الهواء البارد لفمي، يلامس وجهي المُتعب بعد كل ما مررت به. كان جميلًا بشكل غريب، هدوء ما بعد العاصفة. أصوات العصافير بدأت تعلو، تغرد للحياة الجديدة مع اقتراب الفجر. السماء كانت تُلون نفسها تدريجيًا بأحمر قانٍ، وعدًا بشروق شمس قريب.
وصلت أنا وبابادوك إلى البحيرة بعد حرب طاحنة تركت أثرها في كل زاوية من روحي. رأينا ميساكي جالسة على حافة البحيرة، تنظر إلى الأفق بهدوء ساحر، وكأنها جزء من لوحة فنية عتيقة.
مشيت ببطء، كل خطوة تثقلها أشباح الماضي القريب. جلسنا بجانبها، أنا من جهة وبابادوك من الجهة الأخرى، وهي في المنتصف، كأنها خيط رفيع يربطنا جميعًا. الصمت كان سيد الموقف للحظات، صمتٌ يحمل في طياته آلاف الكلمات والمشاعر.
كسرت الصمت بصوت خافت، بالكاد يُسمع: "ميساكي...".
التفتت إليّ، عيناها الواسعتان تحملان حزن العالم كله، لكنهما أيضًا تشعان بسلام غريب. ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم نظرت إلى بابادوك.
بابادوك، الذي غالبًا ما كان صلبًا وقاسيًا، بدا هذه المرة وكأنه فقد جزءًا من بريقه. قال بهدوء غير معهود: "حان وقت الرحيل، أليس كذلك؟".
أومأت ميساكي برأسها ببطء، ثم عادت بنظرها إلى البحيرة. "أعتقد ذلك. أشعر وكأن شيئًا ما يسحبني بهدوء... مكان آخر".
سألتها، صوتي يرتجف قليلًا: "هل... هل أنتِ خائفة؟".
ابتسمت ابتسامة حزينة. "لم أعد خائفة. الخوف تلاشى مع كل قطعة من ذاكرتي عادت. الآن، أشعر وكأني أعود إلى المنزل... إلى حيث أنتمي".
بابادوك تنهد، صوت عميق خرج من أعماقه: "غريب كيف أن الموت قد يكون أحيانًا التحرر الأكبر. قضيتِ وقتًا طويلًا عالقة بين عالمين. الآن، ستجدين السلام".
نظرت إليه ميساكي بامتنان. "أجل. لم أكن لأجد طريقي لولاكم. لولا مساعدة نيمو... لولا شجاعة بليك. كنتُ مجرد صدى، والآن... أنا ذكرى".
عقدت قبضتي، وقلبي يعتصره الألم. "لا تقولي ذلك... أنتِ لستِ مجرد ذكرى. أنتِ... أنتِ ميساكي. كنتِ هنا. أنقذتِ حياتنا".
رفعت يدها التي كانت شبه شفافة، ووضعتها بلطف على يدي. شعرتُ ببرودة غريبة، لكنها كانت مريحة بشكل ما. "لقد عثرت على سلامي بفضلك يا بليك. بفضلك، عرفتُ من قتلتني، وبفضلك سامحتُ. سامحتُ نفسي، وسامحتُ كوغامي... حتى سورا".
"كيف يمكنكِ أن تسامحيهم؟" سألتُ، لم أستطع إخفاء غضبي. "لقد دمروا حياتكِ!".
أغمضت عينيها للحظة. "لأن الكراهية تثقل الروح. لن أذهب إلى حيث أنتمي وأنا أحمل هذا العبء. لقد عرفت الحقيقة، وهذا يكفيني. الآن، حان الوقت لأكون حرة".
نظر بابادوك إلى الأفق، وقال بصوت خفيض: "الحرية... ثمنها باهظ أحيانًا. لكنها تستحق كل شيء".
"أجل، تستحق." قالت ميساكي. "بابادوك... شكرًا لك. لقد كنتَ قويًا وشجاعًا... وكنتَ الأب الذي لم أجده في حياتي الأخرى."
تغير تعبير وجه بابادوك قليلًا، نظرة من الدهشة ثم الحزن مرت على عينيه. "لم أفعل سوى واجبي".
