كنت واقفًا هناك، عاجزًا عن استيعاب ما يحدث أمامي، كل شيء بدا وكأنه مشهد من حلم غريب أو كابوس لا نهاية له. نسيت حتى الألم في يدي المقطوعة، كأن جسدي انفصل عن وعيي للحظة.

ثم، فجأة، خرج كتاب شمس المعارف من العدم، وكأن له حياة خاصة. ومن داخله، خرجت فتاة صغيرة، غريبة الملامح، ترتدي معطفًا أصفر باهتًا، تطفو قليلًا فوق الأرض بطريقة لا تبدو طبيعية. كانت هالة الكتاب الذهبية تحيط بها، وكأنها تشع ضوءًا دافئًا ومهيبًا في آن واحد، ولم أستطع إلا أن أُحدق بها بدهشة وذهول.

حتى الوحش، الذي بدا وكأنه قوة مطلقة من الجنون، تجمد للحظة، مشدوهًا من منظرها. لكنه سرعان ما عاد إلى طبيعته، قهقهاته الصاخبة تعلو المكان، وفي يده كرة بلازما ذهبية متوهجة، أطلقها بسرعة مذهلة نحو الفتاة الصغيرة.

كنت أستعد لرؤية النهاية، لتدمير لا محالة، لكن شيئًا ما حدث…

ببرود لا يصدق، مدت الفتاة كف يدها اليسرى نحو الكرة، وكانت حركة يدها غير منتظمة، كأن جسدها لا يستجيب بالكامل لإرادتها، تتحرك يمينًا ويسارًا بشكل عشوائي، لكن في لحظة غير معقولة، عاد كل شيء إلى طبيعته، وبشكل مذهل، صدت الكرة البلازمية المدمرة بكف يدها فقط.

وقفت هناك، أراقب المشهد وأنا عاجز عن الكلام، شعور بالمزيج بين الرهبة والإعجاب يملأ صدري. لم أعد أفهم أي شيء: من هذه الفتاة؟ كيف استطاعت فعل هذا؟ وما علاقة كتاب شمس المعارف بها؟

الوحش، الذي كان للتو مصدر الخطر الأعظم، توقف للحظة، كما لو أنه بدأ يعيد تقييم كل شيء. ثم، بدون أي تحذير، عاد إلى جنونه المعتاد.

إليك تكملة الفصل 46 بأسلوب مشوق وغني بالتفاصيل، من منظور بليك، مع تصعيد التوتر والغموض بطريقة مذهلة:

لم يكن هناك وقت للتفكير، فالوحش لم يهدأ. هذا المخلوق، الذي كان يشع بالجنون والقوة، أخرج كرات بلازما مزدوجة في كلتا يديه، وأطلقهما بسرعة لا تُصدق نحو الفتاة.

لكن الفتاة، بكل برود لا يصدق، لم تتحرك كطفلة خائفة، بل رمت النور الأصفر الصغير الذي كان في يدها نحو الكرات. وفجأة، حدث ما لم أتخيله أبدًا: النور تحول إلى كتلة عملاقة من الضوء، تحيط بالكرات وتوقفها تمامًا، قبل أن يعود إلى حجمه الصغير المعتاد، كأن شيئًا لم يحدث.

رأيت الوحش يتراجع قليلاً، وبدأت على وجهه علامات الارتياح، كما لو أنه لم يواجه تحديًا كهذا منذ زمن طويل. أما الفتاة، فقد نظرت إليه بعينين لا تشوبهما أي مشاعر خوف أو رهبة، وقالت بهدوء شديد:

"يا لك من مضيعة للوقت."

ثم، بدون أي تمهيد، انطلقت الفتاة بسرعة مذهلة نحو الوحش. حاول الوحش ضربها بمخالبه، لكن كأن يده اصطدمت بشيء غير مادي؛ لم تلمسها بأي شكل. شعرت حينها أن كل قوانين الفيزياء والعالم العادي لم تعد تنطبق هنا.

وفي لحظة صادمة، دخلت الفتاة جسد الوحش عبر صدره وخرجت من ظهره بسهولة تامة، كأن جسد الوحش مجرد قماش يمكن اختراقه بلا مقاومة.

كانت تلك اللحظة التي فهمت فيها الحقيقة: هذه الفتاة ليست بشرية، لم تكن أي كائن عرفته من قبل، قوتها تتجاوز كل حدود العقل والمنطق.

لكنها لم تكتفِ بذلك. بينما كانت خلف الوحش، وجهت ضربة صغيرة بكفها، مجرد لمسة بسيطة، لكنها كانت كافية لتجعل الوحش ينغرس في الأرض حرفيًا، اهتزت الأرض من أثرها، وكأنها أخرجت كل قوة الوحش دفعة واحدة.

وقفت هناك، عاجزًا عن الكلام، عيناي لا تصدقان ما أراه. لم يعد هذا مجرد قتال، بل عرض قوة لا يمكن تصوره، لعبة قوى بين كائنات تتجاوز البشر والمخلوقات التي عرفتها طوال حياتي.

اقتربت الفتاة مني بهدوء، وأنا في حالة من الرهبة، فسألتها:

"ممم… من أنت؟"

كانت إجابتها غير متوقعة:

"لن نعرف عن بعضنا الآن… يبدو أنك في حالة حرجة."

