بعد أن غادر بليك ومونو، لم يتبقَ سوى أنا وأكيهيكو. كان الهواء ثقيلًا، وكأن شيئًا قد سُحب منه، ثم، تحولت تلك الفتاة الغامضة التي كانت عصفورًا إلى هيئتها البشرية الكاملة. كانت واقفة أمامنا، فستانها الأسود الفضفاض ينسدل على جسدها الهزيل، وشعرها الأسود القصير يحيط بوجهها الشاحب، وتتوج رأسها قرون صغيرة بالكاد تُرى. كانت نظراتها باردة ومباشرة، تخترق كل شيء، بينما كانت عيناي تحدقان بها بكل حذر.
كنت أراقبها، وأحلل كل تفصيل. من تكون هذه الفتاة؟ لقد كشفت عن نفسها باسم نيرو، ولكن هذا الاسم لا يعني لي شيئًا. شعرت بوجودها، طاقة قديمة ونقية لم أشعر بها منذ زمن طويل. كان وجودها يبعث في نفسي شعورًا بالريبة، ولكن ليس بالخوف. هي ليست قوية بالقدر الذي يجعلني أخشاها، ولكن هناك شيء خاطئ في وجودها، شيء لا يتناسب مع هذا العالم. كان أكيهيكو يقف بجانبي، يحدق بها بعينين واسعتين، غير قادر على فهم ما يجري، بينما كان عقلي يعمل بأقصى سرعة.
قررت أن أبدأ الحديث، فقلت لها بصوت هادئ ومُسيطر:
"أنا لا أهتم باسمك. أخبريني، ما هو غرضك من بليك؟"
لم تُظهر أي رد فعل. بقيت صامتة، ونظرتها الهادئة لم تتزحزح. كانت هناك فترة من الصمت المُزعج، قبل أن ترد بصوت هادئ ومُريب:
"إنه شيء لا يخصك يا سيد جن."
تجمدت في مكاني. كانت كلمة "سيد جن" كافية لتثير كل حذري. كيف عرفت هويتي؟ إنني لا أظهر حقيقتي لأحد، خاصة بعد أن ضعفت قواي بسبب الكتاب. هذا يكشف عن شيئين: إما أنها تعرف الجن حق المعرفة، أو أنها قوية لدرجة تمكنها من رؤية ما لا يراه الآخرون.
حاولت أن أحافظ على هدوئي، وقلت لها بنبرة جادة:
"أنا أحاول التكلم معك بهدوء. لا أريد استعمال العنف."
لكنها لم تبالي بتهديدي، بل ردت بابتسامة خبيثة:
"وكأنني سأخاف من مهرج مثلك."
في تلك اللحظة، تحول الهدوء إلى غضب حارق. "مهرج"؟ أنا بابادوك. قد أكون قد ضعفت، لكني ما زلت بابادوك. هل تجرؤ هذه الفتاة، التي لم تخرج من بيضتها بعد، على وصفي بالمهرج؟ انطلقت شرارة من عيني، وارتعش الهواء من حولي. لقد انتهى الهدوء، وبدأت لعبة جديدة، لم أكن مستعدًا لها.
لم أُبدِ أي تعليق على وصفها لي بـ"مهرج". كانت كلماتها واثقة ومُستفزة، وهذا ما أثار غضبي. فجأة، تحركت. اندفعت نحوها بسرعة خاطفة، محولًا مظلتي إلى سيف. كانت هادئة تمامًا، لم تبدُ عليها أي علامة من علامات الخوف أو المفاجأة، وكأنها كانت تتوقع حركتي هذه. كنت على وشك طعنها، وفي آخر لحظة، حدث ما لم يكن في الحسبان.
أمسكت مظلتي بيدها العارية. لم تكن هناك قوة ولا عنف في حركتها، بل مجرد هدوء تام. تجمدتُ في مكاني، وعيناي اتسعتَا من الرعب. مظلتي، التي هي سلاحي وسلاحي الوحيد، والتي اخترقت بها وحوشًا وهزمت بها أعداءً، تم الإمساك بها بكل سهولة وكأنها لا شيء. شعرتُ وكأنني أقف أمام جبل جليدي لا يمكن تحريكه. كانت هذه المرة الثانية هذا اليوم التي أشعر فيها بهذا العجز. هذا الكائن، الذي لا أعرف من هو، أقوى بكثير مما توقعت. كيف يمكن أن تكون بهذا الهدوء، وبهذه القوة؟
لم تعطيني حتى فرصة للرد. بكل بساطة، وبكلتا يديها، أمسكت بي وبمظلتي، ورمتنا من النافذة. تحطمت النافذة الزجاجية، وتطاير الزجاج في الهواء مثل شظايا الثلج، محدثًا صوتًا مدويًا يشبه الرعد. ارتطمتُ بالحائط المقابل لمنزل بليك بقوة، بينما كان أكيهيكو يصرخ باسمي في خوف.
شعرتُ بقليل من الدوران في رأسي، كان الأمر كافيًا لإيقاف أي جن آخر. شعرت بالخجل. أنا بابادوك، سيد الظلام، يتم رميي من نافذة وكأنني دمية قماشية! لم يكن الأمر يتعلق بالقوة الجسدية فحسب، بل بالفرق الهائل في القوة.
وقفت على قدمي بسرعة. لم يكن لدي وقت لأفكر في هذا الأمر. فقد رأيتها قد خرجت من المنزل، ووجهها لا يزال باردًا وهادئًا، وكأنها لم تفعل شيئًا غير عادي. كانت متجهة نحوي بهدوء قاتل، وكأنها قادمة لإنهاء قتال ممل.
لكنها توقفت، وقالت بصوت هادئ:
"أنا لا أريد القتال... أنا أريد..."
لم تكمل كلامها. انقضضت عليها مجددًا بسرعة فائقة، ولكنها تفادتني بسهولة تامة. كانت سريعة بشكل لا يُصدق، ولم أتمكن من لمسها حتى. أكملت كلامها، هذه المرة بصوت عالٍ:
"اسمعني!"
لم أدعها تتكلم. رميت مظلتي عليها كرمح، ولكنها تفادتها مجددًا. في هذه اللحظة، لاحظتُ أن شيئًا قد تغير. كان وجهها لا يزال باردًا، ولكن الغضب بدأ يتوهج في عينيها.
قالت بصوت حاد:
"حسنًا. إذا أردت القتال، سوف أقاتل."
أضاءت عينا نيرو بنيران خفية، بينما تحولت نظرتها الهادئة إلى عاصفة كامنة. كانت واقفة في الشارع، بينما أنا أقف على بعد أمتار قليلة منها. كان الهواء يرتجف، والصمت يسبق العنف.
اندفعت نحوها مجددًا، وهذه المرة، لم أكن أرمي مظلتي. كانت المظلة في يدي كسيف، أقطع بها الهواء بضربات سريعة ومُتقنة. كنت أهاجمها من كل الاتجاهات، من الأمام والخلف والجانبين، لكنها كانت تتفادى كل هجماتي بهدوء مُذهل. كانت تحرك جسدها الهزيل برشاقة لا تُصدق، وكأنها ترقص بين ضرباتي القاتلة.
كانت ترفع قدمها اليسرى لكي تتفادى ضربة من مظلتي في بطنها، و تستدير لتتجاوز ضربة في ظهرها. حاولت أن أقطع ساقها، لكنها قفزت في الهواء، ثم هبطت خلفي. كان الأمر مُحبطًا. كل قوتي، كل خبرتي القتالية، كانت بلا فائدة ضدها. كانت تدافع بجسدها فقط، دون أن تستخدم أي قدرة خارقة.
شَعَرْتُ بالإحباط، فاستجمعتُ كل قوتي، ووجهت إليها ضربة قوية في بطنها. تفادتها بسهولة، لكنها لم تبتعد، بل أمسكت بذراعي، ووجهت لي لكمة سريعة في وجهي. لم تكن لكمة عنيفة، لكنها كانت قوية بما يكفي لترمي بي على الأرض. شعرتُ بالدوار، لكنني قمتُ بسرعة. كان قلبي ينبض بعنف، وعقلي يصرخ: "كيف؟ كيف؟".
لم تمنحني فرصة للتنفس، فقد ركلتني في صدري، ورمتني على أحد الجدران. شعرتُ بأن ضلوعي قد تكسرت. كان الألم فظيعًا، لكنني تجاهلته. وقفتُ مرة أخرى، ودموع الغضب تملأ عيني.
