٍ من الماضي. رأيتُ الحديقةَ مُدمّرةً تمامًا، والتربةَ مُنجرفةً إلى الشارعِ الأماميِّ. عرفتُ تمامًا أنَّ هذا كانَ نتيجةَ قتالِ بابادوك والوحشِ، لكنني لم أهتمَّ في تلكَ اللحظةِ. كنتُ خائفًا على أكيهيكو الفاقدِ للوعي، كانَ يحتاجُ إسعافًا الآنَ وحالًا.
لكنَّ الحمدَ للهِ، وجدتُ أنَّ سياراتِ الإسعافِ والدفاعِ المدنيِّ ورجالِ الإطفاءِ قد وصلوا إلى القصرِ بالفعلِ. بدؤوا برشِّ المياهِ على النيرانِ المتصاعدةِ. يبدو أنَّ السكانَ قد بلّغوا عن احتراقِ القصرِ.
أسرعتُ وصرختُ لهم، أُشيرُ إلى أكيهيكو، أطلبُ المساعدةَ. بالفعلِ، أسرعوا نحوَنا. أخذوهُ بسيارةِ الإسعافِ بسرعةٍ، لكنهم لم يأخذوني معهم. ربما لأنني لم أكنْ أُبدو في حالةٍ حرجةٍ مثلَ أكيهيكو، أو ربما بسببِ الفوضى العارمةِ. بقيتُ وحدي، أشاهدُ سيارةَ الإسعافِ وهي تبتعدُ، آملًا أن يكونَ أكيهيكو بخيرٍ.
وبينما كنتُ أتأملُ الحديقةَ المُدمرةَ، وعينايَ تُراقبُ ابتعادَ سيارةِ الإسعافِ، رأيتُ شيئاً جعلَ قلبي يتوقفُ. جسدٌ مُلقىً على الأرضِ بينَ الحطامِ، غارقٌ في دمائهِ. كانَ هذا الجسدُ لـِنيمو.
جريتُ نحوهُ، أصرخُ باسمهِ، صوتي ممزوجٌ بالصدمةِ واليأسِ. "نيمو! نيمو! هل أنتَ بخير؟!"
لكنني لم أتوقعْ ذلكَ عندما وصلتُ إليهِ. كانَ نيمو ميتًا بالفعلِ. لم يكنْ هناكَ نفسٌ، لا دقةُ قلبٍ، فقط جثةٌ هامدةٌ باردةٌ بينَ الحطامِ. عيناهُ كانتْ مفتوحتينِ جزئيًا، تُحدِّقانِ في السماءِ الدخانيةِ بلا حياةٍ. كانَ دمهُ يلطّخُ الأرضَ حولهُ، ويُشكلُ بركةً حمراءَ داكنةً.
سقطتُ على ركبتيَّ بجانبهِ. يدٌ باردةٌ، أُمسكُ بيدهِ. كانتْ خاليةً من أيِّ حرارةٍ. كانَ الألمُ الذي شعرتُ بهِ في تلكَ اللحظةِ أشدَّ من أيِّ جرحٍ في جسدي. لم أصدّقْ ما أراهُ. نيمو؟ ميتًا؟
تجمّدَ الحزنُ في حلقي، ثمَّ انفجرَ. بدأتُ أبكي بشدةٍ، دموعي الساخنةُ تختلطُ بالدماءِ والدخانِ على وجهي. لم يكنْ بكاءً صامتًا، بل كانَ نحيبًا يُزلزلُني، صرخةً تُعبّرُ عن كلِّ ما بداخلي من يأسٍ وغضبٍ. هززتُ جسدهُ بلطفٍ، وكأنني أُريدُ أن أُوقظهُ، أُريدُهُ أن يفتحَ عينيهِ وينظرَ إليَّ.
