50 - بحيرة الدموع الابدية

نامَ بليك في حقل الأزهار، لكنه لم ينم طويلًا. استيقظ فجأة على صوتٍ حادٍ، أشبه بصوت صخرة تُضرب بصخرة أخرى. فتح عينيه ببطء، ليشعر بوخزٍ حادٍ في رأسه.

"آه!" تمتم بليك، وهو يرفع يده ليمسح الألم. "ماذا حدث؟"

"لقد استغرقتَ وقتًا طويلاً في النوم." قالت مونو، ووجهها لا يزال خاليًا من أي تعبير. كانت تقف فوقه، ممسكة بعصا خشبية صغيرة، وكأنها جاهزة لضربه مرة أخرى.

"هل ضربتِني؟" سألها بليك، وقد اختلطت نبرته بين الدهشة والألم.

"نعم." أجابت ببرود. "كان عليك أن تستيقظ. ليس لدينا وقت نضيعه."

عبس بليك. "يا إلهي، هل هذه هي طريقتكِ في إيقاظ الناس؟"

"إنها طريقة فعالة."

"لكنها مؤلمة!" صرخ بليك. "كان بإمكانك أن تهزيني، أو تصرخي في وجهي، أو حتى ترشيني بالماء. لكن لا، كان عليكِ أن تضربيني على رأسي!"

"لم تكن مؤلمة بما فيه الكفاية لتُحدِثَ ضررًا دائمًا." قالت مونو، وكأنها تدافع عن نفسها.

"أنا متأكد من أنني سأعاني من ارتجاج دماغي بسببكِ." تمتم بليك، وهو ينهض ببطء.

"ارتجاج؟" سألت مونو، ورفعت حاجبها. "ماذا يعني ذلك؟"

تنهد بليك. "إنه عندما تضرب شخصًا على رأسه بقوة، مما يؤدي إلى ارتباك في الدماغ. هل تعرفين ماذا يعني هذا؟"

"لا."

"يعني أنني قد أبدأ في نسيان الأشياء، مثل اسمي، أو اسمكِ."

تجمدت مونو للحظة. "إذا نسيتَ اسمي، فسوف أضربك مرة أخرى."

"أرى." قال بليك، وهو يبتسم ابتسامة باهتة. "إذًا، هذا هو السبب في أنكِ لا تنامين؟ هل تخافين أن يضربكِ شخص ما على رأسكِ؟"

نظرت إليه مونو ببرود. "لا. أنا لا أنام لأنني لستُ بحاجة إلى ذلك."

"هذا مملٌ بعض الشيء." قال بليك. "ليس هناك أحلام عن أكل الكعك أو الطيران فوق الغيوم؟"

"ليس بالضرورة." قالت مونو. "لكنني أشك في أن أحلامك عن الكعك والطيران ذات أهمية كبيرة."

ضحك بليك. "بل هي مهمة جدًا!" دافع. "الأحلام هي نافذتنا إلى عالم آخر، عالم الاحتمالات اللانهائية!"

"أرى. لهذا السبب تحلم بالكعك."

تنهد بليك مرة أخرى. "هيا بنا، يا مونو. لنبدأ هذا التدريب السحري. كل ما أريده هو أن أصبح قويًا بما يكفي حتى لا تضطرين إلى ضربي على رأسي مرة أخرى."

ابتسمت مونو ابتسامة صغيرة، لكنها لم ترد. كان بليك يعلم أن لديها خططًا أخرى له، وأن هذا التدريب السحري لن يكون سهلاً أبدًا.

انتهت مناوشاتنا الصباحية السخيفة، وعلى الرغم من الوكزة المؤلمة التي أيقظتني، لم أستطع أن أنكر أنني شعرت بنشاط غريب يدبّ في أوصالي. ربما كان توقع المجهول الذي ينتظرنا في هذا التدريب "السحري" الجديد. تبعتُ مونو بصمت عبر حقل الأزهار الأرجوانية الذي قضيت فيه ليلتي، أو جزءًا منها على الأقل. كانت الشمس لم ترتفع بعدُ بالكامل، لكن خيوطها الذهبية بدأت تتسلل بخجل من وراء قمم الأشجار البعيدة، ترسم لوحة ساحرة على صفحة السماء الرمادية الفاتحة.

توقفتُ فجأة، غير قادر على مقاومة هذا المشهد الآسر. كانت قطرات الندى المتلألئة تزين بتلات الأزهار كحبات من الألماس الصغيرة، تعكس ألوان الفجر الهادئة. النسيم الصباحي العليل كان يحمل معه رائحة التراب الندي والأزهار البرية، مزيجًا منعشًا أيقظ حواسي بلطف. كان صوت خرير جدول صغير قريبًا ينساب بهدوء، لحنًا رقيقًا يتماشى مع صمت الغابة الذي لم يكن صمتًا بالمعنى الحرفي، بل كان مزيجًا من الهمسات الخفيفة، حفيف أوراق الأشجار، وزقزقة خفيفة لطيور لم أرها بعد.

شعرتُ للحظة بسلام داخلي غريب، تناقض صارخ مع الفوضى التي اعتدتُ عليها. كان جمال هذا المكان، على الرغم من غرابته وسحره الخفي، يخترق دفاعاتي ويلامس شيئًا عميقًا بداخلي. كأنني أرى العالم للمرة الأولى بعيون متجددة، أقدر التفاصيل الصغيرة التي كنت أتجاهلها في زحام حياتي السابقة. حتى وخزة الألم الخفيفة في رأسي بدت وكأنها جزء من هذه التجربة، تذكرني بأنني ما زلت هنا، في هذا الواقع الغريب والجميل.

التفتُ إلى مونو، التي كانت تقف على بعد خطوات قليلة، تنظر إليّ بانتظار صامت. لم يكن على وجهها أي تعبير، كعادتها، لكنني شعرتُ للحظة وكأنها تفهم سبب توقفي. ربما، في داخل تلك الروح الحارسة الجامدة، كانت هناك شرارة تقدير خفية لهذا الجمال الصباحي أيضًا.

"إنه جميل هنا، أليس كذلك؟" قلتُ بهدوء، أكثر لنفسي مما هو لمونو.

أجابت بعد برهة قصيرة، بصوتها الرتيب: "سنمضي قدمًا الآن. لدينا الكثير لنتعلمه."

لم يكن ردها مفاجئًا، لكنني لم أشعر بالإحباط. كنتُ قد حصلت بالفعل على لحظتي، تلك اللحظة التي تذوقت فيها سحر هذا العالم بطريقة مختلفة، بعيدًا عن التدريب والصراع. تنهدتُ بهدوء وتبعْتُ مونو، والفضول واللهفة للمغامرة الجديدة يملآن قلبي. كانت بداية يوم جديد، وبداية فصل جديد في حياتي الغريبة هذه.