نظرت إلى يدي المقطوعة، وإلى جسدي المستنزف، وفجأة شعرت بضوء أصفر آخر ينبعث مني، هذه المرة من يد الفتاة المفتوحة، وخرج الضوء على شكل شعاع لامع. بدأت أشعر بتحسن تدريجي، تعود قوتي شيئًا فشيئًا، ورأيت يدي تنمو من جديد في مشهد مذهل.

وقفت الفتاة بعد ذلك بجانبي، وسألتها وأنا أمسك يدي:

"هل شفيتني الآن؟"

فأجابت:

"نعم… إنه سحر الشفاء."

لم أستطع سوى أن أقول بصوت خافت:

"شكرًا…"

لكن لم تمر لحظة هدوء طويلة. الأرض بدأت تهتز فجأة، وظهر الوحش مرة أخرى بعدما تحرر من الأرض. هذه المرة كان غاضبًا حقًا، ولم نعد نسمع ضحكاته المعتادة. رفع يديه إلى السماء، وكون كرة بلازما ذهبية ضخمة، أكبر من جسدي، شعرت بأن الكهف كله قد ينهار إذا أطلقها…

كنت أراقب الكرة وهي تتضخم أكثر فأكثر…

كنت أرى الكرة البلازمية الذهبية تتضخم أكثر فأكثر، والوحش المجنون يستعد لإلقائها علينا، وكأنها ستنهي حياتنا جميعًا في لحظة. شعرت بالرعب من حجمها وقدرتها على تدمير الكهف بالكامل، لكن فجأة، رفعت الفتاة يديها هي الأخرى، وظهر بين كفيها كرة من نور أصفر.

الكرة بدأت تكبر تدريجيًا، ثم أسرعت في التضخم، حتى أصبحت أكبر من كرة الوحش نفسها. لحظة صمت رهيبة سيطرت عليّ، شعرت أن أي تصادم بين هاتين الكرتين قد يسحقنا جميعًا تحت سقف الكهف المنهار…

لكن الفتاة كانت متحكمة تمامًا. بدأت بإبطاء حجم الكرة الصفراء شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت أصغر، لكنها لا تزال أكبر مني بكثير. ومع سرعة مذهلة، وطوفان هادئ من القوة، طافت الفتاة في الهواء حاملة الكرة الضخمة، وكل شيء من حولنا يتوهج بالنور.

وقبل أن يتمكن الوحش من فهم ما يحدث، أو من محاولة صدها، اندفعت الفتاة مباشرة نحو صدره، صوب الثقب الأسود الذي في قلب الوحش، وضربته بكرتها الصفراء الكبيرة.

في لحظة تصادم مذهلة، لم أرَ أي شيء سوى ضوء ساطع، كأنه السابع من النور في الكهف، يغمر كل زاوية، ويجعل كل شيء آخر يختفي في وهج لا يطاق…

ثم اختفى النور في ثوانٍ معدودة، تاركًا إياي في صمت مشحون بالخوف والدهشة. أمامي، وقفت الفتاة الصغيرة، ثابتة وهادئة، مقابل الوحش الذي صار صدره مثقوبًا بالكامل، ثقب عملاق يتلألأ باللون الأرجواني الداكن، وكأنه نبع دم غريب ينبض بالقوة والشر، دمه الأرجواني يسيل ببطء، كل نفس يلتقطه كان يصدر صدى مرعبًا في الكهف.

الفتاة وقفت هناك بلا أي حركة، وكأنها ملكة على ساحة المعركة. نظرت إلى الوحش الذي يلتقط أنفاسه الأخيرة، وقالت بصوت هادئ لكنه حاد، "كنت خصمًا مملًا، أيها اللعنة من الدرجة S."

وفجأة، دون أي تحذير، أدخلت يدها الصغيرة إلى الحفرة التي أحدثتها في صدر الوحش، وأخرجت منها بلورة بيضاء غريبة. كانت البلورة تحمل جمالًا غامضًا، لكنها كانت مخيفة بنفس الوقت، مشعة بضوء نقي لكن باردة بشكل يثير الرهبة.

الوحش بدأ يتفكك أمام أعيننا، جسده يتفتت ببطء، ثم تبخر في الهواء، تاركًا خلفه صمتًا قاتمًا، مؤكدًا أن هذه المعركة انتهت نهائيًا. شعرت برهبة كبيرة أمام قوتها، وبانتصار لم أشعر بمثله من قبل…

استدارت نحوي الفتاة الصغيرة، وكنت عاجزًا عن الكلام. كان في عقلي مئات الأسئلة التي أردت طرحها عليها، لكن فجأة خطرت في بالي صورة بابادوك، الملقّى في آخر الكهف. ركضت نحو جسده بكل قوتي، وقلبي يخفق بعنف.

وجدته في حالة يرثى لها؛ جسده مثقوب، ذراعه مقلوعة، ساقه مدمّرة، ودمه الأرجواني يغطي المكان، يتنفس بصعوبة كأن كل لحظة هي آخر لحظة له. لم أكن أعلم ماذا أفعل، شعرت بالعجز، لكن فجأة خطرت لي فكرة سوداوية: لماذا لا أتركه يموت؟ في النهاية، كان خطيرًا ويهددنا أحيانًا…

لكن ذكرياتي معه غمرتني: كل مرة أنقذني فيها من الموت، كل لحظة تضحية قدّمها من أجلي… شعرت بالامتنان، وعرفت أن عليّ أن أرد له الجميل.