كانت تتقدم ببطء، وكأنها تستمتع بهذا القتال. لم تكن تبتسم، أو تظهر أي تعبير. كانت مجرد آلة قتال لا تعرف الرحمة. كان هذا القتال يختلف عن أي قتال خضته في الماضي. الأعداء الذين واجهتهم كانوا يصرخون، يضحكون، ويظهرون مشاعر مختلفة. أما نيرو، فكانت هادئة تمامًا. كانت هذه هي المرة الأولى التي أقاتل فيها شخصًا لا يهتم بالقتال نفسه.
حاولت أن أستخدم حيلة، فقمتُ بتوجيه ضربة قوية إليها، لكنها لم تتفادها هذه المرة. ابتسمتُ بسخرية.
"لن ينتهي هذا القتال حتى أعرف ما هو غرضك من بليك، يا نيرو!" صرخت في وجهها.
أبتسمت ببطء، وكانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها ابتسامتها. كانت ابتسامة باردة، خالية من أي مشاعر، وكأنها ابتسامة قناع. كانت تلك الابتسامة أكثر رعبًا من أي تهديد سمعته في حياتي.
"إذاً، دعنا نرى..." قالت بصوت هادئ، بينما كانت تُحكم قبضتها على ذراعي أكثر.
شعرت أن قبضة الفولاذ على ذراعي تكاد تسحق عظامي. حاولت سحب ذراعي، لكنها كانت ثابتة كالجبل. كانت نظرتها باردة، وابتسامتها البطيئة أكثر رعبًا من أي تهديد سمعته في حياتي.
"إذا أردت القتال، سوف أقاتل." كانت كلماتها الأخيرة قبل أن تبدأ معركتنا الحقيقية.
استجمعتُ كل قوتي، وحاولت تحريك مظلتي. كانت حركتها ثقيلة، لكنني نجحتُ في تحريكها ببطء نحوها. كانت عينيها تراقبان كل حركة لي، و فجأة، تحولت إلى عصفور صغير، وتفادت الضربة. طارت بسرعة هائلة فوق رأسي، وعادت إلى هيئتها البشرية خلفي. لم أستطع حتى متابعة حركتها. كانت هادئة تمامًا، وكأنها لم تفعل شيئًا غير عادي.
شعرت بالإحباط يتملكني. كنت أقف في مكاني، بينما كانت هي تبتعد عني بهدوء. حاولت أن أتبعها، لكنها كانت تختفي وتظهر في لمح البصر. كانت تتفادى كل هجماتي، وتتحرك بسرعة لا تُصدق. كانت تقفز، تستدير، وتتحول إلى عصفور لكي تتفادى ضرباتي.
كانت تستغل تحولي إلى عصفور لكي أهاجمها من زاوية مختلفة، أو لكي أهرب من هجومي. كانت تستخدم هذا التحول ببراعة، مما يجعل قتالي معها صعبًا جدًا.
شعرت باليأس يتملكني. أنا بابادوك، سيد الظلام، وأنا عاجز عن هزيمة فتاة صغيرة. كان هذا الشعور بالعجز أسوأ من أي هزيمة خضتها في حياتي.
حاولت أن أركز على حركاتها. كانت تتحرك بسرعة، لكنها كانت تترك وراءها أثرًا صغيرًا من الطاقة. حاولت أن أستخدم هذا الأثر لأتنبأ بحركتها القادمة.
أغلقت عيني، وركزت على طاقتي. شعرتُ بطاقة نيرو، كانت تتصاعد وتنخفض مع كل حركة لها. كانت طاقتها نقية وهادئة، لكنها كانت تخفي قوة هائلة.
أدركتُ أنني لا أستطيع هزيمتها بالقوة. يجب أن أكون أذكى منها. يجب أن أستخدم عقلي.
فتحت عيني، ورأيتُ نيرو تقف أمامي. كانت هادئة، وكأنها تنتظر حركتي.
"لماذا أنت هنا، نيرو؟" سألتها. "ماذا تريدين من بليك؟"
أجابت بصوت هادئ: "أنا هنا لأحمي بليك."
تجمدتُ في مكاني. كانت كلماتها صادقة. لم تكن تكذب. لكن لماذا تريد حمايته؟ ومن أي شيء؟
"من من؟" سألتها. "من تحمين بليك؟"
ابتسمت ابتسامة حزينة، وقالت: "من الظلام... من القدر المظلم."
في تلك اللحظة، شعرت ببرودة في قلبي. كانت كلماتها تخفي وراءها قصة أعمق بكثير مما توقعت. شعرت أن هذه المعركة ليست مجرد قتال، بل هي قتال من أجل مصير بليك.
اندفعتُ نحوها مجددًا، وهذه المرة، لم أكن أرمي مظلتي. كانت مظلتي في يدي كسيف، أقطع بها الهواء بضربات سريعة ومُتقنة. كنت أهاجمها من كل الاتجاهات، من الأمام والخلف والجانبين، لكنها كانت تتفادى كل هجماتي بهدوء مُذهل. كانت تحرك جسدها الهزيل برشاقة لا تُصدق، وكأنها ترقص بين ضرباتي القاتلة.
كانت ترفع قدمها اليسرى لكي تتفادى ضربة من مظلتي في بطنها، و تستدير لتتجاوز ضربة في ظهرها. حاولت أن أقطع ساقها، لكنها قفزت في الهواء، ثم هبطت خلفي. كان الأمر مُحبطًا. كل قوتي، كل خبرتي القتالية، كانت بلا فائدة ضدها. كانت تدافع بجسدها فقط، دون أن تستخدم أي قدرة خارقة.
شعرت بالإحباط، فاستجمعتُ كل قوتي، ووجهت إليها ضربة قوية في بطنها. تفادتها بسهولة، لكنها لم تبتعد، بل أمسكت بذراعي، ووجهت لي لكمة سريعة في وجهي. لم تكن لكمة عنيفة، لكنها كانت قوية بما يكفي لترمي بي على الأرض. شعرتُ بالدوار، لكنني قمتُ بسرعة. كان قلبي ينبض بعنف، وعقلي يصرخ: "كيف؟ كيف؟".
لم تمنحني فرصة للتنفس، فقد ركلتني في صدري، ورمتني على أحد الجدران. شعرتُ بأن ضلوعي قد تكسرت. كان الألم فظيعًا، لكنني تجاهلته. وقفتُ مرة أخرى، ودموع الغضب تملأ عيني
الهواء كان متشحًا بالبرودة، والشارع المهجور حولنا صامت بشكل غير طبيعي. الزجاج المكسور من نافذة منزل بليك تفرّق على الأرض مثل آلاف الشظايا الصغيرة، تعكس الضوء الخافت للغروب كآلاف النجوم المكسورة. كان قلبـي ينبض بسرعة، لكن شيئًا داخليًّا كان يئن. لقد فقدت التوازن، ليس فقط الجسدي، بل في كل شيء. ثقتي بنفسي بدأت تتهاوى. كنت بابادوك، سيد الظلام، الكيان الذي يخشاه الجميع، ومع ذلك الآن، أمام هذه الفتاة الهزيلة، شعرت بالضعف الكامل.
نيرو وقفت أمامي، هدوءها كالجليد يقطع روحي، ونظرتها الثاقبة كانت تراقب كل خفقة لقلبي، كل ارتجاف في ذراعي. لم يكن هذا مجرد قتال جسدي، بل اختبار لكل شيء اعتقدت أنني أعرفه عن نفسي.
حركت مظلتي أمامي، محاولةً أن أجعل نفسي يبدو في وضع السيطرة، لكن نيرو لم تتحرك. فقط ابتسامة صغيرة على شفتيها، ابتسامة باردة بلا شعور، كانت كافية لتدمر أي يقين داخلي لي.
انطلقتُ للأمام بضربة قوية من المظلة، أقطع الهواء بسرعتي المعتادة، محاولًا أن أجبرها على التحرك للخلف. لكنها تحولت فجأة إلى عصفور صغير، جناحيها يرفرفان في الهواء بسرعة تفوق قدراتي على التتبع. شعرت بالدوار، عيني تحاول استيعاب تحركها المفاجئ فوق رأسي، لكنها عادت إلى هيئتها البشرية خلفي قبل أن أتمكن من الالتفات.
محاولة ثانية، ضربة جانبية من المظلة، سريعة ومدروسة، لكن نيرو رفعت قدمها اليمنى لتتفادى ضربة المظلة، ثم استدارت بشكل دائري، وكأنها تتحرك بانسياب بين الخطوط الخفية للشارع، بين الأعمدة المائلة وأكوام الحطام. كل خطوة لها كانت محسوبة، كل حركة مثل رقصة قاتلة على بلاط الشارع المتصدع.