شعرتُ بسلامٍ غامرٍ يلفُّ روحي، سلامٌ يتناقضُ تمامًا مع فوضى حياتي التي اعتدتُ عليها. كانت الطبيعة من حولي تنطقُ بالجمال، وقطرات الندى على الأزهار الأرجوانية تُشبه جواهر صغيرة، تعكسُ خيوطَ الشمس الذهبية. تنهدتُ بعمق، ممتنًا لهذه اللحظة الهادئة التي تسمح لي بتقدير هذا العالم الغريب والجميل.

وفجأةً، دون سابقِ إنذارٍ، شعرتُ بخفّةٍ غريبةٍ في جسدي. لمستُ قدمي الترابَ لأتأكدَ من أنني ما زلتُ واقفًا، لكنني لم أجد شيئًا. رفعتُ رأسي، ورأيتُ جسدي يرتفعُ ببطءٍ عن الأرض، كأنني بالونٌ مملوءٌ بالهواء. نظرتُ إلى يدي، ورأيتُ هالةً صفراءَ خفيفةً تحيطُ بي، تلمعُ بضوءٍ خافتٍ. شعرتُ بالدهشة، لكنني لم أشعر بالخوف.

كانت عينايَ تبحثانِ عن مونو، ووجدتها تقفُ على بُعدِ أمتارٍ قليلةٍ، يداها مرفوعتانِ قليلًا، ووجهها لا يزالُ خاليًا من أي تعبير. كانت هي من تتحكمُ بي.

"مونو، ماذا تفعلين؟" صرختُ، وشعرتُ بالخوفِ يتسللُ إلى داخلي. "أنا أخافُ من المرتفعات!"

لم ترد مونو، وبدأتُ أرتفعُ أكثر، وأكثر. تجاوزتُ مستوى الأزهار، ثم تجاوزتُ الأشجار، حتى أصبحتُ في مستوى أغصانها العالية. شعرتُ بالرياح تلامسُ بشرتي، وكنتُ أرى العالمَ من منظورٍ جديدٍ. كان المنظرُ رائعًا، لكنني كنتُ خائفًا.

"لماذا تفعلينَ هذا؟" صرختُ مرة أخرى. "هل هذا جزءٌ من التدريب الجديد؟"

أجابتْ مونو بصوتٍ هادئٍ، لكن كلماتِها كانت كالصاعقةِ التي اخترقتْ جسدي: "نعم. إنه تدريبُكَ التالي: تحملُ الغرق."

تجمدتُ في مكاني، وشعرتُ وكأنَّ قلبي قد توقف عن النبض. "ماذا؟!" كان الصوتُ بالكاد يخرجُ من حنجرتي. "تحملُ الغرق؟"

لم تُجب مونو، وبدلًا من ذلك، بدأَ جسدي يندفعُ بسرعةٍ هائلةٍ. لم أعد أتحكمُ في اتجاهي أو سرعتي. كنتُ أطيرُ بسرعةٍ جنونيةٍ نحو مكانٍ لم أتوقعه. كانت الأشجارُ تمرُّ من أمامي بسرعة، وكانت الرياحُ تضربُ وجهي، وكنتُ أصرخُ من الخوفِ، لكن لا أحدَ يسمعني. كانت مونو تتحكمُ بي.

وصلتُ إلى مكانٍ لم أتوقعه، بحيرةٌ صغيرة، لونها فيروزي. لم أكن أعلمُ ما الذي تخطط له مونو، لكنني شعرتُ بالخوفِ يتملّكُني. كانت بحيرةً بلا نهاية، ومظلمةً، ومخيفةً. كانت هي "بحيرة الدموع الأبدية".

وفجأةً، شعرتُ وكأنني أسقطُ. رمتني مونو بقوةٍ شديدةٍ. ارتطمتُ بالماءِ بسرعةٍ جنونيةٍ، وسمعتُ صوتَ ارتطامٍ قويٍّ. اخترقتُ سطحَ الماءِ، ودخلتُ إلى أعماقه. كان الماءُ باردًا كالثلج، وكنتُ لا أستطيعُ التنفسَ.

حاولتُ الصعودَ إلى السطح، لكنني شعرتُ بشيءٍ يمنعني. نظرتُ إلى الأسفل، ورأيتُ سلاسلَ ذهبيةً تخرجُ من قاعِ البحيرة. كانت السلاسلُ تلمعُ بضوءٍ خافتٍ، وكأنها مصنوعةٌ من الذهبِ الخالص. التفتْ حولَ يدي، وشعرتُ بقوتِها. كانت تمنعني من الصعودِ إلى الأعلى.

كنتُ مكبلًا بالسلاسلِ تحتَ الماءِ، وكنتُ لا أستطيعُ التنفسَ. شعرتُ وكأنَّ صدري يتمزقُ، وكنتُ أرى كلَّ شيءٍ يتحولُ إلى اللونِ الازرق.

حاولتُ التحررَ من السلاسلِ، لكنها كانت قويةً جدًا. حاولتُ مرةً أخرى، ومرةً أخرى، ومرةً أخرى، لكنها لم تتحرك. شعرتُ باليأسِ يملأُ قلبي.

كنتُ أقاتلُ من أجلِ البقاءِ، لكنني كنتُ أعلمُ أنني سأخسرُ. كانت رئتايَ تحترقانِ، وكانت عينايَ تغرقانِ في الظلامِ. كان آخرُ ما رأيتُه هو وجهُ مونو، الذي كان لا يزالُ خاليًا من أي تعبير، وآخرُ ما شعرتُ به هو الألمُ الذي اجتاحَ جسدي، قبل أن يغمرني الظلامُ.

استُبدل الألم باللا شيء. تلاشى شعور الغرق، واختفى ضغط الماء، وأصبح جسدي خفيفًا كالريشة. لم يكن هناك ظلام كامل، بل فراغٌ أسود بلا أبعاد، بلا بداية أو نهاية. كنت أطفو في هذا العدم، ويدي ما زالتا مقيدتين بالسلاسل الذهبية التي لم تعد تشكل ثقلًا، بل صارت جزءًا مني، تتلألأ بضوءٍ خافتٍ في هذا الفضاء الساكن.

لم أشعر بالخوف، ولا حتى بالوحدة. كان هناك سلام غريب يشبه حالة النوم العميق، لكن وعيي كان حاضرًا. لم أكن أفكر، بل كنتُ فقط موجودًا، قطعة صغيرة من الوجود تائهة في فراغ هائل. لم تكن هناك أصوات، فقط صمتٌ مطلق، كان يتردد صداه داخل رأسي.