صرخت نحو الفتاة الصغيرة بلا تردد:

"ساعدني، ساعدي بابادوك!"

كانت ورائي مباشرة لكنها لم تهتم، كانت عينها مركزة على هدفها بلا أي تردد. في كفها، ظهرت كرة صغيرة من النور المشع، متوهجة بقوة، كأنها رصاصة نارية مضغوطة، ملتصقة بكفها ومستعدة للطيران نحو بابادوك. كانت صغيرة الحجم لكن حارقة، قوية لدرجة أن الهواء حولها اهتز بفعل طاقتها.

رفعت يدها ببطء، والنور الصغير بدأ يتوهج أكثر وأكثر، ينبض بالقوة والعزم، وكأن الفتاة نفسها تمتص كل غضبها وتركيزها فيه.

وهي، بصوت حاد وواضح، قالت:

"بليك! ابتعد حالًا، لكي أقتل ذلك الجن!"

وقبل أن أتمكن من التحرك، انطلقت الكرة الصغيرة من كفها مباشرة نحو بابادوك، بسرعة لا تصدق، كرصاصة مشتعلة حارقة، وكل شيء حولها بدا وكأنه يختفي في وهج ضوئها.

كنت مذهولًا من قوتها، من سيطرتها على النور، ومن الجرأة في كلامها. شعرت بالخوف والدهشة في آنٍ واحد، لكن لم يكن لدي وقت للتردد…

كانت كرة النور في يد الفتاة على وشك الانطلاق نحو بابادوك، لكن قبل أن تصل إليه، دفعتها بيدي بحركة يائسة.

فجأة، شعرت بألم حارق يسري في عروقي، وكأن كل ألياف يدي تتقطع واحدة تلو الأخرى. الدم بدأ ينزف بغزارة، وألم لا يوصف اجتاح يدي، حارق وموجع، شعرت كما لو أن يدي انفجرت من الداخل. صرخت من شدة الألم، لكني لم أستطع سحب يدي، كانت مصدومة وقوة الضوء ما زالت تحت السيطرة.

الفتاة توقفت فجأة، عيناها واسعتان من الدهشة، وقالت بغضب وصدمة:

"ما الذي تفعله؟! لماذا لم تدعني أقتله؟ لماذا فعلت هذا؟"

تلعثمت قليلاً، لكن قلبي امتلىء بشعور غريب لم أتوقعه:

"لأنه… صديقي."

كلمات لم أتوقع أبداً أن أقولها عن بابادوك، لكنها نظرت إليّ بازدراء شديد، وقالت بحدة:

"أيها الأحمق! هذا ليس صديقك! إنه جن، سوف يخونك ويقتلك، وقد يأخذ شمس المعارف في أي لحظة! إنه خطر شديد على شخص ضعيف مثلك!"

ثم أعادت تكوين رصاصة ضوئية جديدة في يدها، متوهجة ومستعدة للإطلاق مرة أخرى. لكني لم أتحرك، بل استخدمت جسدي كله كدرع لحماية بابادوك المحتضر، وقلت بصوت ممتلئ بالإصرار:

"لن أدعك تفعلها أبداً!"

نظرت إليّ الفتاة قليلاً، لا تزال ممسكة بالرصاصة ومستعدة للقتل، لكنها أخيراً تنهدت ببطء وقالت:

"حسناً، يا سيد الكتاب…"

بدأت النور يتجمع حول يدي، محاولة شفاء جراحي وإعادة يدي المقطوعة، لكني لم أستطع التفكير في نفسي الآن. فجأة، شعرت بحاجة عميقة، رجاء ملح يخرج من قلبي، ونظرت إليها بعينين متوسلتين، وقلت بصوت يختنق بالألم:

"أرجوك… أنقذي بابادوك أيضاً."

"مستحيل… لقد تركته ليتموت، سواء بي أو بدوني."

صرخت بقلبي كله، كل الألم والوفاء والانكسار يتجمع في صوتي:

"أرجوكيييي… ساعديه! لقد أنقذني مرات عديدة، وساعدني في الكثير من الأمور… لا أظن أنني كنت سأبقى حياً في هذا اليوم لولاه! صحيح أنه مزعج ومخيف أحياناً، غامض ومربك، وأحياناً مزعج للغاية… لكنه لا يستحق الموت! أرجوك… اشفه!"

وقفت الفتاة لحظة، وكأن الكلمات التي قلتها قد اخترقت قلبها، والهواء من حولنا أصبح ساكناً، كل شيء يتوقف للحظة. الضوء في كفها بدأ يتوهج أكثر دفئاً، وكأن قلبها نفسه بدأ يتجاوب مع رجائي.

بدأت الفتاة الصغيرة بالنظر إلى بابادوك، عيناه نصف مغلقتين وجسده منهك بالكامل. كانت يداها الصغيرة تتوهجان بضوء أصفر دافئ، وشعاع النور بدأ ينساب كالسائل حول جسده، يلتف حول كل جرح وكل كدمة. بدأت تحرك يديها ببطء، وكأنها تضبط تدفق الطاقة، وتمرر الضوء على كتفيه، ذراعيه، صدره، وقدميه.