شعرت بالإحباط يزداد، وبدأ الخوف يتسلل من داخلي. لم يكن خوفًا من الهزيمة فقط، بل خوفًا من الحقيقة: أن قوتي لم تعد كافية. كل ضربة وجهتها كانت تتفاداها بسهولة، كل خطوة هجومية مني كانت تتحول إلى فرصة لنيرو لتثبت تفوقها الكامل.
انطلقت نحوها بضربة سريعة من الأعلى إلى الأسفل، المظلة تتحرك كرمح حاد. نيرو تحولت مرة أخرى إلى عصفور، طارت بسرعة مذهلة فوق رأسي، ثم هبطت خلفي على أكوام الزجاج المكسور، مطوقة جسدي بنظرة تحدٍ لا يمكن تجاهلها.
حاولت أن أغير أسلوبي، فأطلقت سلسلة من الضربات المتتابعة، كل ضربة تتجه إلى منطقة مختلفة من جسدها: الذراعين، الكتف، الرقبة، الركبة. لكنها تفادت جميعها بسلاسة مذهلة، أحيانًا بقدميها فقط، أحيانًا بالقفز إلى الجانب، وأحيانًا بتحولها لعصفور ثم العودة إلى الأرض في زاوية لم أكن أتوقعها.
شعرت بثقل كل هجمة أوجهها، كل ضربة لم تصب هدفها تزيد شعوري بالعجز. عقلي صار يشتعل بمزيج من الغضب والخوف، وكل نفس أصبح أصعب من الذي سبقه. "كيف؟ كيف يمكن لمخلوق بهذا الحجم أن يتحرك بهذه السرعة؟" كنت أصرخ داخليًا، لكن الصوت لم يخرج من حلقي.
نيرو رفعت ذراعها، ووجهت لي لكمة خفيفة على صدري، لكنها كانت كافية لتدفعني عدة أمتار إلى الخلف، أقع على الأرض، أشعر بالدوار. لم أعد أستطيع التركيز على كل تفاصيل الشارع، فقط أرى ظلها يتحرك أمامي، يتحول إلى عصفور، يختفي ثم يعود في لمح البصر.
شعرت بأن جسدي يتقلص داخليًا، بأن قوتي الحقيقية تتبخر أمام عيني. "أنا بابادوك... كيف يمكن أن أشعر بهذه الضعف؟" كان هذا السؤال يدور في رأسي بلا توقف. كل ضربة لم تصب هدفها، كل تفادي منها كان يثبت تفوقها. كنت أراقب حركة يديها، حركة عينيها، حتى تنفسها، محاولًا أن أقرأها، لكن كل شيء كان سلسًا، هادئًا، وبدون أي علامة على الضعف.
حاولت استخدام خدعة، فتقدمت بسرعة، ثم سقطت على الأرض بشكل مفاجئ، محاولًا أن أتفادى هجومًا متوقعًا من نيرو، لكن فور أن حاولت استغلال الفرصة، تحولت إلى عصفور مرة أخرى، طارت حولي بسرعة خادعة، ثم هبطت خلفي، بينما جسدي كله كان متوترًا.
شعرت بالإحباط يتضاعف، والخوف يزرع بذور الشك في داخلي. كل تفكير كان ينهار، كل خطة كانت تسقط قبل أن تولد. شعرت بأن كل خطوة في الشارع أصبحت معركة داخل نفسي قبل أن تكون معركة جسدية.
[منظور اكيهيكو]
الغروب كان يلون الشارع بلون الدم والذهب، بينما كنت أجلس على الأرض بين الزجاج المكسور وأكوام الحطام، عاجزًا عن الحركة. قلبي يدق بعنف، وعيني تتوسّع لمتابعة كل حركة. لم أرَ شيئًا كهذا في حياتي، لم أرَ قتالًا يفوق حدود الطبيعة كما يحدث أمامي الآن.
بابادوك... كان يحاول، لكنه بدا لأول مرة ضعيفًا، مهتزًا. كل ضربة من نيرو كانت كنسمة خفيفة تجتاح جسده، وكل تحرك لعصفورها كان يعكس قوته التي تتبخر شيئًا فشيئًا أمام أعيننا. شعرت بالرهبة، لكن أيضًا بالارتباك. كيف يمكن لشخص أن يكون بهذه القوة والهدوء معًا؟
كان هناك بعض المارة على بعد الشارع، يتجمّدون في أماكنهم، أذهانهم عاجزة عن تفسير ما يرونه. رجل يقف على رصيف المحل، فمه مفتوح بدون صوت، طفل يختبئ خلف عمود، أصوات خطوات سريعة تهرب من الخوف تتردد في المكان. الجميع كان مصدومًا، لم يصدق عيونهم. هذا ليس مجرد قتال... هذا كابوس حي يتحرك أمامهم.
بابادوك اندفع نحو نيرو مجددًا، المظلة في يده كسيف حاد. حاولت نيرو التحرك جانبًا، لكنها فجأة تحولت إلى عصفور صغير، طارت فوقه بسرعة مذهلة، كأنها تتحدى قوانين الفيزياء نفسها. جسده ارتجف، وعينيه تتسع من الدهشة والخوف، شعور لم أشعر به قبلاً وهو يقاتل.
كنت أراقب كل حركة من بعيد، أراقب اندفاع الهواء الذي تتركه خطواتهم على الشارع، صوت الزجاج الذي يتكسر تحت أقدامهم، وطريقة حركة المظلة التي تصنع خطوطًا في الهواء مثل خيوط الضوء. كل ضربة من بابادوك كانت تصنع موجة، وكل تفادي من نيرو كان يحطم توازنه الداخلي.
"لماذا...؟" تمتمت لنفسي، "كيف يمكن لشخص بهذا الهدوء أن يتحرك بهذه السرعة؟ كيف يمكنه أن يجعل القوة تبدو بلا جدوى؟" شعرت بخوف حقيقي يتسرب إلى كل ذرة في جسدي، لم أعد أراقب القتال فقط، بل أراقب انهيار بابادوك نفسه.
بابادوك استجمع كل قوته، كانت هناك شرارة حقيقية في عينيه، لأول مرة أرى الحقد والغضب يختلط بالخوف. لم يعد مجرد كيان هادئ ومسيطر، بل شخص يحاول استرجاع هيبته، يحاول أن يثبت لنفسه أنه سيد الظلام. ضرباته أصبحت أكثر عنفًا، المظلة تقطع الهواء بعنف، محاولةً لمسك نيرو بأي ثمن.
نيرو تحولت مجددًا لعصفور، طارت فوق رأسه، ثم هبطت خلفه على الأرض، تتجنب كل ضربة. كانت تستخدم كل مساحة الشارع، تقفز فوق الحطام، تتجنب أعمدة الكهرباء المائلة، وأكوام القمامة، وكل شيء في الشارع أصبح جزءًا من رقصة القتال.
كنت أسمع أفكار بابادوك وهو يصرخ داخليًا، "لا يمكن... لا يمكن أن أكون بهذه الضعف. هذه مجرد فتاة صغيرة... لكنها... إنها... لا أستطيع..." شعرت بأن خوفه، قوته، كل شيء مختلط في دوامة من الغضب واليأس.
نيرو رفعت قدمها لصد ضربة، ثم انقلبت على الأرض بسرعة، وثبتت خلفه، كأنها تتحكم بالوقت نفسه. بابادوك حاول أن يهاجمها مرة أخرى، لكن يده أخطأت الهدف، وضربت الهواء. شعرت بقوة الخيبة تجتاحه، لكنه لم يستسلم. بدأ يصرخ لنفسه، يصرخ ليحاول استعادة السيطرة على جسده وروحه.
الشارع كله أصبح مسرحًا للمعركة، المارة على مسافة آمنة يراقبون بأعين مفتوحة وقلوب مرتجفة، بعضهم يلتقط هواتفه، يحاول تسجيل المشهد، بعضهم يختبئ وراء السيارات أو الأشجار، أصوات تنفسهم تتداخل مع الريح. كل خطوة، كل قفزة من نيرو، كل ضربة من بابادوك، كانت محسوبة، وكل شيء حولهم يتفاعل مع الطاقة التي يطلقونها.
بابادوك هذه المرة توقف لبرهة، يتنفس بصعوبة، عينيه تراقبان نيرو، يحاول تحليل كل حركة، كل تحول لعصفور، كل حركة جسدية، كل نظرة. كان هناك شيء مختلف في هذه اللحظة: لم يعد القتال مجرد اختبار للقوة، بل أصبح اختبارًا للإرادة، اختبارًا للهوية.
"لن أستسلم..." تمتم بابادوك لنفسه، عرقه يتصبب على جبينه، جسده يهتز، لكنه بدأ في التحرك من جديد، كأنما يبحث عن ثغرة، أي شيء يمكن أن يمنحه الأفضلية.