ثم، في البعيد، بدأتُ أرى ضوءًا خفوتًا. لم يكن ضوءًا عاديًا، بل كان وميضًا خفيفًا، يظهر ويختفي كأنه نبضُ قلبٍ عملاقٍ. بدأتُ أتحرك نحوه ببطء، منجذبًا إليه كالفراشة إلى شعلة. لم يكن جسدي يتحرك، بل كان الفضاء يتقلص من حولي، يقربني من ذلك الومضِ الغامض.

كلما اقتربت، اتضحت الرؤية. لم يكن ضوءًا، بل كان مشهدًا. مشهدٌ حيٌ، يتشكل من الومضات المتتالية، يروي قصةً صامتةً أمامي. لم أكن أرى نفسي، بل رأيتُ عالمًا آخر، عالمًا قديمًا ومختلفًا.

شاهدتُ قريةً صغيرةً تحتضنها الجبال، يتناثر فيها الفقر كالغبار. سكانها يرتدون ملابس رثة، ووجوههم شاحبة من الكد والعمل. كان الهواء يمتلئ باليأس. وفي تلك القرية، كان هناك رجلٌ، جابي ضرائب، لكنه لم يكن كبقية أهالي القرية، فقد كانت عيناه تحملان شرارةً من الحلم والبحث عن شيء أكبر. كان يجمع الضرائب من أناس بالكاد يمتلكون قوت يومهم، وربما كان هذا هو السبب في أن عيناه كانتا تحكيان قصة من الحزن الدفين.

كان يتردد على معبدٍ مهجورٍ يقع على أطراف القرية. لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه، فقد كان يُقال إنه مسكون. لكن جابي الضرائب لم يكن يخشى الأساطير، فكان يجد فيه ملجأً من عالمه الكئيب. وفي إحدى الليالي، رأى شبحًا. لم يكن شبحًا مخيفًا، بل فتاةً ذات وجهٍ جميل، عينيها يلمعان بالحزن. كانت مقيدةً بخدمةِ روحٍ شريرةٍ، وحيدةً في هذا المعبد، تنتظر الخلاص. وقع جابي الضرائب في حبها، وقرر أن يكسر لعنتها.

انتقل المشهد بسرعة. رأيته يقاتل وحوشًا غريبة، ويجمع مكونات سحرية، ويستشير عجوزًا حكيمًا في كهفٍ سري. كل ذلك من أجلها. شاهدتُ قوة الروح الشريرة وهي تتجسد في وحوشٍ مظلمةٍ، وتتسلل إلى القرية، لتنشر الخوف والدمار. كان يقاتل بشجاعة، لكنه كان يعاني، جسده يتعب، وروحه تضعف، لكنه لم يستسلم.

في لحظة الذروة، عندما كان على وشك تحريرها، ظهرت الروح الشريرة بنفسها. كانت كيانًا هائلاً من الظلام، عيناه تتوهجان بلون أحمر قاني. كان القتال شرسًا، وقُتل جابي الضرائب. كانت الفتاة، الشبح المسحور، حرةً أخيرًا، لكنها لم تستطع أن تفرح. كانت قد فقدت من أحبت، وروحها انكسرت.

وفي النهاية، شاهدتُ الفتاة تبكي. لم تكن دموعها دموعًا عادية، بل كانت تنهمر كالأنهار، تتجمع في بحيرةٍ ضخمةٍ، بحيرةٍ لونها أحمرٌ داكنٌ، وكأنها بحيرةٌ من الدم. كانت بحيرة "الدموع الأبدية". كانت دموعها دموعًا من الألم والفقد، دموعًا من اليأس الذي لم ينته أبدًا.

ببطء، بدأ المشهد يتلاشى. أصبحتُ أطفو مرة أخرى في الفراغ الأسود، أعود إلى وحدتي. لكن هذه المرة، لم تكن هناك سلام. كانت هناك دموع، ووجع، وشعور بالفقد. كانت دموع الفتاة تملأ رأسي، وكنتُ أرى وجعها في كل زاوية من زوايا هذا الفراغ. لم يكن هذا حلمًا، بل كانت ذكرى، ذكرى حية، ذكرى بحيرة الدموع الأبدية.

لقد اختفت قصة جابي الضرائب من أمامي، ولم يتبقَ سوى الفراغ الأسود، الذي لم يعد خاليًا تمامًا. كان يملؤه الآن صدى من المشاعر: وجعٌ عميق، وحزنٌ لا يبارح، وشعورٌ بالفقد لا نهاية له. كانت دموع الفتاة التي بكت بحيرةً كاملةً تتدفق الآن في داخلي، تُغرق روحي بمرارتها.

ثم، في البعيد، عادَ الضوءُ الخافتُ للظهور. كان وميضًا خفيفًا، لكنه كان أقوى من الومضة السابقة، كأنه شعلة صغيرة في محيط مظلم. بدأتُ أتحرك نحوه ببطء، منجذبًا إليه مرة أخرى. كلما اقتربتُ، ازداد الومضُ قوةً، وبدأ يتشكلُ في مشهدٍ جديدٍ.

رأيتُ عالمًا يختلفُ تمامًا عن عالمِ جابي الضرائب. كان عالمًا من الضوءِ والألوانِ النقيةِ، عالمًا من الأرواحِ الطائرةِ التي تسبحُ في الهواءِ كأنها أسماكٌ ملونةٌ. كان هذا هو "عالم الأرواح"، عالمٌ مليءٌ بالجمالِ والسكينةِ. وفي هذا العالم، كانت هناك فتاةٌ، كانت روحًا، لكنها كانت مختلفةً عن بقية الأرواح. كانت تحملُ على عينيها حزنًا لا يمكنُ تفسيرُه، كانت روحًا تبحثُ عن شيءٍ لم تجده في عالمها.

كانت الفتاةُ مهووسةً بعالمِ البشرِ، عالمٍ يُقالُ إنه مليءٌ بالفوضى والألمِ، ولكنه كان أيضًا مليئًا بالأسرارِ والجمالِ. كانت تقفُ أمامَ "بحر الأرواح"، وهو بحرٌ سحريٌّ يربطُ بين العوالمِ، وتحلمُ بالنزولِ إلى عالمِ البشرِ. في يومٍ من الأيامِ، قررتْ أن تفعلَ ذلك.