كل شعاع من الضوء كان يلتصق بالجروح، يذوب الدم، يُعيد الجلد واللحم والعظام إلى مكانها، وكل إصابة كانت تُشفى كما لو كانت لم تحدث. كان جسده يهتز أحيانًا من شدة الألم الذي يزول فجأة، وارتجافات خفيفة تعبره بينما تتجمع القوة في داخله من جديد.

كان نورها مركزًا جداً، ولكن معها كان هناك إحساس بالانزعاج والضغط، كأنها مجبرة على فعل ذلك بسرعة، وكأن كل ثانية تؤخر فيها الشفاء كانت ثقيلة عليها. شعرت بالاهتزاز الطفيف لجسدها أثناء تركيزها على كل جزء من جسده، وكل نفس من بابادوك كان يخرج متقطعًا، يلتقطه بعناية في كل مرة، وكأنها تقايض كل نفس جديد بمقدار ضوء في كفها.

فجأة، بدأ جسد بابادوك يشتد، العضلات تستعيد شكلها، البشرة تعود للونها الطبيعي، ويداه وقدماه تتحركان بثقل ولكنهما عادتا للحياة. فتح عينيه فجأة، كانا واسعتين ومرعوبتين، كما لو أنه خرج لتوه من غيبوبة عميقة، يتنفس بلهفة، يحاول استيعاب ما حدث.

كنت أمسك بالفرحة داخليًا، وأحاول أن أبدو أمامه هادئًا وراعياً لمظهر الموقف، بينما كنت في داخلي أصرخ من السعادة لأن صديقي، رغم كل شيء، قد عاد إلى الحياة.

رفع بابادوك رأسه ببطء، نظر حوله وهو ما يزال مرتبكًا ومرتبكًا، وقال بصوت خافت وغير مستوعب:

"ممم… ماذا حدث؟ أين هو الوحش؟ من هذه الفتاة؟ ألم يكن أنت الآن؟"

ابتسمت له بابتسامة خفيفة، وحاولت شرح كل ما حدث، تفاصيل المعركة، ظهور الفتاة الصغيرة، وحماية شمس المعارف، واللحظة التي نجت فيها من الكارثة. كان يستمع بانتباه شديد، عينيه تلمعان بمزيج من الدهشة والارتباك.

بعد أن انتهيت من الشرح، قال بابادوك أخيرًا:

"حسنًا… لقد فهمت الأمر… لكن الآن، حان الوقت لنخرج من هذا الكهف."

في ثانية، التفت بابادوك نحو الفتاة الصغيرة، عيناه الثاقبتان تبحثان عن أي دليل على نواياها. شعرت أن الفتاة بدت غير واثقة من تصرفه على الإطلاق، جسدها كان متوتراً، ويداها لا تزالان تتوهجان بضوء الشفاء، وكأنها تتوقع أي حركة مفاجئة منه. كان بابادوك مستغربًا من هذا المزيج الغريب بين القوة الصغيرة والهدوء العميق، وتساءل في داخله عن سرها الغامض.

خرجنا أخيرًا من الكهف، وكل خطوة كانت تأخذنا نحو الضوء الطبيعي، نسيم الهواء البارد يلامس وجوهنا بعد رطوبة الكهف الثقيلة. الصخور المتهالكة على الأرض كانت تصدر أصواتًا صغيرة مع كل خطوة، وكأن الكهف يودعنا بعد معركة لم يعرف مثلها من قبل.

عند بوابة العمارة المهجورة، شعرت بالضوء الطبيعي يملأ المكان، انعكاسات الشمس تتراقص على الجدران المهترئة، الغبار يتطاير بخفة مع الهواء، وأصبح صوت الحياة في الخارج أكثر وضوحًا بعد صمت المعركة الطويل.

وقفت هناك، أتنفس الهواء بحرية لأول مرة منذ ساعات، وألقيت نظرة على بابادوك، الذي بدا الآن متماسكًا أكثر، وعيناه تتفحصان كل شيء حوله، يستعيد قواه، ويستعد للتفكير في الخطوة التالية بعد هذه المواجهة المذهلة.

بعد ابتعادنا من العمارة المهجورة، والهواء البارد يملأ رئتينا بعد الرطوبة الثقيلة للكهوف. شعرت بالارتياح أخيرًا، لكن شيئًا ما جذب انتباهي بعيدًا، صوت غريب لم يكن متوقعًا.

كان هناك ضحك خافت، مقطَّع، يعلوه صوت خبط متكرر على الأرض. اقتربنا ببطء لنرى المشهد، وما إن رأيت ما يحدث حتى انفجرت ضحكة مكتومة لم أستطع كتمها.

كان أكيهيكو هناك، يتدرب… بطريقة غريبة للغاية. وقف أمام حجر ضخم، يحاول ضربه بمزيج من ركلات غير متقنة وضربات يد مبتورة التقنية، وكأنه يختبر قوانين الجاذبية أكثر من مهاراته القتالية. كل ضربة كانت تصطدم بالحجر بشكل مضحك، يتراجع أكيهيكو للخلف كأنه فقد توازنه في كل مرة، ويبدو وجهه محمرًا من الجهد والفشل المتكرر.

بابادوك والفتاة الصغيرة خلفي، لم يصدر عن الفتاة أي تعليق، لكنها كانت تحدق بمزيج من الدهشة وعدم التصديق، أما بابادوك فكان يحاول كتم ضحكٍ مكتوم، يلتقط شفتاه وهو يضغط عليها ليمنع نفسه من الانفجار بصوت مرتفع.