نيرو ابتسمت ابتسامة بطيئة، باردة، كما لو أنها تعرف كل شيء عنه، وكل ما يحاول القيام به. ثم انطلقت، التحول لعصفور سريع فوقه، تهرب من الضربة، وتظهر خلفه لتضربه بكتفها بخفة، لكنها تترك أثرًا كافيًا ليشعر بالألم.
كنت أراقب كل هذا، أحاول استيعاب كل حركة، وكل تغيير في الشارع، وكل شعور يتسلل إلى بابادوك. كان الأمر مذهلاً ومرعبًا في الوقت نفسه. شعرت أنني جزء من شيء أكبر من أي قتال رأيته في حياتي، جزء من رقصة القوة والذكاء والخوف.
[منظور بابادوك]
الغروب كان يتلاشى شيئًا فشيئًا خلف المباني، والشارع أصبح مسرحًا لقوة لا تُقهر. شعرت بالغضب يتصاعد بداخلي كحمم بركانية، كل ضربة من نيرو كانت تهدم ثقتي تدريجيًا، وكل تفادي لها كان يزيد شعوري بالعجز. لم أعد مجرد بابادوك المسيطر، كنت مجرد جسم يحاول البقاء على قدميه أمام قوة لا تُصدق.
في لحظة ثورية، قررت أن أستغل البيئة حولي. نظرت إلى السيارات المتوقفة على جانبي الشارع، أكوام الحطام، صناديق القمامة، كل شيء يمكن استخدامه كسلاح. قبضت على سيارة صغيرة قرب الرصيف، شعرت بالحمم الحارة من غضبي تتدفق مع كل عضلة في جسدي، وحركتها باتجاه نيرو.
نيرو رفعت كتفها، ابتسامة باردة تزين وجهها، لكنها لم تتحرك هذه المرة كعصفور. اصطدمت السيارة بجانبها، لكنها أبدت رشاقة غير عادية، انحرفت بشكل طفيف، وكأنها تتلاعب بي. "كفاك! كفى!" صرخت داخليًا، الغضب يزداد كل ثانية، شعوري بالعجز يتحول إلى نار حارقة.
بدأت أرمى كل شيء حولي، أكوام الحطام تتحرك، الزجاج المكسور يتطاير في الهواء، حتى أنني سحبت مظلة أخرى وحرّكتها بسرعة مثل الرمح، محاولًا إجبارها على الدفاع أو الانحراف. كل هذه الحركة لم تغيّر شيئًا؛ نظراتها الباردة كانت تراقب كل شيء، تضحك بصمت على كل جهودي.
ثم جاء لحظة الانفجار الداخلي: اندفعت نحوها بعنف، وضربت مظلتي بقوة على كتفها. شعرت بالارتياح، شعور غريب بالانتصار. قطرة دماء صغيرة ظهرت على كتفها، وجدت نفسي أصرخ داخليًا "لقد جرحتها! أخيرًا!". لكنها، دون أن تظهر أي ألم، لمحت ابتسامة ساخرة، و رأيتها تقول بهدوء
"سحر الشفاء"
بدأت تُشفى بسرعة مذهلة. "سخرية... إنها تسخر منّي!" تمتمت بغضب، كأن الغضب نفسه يحرق كل شعور داخلي.
لم أستطع التفكير، لم أستطع السيطرة على نفسي، كل شيء أصبح فوضى من الغضب والقوة والنار الداخلية. ركضت نحوها مجددًا، ضربات مظلتي تتوالى مثل الرمح، أحاول أن أفرض إرادتي، أن أريها أنني قوي.
ولكن نيرو، هذه المرة، توقفت تمامًا. رفعت يديها بهدوء، وأخرجت دائرة ضوء صغيرة على الأرض.
"سحر الختم"
شعرت بشيء يتشكل حول مظلتي، شعور غريب بالتيبس. "لا… هذا… لا يمكن…" تمتمت لنفسي. مظلتي بدأت تتجمد، كل حركة تصبح صعبة، قوة سحريتها تتصاعد.
حاولت سحبها، حاولت كل شيء، لكن كل مجهود كان بلا جدوى. "لقد… ختمت مظلتي…" صرخت داخليًا، شعور بالعجز المطلق اجتاحني، شعور لم أعرفه منذ الأزل. لقد فقدت السلاح الذي يمثل كل شيء بالنسبة لي، كل قوّتي التي اعتدت عليها، كل هيبتي.
نيرو لم تتوقف هناك. تقدمّت خطوة واحدة، عينانها مشتعلة بهدوء، ووجّهت إليّ ضربة واحدة مباشرة. شعرت بالصدمة، كل جسدي ارتجف، ثم سقطت على الأرض، أكتافي تضرب الأرض بقوة، الهواء يخرج من صدري بعنف. كل شيء حولي صار مشوشًا، الزجاج المكسور، السيارات، الحطام، كل شيء يبدو بعيدًا كأنني أرى العالم من مكان آخر.
"لقد… انتهى…" تمتمت بصوت خافت، فقدان الأمل مطلق. لم أعد مجرد بابادوك المسيطر، لم أعد أعلم ما هو الحاضر، ما هو القتال، ما هو الغضب. كل شيء أصبح مجرد ألم وفقدان سيطرة.
نيرو وقفت أمامي، هادئة، ابتسامتها الباردة تخفي كل شيء، ثم همست بصوت واضح، هادئ:
"لقد حاولت… لكن الآن، انتهى الأمر."
وبضربة أخيرة، خفيفة لكنها حاسمة، أغلقت نيرو الفصل الأخير من هذا القتال. سقطت على الأرض، كل شيء في داخلي متوقف، كل شعور بالعنف والغضب والهيبة مهدور، أمام قوة نيرو المطلقة.
الشارع صار صامتًا، الغروب يختفي، وكل شيء حولنا يبدو وكأنه ينتظر النهاية.
كنتُ جالسًا على الأرض، أنفاسي متقطّعة، كل خلية في جسدي تصرخ من الألم. الضربات التي تلقيتها من نيرو لم تكن مجرد طعنات جسدية، بل كانت تمزيقًا لشيءٍ أعمق… كبريائي.
الألم الخارجي ينهشني كالحديد المشتعل، لكن الألم الداخلي… كان أضعاف ذلك.
رفعت رأسي بصعوبة، فرأيت الغروب يوشك على الانطفاء. السماء تتدرج من البرتقالي المتوهج إلى الأرجواني البارد، وكأنها تشهد نهايتي. وفي الجهة الأخرى من الشارع، لمحت أكيهيكو يركض مذعورًا نحوي، صوته محبوس في صدره، خطواته مضطربة، يحاول الوصول إليّ لكنه بدا بعيدًا، بعيدًا جدًا.
وأمام ناظري… وقفت نيرو.
هادئة. صلبة. ثابتة.
كأن القتال لم يكن سوى نزهة عابرة بالنسبة لها. لم يظهر عليها أي أثرٍ للتعب، ولا حتى رعشة صغيرة في أنفاسها.
رفعت نظرها إليّ وقالت بصوت بارد، كأنه يصدر من أعماق بحر لا نهاية له:
"هل استسلمت أيها الجن؟"
أطبقت أسناني، ثم أطلقت تنهيدة مُرة، وقلت بصدقٍ لم أعرف أنني قادر على البوح به:
"نعم."
رفعت حاجبها قليلًا، كأنها فوجئت، وقالت بهدوء:
"لم أتوقع أن تقولها… توقعت أن يغلّبك كبرياؤك."
ضحكت بمرارة، صوتي خرج مهتزًا:
"ولا أنا… لم أتوقع أن أعترف. لكن… لقد خسرت مرتين هذا اليوم. الأولى ضد لعنة من الدرجة الخاصة، والثانية الآن أمامك. ما فائدة الكبرياء؟ الكبرياء زيف… وأنا مجرّد ضعيف وسط هذا العالم المليء بالوحوش والآلهة والشياطين. ضعيف لا أكثر."
سكتُّ للحظة، وعيناي تحدقان في الأرض المتصدعة من أثر القتال. قلبي كان يغلي بالخذلان.
"لقد خذلت الجميع… كانوا يظنون أن وجودي بينهم يعني الأمان. لكن بليك كاد أن يموت بسببي، وأكيهيكو الآن مهدّد لأنني ضعيف. أنا… نكرة."
نيرو لم تهتز، لم تُبدِ أي تعاطف. وقفت أمامي كتمثال من الجليد، وقالت ببرود جارح، كأن كلماتها خناجر تُغرس في صدري:
"نعم… هذا صحيح. مجرد ضعيف يتظاهر بالقوة أمام ما لا يستطيع هزيمته."