شاهدتُ الفتاةَ وهي تقفزُ في البحرِ، وهي تتحولُ إلى دلفينٍ أحمرَ اللونِ. كان الدلفينُ يلمعُ بضوءٍ خافتٍ، وكأنه مصنوعٌ من الياقوتِ. كانت تتحركُ برشاقةٍ في الماءِ، وهي تبتعدُ عن عالمِ الأرواحِ، متجهةً إلى عالمِ البشرِ. كان البحرُ مظلمًا ومليئًا بالمخاطرِ، لكنها لم تخفْ. كانت تبحثُ عن شيءٍ، عن شيءٍ سيملأُ الفراغَ الذي بداخلِها.

وصلتْ أخيرًا إلى عالمِ البشرِ، وخرجتْ من البحرِ. تحولتْ مرةً أخرى إلى فتاةٍ، لكنها كانت تحملُ على جسدِها علاماتٍ من رحلتِها. كانت عيناها تلمعانِ، وكانت روحُها مليئةً بالفضولِ. كانت تسيرُ في عالمِ البشرِ، وهي تتعلمُ عن كلِّ شيءٍ. تعلمتْ عن الحبِ، عن الخيانةِ، عن الألمِ، عن الفرحِ. كانت تجربُ كلَّ المشاعرِ التي لم تكن تعرفُها في عالمِ الأرواحِ.

وفي يومٍ من الأيامِ، التقتْ ببشريٍ. كان بشريًا فقيرًا، لكنه كان يمتلكُ قلبًا كبيرًا. وقعتْ في حبهِ، ووقعَ هو في حبِها. عاشتْ معه حياةً بسيطةً، حياةً مليئةً بالحبِ والفرحِ. لكن سعادتها لم تدمْ طويلًا.

انتقلَ المشهدُ بسرعةٍ. شاهدتُ الفتاةَ وهي تقاتلُ وحشًا بحريًا عملاقًا، وحشًا كان يُهددُ قريةَ حبيبها. كانت تستخدمُ سحرَها، سحرَ الأرواحِ، لقتالِ الوحشِ، وكانت قويةً جدًا. لكن الوحشَ كان أقوى منها. وفي لحظةٍ من الضعفِ، غرسَ الوحشُ أنيابهُ في قلبِها. شعرتُ بألمِها، وشعرتُ بوجعِها، وشعرتُ بالدمِ وهو يتدفقُ من جسدِها.

لم تمتْ الفتاةُ، لكن روحَها انكسرتْ. كانت قد أعطتْ كلَّ شيءٍ من أجلِ حبيبها، لكنها لم تستطعْ إنقاذَ نفسِها. عادتْ إلى بحرِ الأرواحِ، وهي تحملُ على قلبِها جرحًا لا يمكنُ شفاؤهُ. عادتْ إلى عالمِ الأرواحِ، وهي تبكي دموعًا لا يمكنُ إيقافُها. كانت دموعُها لا تسقطُ على الأرضِ، بل كانت تسقطُ في بحيرةٍ صغيرة فوق جبل، بحيرةٍ فيروزية. كانت هذه هي بحيرةُ "الدموعِ الأبدية".

بدأ المشهد يتلاشى،هذه المرة لم تكن هناك دموعٌ فقط. كانت هناك وحشةٌ، وشعورٌ بالخذلانِ، وشعورٌ بالفقدِ. كانت دموعُ الفتاةِ تملأُ رأسي، وكنتُ أرى وجعَها في كلِّ زاويةٍ من زوايا هذا الفراغِ. كانت تلك ذكرى أخرى من بحيرة الدموع الابدية

ثم بدأت قصة اخرى.

قصة جبال تيانكون

كانت جبال تيانكون، أو جبال الأرواح المعلقة، تلامس الغيوم. ليست مجازًا، بل حرفيًا. كانت قممها العالية مخبأة في بحر أبيض من الضباب، وكأنها جزر سماوية عائمة. كانت المعابد الطاوية القديمة منحوتة في صخورها، والطرق الحجرية تتلوى حولها كالأفاعي العملاقة.

تقع جبال تيانكون في المنطقة الشمالية الشرقية من القارة الاسياوية، حيث تتلاقى الحدود بين الأراضي البشرية والممالك الأسطورية. يُقال إنها تقع في قلب منطقة تُعرف باسم "أرض الضباب الأبدي"، وهي منطقة مغطاة بالغيوم بشكل دائم، مما يجعلها شبه مستحيلة الوصول بالنسبة للبشر العاديين.

تُحيط بالجبال من جهة الغرب غابات الشفق المضيئة، وهي غابات تنمو فيها نباتات تُصدر ضوءًا خافتًا، بينما من جهة الشرق، تطل الجبال على بحرٍ هائجٍ يُعرف باسم بحر الرياح السائلة، حيث يُقال إن الرياح قوية جدًا لدرجة أنها تبدو وكأنها سائل.

هذا الموقع يجعل جبال تيانكون منطقة معزولة ومحمية طبيعيًا،

في أحد هذه المعابد، وتحديدًا معبد سيف الغيمة، عاش راهب شاب يُدعى لي وي. لم يكن كغيره من الرهبان الذين يسعون للتنوير الروحي. كانت عيناه تحملان حلمًا وهوسًا واحدًا: البحيرة السماوية. كانت أسطورة تقول إن هذه البحيرة تطفو فوق أعلى قمة، وأن مياهها تُغذيها دموع الآلهة، وتمنح الخلود والقوة المطلقة لمن يشرب منها.

قضى لي وي سنوات طويلة في دراسة النصوص القديمة، باحثًا عن طريقة للوصول إليها. كان يعلم أن الوصول إليها مستحيل، فهي محمية بطاقة سحرية من قبل الأرواح الحارسة. في يوم من الأيام، عثر على مخطوطة قديمة تتحدث عن "مفتاح الروح"، وهو حجر سحري يمنح حامله القدرة على عبور العوائق السحرية.

بدأ لي وي رحلته. كانت شاقة وخطيرة، مليئة بالوحوش والألغاز المعقدة. عبر وديانًا عميقة، واجه وحوشًا أسطورية، وصارع قوى الطبيعة. كان يرى رهبانًا آخرين في طريقه، بعضهم يبحث عن النور، وبعضهم عن القوة، لكن لي وي كان يبحث عن البحيرة. كل خطوة كانت تقربه من هدفه، وفي نفس الوقت تبعده عن عالمه الذي يعرفه.

أخيرًا، وصل إلى قمة الجبل. كانت الغيوم تحيط به من كل جانب، ولم يكن يرى شيئًا. أصابه اليأس للحظة، لكنه تذكر المخطوطة وأخرج مفتاح الروح. رفعه إلى السماء، وفجأة، تبددت الغيوم.

رأى لي وي البحيرة. كانت بحيرة من الضوء الأزرق، تلمع بضوء خافت، كأنها قطعة من السماء سقطت على الأرض. كانت المياه هادئة، والهواء نقيًا. كان المنظر يستحق كل الألم الذي عاناه. كان على وشك أن يشرب منها، لكنه سمع صوتًا أنثويًا حزينًا: "لا تشرب".