ضحكت بصوت أعلى قليلاً، وتأكدت أن أكيهيكو سمعني، لأنه التفت بسرعة، عينيه واسعتان، ووجهه صار أحمر خجلاً كما لو أنه قد التقطناه متلبسًا بارتكاب خطأ فادح.

"مممم… هذا… أنا فقط . مالذي تفعلونه هنا بحق الجحيم…" قال بصوت متلعثم، محاولًا تبرير الحركات الغريبة، وكأنه كل كلمة منه تمثل جزءًا من فخره المهتز.

لكن أي فخر؟ كل حركة كان من المفترض أن تكون تدريبًا تقنيًا صارخًا، لكنها بدت أكثر كوميدية وسخيفة، حتى الحجر الذي كان يتدرب عليه بدا وكأنه يستهزئ به.

لم أستطع كبح ضحكتي، وهتفت له بين ضحكاتي:

"أكيهيكو… هل تعتقد حقًا أن هذه طريقة لتصبح أقوى؟!"

كان يرفع يديه مستسلمًا للخجل، يحاول أن يشرح نفسه، لكن كل ما استطاع قوله كان مجرد حركات غريبة إضافية أثناء ارتجافه، وكأن كل محاولة جديدة تؤكد فقط أنه بعيد جدًا عن هدفه.

.

تجمعنا أنا وبابادوك وأكيهيكو حول طاولة المطبخ في منزلي، بعد أن شرحت لكل واحدٍ منهم كل ما حدث في الكهف والعمارة المهجورة.

وجه أكيهيكو كان يمزج بين الدهشة والذهول، عيونه متسعة بشكل لا يصدق، وفمه مفتوح أحيانًا بدون إدراك، بينما كان يحاول ترتيب أفكاره بعد سماع تفاصيل المعركة المروعة التي شهدتها مع الفتاة والوحش. كان واضحًا أن عقله لا يزال يحاول فهم كل قوة خارقة وصورة الفتاة الغريبة.

أما الفتاة ذات المعطف الأصفر، فقد جلست على رأس الطاولة بكل برود، وأماميها صينية مليئة بالبان كيك. أكلت واحدًا، ثم الثاني، ثم الثالث والرابع، وحتى بعد الانتهاء من الخامس، نظرت إلينا بعينيها الهادئتين وقالت ببساطة:

"أريد المزيد."

لم أستطع كبح غضبي وقلت:

"ما هذا بحق الجحيم؟! اشرحي لنا ما يحصل، لماذا تأكلين كالبلاعة فقط؟"

أجابت ببساطة:

"أنا جائعة."

حاولت أن أكون صارمًا:

"لن تحصلي على أي شيء حتى تخبرينا بكل ما يحصل!"

برود، قالت:

"حسنًا حسنًا، ابتعد عني."

نظرت أنا وبابادوك وأكيهيكو إلى الفتاة، وكانت نظراتنا خليطًا من الدهشة والاستغراب، ووجه كل واحد منا يعكس مشاعر مختلفة: أنا بين الحيرة والانبهار، بابادوك يحاول أن يبدو جديًا لكنه بدا مستسلِمًا أمام طبيعة الطفلة الغريبة، وأكيهيكو يحدق بها كأنها لغز حي لا يُحل.

ثم قالت الفتاة، وكأنها تخترق صمتنا:

"حسنًا، اسمي هو ستة."

استغربنا جميعًا، ونطق أحدنا:

"ستة؟ لماذا الاسم غريب هكذا، أيتها الفتاة؟"

ردت بهدوء، بلا أي اهتمام بمفاجأتنا:

"هذا اسمي، ما الذي تريدون أن أفعل له؟"

أكيهيكو، وهو لا يزال يحاول استيعاب ما حدث، قال بتردد وهو يضحك قليلاً:

"لو تتحدث عن الغرابة، فهذه الطفلة بالكامل غريبة! قادرة على الشفاء والقتال والطيران، تتحكم بالنور، خرجت من كتاب، تعرف كل شيء عن الجن، وتلبس معطفًا أصفر يغطي رأسها ولم تخلعه أبدًا… وبرودها؟ برود لا يناسب عمرها! والآن تقول اسمها ستة… أظن أننا تخطينا الغرابة بالفعل."

فقط ابتسمت الفتاة، وكأنها لم تهتم لكل هذه التعليقات، وقالت ببساطة:

"إن لم يعجبكم اسمي، يمكن مناداتي بي مونو."

قلت وأنا جاد، محاولًا أن أستوعب كل ما يحدث:

"حسنًا… من أنتِ يا مونو؟"

ابتسمت بابتسامة باردة وثابتة، وقالت:

"أنا الروح حارسة كتاب شمس المعارف."

تفاجأنا جميعًا في نفس اللحظة، وصرخنا تقريبًا بنفس الوقت:

"ماذاااااااااااااااااااااااا؟!"

تعابيرنا كانت لا تصدق:

وجهي: مزيج من الدهشة والذهول، عيناي تتسعان وكأن عقلي يرفض تصديق ما سمعته، وفمي مفتوح على مصراعيه دون أن أجد الكلمات المناسبة.