"لا... لقد فعلتَ أكثر من ذلك." أصرت ميساكي، ثم التفتت إليّ. "وبليك... أنتَ مختلف. أنتَ تحمل نورًا بداخلك، نورًا قادرًا على تغيير كل شيء. لا تدع هذا النور ينطفئ أبدًا. لا تدع الظلام الذي واجهته يغيرك".
"لكن... نيمو مات" قلتُ، صوتي يخنقه البكاء. "هوتارو... كل هذا بسبب الكتاب... بسببي".
"لا!" قالت ميساكي بحزم. "الموت جزء من الحياة. نيمو اختار التضحية من أجلنا، من أجلي. هوتارو كانت جزءًا من طريق طويل كان لا بد أن نسلكه. لستَ أنت المذنب يا بليك. أنتَ الوحيد الذي حمل هذا العبء، وحاولتَ أن تفعل الصواب دائمًا."
تجمعت الدموع في عيني. "لكن... ماذا سأفعل بدونك؟ كيف سأستمر؟".
نظرت إليّ بعينيها الحزينتين لكن المليئتين بالأمل. "ستستمر، لأنك قوي. ولن تكون وحيدًا أبدًا. ستجد دائمًا من يقف بجانبك. وأنا... سأكون دائمًا معك، في ذكرياتك، في كل قصة تتخيلها. كلما تذكرتني، سأكون هناك".
ميساكي وهي تنظر إلى البحيرة: "بالمناسبة أين هو أكيهيكو؟ هل هو بخير؟".
قلت: "نعم، إنه في المستشفى الآن".
"للأسف لن أستطيع توديعه، لكن أرسل تحياتي له".
بدأ وجهي حزينًا.
ابتسمت ميساكي وقالت: "هاي يا بليك، لا تحزن عليّ كثيرًا".
"لكن ماذا لو نسيتك؟"
"لا تقلق، سوف أترك لك هدية قبل رحيلي".
"هدية؟"
وعندها بدأ ضوء الشروق يصعد في السماء مبيدًا ظلمة الليل ويعلن بداية يوم جديد، وتتلألأ البحيرة بذلك الضوء الجميل.
قالت ميساكي: "يا له من جمال".
قلت أنا وبابادوك في نفس الوقت: "نعم".
بدأ جسدها يصبح أكثر شفافية، يتلاشى ببطء كضباب الصباح. بدأتُ أشعر بالبرد يزداد، وكأن جزءًا مني يختفي معها.
"ميساكي..." تمتمتُ، أمد يدي لأمسك بها، لكنها كانت تتلاشى بسرعة.
"وداعًا، بليك." صوتها كان خافتًا، كهمسة الريح. "اعتني بنفسك. و... عش حياتك. عش من أجل الجميع".
"وداعًا، ميساكي." قال بابادوك بصوت بالكاد يُسمع، وكأنه يودع صديقًا قديمًا.
وفي لحظة، اختفت تمامًا. لم يتبقَ سوى ضوء خفيف يتلاشى في الأفق، ثم اختفى هو الآخر. أصبحت البحيرة فارغة، إلا من انعكاس الشروق عليها، وكأنها تبكي معنا.
جلستُ هناك، غير قادر على الحركة، لا أصدق ما حدث. لقد رحلت. لقد رحلت ميساكي. وعلى الرغم من ذلك، كنتُ سعيدًا لأجلها.
{بعد أسبوعين}
حسناً، ما حدث هو أن الشرطة قد أخمدت الحريق، ووجدت جثة كوغامي، ولكنهم لم يجدوا جثة ميتسو، على الأرجح أنه لا يزال حيًا. كانت الشرطة جدًا مستغربة من الدمار الشامل الذي حدث في القصر، ولم يعرفوا سببه، لذا قريبًا سوف يغلقون القضية.
كنت أتعافى بسرعة من الكدمات والجروح التي لم تترك حتى ندبة، وأنا أرتاح في منزلي.
عملنا جنازة لنيمو ودفناه، وعلى الرغم من أن عدد الحضور كان قليلًا، إلا أننا لم نهتم. أرجعتُ القبة السحرية إلى مكاني في منزلي، ولم يحدث أي شيء سيء آخر في الأسبوعين الماضيين، بينما بابادوك يعيش في منزلي الآن وكأنه مقيم دائم، وهذا شيء مزعج.