نظر لي وي حوله، ورأى فتاة مصنوعة من الماء والضوء. كانت هي روح البحيرة وحارستها. حذرته من أن مياه البحيرة لا تمنح الخلود كما يعتقد الجميع، بل تمنح القوة بثمن باهظ. كل قطرة يشربها ستفقده جزءًا من إنسانيته ومشاعره، ليتحول إلى روح فارغة.

شعر لي وي بالرعب. لم يكن يريد أن يفقد إنسانيته. كان يفضل أن يكون إنسانًا حقيقيًا على أن يكون وحشًا فارغًا. لكنه لم يترك البحيرة، بل قرر أن يجلس بجوارها، متأملًا. جلس لسنوات، يتأمل في جمالها وجمال جبال تيانكون. وفي أحد الأيام، وجد أن كل ما كان يريده هو أن يتأمل هذا الجمال، لا أن يمتلكه. لكن الوقت كان قد فات.

لقد فقد لي وي كل مشاعره. كان جسده ما زال يحمل ملامح إنسان، لكن روحه كانت فارغة، كأنها إناء مكسور. لم يكن قادرًا على البكاء، أو الضحك، أو حتى الشعور بالحب. كان وحيدًا، محاطًا بالجمال الذي لم يعد يراه، والقوة التي لم يعد يشعر بها. في تلك اللحظة، سالت من عينيه دموعٌ، لم تكن دموع حزن، بل دموع الفراغ الذي يملأ روحه. كانت دموعًا من اليأس الذي لا يمكن أن يُشفى.

تجمعت دموعه، لتشكل بحيرة الدموع الأبدية. كانت بحيرة من الفراغ، من الوحدة، من الألم الذي لا يبارح. كانت بحيرة تذكرك بأنه ليس كل ما يلمع ذهبًا، وأن القوة الحقيقية ليست في السحر، بل في القلب، في الإيمان، في الحب، وفي الشجاعة.

لقد اختفت قصة لي وي من أمامي، و صدى من المشاعر: يأسٌ عميق، وحسرةٌ لا تُبارح، وشعورٌ بالوحدة. ثم بدأت القصة الرابعة

قصة الصياد الأبدي

كانت الغابة السحرية، التي تُعرف باسم غابات الهسيس، مكانًا سحريًا وخطرًا في آن واحد. أشجارها كانت تلمع بضوء خافت، وأوراقها تُصدر ألحانًا خفيفة مع كل نسمة هواء. لكن تحت هذا الجمال الخادع، كانت الغابة موطنًا لوحوش روحية قوية، من الذئاب الأثيرية التي لا تُرى بالعين المجردة، إلى التنانين العظمية التي تملأ السماء بصراخها.

في قرية صغيرة تقع على أطراف الغابة، عاش شاب يُدعى كايل. كانت عيناه تحملان شرارة طموح جامح، وداخله رغبة ملحّة في أن يصبح صيادًا أسطوريًا، يُعرف باسم "قاهر الأرواح". كان هدفه ليس فقط حماية قريته من الوحوش، بل أيضًا إثبات قوته لنفسه وللعالم.

بدأ كايل رحلته بتدريبٍ قاسٍ. كانت أيامه الأولى مليئة بالإحباط، حيث كان يلاحق الذئاب الشبحية، مخلوقات سريعة لا يمكن اصطيادها بالوسائل العادية. كان يقضي ليالٍ كاملة في الغابة، يراقب حركاتها، ويحلل نقاط ضعفها. تعلم كيفية الاستماع إلى همسات الغابة، وكيفية الشعور بالطاقة الروحية للمخلوقات التي يطاردها.

في البداية، كان يكتسب القوة ببطء. كان يقاتل وحشًا تلو الآخر، ويجمع أحجاره الروحية. كل حجر كان يمنحه دفعة صغيرة من القوة، تجعله أسرع، وأكثر حكمة، وأكثر مهارة في القتال. لكنه لم يكتفِ بذلك. أصبح هوسه بالقوة أكبر من أي شيء آخر.

تقدم كايل في الغابة، وتغيرت الوحوش التي كان يطاردها. أصبح يقاتل الدببة الحجرية الضخمة،

مخلوقات بطيئة لكنها تمتلك قوة لا تُقهر، وتعلم كيفية استخدام ذكائه للتغلب عليها. ثم واجه العقارب السامة، مخلوقات تمتلك سمًا سحريًا، وتعلم كيفية مقاومة السم. في كل معركة، كان يكتسب القوة، لكنه كان يفقد شيئًا آخر: إنسانيته.

تحوّل كايل من صياد طموح إلى وحش لا يرحم. أصبح يطارد الوحوش من أجل القوة فقط، وليس للحماية. أصبح يقتل المخلوقات الأليفة التي لا تُشكل خطرًا، ويستنزف طاقتها الروحية دون أي ندم. كانت عيناه تلمعان بالجشع، وقلبه أصبح باردًا كالثلج.

وصل كايل إلى ذروة قوته عندما واجه التنين الأبدي، مخلوقًا أسطوريًا يُقال إنه يحمل في روحه أسرار الغابة بأكملها. كانت المعركة ملحمية، استمرت لأيام وليالٍ. استخدم كايل كل ما تعلمه، كل القوة التي اكتسبها، للقضاء على التنين. في النهاية، سقط التنين، وأصبح كايل المنتصر.

لكن انتصاره كان أجوف. عندما تلاشى جسد التنين، انبعثت منه هالة من الضوء. لم تكن طاقة سحرية، بل كانت ذكريات. ذكريات عن الغابة، عن الأشجار، عن الحيوانات التي كانت تعيش فيها. كانت ذكريات عن التنين وهو يحمي الغابة، ويحرسها، ويحافظ على توازنها. أدرك كايل أنه لم يكن قاهر أرواح، بل كان مدمرًا. لقد ضحى بكل شيء من أجل قوة لم يكن بحاجة إليها، قوة أدت إلى تدمير ما أراد حمايته.

شعر كايل باليأس يملأ قلبه. كان يقف وحيدًا في الغابة، محاطًا بالدمار الذي سببه، وكل القوة التي امتلكها لم تكن كافية لملء الفراغ الذي بداخله. بدأ يبكي، لم تكن دموعه دموع حزن، بل دموع ندم. دموع على كل روح دمرها، وعلى كل حياة أخذها، وعلى إنسانيته التي فقدها.