بابادوك: رفع حاجبيه بشكل غريب، وارتبك لحظة، ثم قال بنبرة قصيرة: "روح… حارسة؟ هذا غير معقول…!"

أكيهيكو: وقف للحظة وكأنه يحاول استيعاب المعنى، ثم وضع يده على فمه وقال بصوت منخفض: "لم أكن أتخيل أبدًا أن يكون الكتاب له… حارسة حقيقية!"

واصلت الفتاة كلامها بهدوء غريب، وكأنها تشرح شيئًا طبيعيًا بالنسبة لها:

"كنت محبوسة في الكتاب لفترة طويلة، لكن ما أن أصبحت بليك إيثر مالك الكتاب، صرت أساعده بشكل غير مباشر."

ثم أضافت، مشيرة إلى حادثة سابقة:

"مثلما فعل ذلك النور الصغير في حريق القصر."

أكملت، وصوتها يظل هادئًا وثابتًا:

"مهنتي هي حماية الكتاب ومالكه، وبذلك استطعت الخروج في أشد لحظات الخطر هناك."

استدار أكيهيكو نحوي وقال، وعيناه مليئتان بالدهشة والاستفهام:

"إذا… لماذا لم تخرجي في لحظات أخرى، مثل المشرحة أو القصر؟"

ردت الفتاة بثبات:

"أنا لا أختار وقت خروجي، بل عندما أعلم أن هناك خطر حقيقي لا مفر منه، أخرج. لهذا خرجت أمام تلك اللعنة في القصة."

قلت بتردد وفضول:

"حسنًا… أنت تقولين لعنة… لكن ما هو ذلك الوحش في الكهف؟"

أجابت، ونبرة صوتها تحمل برودًا ودقة:

"تلك لعنة من الدرجة الخاصة، أو النصف S."

ظل أكيهيكو مستغربًا، وقال وهو يحرك رأسه:

"مازلنا لم نفهم… مثل وحش اللعنة الذي هزمناه في القصر."

ابتسمت الفتاة بابتسامة قصيرة، وقالت:

"لا… إنها مختلفة تمامًا."

تململنا جميعًا وأنا أصر على التفاصيل:

"كيف؟!"

ردت، وهي تجلس بهدوء وكأنها على موعد مع حقيقة عظيمة:

"إنها تحتاج شرحًا طويلًا."

صرخت أنا، كأن فضولي وصل إلى ذروته:

"اشرحي!!!!!"

تنهدت الفتاة، وأشعلت عينها الصغيرة بريقًا من الضوء الأصفر الباهت، وبدأت في الشرح، وكأن كل كلمة ستفتح لنا عالمًا جديدًا من الأسرار.

بدأت مونو تتحدث بنبرة جدية، وصوتها ينساب كأنه درس مسجّل في قاعة محاضرات:

> "اللعنات هي كائنات روحية خبيثة تنشأ من الطاقة الملعونة… وهذه الطاقة هي ببساطة المشاعر السلبية للبشر."

أخذت تتوسع في الشرح، وكنت أتابعها بشيء من الانبهار:

الطاقة الملعونة هي مصدر القوة، ناتجة من الغضب، الخوف، الكراهية، الحسد… أشياء نحملها في داخلنا سواء أردنا أم لا.

البشر كلهم يملكونها، لكن معظمهم لا يعرفون كيف يسيطرون عليها، فتتسرب بلا وعي.

حين تتجمع هذه الطاقة في مكان واحد، أو تتغذى على مشاعر مركزة تجاه شيء ما… تولد اللعنة.

الخوف الجماعي من كارثة قد يخلق لعنة هائلة، والخوف من الأمراض قد ينجب لعنة لا تقل خطورة.

كانت مونو تواصل، وعينيها تلمعان:

> "اللعنات شريرة بطبيعتها، لأنها انعكاس مباشر لشرور البشر أنفسهم. كلما كانت المشاعر السلبية أقوى، كانت اللعنة أعتى."

ثم فصلت درجات القوة، من الرابعة الضعيفة… حتى الدرجة الخاصة التي تملك قدرات تكسر أي منطق. وأخيراً تحدثت عن سحرة الجوجوتسو، من يتحكمون بتلك الطاقة ويوجهونها لمحاربة اللعنات.

أنهت حديثها بابتسامة خفيفة:

> "وهذه… هي الحكاية كاملة."

لم أستطع منع نفسي من التعليق:

> "ولو… أعطيتِنا نشرة إخبارية كاملة يا فتاة."

كنت مندهشاً حقاً. لم أتخيل أن العالم يخفي طبقة كاملة من الرعب تحت أقدامنا. لكن قبل أن أستغرق في التفكير، اخترق الجو صوت زقزقة قصيرة.

التفتُّ نحو النافذة…

كان هناك مخلوق صغير، يقف على الحافة كأنه صاحب المكان. جسمه أبيض منتفخ، رأسه داكن، وحول عينيه دوائر حمراء باهتة. عيناه واسعتان، وفوق رأسه خصلتان مجعدتان من الريش، ذيله قصير مدبب، ومنقاره سميك وصغير. والأطرف… أن تعابير وجهه كانت جادة لدرجة مضحكة، كأنه قاضٍ جاء ليصدر حكمه.

أطل بليك من الخلف وقال بابتسامة فخورة:

> "ها هو… إنه أحد الطيور التي تزورني مؤخراً. لا يخاف من البشر، وأطعمه كل يوم."