ليقاطعني بابادوك فجأة، وعيناه تشتعلان بمزيج من السخرية والجدية: "هاي، من تقصد بمزعج؟ أنت محظوظ لأن شخصًا بعظمتي يعيش معك".
"أنا خائف طوال الوقت من أن تطعنني وأنا نائم وتخبرني أنني محظوظ!" رددتُ بضجر، بينما أومئ أكيهيكو، الذي كان يستمع لنا من سريره في المستشفى، بابتسامة باهتة.
تدخل أكيهيكو، صوته ضعيف لكنه يحمل نبرة مرحة: "كفى، كفى".
كنت أسرد هذه الأحداث لأكيهيكو النائم في المستشفى، وكان معي بابادوك.
قلت لأكيهيكو، محاولًا تغيير الموضوع: "بالمناسبة، متى سوف تخرج من هذا المستشفى؟".
"غدًا، لقد تحسنت بعد أسبوعين من الراحة". أجاب أكيهيكو، وبدت على وجهه علامات الترقب للخروج.
قال أكيهيكو وهو يحدق في عيني:
"بالمناسبة، ما هي تلك النقطة الصغيرة في عينك؟"
نظرت إلى عيني اليمنى، حيث كانت تتلألأ نقطة خضراء فاتحة في وسط بؤبؤ العين، بالكاد تُرى، لكني شعرت بأنها هناك، رغم أنني لم أكن أدركها تمامًا.
أجبته بهدوء:
"أوه، هذا الشيء الغريب ظهر فجأة. لا أعرف ما هو بالضبط، لكني لا أشعر به أو أحسه حقًا."
دخل بابادوك في الحديث قائلاً:
"لا بد أنها هدية من ميساكي لك."
تنهدت متعجبًا:
"هدية؟! تذكرت الآن، لكن كيف يمكن لميساكي أن تعطي هدية؟"
أجابني بابادوك بحكمة:
"عندما تساعد روح إنسانًا، تمنحه هدية من روحها. لا بد أن تلك النقطة الصغيرة التي تشبه الجوهرة في عينك هي هديتها لك."
تساءلت بفضول:
"وماذا تفعل هذه الهدية بالضبط؟"
ابتسم بابادوك وقال:
"لا أدري بالضبط، لكني متأكد أنها شيء مفيد."
ثم التفت نحو أكيهيكو، الذي كان على غير عادته ينساب من عينيه دموع الحزن.
قلت له برفق:
"هيه، أكيهيكو، حان الوقت لتتجاوز الأمر."
نظر إلي بحزن عميق وقال:
"لكن... هذا محزن جداً."
توقف أكيهيكو عن البكاء لبرهة، ثم كسر الصمت بابادوك قائلاً:
"إذن يجب أن تتحدث عما حدث الآن."
أومأت برأسي بتردد وقلت:
"ميتسو؟"
رد بابادوك بثقة:
"نعم، لا يزال طليقًا الآن، ويشكل خطرًا علينا، لذا علينا أن نكون في أقصى درجات الحذر."
نظرت إليه وقلت:
"بالمناسبة، يا بابادوك، عندما كنت في القصر، حدثت لي أشياء غريبة حقًا."
سأله بتعجب:
"مثل ماذا؟"
أجبت:
"لم أكن أشعر بأي من ضربات سورا أو قدميه التي كان يهاجمني بها. استطعت أيضًا تحمل الحرارة الشديدة التي لم أعتد عليها، وكانت لدي القدرة على استخدام الفأس رغم أني لم أمسِ أي سلاح في حياتي. ثم ظهر لي ضوء أصفر قادني للخروج من القصر."
فكر بابادوك قليلاً، ثم قال بنبرة جادة:
"هذا بسبب الكتاب... شمس المعارف."
اندهشت وسألته:
"كيف ذلك؟"
شرح بابادوك:
"عندما يصبح الإنسان مالكًا للكتاب، يعزز الكتاب قدراته بشكل كبير. قوته، تحمله، ذكاؤه، حواسه، وصحته تتحسن بشكل ملحوظ."
قلت باندهاش:
"مذهل!"