تجمعت دموعه، و سقطت في بحيرة الدموع الأبدية. كانت بحيرة من الندم، من اليأس، ومن الألم الذي لا يبارح. كانت بحيرة تذكرك بأنه ليس كل ما تظنه قوة هو كذلك، وأن القوة الحقيقية ليست في السحر، بل في القلب، في الإيمان، وفي الشجاعة.

ثم بدأت قصة اخرى

قصة إله النار وجنية الزهرة

كانت غابة الضباب المخفية عالمًا قائمًا بذاته. أشجارها كانت هادئة، يلفها ضباب سحري دائم، تخفي خلفه سهولًا خضراء تتلألأ بقطرات الندى. وفي قلب هذه الغابة، عاشت فلورا، جنية زهرة. لم تكن مجرد جنية، بل كانت روح الغابة، ونبضها. كانت كل زهرة تتفتح، وكل شجرة تنمو، وكل قطرة ندى تتساقط، هي جزء من روحها. كانت طبيعتها هي الحياة والبعث، وكانت مهمتها هي حماية الغابة من كل ما يهددها.

وفي مكانٍ آخر، بعيدًا في عوالم الأساطير، عاش إيغنيس، إله النار. لم يكن إلهًا عاديًا، بل كان تجسيدًا للخلقِ والتدميرِ في آنٍ واحد. كانت روحه عبارة عن نيران أبدية، تشتعل بالقوة والغضب. لم يعرف إيغنيس يومًا الحب أو اللين، كانت حياته كلها تتمحور حول القتال والسيطرة. كانت مهمته هي أن يُوازن بين الحياة والموت، لكن طبيعته المشتعلة كانت تجعله يميل دائمًا إلى التدمير.

وفي يومٍ من الأيام، اندلعت الحرب السماوية. كانت حربًا لا نهاية لها، حربًا بين الآلهة والأساطير، حربًا هزت عوالم الكون. استُدعي إيغنيس للمشاركة في الحرب، وكما هو متوقع، أطلق العنان لقوته. كانت نيرانه تلتهم كل شيء في طريقها، تتجه نحو غابة الضباب المخفية.

شعرت فلورا بالرعب. كانت ترى نيران إيغنيس تقترب من غابتها، وكانت تشعر بالألم في كل زلية تُحرق، وفي كل شجرة تسقط. لم تستطع أن تقف مكتوفة الأيدي. قررت أن تواجه إيغنيس.

كان لقاؤهما الأول لقاءً بين النار والماء، بين الحياة والموت. واجهت فلورا إيغنيس، وطلبت منه أن يوقف نيرانه. كان إيغنيس يضحك، يضحك على جنية صغيرة تجرؤ على مواجهة إله. لكن فلورا لم تتراجع. بدأت تستخدم سحرها. أطلقت أمطارًا من الماء السحري لإطفاء نيرانه، وأطلقت زهورًا عملاقة لمحاصرة نيرانه، وأطلقت أشجارًا عملاقة لامتصاص نيرانه.

كان إيغنيس مندهشًا. لم يرَ قوةً مثل هذه من قبل. كانت قوة فلورا تختلف عن قوة الآلهة الأخرى. لم تكن قوةً مدمرة، بل كانت قوةً خلاقة. قوة كانت قادرة على مواجهة نيرانه دون أن تُهزم. كان هناك شيء فيها جذبَه، شيء لم يفهمه.

توقفت الحرب، وتوقف إيغنيس عن حرق الغابة. بدأ يقضي وقته مع فلورا. كان يشاهدها وهي تُعيد الحياة إلى الأراضي المحروقة، وهو يراقب الزهور التي تنمو، والأشجار التي ترتفع من جديد. كان يتعلم منها قيمة الخلق، قيمة الحب. وفي المقابل، تعلمت فلورا منه قوة الصمود، قوة الثبات. كانت نيران إيغنيس تخيفها في البداية، لكنها بدأت ترى فيها دفئًا، حنانًا، حبًا.

وقعا في الحب. حبٌ كان مستحيلًا، حبٌ بين إله النار وجنية الزهرة. كان حبهما كالنار والماء، متناقضًا لكنه لا يمكن أن ينفصلا. كان إيغنيس يتخلى عن قوته المدمرة من أجلها، وكانت فلورا تتخلى عن حذرها من أجله. كان حبهما هو الشيء الوحيد الذي كان مهمًا في هذا العالم.

لكن الحب المستحيل لا يدوم. علم مجلس الآلهة عن حبهما. اعتبروه خرقًا للنظام الكوني، وتهديدًا للتوازن. قرروا أن يُنهوا هذا الحب. أعلنوا حربًا شاملة، حربًا لا يمكن لإيغنيس أن يهرب منها.

واجه إيغنيس الآلهة الأخرى، لكن هذه المرة، لم يكن يقاتل من أجل السيطرة. كان يقاتل من أجل الحب. لكنه لم يكن أقوى منهم. كان على وشك أن يُهزم، وكانت الآلهة الأخرى على وشك أن تُنهي حياته، وتُدمر فلورا وغابتها.

في لحظة اليأس الأخيرة، اتخذ إيغنيس قرارًا. قرارًا سيغير مصيره ومصير العالم. بدلًا من استخدام نيرانه للتدمير، استخدمها للخلق. جمع كل قوته، كل نيرانه، كل حبه لفلورا، وأطلق العنان لقوة لم تُرى من قبل.

انفجرت نيرانه في كل مكان، لكنها لم تحرق أي شيء. تحولت النيران إلى ضوء، إلى نور، إلى حياة. حاصرت نيرانه غابة الضباب المخفية، لتشكل درعًا حاميًا، درعًا أبديًا. لقد أنقذ إيغنيس فلورا وغابتها، لكنه ضحى بنفسه. لقد تحول إيغنيس إلى رماد، إلى ذكرى، إلى نور.

لم تمت فلورا. لكن قلبها انكسر. كانت حرة، وغابتها آمنة، لكنها كانت وحيدة. جلست في وسط غابتها، تبكي. كانت دموعها مختلفة، لم تكن دموع ماء، بل كانت دموعًا من النار. كانت دموعًا من الحب المفقود، من الألم الذي لا يُنسى. كانت دموعًا حارقة، وكأنها نيران إيغنيس التي لا تموت. تجمعت دموعها، ليس على الأرض، بل في الهواء، وارتفعت إلى السماء، ثم سقطت في وادٍ عميق، وادٍ لم تطأه قدم بشرية من قبل. كانت دموعًا حارة، دموًعا من الحب المفقود. تجمعت الدموع، واحدة تلو الأخرى،و سقطت نحو بحيرة الدموع الابدية

لقد تلاشى مشهد فلورا وإيغنيس من أمامي، ولم يتبقَ سوى الفراغ الأسود الذي يملؤه الآن صدى من المشاعر: حب مفقود، وحسرة، وشعور بالخسارة. كانت دموع فلورا تتدفق في داخلي، تُغرق روحي بوجعٍ لم أعهده من قبل. شعرتُ وكأنني أنا من عانى، أنا من فقدَ، أنا من بكى. كانت القصص الخمس تتردد في ذهني، كل قصة تحمل ألمًا مختلفًا، كل قصة تُغرقني في بحر من المشاعر. كان الألم حقيقيًا جدًا، لدرجة أنني بدأتُ أفكر أنني سأغرق في هذا البحر من الألم، ولن أستطيع الخروج منه أبدًا.