لم أملك إلا أن أضع له قليلاً من الماء وبعض فتات الخبز. بدأ يأكل بهدوء، فيما كان بابادوك يراقبه بعينين لامعتين وهو يهمس بخبث:

> "يبدو شهي… ما رأيك نصنع به شوربة صغيرة؟"

سألتها مونو بصوت هادئ لكنه يحمل شيئًا من الحزم:

> "إذًا… ماذا ستفعلين الآن؟"

سكتت لثوانٍ، عيناها تلمعان بنظرة حاسمة، ثم بدأت تخطو نحوي.

> "سأدربك."

— "ماذا؟"

ارتفع حاجباي وكأن أحدهم صفعني على وجهي بكلمة واحدة فقط. لكنها أكملت وكأن الأمر طبيعي:

> "بما أنك مالك شمس المعارف، يجب أن تصبح قويًا لمحاربة الأعداء الذين ينتظرونك. لا أستطيع الدفاع عنك طوال الوقت، ويجب أن تعتمد على نفسك."

تجمدت في مكاني، لم أحب الفكرة أبدًا.

— "ماذا أنا؟ لا تقلقي علي، أنا بخير هكذا… لا أحتاج أي تدريب."

رمقتني بنظرة جانبية كمن يسمع طفلًا يرفض تناول دوائه:

> "ومن طلب رأيك؟"

— "ماذااا؟؟؟!"

وفجأة، وبدون أي إنذار، مدت يدها إلى جيبها الصغير وأخرجت تلك الجوهرة التي حصلنا عليها من لعنة الكهف. قبل أن ألتقط أنفاسي، أمسكت بذقني بقوة، فتحت فمي بالقوة، ودست الجوهرة في فمي دفعة واحدة.

شعرت ببرودتها الحادة تلمس لساني، والملمس الخشن يتزحلق نحو حلقي. حاولت أن أبصقها، لكن أصابعها ضغطت على فكي وأجبرتني على البلع. انزلقت الجوهرة إلى حنجرتي مثل صخرة تهوي في بئر، وأحسست بقطعة ثلج كبيرة تستقر في معدتي.

انحنيت قليلًا وأنا أتصبب عرقًا، أحاول إبعاد ذلك الطعم المعدني الكريه.

— "إييييه… أوووف… بحق الجحيم، ماذا فعلتِ؟"

قالت ببرود وكأنها وضعت لي حبة فيتامين:

> "لا تقلق، تلك البلورة ستساعدك في التدريب… إذا هضمتها جيدًا."

— "اسمعي، لا أظن أنها فكرة جيدة أن أتدرب… أنا فاشل، لم ألمس أي سلاح في حياتي."

ابتسمت بخفة:

> "ستتعلم."

كنت على وشك الرد عليها بمئة عذر لأتهرب، لكن فجأة نهض أكيهيكو من مقعده، يده مضمومة في قبضه، وعيناه جادتان:

> "أريد أيضًا أن أتدرب. أريد أن أصبح أقوى… أرجوكِ، دربيني."

رمقته بدهشة. في عقلي قلت: رائع… صرنا نادي “فلنصبح أبطالاً” فجأة.

لكن ما لم أكن أتوقعه، أن بابادوك بدوره وقف من كرسيه، تلك الظلال التي تكوّنه تماوجت حوله، وقال بنبرة غير معتادة منه:

> "وأنا أيضًا… أريدك أن تدربيني."

— "ماذااا؟!"

خفض رأسه قليلًا، نبرة صوته تحمل اعترافًا مرًّا:

> "اكتشفت مؤخرًا أنني ضعيف… هزيمتي من تلك اللعنة، ولعنة الكتاب، كانت سهلة جدًا. لو استمر القتال دقيقة أخرى، لهزمتني. لهذا… أريد أن أصبح أقوى."

مونو تنهدت ببطء، وكأنها تتحدث مع مجموعة أطفال يلحّون على لعبة جديدة:

> "آسفة، سأدرب مالك الكتاب فقط. لا أريد تدريب بشرٍ عاديين… ولا أرغب أبدًا في تدريب أحد الجن اللعناء."

حاولت أن أقاوم… لكن حتى قبل أن أخطو خطوة واحدة، قبضت مونو على ذراعي.

مهما حاولت أن أقنع نفسي أن شكلها الطفولي يجعلها ضعيفة، الحقيقة كانت صفعة على وجهي—هذه الفتاة تملك قوة تكسر أي وهم. قبضتها كانت كالمخالب، ثابتة، لا يمكن انتزاعها.

وفجأة… رفعت يديها بحركة غريبة، ببطء ودقة، وكأنها تمزق الهواء نفسه.

خط رفيع من الضوء انشق أمامنا، ثم بدأ يتمدد حتى صار كالجرح الهائل في جسد الواقع. من داخله، خرجت موجة من هواء بارد ورائحة معدنية غريبة، كأننا على أبواب عالم لم يعرفه بشر من قبل.

الخط تحول إلى بوابة… دوامة مظلمة يحيط بها وميض أزرق باهت، وصوت طنين منخفض يزداد عمقًا مع كل ثانية.

أنا كنت متسمّرًا… فمي مفتوح، قلبي يطرق على ضلوعي بقوة، بينما يدي تحاول—عبثًا—الابتعاد عنها.