ثم أضاف بابادوك بجدية:
"لكنني لا أملك تفسيرًا لكيفية تمكنك من استخدام الفأس أو ظهور الضوء الأصفر."
قال بابادوك، وقد ازدادت نبرته جدية:
"رغم أن الأمور هادئة في هذه الأيام... لا تنقص من حذرك، يا بليك. ميتسو ما زال طليقًا، وطائفة الساحرة قد تتحرك مجددًا، بل قد يظهر عدو جديد في أي لحظة. لا شيء مضمون بعد ما مررنا به."
لكن أكيهيكو ردّ بحماس وابتسامة عريضة:
"لا تقلق كثيرًا! طالما أنت معنا يا بابادوك، فسنوقف أي عدو، أيًّا كان!"
ضحك بابادوك ضحكة خافتة وقال وهو يهزّ رأسه:
"لا أدري من تظنني... لكنني لا أستطيع فعل الكثير الآن. قوتي ذبلت منذ قتال وحش اللعنة. أحتاج إلى عدة اشهر كي أستعيد طاقتي بالكامل."
ابتسمتُ ساخرًا وأنا أتكئ على الجدار:
"لهذا السبب لم تهاجمني مؤخرًا، هاه؟"
رد ببساطة:
"نعم."
---
[تغيّر المشهد – الراوي: خارجي]
بينما كان بليك، أكيهيكو، وبابادوك يتحادثون داخل إحدى غرف المستشفى، لم يكونوا يعلمون أن شخصًا ما كان يتنصّت عليهم بهدوء.
ممرضة ترتدي زيًا أبيض بسيطًا، كانت تقف خلف أحد الأركان في الرواق المظلم. وجهها لا يُظهر أي مشاعر، لكن عينيها كانتا تتابعان بدقة كل كلمة تقال.
وحين انتهى الحديث، استدارت بهدوء وغادرت المكان. مشيتها كانت عادية، لا تثير الشك، لكنها كانت تعرف وجهتها جيدًا.
تنقلت عبر أروقة المستشفى بهدوء حتى وصلت إلى غرفة مغلقة في الطرف المعتم من الجناح الشرقي.
الغرفة كانت مطفأة الأنوار، يحيط بها هدوء غير مريح. لا تصدر منها أصوات إلا خافت طنينٍ كهربائي من أجهزة قديمة في الزوايا.
دخلت الممرضة.
في الداخل، وقفت طبيبة شابة، في أواخر العشرينات من عمرها، أمام مكتب تحيطه دفاتر ومجلدات طبية قديمة.
كانت تشير بإصبعها السبابة نحو دفاتر أمامها وكأنها تحدّد شيئًا معينًا بدقة.
شعرها البني الداكن كان مموجًا ويصل إلى كتفيها، وعيناها البنيتان تنظران مباشرة للأمام بثبات.
كانت ترتدي:
معطف مختبر أبيض طويل، أكمامه مطوية قليلاً.
زيًّا طبيًا أخضر فاتح (سكرابز) بقميص بياقة V وسروال مطابق.
حذاءً أبيض بسيطًا مفتوحًا من الأمام.
وعلى صدرها الأيسر، شارة هوية بيضاء بخط أزرق باهت، تشير إلى أنها د. تاكاو.
كان وجهها ثابتًا، يوحي بالثقة والسلطة.
قالت الممرضة بصوت خافت، وهي تغلق الباب خلفها:
"دكتورة تاكاو… نظريتك كانت صحيحة."
نظرت الدكتورة تاكاو إلى الممرضة، ولم تقل شيئًا، فقط ارتسمت على شفتيها ابتسامة انتصار هادئة… خطيرة.
[تغيّر المشهد]
في مقبرة البلدة الصغيرة… كان النسيم خفيفًا، والغيوم تتزاحم ببطء في سماء رمادية كأنها تشارك حزني.
وقفتُ أمام قبر نيمو، لا أعرف كم مر من الوقت، دقائق؟ ساعة؟ لا فرق.
نظرت إلى الاسم المنقوش على الحجر البارد، وكأن كلماته تلسع قلبي.
كان نيمو أكثر من مجرد صديق.
كان غريب الأطوار، نعم… لكنه كان أصدق من أي شخص عرفته.