"لا... لا يمكنُ هذا..." تمتمتُ، صوتي مُختنقٌ بالدموعِ. كانَ صديقاً، كانَ جزءاً من فريقنا. لقد مررنا بالكثيرِ معاً. كيفَ يمكنُ أن ينتهيَ بهِ الأمرُ هكذا؟ شعرتُ وكأنَّ جزءاً مني قد ماتَ معهُ. كانَ الحزنُ يضغطُ على صدري، يُصعبُ عليَّ التنفسَ. العالمُ من حولي، القصرُ المشتعلُ، رجالُ الإطفاءِ، كلُّ ذلكَ تلاشى، ولم يبقَ سوى أنا ونيمو، وصوتُ بكائي الذي يترددُ في هذهِ الحديقةِ المدمرةِ.
وفي غمرةِ بكائي، سمعتُ أصواتَ صافراتٍ قادمةً من بعيدٍ. كانتْ الشرطةُ. لم أُرِدْ أن أتورطَ معهم، لا بعدَ كلِّ ما حدثَ. رفعتُ رأسيَ عن جثةِ نيمو، والدموعُ تنهمرُ من عينيَّ كالمطرِ، همستُ بصوتٍ مُتقطعٍ: "آسفٌ، نيمو." ثمَّ بدأتُ أبتعدُ، أُجبِرُ نفسي على تركِ صديقي وراءَ ظهري.
بينما كنتُ أخطو بعيداً، بدأتْ أفكارٌ أخرى تتسربُ إلى ذهني. "أينَ ميساكي؟ أينَ بابادوك؟ أيمكنُ أنهما... لا، لا يمكنُ ذلكَ."
وفجأةً، رأيتُ من بعيدٍ جسدَ بابادوك ساقطًا على الأرضِ، مُنهكًا تمامًا، ووجههُ مُتجهٌ نحو نجومِ الليلِ التي بدأتْ تظهرُ بينَ خيوطِ الدخانِ. جريتُ إليهِ، وابتسامةٌ خفيفةٌ ارتسمتْ على وجهي رغمَ كلِّ الألمِ الذي اعتراني.
"بابادوك!" قلتُ، وصوتي يحملُ مزيجًا من الراحةِ والدهشةِ. "لم أتوقعْ أنني سأقولها يومًا، لكني سعيدٌ أنكَ حيٌّ!"
نظرَ إليَّ بابادوك وهو لا يزالُ مُلقىً على الأرضِ، وقالَ بصوتهِ الخشنِ المألوفِ: "أنا أيضًا لم أتوقعْ أن أقولها، ولكن أحسنتَ في نجاتكَ يا فتى."
ابتسمتُ ابتسامةً خفيفةً، ثمَّ شاهدتهُ يحاولُ الوقوفَ بصعوبةٍ. تمتمَ وهو يتأرجحُ: "تباً، لقد استهلكتُ كلَّ طاقتي. أحتاجُ شعورًا الآنَ لاسترجاعها."
لم أهتمَّ بحديثهِ عن الشعورِ. كانَ هناكَ شيءٌ أهمُّ. "أينَ هي ميساكي؟" سألتُهُ بلهفةٍ، وقلبي ينقبضُ خوفًا.
استغربَ بابادوك، وقالَ وهو يتلفتُ حولَهُ: "لا أعلمُ. لقد كانتْ هنا الآنَ."
"ماذا؟" صرختُ، وصدري يرتفعُ ويهبطُ بسرعةٍ.
"مهلا... أنا أشعرُ بها،" قالَ بابادوك فجأةً، وعيناهُ تحوّلتا إلى نظرةٍ بعيدةٍ. "إنها عندَ البحيرةِ."
"البحيرة؟ لماذا هي هناكَ؟"
تنهّدَ بابادوك، ووجههُ يحملُ تعبيرًا من الحزنِ. "بليك! إنَّ ميساكي شبحٌ. بعدَ أن أكملنا مهمتَنا، وعرفتْ من هو قاتلها، سوفَ تذهبُ إلى العالمِ الآخرِ الآنَ."
انصدمتُ. "ماذااااا؟!" كانَ صوتي صرخةً ممزوجةً باليأسِ.
دون تفكيرٍ، بدأنا الجريَ نحو البحيرةِ، نُصارعُ الألمَ والإرهاقَ، مُصمِّمينَ على الوصولِ إلى ميساكي قبلَ فواتِ الأوانِ.