ابتسمتُ بحزن، ابتسامة باهتة غارقة في الهزيمة. الحزن في داخلي كان يتضاعف، يلتهمني شيئًا فشيئًا، حتى كدت أذوب في ظلامه. ومع ذلك… لم أستطع إنكار أن كلماتها كانت الحقيقة.
اقتربت نيرو بخطوات بطيئة، وكلما اقتربت شعرت أن الهواء من حولي يزداد ثِقلاً. توقفت أمام وجهي مباشرة، انحنت قليلًا، ونظرت في عينيّ بتركيز كأنها تنبش أعماقي، ثم همست:
"هل تريد أن تصبح أقوى؟"
توقفت أنفاسي. جملتها اخترقتني كطُعنة جديدة. عقلي ارتبك… هل كانت تسخر؟ أم أنها تعرض شيئًا حقيقيًا؟
ارتجفت يداي، عينيّ تائهتان بين بقايا الغروب المنطفئ ووجهها البارد. داخلي كان صراعًا بين الانكسار والرغبة. كنتُ محطمًا، حزينًا، منهكًا، لكن فكرة القوة… كانت مثل خيط نجاة وسط محيط أسود.
سألتها بصوتٍ متردد، مشويّ بحرقة الهزيمة:
"كيف… يمكن أن أصبح أقوى؟"
ابتسمت، ابتسامة خفيفة بالكاد تُرى، وقالت بثقة مريبة:
"سوف أدربك. سأجعلك أقوى مما تتخيل. فنحن… نملك نفس الهدف: حماية بليك إيثر."
شعرت للحظة أن العالم توقف. كلماتها لم تكن وعدًا فقط، بل كانت قيدًا جديدًا يُلقى على قلبي. ومع ذلك… لأول مرة بعد الهزيمة، لمحت شرارة صغيرة، ضعيفة جدًا، لكنها حقيقية…
شرارة أمل.
.
كنتُ جالسًا بالكاد أستطيع رفع رأسي من شدّة الألم، والدماء تسيل من ذراعي وكتفي، وجسدي كله مليء بالكدمات والجروح. فجأة، سمعت وقع خطوات متسارعة، التفتُّ بصعوبة، فرأيت أكيهيكو يركض نحوي.
كانت عيناه متّسعتين كمن رأى شبحًا… لا، ليس شبحًا، بل شيئًا أسوأ: نيرو التي وقفت خلفي بهدوء، مغمورةً بهالةٍ باردة جعلت كل من في الشارع يبتعد دون أن يجرؤ على التنفس. وجهه كان مرعوبًا لدرجة أنّه تعثر أثناء جريه، ثم صرخ وهو يمد يده نحوي:
— "يا إلهي… بابادوك…!! هل أنت بخير؟!"
جلس بجانبي يلتقط أنفاسي، أخذ يتفحّص جسدي بارتباك:
— "كتفك… وجهك… صدرك كلّه جروح… ما هذا بحق السماء؟!"
كنتُ أشعر بثقلٍ رهيب في أطرافي، كل ضربة تلقيتها من نيرو كانت ما تزال تحترق في داخلي. جسدي مليء بالتمزقات، صدري يعلو ويهبط بصعوبة، وكأنّني في كل نفس أقاوم الموت.
وفجأة، ارتفعت يد نيرو للأعلى، ولم تقل شيئًا سوى:
— "سحر الشفاء."
انطلق من كفّها ضوءٌ أبيض ناصع، هادئ ودافئ في آنٍ واحد، التفّ حول جسدي كالشرنقة، ثم تغلغل في داخلي. شعرتُ بحرارةٍ لطيفة تجري في عروقي، كأنّ كل كسرة في عظمي تُلحم من جديد، وكل جرح في جلدي يُغلق بخيطٍ غير مرئي. الألم الذي كان ينهشني تلاشى ببطء، حتى استطعت أن أرفع نفسي واقفًا من جديد.
لم أستطع منع نفسي من التحديق فيها وأنا أقول باستغراب:
— "لماذا… شفيتني؟"
التفتت نحوي بعينيها الهادئتين، وقالت ببرودٍ لا يخلو من الجدية:
— "لأنكما ستصبحان تلمذاي… أنت وأكيهيكو."
صرخ أكيهيكو بجانبي، وهو يفتح فمه مصدومًا وكأنّه لا يصدق ما يسمع:
— "ماذااا؟!"
رفعت حاجبيّ وقلت بحدة:
— "أنا لم أقل أنني أوافق على تدريبك لي."
أجابتني نيرو، بنفس ذلك البرود الذي يخترق العظام:
— "إذن، هل تريد أن تظل ضعيفًا للأبد؟"
كلماتها كانت كسكين في صدري. ترددتُ، شعرتُ بالاختناق. كبريائي يصرخ: لا تقبلها. لكن قلبي المثقل بالهزيمة كان يقول: أنت لا تملك خيارًا. خذلتُ الجميع… خذلتُ بليك… كدتُ أضيّع أكيهيكو. كم أنا حقير.
وقبل أن أرد، رفعت نيرو يدها فجأة وقالت:
— "فتح الختم."
ومعها، ظهرت مظلتي… تلك المظلة السوداء التي فقدتها، عادت لتستقر بين يديها. اقتربت بخطواتٍ هادئة، مدّت يدها، وأعطتني إيّاها. شعرتُ بارتجافٍ يسري في أصابعي وأنا أمسك بها. الحنين، الفرح، والاستغراب اجتمعوا معًا.
قلت بجدية، بصوتٍ متعب لكنه ثابت:
— "لماذا تريدين مساعدة بليك؟ ولماذا الآن؟"
أجابت دون أي تردّد:
— "لأن بليك هو مالك الكتاب… وجده هو ثيودور إيثر."
الاسم وحده جعل قلبي يتوقف لحظة. كنتُ سأرفض، كنتُ سأبتعد. لكن فجأة سمعت صوت أكيهيكو يتدخل:
— "حسنًا… درّبينا."
استدرتُ نحوه مصدومًا:
— "أكيهيكو! ماذا تفعل؟ قد يكون هذا فخًا!"
لكنه أجاب بسرعة مذهلة، وكأنّه كان قد جهّز ردّه مسبقًا:
— "ولماذا نحتاج لأن نفكر في ذلك؟ إن كانت تريد قتلنا… لفعلت منذ زمن. لقد حطمتك بسهولة يا بابادوك… لا تنكر."
شعرتُ بحرارة الغضب، لكن كلماته اخترقتني. أكمل وهو يضغط قبضته:
— "أنا شخص ضعيف… جبان… لكنّي أقسمت أنني لن أظل هكذا. وعدتُ نفسي أن أصبح أقوى، أن أكون سندًا لبليك حين يحتاجني. هذه فرصتنا الوحيدة… ولن أهدرها."
كنتُ أستمع إليهما، لكن في داخلي معركة أخرى تدور. هل هي صادقة؟ هل حقًا تريد مساعدتنا؟ أم أنّها لعبة أكبر؟
كل جرحٍ في جسدي كان يذكّرني أنني لا أملك رفاهية الشك.
أغمضتُ عيني، تنفّستُ بعمق، ثم قلت أخيرًا بصوتٍ حازم:
— "حسنا… أرجوكِ، درّبينا."
وهنا، ابتسمت نيرو ابتسامة باهتة… ابتسامة لم أرها من قبل.
وقفتُ على قدمي بصعوبة، بينما كان أكيهيكو يساعدني على التوازن، يثبت كتفي ويشد ذراعي على جانبي. كل حركة كانت تؤلمني، وكل نفس يذكّرني بمدى ضعف جسدي بعد القتال. أمامنا الشارع، الذي كان قبل لحظات ساحة حرب، بدأ يتغير بطريقة ساحرة.
نيرو مشيت أمامنا بخطوات هادئة، وعيناها مركّزتان على كل زاوية وكل ركن، ويدهها تتحرك بخفة، كأنها تمسّ الهواء فقط. مع كل حركة، تلاشى الدمار من حولنا؛ الزجاج المكسور، السيارات المتضررة، الجدران المحطمة، حتى الأرض المتصدعة أعيدت كما لو لم يحدث شيء. لم يكن هذا مجرد تنظيف سطحي، بل شعرتُ أن ذكريات الناس عن الفوضى، عن الخوف الذي شاهده المارة، تتلاشى أيضًا. كل من كان يشاهدنا، كانت صورته في ذاكرتهم تُطمس، وكأن الأحداث الخارقة لم تقع أبدًا.
قالت نيرو بصوتها البارد المتساوي النبرة:
— "هيا، فلننتقل من هنا."