لم يخجل من خوفه، من حزنه، من ضعفه… ولهذا كنت أراه قويًا.
هو الوحيد الذي ظلّ بجانبي حتى النهاية، رغم كل شيء.
همستُ:
"أهلًا نيمو…
أنا آسف.
كان مفروض أكون هناك، أسرع، أذكى…
لكنني فشلت. فشلت في حمايتك.
أعرف إنك تكره الدراما، وتضحك على أي مشهد بكاء في الأفلام…
بس لم استطع… اليوم، دموعي نزلت رغما عني.
غيرت الزهور، لا أريد ان اراك محاط بذبل.
والدمى اللي كنت تحبها… تركت وحدة منها فوق قبرك. لكي تتذكر إنك كنت مهم، حتى لو لم نقلها كثير."
نظفتُ القبر بصمت، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن أتابع طريقي.
مررتُ بعدها على قبر شينتو…
ثم هانا،
ثم هوتارو…
وفي النهاية… تاكاشي، رغم كل شيء.
وضعت الزهور، وأغلقت عيني، وتمتمتُ لهم جميعًا:
"أنا آسف… آسف لأني جرّيتكم لهذا الجحيم.
لم اكن أقصد.
لكن في النهاية، كنت السبب… حتى لو لم يقلها احد بصوت عالي."
فهمت، سأعيد صياغة ما كتبته بأسلوب سردي أقوى، مع الحفاظ على مشاعر بليك الجياشة، والحوارات بالفصحى، وإبراز لحظة المواجهة الصادقة مع قبر ميساكي، مركّزًا على كشف الحقيقة بأن ميساكي لم تنتحر، بل قُتلت ظلمًا.
كنت وحدي، أخيرًا.
الريح تهبّ برفق، كأنها تخشى أن تزعجها وهي ترقد تحت هذا التراب البارد.
خطوتُ ببطء نحو القبر، خطواتي ثقيلة كأنني أحمل الجبال على كتفي. لم أزر هذا المكان منذ ذلك اليوم… اليوم الذي تحطّم فيه كل شيء.
انحنيتُ أمام شاهد القبر الحجري، قرأت اسمها بصمت.
"ميساكي…"
تلعثمت الكلمات في صدري، لكني أجبرتها على الخروج.
"لقد عرف الجميع الحقيقة، ميساكي… لم تعودي تلك الفتاة التي قالوا إنها انتحرت. لم تعودي حديث الشائعات أو رماد الأكاذيب. لقد عرفوا الآن… أنك قُتلتِ."
رفعت رأسي ببطء، أحدّق في النقش على الحجر، وأشعر أن قلبي يُنقش تحته أيضًا.
"لقد قتلتك كوغامي… دفعتك إلى الحافة ثم رمتك، جسدًا وروحًا. لكنها لم تستطع أن تقتلنا نحن. لم تستطع أن تقتل الذكرى، ولا الصداقة، ولا الحب… ولا الحقيقة."
صمتّ لحظة، أغمضت عيني، وابتلعت ريقي كأنني أبتلع ألم عامٍ كامل.
"أتعلمين؟ لطالما شعرتُ أنني خذلتك. أنني وصلتُ متأخرًا. أنكِ كنتِ تصرخين في داخلك، لكن لا أحد سمعكِ. لا أنا، ولا نيمو، ولا حتى العالم الذي كان أعمى عن نورك."
"لكن الآن… الآن كل شيء تغيّر."
أخرجت من جيبي زهرة صغيرة، كانت ميتة تقريبًا، لكنها ما زالت تحتفظ بلونٍ باهتٍ يشبه ابتسامتها. وضعتها بلطف على القبر، ثم أكملت:
"سأحكي قصتك. سأقول للعالم إنك لم تكوني ضحية ضعف، بل ضحية خيانة. سأصرخ باسمك، وأجعلهم يذكرونك لا كفتاة ماتت، بل كفتاة قُتلت وقاومت حتى بعد الموت."
"ميساكي... أنا آسف. آسف على كل شيء. آسف لأني لم أكن هناك عندما كنتِ بحاجة إليّ. آسف لأني لم أحتضنكِ حينما كان العالم يحاول سحقك."