وفجأة، شعرتُ بالبرد. لم يكن بردًا عاديًا، بل كان بردًا قارسًا، كأنني في وسط الجليد. شعرتُ بالضغط على صدري، كأن هناك شيئًا ضخمًا يضغطُ عليّ. فتحتُ عينيّ، ورأيتُ نفسي محاطًا بالظلام، بالماء. كان الماء باردًا، وكنتُ لا أستطيع التنفس. كان الألم حقيقيًا، لم يكن ذكرى. كان صدري يحترق، وعينايَ تغرقانِ في الظلام. كان جسدي يصرخ، يطلبُ الهواء.

كنتُ محاصرًا، مكبلاً بالسلاسل الذهبية، في أعماق بحيرة الدموع الأبدية. كانت السلاسل تشدني بقوة إلى القاع، وتمنعني من الصعود. كانت الأكسجين يتلاشى، وكنتُ أرى كل شيء يتحول إلى اللون الأحمر. شعرتُ بالرعب، باليأس، بالخذلان. كنتُ على وشك الاستسلام.

لكنني تذكرتُ القصص. تذكرتُ جابي الضرائب، الذي ضحى بحياته من أجل الحب. تذكرتُ الفتاة الدلفين، التي فقدتْ كل شيء من أجل حماية من تحب. تذكرتُ لي وي، الذي فقدَ إنسانيته من أجل القوة. تذكرتُ كايل، الذي ضحى بروحه من أجل ندمه. وتذكرتُ فلورا، التي بكت بحيرةً كاملةً من أجل حبها المفقود.

كانت هذه القصص تحمل ألمًا عميقًا، لكنها كانت تحمل أيضًا قوة. قوة الإرادة، وقوة الشجاعة، وقوة الحب. كان عليّ أن أجد القوة في هذه القصص. كان عليّ أن أتحمل الألم، أن أتحمل الغرق، أن أتحمل الخوف.

أغمضتُ عينيّ مرة أخرى، وحاولتُ تهدئةَ نفسي. لم يكن عليّ أن أقاتل الماء، بل أن أكون جزءًا منه. لم يكن عليّ أن أقاوم السلاسل، بل أن أقبلَ وجودها. لم يكن عليّ أن أقاوم الألم، بل أن أتقبله.

بدأتُ أتنفس ببطء، ببطء شديد، كأنني أتنفس الهواء الذي في داخلي. كانت رئتايَ تحترقان، لكنني تجاهلتُ الألم. بدأتُ أشعرُ بالهدوء. كانت مياه البحيرة تغرقني، لكنني لم أعد أشعر بالخوف. كنتُ أطفو في الظلام، في الصمت، في الوحدة. كنتُ أتخيل أنني أستطيع التنفس تحت الماء، أنني أصبحتُ جزءًا من هذا العالم.

ومع كل نفس، كنتُ أشعرُ بالقوة تتدفق في جسدي. كانت قوة من نوع آخر، ليست قوة سحرية، بل قوة داخلية. قوة الإرادة، قوة التحمل، قوة الصمود. كنتُ أركزُ على كل خلية في جسدي، وكل ذرة في كياني. كنتُ أقول لنفسي: "أنا قوي. أنا أستطيع أن أتحمل. أنا أستطيع أن أعيش".

وفجأة، شعرتُ بشيءٍ ما. لم أكن أعلم ما هو، لكنني شعرتُ بقوةٍ تتدفقُ من داخلي، قوةٍ لم أعرفها من قبل. كانت قوةً غريبة، قوةً تشبه قوة مونو، لكنها كانت لي.

وببطء، بدأتْ السلاسلُ التي كانت تكبلني بالأسفل تتحرك. كانت تتحركُ ببطء، ثم أصبحت تتحرك بسرعة. كانت تتحركُ بعيدًا عن يدي. كانت تبتعد عني، وتختفي في الظلام.

كنتُ حرًا!

بدأتُ أتحرك نحو السطح. كنتُ أتحرك ببطء، ثم أصبحتُ أتحرك بسرعة. كنتُ أتحرك نحو النور، نحو الأمل، نحو الحياة. كنتُ أرى ضوءًا خافتًا، وكان الضوء يكبر ببطء، حتى أصبح ضوءًا ساطعًا.

خرجتُ من الماء، وأخذتُ نفسًا عميقًا. كان الهواء باردًا، لكنه كان منعشًا. كانت الشمس مشرقة، وكانت الأزهار الأرجوانية تلمع بضوئها. كان كل شيء جميلًا.

التفتُ، ووجدتُ مونو تقفُ ورائي، ووجهها لا يزالُ خاليًا من أي تعبير.

"مرحبًا." قلتُ، وأنا ألهث. "لقد نجحتُ."

"نعم." أجابتْ. "لقد انتهى اختبار تحمل الغرق."

"لماذا لم تخبريني أنه اختبار؟" سألتُ، وكنتُ ما زلتُ أشعر بالصدمة.

"لأنك لم تكن ستصدقني." قالت. "كان عليك أن تعيش الألم بنفسك، وأن تشعر به، وأن تتغلب عليه بنفسك."

نظرتُ إليها، وابتسمتُ ابتسامة باهتة. "إذًا، ماذا بعد؟"

"ماذا بعد؟" أجابتْ، ورفعت حاجبها. "ماذا بعد؟ هذا هو بداية التدريب. لدينا الكثير لتتعلمه."

أدركتُ أن رحلتي لم تكن قد انتهت، بل كانت قد بدأت. كانت هذه هي بداية مغامرتي في هذا العالم، عالم السحر، عالم الألم، عالم الأمل. كانت هذه هي بداية قصتي.

كانت الشمس مشرقة، وكانت الأزهار الأرجوانية تلمع بضوئها. كان كل شيء جميلًا، لكنني لم أستطع أن أنسى الألم الذي شعرتُ به. كان الألم حقيقيًا، وكان لا يزال يتردد في روحي.

"لماذا؟" سألتُ، وكنتُ أنظر إلى مياه البحيرة الحمراء. "لماذا فعلتِ هذا بي؟"

كانت مونو تقف بجانبي، ووجهها لا يزال خاليًا من أي تعبير.