تبعناها، أنا وأكيهيكو، وكل خطوة كانت صعبة عليّ، لكنني حاولت أن أتماسك. أكيهيكو، الذي بدا مندهشًا، لم يتوقف عن الملاحظة:
— "إلى أين سأذهب؟"
أجابته نيرو ببساطة:
— "سوف ترى."
حدقت إليها بدهشة، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، صغيرة، جسدها هزيل، ومع ذلك تمتلك قوة خارقة لا يمكن وصفها، وقرون صغيرة فوق رأسها تلمع بوهج غريب، وكأنها تلمح إلى شيء غامض.
فجأة، كسر أكيهيكو الصمت وسألها السؤال الذي كنت عاجزًا عن طرحه:
— "إذن يا نيرو، هل أنت ساحرة؟"
ابتسمت بابتسامة باردة، دون أن تتردد:
— "نعم. أنا ساحرة مختصة في الختم."
نظر أكيهيكو بفضول إلى قرونها الصغيرة:
— "و تلك القرون الصغيرة… ما هي؟"
أجابته ببرود:
— "إنه مجرد شيء حصلت عليه في الماضي البعيد."
ثم تابع أكيهيكو بسؤال آخر:
— "مممم… وكيف تتحولين إلى عصفور؟"
ردت نيرو دون تردد:
— "إنها قدرة خاصة."
ثم لمحتني أراقب الحوار بينهما، ولمحت السؤال التالي في فمه قبل أن تنهيه، فقالت:
— "و بالنسبة إلى قدراتك القتالية العالية، تعاقدت مع الأرواح الصغيرة."
حاول أكيهيكو أن يسأل المزيد، لكن نيرو رفعت إصبعها، وقالت له بحزم:
— "يا فتى، أنت تسأل الكثير من الأسئلة… فقط اصمت."
نظرت إلى أكيهيكو بدهشة. كيف يمكن له أن يتحدث معها بهذه الطريقة الطبيعية، وكأن كل ما رأاه من قوة خارقة أمامه كان أمراً عاديًا؟
شعرت بمزيج من الإعجاب والريبة، وأنا أمسك بمظلتي وأتبعها خطوة خطوة، أراقب كل حركة منها وكل لمسة لسحرها، وأنا أحاول أن أستوعب أنني، على الرغم من كل هزيمتي، ما زلت أقف بجانب شخص يمتلك القدرة على تغيير الواقع حوله بكبسة إصبع.
وقفتُ أنا وأكيهيكو أمام بوابة المدرسة، وأنا أشعر بالارتباك والدهشة، بينما أميّز التفاصيل التي لم أتوقعها لحظة وصولنا. كانت مدرسة شيشتورين، مكان تعليمي على ما يبدو من الخارج، لكنها في الحقيقة قد تحوّلت إلى معقل عصابات "بوفورين"، التحالف الجديد بين عصابة هاروكا وعصابة أونيزوكا.
واجهة المدرسة كانت قديمة، جدرانها مغطاة برسومات غريبة ورموز تحذيرية، النوافذ الكبيرة محمية بشبكات حديدية، والأبواب الرئيسية مشدودة بأقفال معقدة تحمل علامات غير مفهومة. الشارع المحيط بها شبه مهجور، لكن الجو كان يحمل رائحة القوة والتوتر، وكأن المكان نفسه يهمس بتحذير صامت.
أكيهيكو كان مذهولًا، عينيه تتسعان وهو ينظر حوله:
— "لم أتوقع أن نصل إلى هنا… هذه المدرسة… لم أكن أظن أبداً…"
وأنا، على الرغم من كل ما مررت به، شعرت ببرودة في ظهري. شيئًا ما في هذا المكان يثير الرهبة، ليس فقط كونه معقلاً للعصابات، بل لوجود قوة محشورة في كل زاوية من زواياه.
التفتُّ إلى نيرو وسألتها:
— "مممم… نيرو، ماذا نفعل هنا؟"
أجابت بهدوء مطلق:
— "نحتاج إلى أشخاص أقوياء."
تعجبت أكثر وقلت:
— "ماذا تعني؟"
نظرت لنا بنظرتها المعتادة الباردة، ثم فتحت باب المدرسة بسلاسة وكأنها تتحرك في منزلها الخاص، ودفعتنا للدخول. عندها اكتشفنا الحقيقة الصادمة: الداخل لم يكن مدرسة إطلاقًا، بل كان مستودعًا ضخمًا للعصابة، مليئًا بالأشخاص، الأسلحة، والآلات الغريبة.
الصف الثالث تحوّل إلى قاعة ضخمة، جدرانها مغطاة بالشعارات الرمزية لكل عصابة، الأرضية كانت متسخة بالدم والرماد من معارك سابقة، والطاولات والكراسي متناثرة بشكل غير مرتب، كأن المعركة والاحتفال تواصلا بلا توقف.
كان أونيزوكا يجلس على كرسي كبير في وسط القاعة، محاطًا بعدد من كبار أفراد العصابة، بينما هاروكا يقف بجانبه مبتسمًا بطريقة متفاخرة، يراقبنا بعينين لامعتين من فرح المفاجأة. بقية الأعضاء كانوا منشغلين بتبادل الضحكات، تصويب الأسلحة، وحتى رقصات احتفالية غريبة على وقع موسيقى غير مفهومة.
صُدمنا، أنا وأكيهيكو، من الفرح والمفاجأة في نفس الوقت، لم نكن نتوقع أن يلتقينا هنا بهذه الطريقة، وسط هذا المكان الذي كان أشبه بمعقل حرب أكثر من كونه مدرسة.
أكيهيكو همس لي، صوته يمزج بين الحيرة والإثارة:
— "بابادوك… لم أتوقع أبدًا أن نرى الجميع هنا… كل هذا… كل هؤلاء…"
ابتسمتُ بتوتر، وأنا أحاول استيعاب ما يحدث، أراقب نيرو وهي تقف أمامنا، هادئة كما اعتدنا، وكأنها تعرف بالضبط ما علينا فعله وسط هذا الجنون من الفوضى والقوة.
دخلنا الصف الثالث، وعيوني تتفحّص المكان ببطء، كل زاوية تنضح بالقوة والفوضى المنظمة في آن واحد. أونيزوكا يجلس على كرسيه الكبير كحاكم مطلق، بينما هاروكا يقف بجانبه بابتسامة متفاخرة، تملؤها التحديات غير المعلنة. بقية أفراد العصابة كانوا يتوقفون فجأة عن أي حركة، كل نظرة تتوجه نحونا، صمت ثقيل يسبق الصخب.
ثم بدأ الترحيب:
— "بابادوك!" صرخ أحدهم بحماس واضح، وهو يلوّح بيده، يليه تصفيق من آخرين.
— "وأكيهيكو!" جاء الرد جماعيًا، لكن بصوت أقل حدة، كما لو أن خجل أكيهيكو كان معديًا.
شعرت بفخامة غريبة تتسلل داخليًا، كأن كل هذا الحماس موجه لي وحدي، بينما أركان هذا المعقل المحاط بالقوة تهمس باسمي. نيرو تقف بجانبي، هادئة، باردة، تراقب المشهد بلا أي تعبير، لكنها تلتقط كل التفاصيل، كل حركة، كل نظرة، وكأنها تحلل كل شيء بسرعة خاطفة.
أكيهيكو كان يختبئ قليلاً خلفي، وجهه محمر من خجل مفاجئ وسط هذا الترحيب الكبير. يحاول أن يبتسم، لكن عينيه تقولان كل شيء: "كيف حدث كل هذا؟ أنا لست مستعدًا!"
أنا، بابادوك، أرفع ذقني قليلاً، أستشعر الحضور، القوة، التفوق الذي شعرت به منذ بداياتي. لقد مررت بالكثير، لكن هذا المشهد يجعلني أدرك أنني ما زلت مصدر اهتمام، مصدر إلهام—حتى لو لم أشعر بالاستحقاق الكامل لذلك بعد المعركة مع نيرو.
بدأ القادة يقتربون واحدًا تلو الآخر، كل واحد يحمل شخصيته الفريدة:
— أونيزوكا بابتسامة نصف مخادعة، قائلاً: "أهلاً بكم من جديد. يبدو أن المدينة ستستعيد توازنها… أو ما شابه."
— هاروكا يضيف بصوت ساخر: "وأنت، بابادوك… لم أتوقع أن أراك هنا، وقد تغيرت قليلاً منذ آخر مرة."
نيرو تقف بجانبي، هادئة، لا تتفاعل مع الترحيب، لكن عينيها الثاقبتين تتابع كل حركة في القاعة. ملامحها تعكس استغرابها من حجم القوة المحشورة هنا، لكنها لا تظهر أي رد فعل عاطفي.