الريح ازدادت قوّتها، كأنها تبكي معي.
"وداعًا، صديقتي. أو… لا، ليس وداعًا. بل إلى اللقاء. لأنني لن أسمح لهذه النهاية أن تكون النهاية."
استدرتُ ببطء، وبدأتُ بالمغادرة… لكن قلبي بقي هناك، حيث يرقد جسدها، وحيث بدأت قصتي حقًا.
بالطبع، إليك استكمال الفصل 36.5 بصوت الراوي بليك، ثم الانتقال إلى المشهد الجديد في الزقاق مع تقديم الشخصيات والمكان بشكل واقعي ومشوق:
وفجأة… خطرت لي فكرة.
في جنازة نيمو، لم يحضر أحد من عائلته.
لا والداه، ولا أخوته، لا أحد.
كان الوحيد الذي ودّعه… هو أنا.
فكّرتُ كثيرًا حينها، وربما تجاهلت الأمر لأني لم أُرد أن أواجه هذه الحقيقة.
لكن الآن… لا أستطيع الصمت.
نيمو لم يكن شخصًا سيئًا، بل كان أنقى من كثيرين ممن يُمدحون ليلًا ونهارًا.
إن كانت عائلته لا تزال تكرهه، فهذا يعني أن صورته ما زالت مشوّهة في نظرهم.
وربما… ربما آخر شيء أستطيع فعله له، هو أن أعيد اسمه إلى الضوء.
أن أُصلح صورته.
أن أجعلهم يعرفون من كان نيمو حقًا… كهدية أخيرة مني له.
وهكذا، قررتُ أن أذهب إلى منزل والد نيمو…
---
[تغيّر المشهد – الراوي: خارجي]
في أحد أزقة المدينة الخلفية، حيث الأرض مليئة ببقع الزيت والقمامة، والجدران مرقّعة بكتابات جرافيتي وأوراق إعلانات ممزقة، كانت الرائحة خانقة بعض الشيء، تتكوّن من دخان، وعرق، وشيء من الخطر.
مجموعة من الفتيان الجانحين تجمّعوا هناك، بعضهم يستند إلى الجدران، وبعضهم يدخّن، وآخرون يتشاجرون بلا معنى.
وفي وسطهم تمامًا، كان هو.
ولد بشعر فريد بلونين متناقضين:
النصف الأيمن أسود كثيف، والنصف الأيسر أبيض بلون الثلج، يتدلّى بخصل حادة حول وجهه الحاد.
عيناه صفراوان كالنار، بؤبؤاه سوداوين كأن فيهما شيطانًا صغيرًا.
يبدو غاضبًا… أو ماكرًا… أو كلاهما.
كان يرتدي قميصًا أبيض بأكمام قصيرة، وفوقه سترة داكنة بكتفين واضحين وياقات خضراء، وعلى كمّه الأيمن شريطان فاتحان، كأنها رمز عصابة.
كان يمسك بجوانب سترته بكلتا يديه، كمن يستعد للقتال أو يُعدّل وقفته، تعبيره مليء بالتوتر والعدوان.
الصورة تُقطع عند الخصر، لكن الهالة التي تحيط به واضحة… هو الزعيم.
وفجأة، جاء أحد الجانحين يركض وهو يلهث، وجهه مغطى بالعرق والتوتر:
"لقد وجدته… من قتل أختك… إنه فتى يُدعى بليك إيثر!"
أخرج صورة من جيبه، صورة لبليك، يبدو أنها مأخوذة من كاميرا مراقبة أو هوية قديمة، ومدّها إلى الزعيم.
الزعيم تجمّد لثوانٍ، ينظر إلى الصورة… ثم اشتعلت عيناه.
ارتفعت أنفاسه، وقبض على السترة بقوة، ثم زمجر، وصوت أحد أتباعه يأتي من الخلف:
"ما الذي ستفعله، أيها الزعيم هاروكا؟"
التفت هاروكا بنظرة حارقة، قال بصوت منخفض لكن يقطر غضبًا:
"أذهبوا…
اجمعوا البقية.
قريبًا… سنهاجمهم."
ثم صمت لحظة، قبل أن يضيف:
"وسأنتقم… لاجل اختي كوغامي."
[نهاية المجلد الأول]