"هذا هو الهدف من بحيرة الدموع الأبدية." قالت، وصوتها كان هادئًا. "هي ليست مجرد بحيرة، بل هي وعاء للذكريات."

"وعاء للذكريات؟"

"نعم." أجابت. "كل قطرة دمعة سقطت في هذه البحيرة، حملت معها قصة صاحبها. الألم، الحب، الفقد، الندم، كل شيء."

تجمدتُ. "إذًا، القصص التي رأيتُها..."

"ليست أحلامًا." قالت مونو. "كانت ذكريات. ذكريات أشخاص حقيقيين عاشوا، وأحبوا، وفقدوا، وبكوا في هذه البحيرة."

شعرتُ بالصدمة. كانت القصص حقيقية. كان الألم حقيقيًا.

"لكن لماذا؟" سألتُ، "لماذا كان عليّ أن أرى هذا؟"

"لكي تتعلم." قالت. "لتتعلم أن القوة ليست فقط في السحر، بل في القلب. لتتعلم أن القوة تأتي مع مسؤولية، وأن الحب يمكن أن يكون قاتلاً."

"لكنني لا أريد هذه القوة." قلتُ. "إنها مؤلمة. إنها... إنها تجعلني أشعر بأنني ضعيف."

"الضعف ليس في الشعور بالألم." قالت مونو. "الضعف هو في عدم القدرة على تحمل الألم."

نظرتُ إلى مياه البحيرة، وتذكرتُ كل قصة. تذكرتُ جابي الضرائب الذي ضحى بحياته، والفتاة الدلفين التي فقدت حبها، ولي وي الذي فقد إنسانيته، وكايل الذي فقد روحه، وفلورا التي فقدت حبها الأبدي.

"هذه البحيرة تحمل آلاف القصص الأخرى." قالت مونو، وكأنها قرأت أفكاري. "هذه القصص الخمسة هي مجرد جزء صغير من بحر من المشاعر. هناك قصص عن الأمل، عن الفرح، عن الشجاعة، عن القوة."

"هل هذا هو الهدف من التدريب؟" سألتُ، وكنتُ أنظر إليها. "أن أصبح قوياً بما يكفي لأتحمل كل هذه القصص؟"

"نعم." أجابت. "الهدف من التدريب هو أن تصبح قوياً بما يكفي لحماية نفسك من الألم. لتصبح قوياً بما يكفي لتحمل كل ما يواجهك في الحياة."

شعرتُ باليأس. كان التدريب لا نهاية له، وكان الألم لا نهاية له. لم أكن أعلم ما إذا كنتُ سأنجح، أو ما إذا كنتُ سأتحمل.

"لكنني لستُ وحيدًا." قلتُ، ونظرتُ إلى مونو. "أنا أملككِ."

نظرت إليّ مونو، ولأول مرة، رأيتُ في عينيها شيئًا ما. لم يكن حبًا، ولم يكن حنانًا، بل كان شيئًا آخر. كان شيئًا عميقًا، شيئًا أعمق من الحب. كان شيئًا يشبه الأمل.

"نعم." قالت. "أنتَ تملكني. وأنا أملكك. وسوف ننجح معًا."

وفي تلك اللحظة، شعرتُ وكأنني لم أكن وحيدًا. شعرتُ وكأنني كنتُ جزءًا من شيء أكبر، شيء يمكن أن يغير العالم. شعرتُ وكأنني كنتُ قادرًا على فعل أي شيء.

بدا الأمر وكأن الأمل الذي شعرتُ به قد تلاشى فجأة. كنتُ محتارًا، أفكاري تتصارع في رأسي. القصص التي رأيتُها كانت مذهلة، لكنها كانت تتجاوز كل ما أعرفه عن هذا العالم.

"هل أنتِ متأكدة أنهم حقيقيون؟" سألتها، وعيناي تحملان خليطًا من الدهشة والشك. "أنتِ تتحدثين عن آلهةٍ وحروبٍ سماوية... هذا جنونٌ، أليس كذلك؟"

حدقتْ مونو في عينيّ، وابتسمت ابتسامة خفيفة. "بليك يا صغيري، هذا العالمُ أوسعُ مما تتخيل." قالت، ونبرة صوتها تحمل هدوءًا لا يتغير. "لكنكَ ما زلتَ صغيرًا لكي تفهم هذه الأمور. ربما عندما تكبر..."

شعرتُ بالدم يغلي في عروقي. "صغير؟" كررتُ بغضب. "أنتِ مجرد طفلة، وتدعوني صغيرًا؟"

لم تُظهر مونو أي رد فعل، بل بدأت تبتعد عني بخطوات هادئة. "والآن، بما أنكَ أصبحتَ تستطيع تحمل ضغط تحت الماء وفقدان الأوكسجين بطريقة أفضل، فلنبدأ التدريب التالي."

تجمّدتُ في مكاني، وعيناي اتسعتا. "تحمل السم، والآن تحمل الغرق؟" صرختُ، بينما كانت أصداء كلماتي تتردد في الفضاء. "أتُريدين أن تحوليني إلى آلة قتل؟"

التفتتْ مونو إليّ، ونظرتْ في عينيّ. ابتسمت ابتسامة خفيفة، لكنها هذه المرة كانت مختلفة، كأنها تحمل نكتة داخلها. "نعم." قالت ببرود مصطنع.

"ماذا؟"

انفجرت مونو ضاحكة، وكانت ضحكتها أشبه بصوت أجراس فضية تتناثر في الهواء. كان هذا الصوت هو المرة الأولى التي أسمعه منها، وكان يكسر كل الهدوء والبرود الذي اعتدتُ عليه. "هيا بنا يا بليك." قالت وهي تمسح دمعة صغيرة من عينها. "الآن إلى التدريب التالي."

نظرتُ إليها في حيرة، ولم أستطع أن أصدق ما سمعته وما رأيته. هذه الفتاة الصغيرة، الحارسة الصامتة، كانت تمتلك حسًا فكاهيًا! شعرتُ بالغباء، وغضبِ تلاشى في لحظة.

أدركتُ أن رحلتي معها لن تكون سهلة، وأنها لن تكون كما توقعت. كنتُ أتعلم منها كل يوم شيئًا جديدًا، شيئًا عن هذا العالم الغريب، وشيئًا عن نفسي. أخذتُ ن

فسًا عميقًا، واتبعتها، والفضول يملأ قلبي. كنتُ أعلم أن هذا التدريب الجديد سيكون أكثر صعوبة، لكنني كنتُ مستعدًا.

2025/08/20 · 2 مشاهدة · 5188 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025