— "هيا، لنقف جميعًا ونتحدث قليلًا…" قلت لنفسي، محاولًا كبح فخامة اللحظة، بينما أكيهيكو يهمس بخجل: "بابادوك… أشعر وكأنني في حلم…"
ابتسمتُ له بخفة، ثم نظرت إلى نيرو، مدهوشًا من برودها وثباتها وسط هذه الفوضى. شعرت أن وجودها هنا هو توازن غريب—قوة هائلة محايدة، تقف صامتة، تراقب كل شيء دون أن تُشعر أحدًا بالخوف.
كان الجو مشحونًا بالحماس، بالغموض، وبفرصة نادرة للتعاون. شعرت أن هذا اللقاء ليس مجرد اجتماع، بل بداية فصل جديد من القوة والتحالفات، بينما كل واحد منا—أنا، أكيهيكو، ونيرو—يبدأ في إدراك حجم التحدي القادم.
دخلنا القاعة، وبدأت الأجواء تمتلئ بالحماس والدهشة في الوقت نفسه. نظرات كل فرد من أفراد العصابة كانت تتنقل بين بابادوك وأكيهيكو، بعضهم مبتسم، بعضهم متفاجئ، وبعضهم لا يصدق ما يراه. تومياما اقترب مني وهو يبتسم قائلاً بصوت عالٍ: "بابادوك، لم أكن أظن أن أراك هنا بعد القتال الأخير! كانت مواجهة مذهلة." أجبته بهدوء، محاولًا أن أحافظ على كبريائي: "لقد كانت مواجهة صعبة، لكننا هنا الآن." بجانبه، تايشي نظر إلى أكيهيكو وقال بحماس: "أكيهيكو، لم أصدق أنك تطورت هكذا منذ المرة الماضية." أكيهيكو ابتسم بتردد، الخجل ما زال يسيطر عليه رغم الحماس الذي يملأه.
توباكينو اقترب مني وقال بسخرية: "أرى أنك ما زلت تحاول استعراض قوتك." ابتسمت برد هادئ: "ما زال الطريق طويل." إيندو جاء نحو أكيهيكو وقال له: "لا تقلق، سنتعاون معك اليوم، ستكون أقوى مما تتصور." كان ذلك مريحًا له، فأخذ يبتسم قليلاً، بينما توغامي اقترب مني وأضاف: "هذا هو المكان الذي ستثبت فيه نفسك، بابادوك. هنا لا مجال للضعف."
تسوباكي، كما توقع الجميع، كانت عديمة الفائدة هذه المرة، فتلقى تحذيرًا خفيفًا على شكل ضربة، والجميع كانوا يراقبون بدهشة. كيريو اقترب مني وقال بابتسامة مشحونة بالتحدي: "اليوم لن يرحمك أحد." كنت أبتسم برد هادئ، أظهر بعض الكبرياء رغم التعب. نيي تقدم نحو أكيهيكو وقال له: "أنا معك، لا تخف." أوميميا أبدت إعجابها بي وقالت: "بابادوك، لقد تغيرت، لكني أحب طريقتك في مواجهة الصعوبات."
كاجي وضع يده على كتف أكيهيكو وقال: "اليوم ستثبت نفسك." سوجيشيتا اقترب مني وهو يبتسم وقال: "بابادوك، قوتك أكبر مما تتصور." تسوغورا تذكر قتال المرة الماضية وقال لأكيهيكو: "اليوم لن تتكرر نفس الأخطاء." توميهيرو وقف متأملاً وجهي، يرتجف من الخوف: "بابادوك… أنت… مختلف." هاروكا وتوراكو ابتسموا لنا، وكانت فرحة أكيهيكو واضحة عند رؤية توراكو مرة أخرى.
وفجأة استدار الجميع باتجاه نيرو، نظراتهم مليئة بالدهشة. كانت واقفة هادئة، جمالها يتألق تحت ضوء الغروب الباردقالي، وحركاتها البسيطة تثير احترام الجميع. بدأ البعض يتهامسون عن مظهرها وجمالها، لكن أونيزوكا رفع صوته فجأة: "توقفوا عن هذا! إنها صديقة بابادوك وأكيهيكو!" عمّ الصمت للحظة، وشعر الجميع بالحرج.
وقف أونيزوكا أمام نيرو، الطول الكبير بينهما جعل المشهد غريبًا، ثم أخذ وضعية تقدم ، أمسك يدها وقال: "هل تقبلين الزواج بي؟" ساد الصمت القاعة كلها، العيون اتسعت من المفاجأة، والابتسامات المندفعة من العصابة تحولت إلى صمت متحفظ. نيرو نظرت إليه ببرود كامل وأجابت بهدوء: "لا." تراجع أونيزوكا قليلاً، حزين، وضع يده على قلبه وتنهد، بينما العصابة كلها لم تستطع كبح ضحكاتها المكتومة.
كنت أنا وأكيهيكو ننظر إليها، نيرو لا تبدي أي شعور، برودها ثابت كما هو، بينما شعرت بالدهشة من تصرف أونيزوكا الغريب. أكيهيكو بدا مرتبكًا لكنه مستمتع بالمشهد، بينما أنا أحاول أن أحافظ على هدوئي وكبريائي وسط هذا الخليط من الضحك والدهشة والإعجاب.
عاد الجميع إلى أماكنهم بإشارة من أونيزوكا، تاركين أمامنا فقط أونيزوكا نفسه، هاروكا، وتوراكو. الجو كان مشحوناً بمزيج من الفضول والترقب، وأنا وأكيهيكو نحاول الحفاظ على هدوئنا بينما ننتظر السؤال الذي سيأتي بلا شك عن بليك. هاروكا تقدّم خطوة، نظر إلينا بجدية وسأل: "إذن، أين هو بليك؟ ما أخباره؟"
شعرت بالضغط يتصاعد داخلي، وبدأت أبحث عن كذبة مناسبة لتغطية حقيقة السحر والتدريب الذي جرى، فقلت بسرعة: "إنه… ذهب في رحلة."
"رحلة؟" تردد هاروكا بدهشة واضحة.
"نعم، رحلة، وسوف يستغرق بعض الوقت للعودة."
أخذ أونيزوكا نفساً عميقاً وهو يشعل سيجارته، ثم تدخل قائلاً بصوت مشكك: "كيف يمكن أن يذهب في رحلة وهو عنده مدرسة غداً؟"
أخذت أتلعثم، أبحث عن تفسير آخر، لكن فجأة أكمل أونيزوكا بابتسامة عريضة وكأنه فهم كل شيء: "آه، فهمت!"
"ممممم، ماذا فهمت؟!"
"لا بد أنه ذهب مع حبيبته السرية في رحلة… آخخخ، يا للمخضوض، يحصل على حبيبة مراهقة ويستمتع معها… آه، حلم حياتي!"
تنفست بعمق داخلي، محظوظ أن أونيزوكا فكر بنفسه ولم أضطر حتى لتأليف كذبة جديدة للتغطية على بليك. أومأت برأس الموافقة وقالت نيرو بهدوء: "اممم، نعم، نعم، ذهب مع حبيبته."
ابتسمت لنفسي، وأخذت أراقب أونيزوكا وهو يكمل كلامه بطريقة طبيعية وكأنه جزء من حياته اليومية: "حسناً، بما أنه مستمتع، سأحاول في الأيام القادمة أن أضعه في قائمة الحاضرين في الصف بحيث لا يلاحظ المدراء غيابه."
أومأت له بتقدير، وقلت بصوت منخفض داخلي: "حقاً، أونيزوكا سيكون عوناً عظيماً." شعرت بثقة غريبة تتسلل إليّ، وكأننا نمتلك الآن حليفاً يمكن الاعتماد عليه في الأيام القادمة، بينما نيرو تقف بجانبي، باردة وهادئة كما هي، تراقب كل التفاصيل بلا تعليق، وكأنها كانت تعرف بالضبط ما سيقوله أونيزوكا قبل أن ينطق به.
كانت تلك اللحظة صغيرة لكنها مليئة بالطمأنينة، شعور بأن الأمور يمكن أن تمضي للأفضل، وأننا لن نكون وحدنا في مواجهة التحديات القادمة.
نظرت إلى نيرو بهدوء، وعيناي تلتقيان بعينيها الباردتين التي لا تكشف شيئاً، وقلت بصوت حاد قليلًا، محاولاً التحكم في غضبي الداخلي وحيرتي:
"إذن… لماذا أحضرتنا إلى هنا؟"
ابتسمت ابتسامة بسيطة، هادئة بشكل مخيف، وردت بصوت منخفض ومسيطر:
"سوف تتدربون هنا. ستقوون قدراتكم الجسدية عن طريق قتالهم."