بابادوك، رغم كل غرابة شكله، بدا وكأنه طفل يشاهد شيئًا سحريًا للمرة الأولى، عينيه تتسعان ببطء.

أكيهيكو؟ كان يتصبب عرقًا، يبتلع ريقه، ويضغط أصابعه على مقبض كرسيه وكأنه يخشى أن تبتلعه الدوامة لو اقترب خطوة.

صرخت:

"ماذا—إلى أين تذهبين؟!!!!"

التفتت إلي بابتسامة هادئة جدًا، مخيفة بقدر هدوئها، وقالت:

"مكان التدريب."

تدريب؟! لم أكن أريد أن أتدرب حتى في ساحة المدرسة، فما بالك بمكان يبدو كأنه مدخل الجحيم.

سحبتني بلا أي رحمة، وكأنني حقيبة ملابس خفيفة، لكن قبل أن تخطو داخل البوابة التفتت نحو بابادوك وأكيهيكو:

"سنذهب إلى مكان بعيد… اهتموا بهذا المكان. وأيضًا، لا تنتظرونا… سنعود بعد بضع أشهر."

شهور… شهور؟!

شعرت ببركان يثور داخلي، وصحت وأنا أجرجر قدمي:

"بضعة أشهر؟! أنا في المدرسة! لن أترك عامي الدراسي يذهب هباء!"

قالتها مونو ببرود قاتل:

"لا تقلق… سأحل المشكلة."

"تحلين المشكلة؟! هذا منزلي! منزلي المسكين! والآن بابادوك سيقيم فيه وحده! يا إلهي تباااااااااااااااااااااااا!"

لكن احتجاجي كان مجرد صدى يضيع مع صوت البوابة وهي تنغلق خلفنا، تاركة العالم الذي أعرفه… ومحبوسًا الآن في مغامرة لم أطلبها.

[منظور أكيهيكو]

انغلقت الرواية أمامنا وكأن صفحاتها ابتلعت آخر خيط من الضوء، وتركتني واقفًا بجانب بابادوك وسط صمت خانق في منزل بليك.

كنت أعرف أن بليك لن يكون هنا لبعض الوقت… وربما يعود مختلفًا تمامًا. شعور ثقيل خيّم علينا، مزيج من الغيرة والحزن، لأننا لن نشارك في التدريب الذي قد يغيره ويقويه. شعرت وكأننا عالقون في نقطة ثابتة، بينما هو يسير بخطوات كبيرة نحو الأمام.

بابادوك كان يحاول إخفاء انزعاجه، لكنه ظل يطرق بأصابعه على الطاولة بلا توقف، وكأنه يحاول طرد الفكرة من رأسه. أما أنا، فكنت أنظر إلى المكان الفارغ الذي كان يقف فيه قبل ثوان، محاولًا إقناع نفسي أننا أيضًا سنجد طريقتنا لنتطور… يومًا ما.

لكن فجأة، صوت أنثوي رقيق، لا يشبه صوت مونو أبدًا، تسلل من خلفي:

"يبدو أن الخطر قد ابتعد."

التفت أنا وبابادوك معًا… ولم نجد إلا عصفورًا صغيرًا يقف على إطار النافذة. تبادلنا نظرات متشككة، هل بدأنا نتوهم؟ لكن قبل أن نقرر، العصفور تكلم مجددًا بنفس الصوت!

وفي لحظة، غمره وهج خافت، وبدأ جسده يتغير أمام أعيننا — الريش انكمش، الأطراف تمددت، القرنان الصغيران ظهرا من رأسها، وفي أقل من ثانيتين وقفت أمامنا فتاة غامضة.

شعرها قصير، أزرق داكن يقترب من السواد، وفي قمته خصلة منتصبة، عيناها حمراء كالجمر، وجهها شاحب كالقمر، وفستانها الأزرق الداكن يتدرج في أسفل تنورته كأنه ريش طائر الليل. كانت هزيلة لكن حضورها طغى على المكان.

قالت بهدوء وهي تحدق في الفراغ:

"يبدو أن بليك إيثر رحل أخيرًا."

شعرت بقبضة باردة على معدتي، فسألها بابادوك بنبرة حذرة:

"من أنتِ؟"

أجابته بلا أي تردد:

"اسمي نيرو."

---

[منظور بليك]

بعد أن ابتلعتنا تلك الفتحة التي شقتها مونو في الهواء، وجدت نفسي أقف في مكان لم أرَ مثله من قبل. الهواء كان رطبًا، محمّلًا برائحة التراب والماء، والأرض أمامنا مفروشة بحقول الأرز التي تتلألأ تحت شمس الصباح.

كنا على حافة قرية صغيرة، بيوت خشبية متناثرة وسط الخضرة، وسقفها مغطى بالقش. خلف القرية ارتفع جبل طويل، مغطى بأشجار الصنوبر وكأنه جدار طبيعي يفصلنا عن العالم الآخر. الممرات الترابية بين الحقول ضيقة، والماء يلمع بين نباتات الأرز كخيوط فضية.

وقفت مشدوهًا، أحاول استيعاب

المنظر، ثم التفت إلى مونو وسألتها:

"أين نحن؟"

قالت بصوت هادئ كعادتها، وكأن الأمر عادي جدًا:

"نحن الآن في الصين."

2025/08/15 · 6 مشاهدة · 4226 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025