شعرت بصدمة خفيفة تتسرب إلى صدري. رفعت حاجبي واستنكرته، محاولاً فهم ما قصدته:
"ماذا؟! لكنهم بشر طبيعيون… ظننت أننا سوف نتعلم التعويذة والسحر أو ما شائع!"
أومأت نيرو برأسها بتؤدة، وكأنها لا تكترث لصدمتي، وقالت ببرود:
"قوي جسدك أولاً، وتدرب معهم، وتعلم أن تثق بقوتك."
تنهدت ببطء، شعور بالإرهاق والارتباك يملأ صدري، وقلت بصوت خافت، لكنني كنت أسمع كل كلمة وكأنها تثقل قلبي:
"حسناً…"
في داخلي، شعرت بمزيج من المشاعر المتضاربة: شعور بالإحباط لأن التدريب لم يكن ما توقعته، شعور بالخوف من أن أكون ضعيفاً أمام هؤلاء البشر العاديين، وشيء من الغضب على نفسي لعدم قدرتي على المقاومة بشكل أفضل، وحتى شيء من الفضول الخفي تجاه ما يمكن أن يحدث. كانت مشاعري مختلطة، غير مهمة، لكنها حقيقية، وكانت تثقل خطواتي الأولى نحو هذا التدريب الجديد.
[منظور بليك]
استيقظت فجأة من قيلولتي بجانب البحيرة، شعور بالكسل والراحة يتناوبان في داخلي، وفجأة شعرت بصفعة خفيفة على جبهتي. رفعت يدي لألمس وجهي، فإذا بمونو تنظر إلي بعينين صارمتين وابتسامة صغيرة على وجهها.
"هاه! ما هذه الطريقة لإيقاظ شخص بالغ من النوم؟" قلت وأنا أحاول التظاهر بالغضب.
مونو رفعت حاجبها وقالت بنبرة عتاب:
"أوه، هل أنت جاد؟ لم ترد أن تستيقظ؟ حاولت أن أكون لطيفة، لكن يبدو أنك بحاجة لقليل من العنف!"
ضحكت بصوت منخفض، وأردفت:
"حسناً… ربما كنت بحاجة لهذا."
ثم تنهدت وقالت بجدية:
"حسناً، ما هو التدريب التالي الآن؟"
ابتسمت بفرح متفجر عندما أجابت مونو:
"تدريب التالي؟ اليوم سنأخذ راحة كاملة."
"فعلاًاااااا!" صرخت بفرحة كطفل صغير، وكأنني اكتشفت كنزاً مخفياً. شعرت أن كل التعب من الأيام الماضية يذوب في هذه اللحظة.
خرج ويش، كرة النور الصغيرة، من يد مونو، وبدأت تلتف حولنا بعشوائية. شعرت بالغضب يتصاعد بداخلي بسبب ما سببه لي ويش من حروق صغيرة خلال الأيام الماضية، وضربته بعصبية بيدي محاولة إخافته.
مونو بدأت تطير فوق البحيرة، تتوهج في الهواء، تتحرك بخفة وسرعة، محدثة دوامة من النسيم خلفها، ثم فتحت فجأة بوابة مكانية ذهبية اللون أمامها. أدركت أن رحيلها لن يقتصر على مجرد التحليق، بل ستنتقل إلى مكان آخر. دخلت البوابة، والهواء يتلاعب بالماء حولي، والغيوم الخفيفة تعكس لون السماء، بينما شعرت بالغضب يزداد بسبب ويش، الذي كان يلتف حول مونو دون اكتراث.
صرخت محاولاً جذب انتباهها:
"هاي! إلى أين أنتم ذاهبون؟!"
ابتسمت مونو بطريقة ماكرة، ونادت من بعيد:
"لا تقلق، سأعود عند الغروب. اليوم سأفعل ما أشاء!"
لكن مونو اختفت في لحظة عبر البوابة، تاركة وراءها آثار ضوء ودوامة من النسيم والماء.
[منظور اكيهيكو]
وصل أفق القمر وهو ينعكس على الأسطح المحيطة، وكان شعور الإثارة والخوف يتشابكان بداخلي وأنا أستعد لأول تدريب حقيقي. كنت واقفًا على أرضية المدرسة، الآن أكثر شبهاً بساحة تدريب كبيرة، حيث كانت القمر يشع خلف الأسوار العالية، مانحة المكان هالة غريبة من الجدية والتحدي.
هاروكا وقف أمامي بهدوء، يراقب كل حركة مني بعينين حادتين، وابتسامته الصغيرة تختفي عند النظر مباشرة إلى وجهي المرتجف قليلًا من التوتر.
قلت لنفسي: حسناً، لا مجال للارتباك، ركز فقط… ركز…
تحرك هاروكا بسرعة خارقة، خطوة واحدة وأصبحت أمامي، لا أعلم كيف استطاع أن يتنقل بهذه السرعة وكأن الأرض تختفي من تحت قدمي. رفع يده وأرسل ضربة مباشرة إلى صدري. حاولت الدفاع عنها، لكن القوة كانت هائلة، ولم أستطع الصمود، وارتطمت بجدار بعيد على بعد أمتار، بينما شعرت بكل عضلاتي ترتجف من الصدمة، ودوار خفيف يسيطر على رأسي.
نهضت وأنا ألوح بذراعي، أحاول التركيز على حركاته، لكن كل ضربة كانت تتفوق على كل توقعاتي. كانت حركاته سلسة وهادئة، وكأن كل خطوة محسوبة، وكل لكمة مدروسة لإظهار ضعف نقاطي.
حاولت أن أتذكر تدريباتنا النظرية، وقلبي ينبض بعنف: حرك يديك بشكل أسرع، اجعل قدميك أخف، حاول أن تتوقع حركته… لكن هاروكا كان دائمًا أسرع، كل خطوة له كانت تقطع المسافة بيننا في لحظة، كل ضربة له كانت تهز ثقتي بالنفس.
بدأت أصاب بالإحباط، وبدأت أفكر بصوت داخلي: لماذا كل شيء خاطئ؟ لماذا كل حركة لي خاطئة؟ أنا لا أستطيع، لا أستطيع… تعابير وجهي ربما كانت تظهر القلق والخوف، بينما هاروكا وقف مبتسمًا، محاولاً أن يعلمني الصبر والتركيز:
"ركز على حركتك، لا تحاول أن تكون قوياً بالقوة فقط، استخدم عقلك."
حاولت مجددًا، وهاجمته بضربة سريعة إلى جانبه، لكنه تفادى بسهولة، خطواته كانت خفيفة، جسده يحرك نفسه بطريقة سلسة وغير متوقعة، حتى عندما حاولت الالتفاف خلفه، كان يتحرك بطريقة تجعلك تشعر بأنك تخاطر أكثر كل ثانية.
سقطت مرة أخرى على الأرض بعد محاولة أخرى فاشلة، شعوري بالفشل كان يملأني من كل جانب، ووجهي متعب ومبلل بالعرق، بينما هاروكا ينظر إلي ببرود وحذر، وكأنه يريدني أن أفهم أن التعلم ليس في النصر، بل في الاستمرار بعد كل سقوط.
قال لي بنبرة هادئة:
"كل حركة خاطئة هي درس. كل ضربة تُوجه لك تعلمك شيئاً عن نفسك وعن خصمك. لا تيأس."
أومأت برأسي ببطء، وأنا أحاول استجماع قوتي، قلبي ينبض بعنف، وكل شيء بدا وكأنه صراع داخلي أكبر من مجرد تدريب جسدي. كانت كل حركة مني تتطلب كل تركيزي، وكل ضربة مني أختبر صلابتي الداخلية، وكنت أشعر بالغضب من نفسي، والخوف من فشلي، ولكن شيئًا داخلي دفعني للاستمرار، حتى لو كنت أتعثر مرة بعد أخرى.
هاروكا ابتسم وقال:
"ابدأ من جديد. لا تقلق بشأن الفشل، ركز على فهم حركتي، وحركتك ستكون أقوى."
وبهذه الكلمات، شعرت ببصيص أمل صغير، شعور بأن التدريب لن يكون سهلاً أبدًا، لكنه الطريق الوحيد لأصبح أقوى.
كانت أنفاسي تتسارع، صدري يرتفع وينخفض بعنف مع كل محاولة فاشلة لصد هاروكا. شعرت أن جسدي أصبح مجرد كيس ملاكمة له. نظراته لم تتغير، لا غضب ولا شفقة، فقط تلك العينان الحادتان المليئتان بالتركيز.
هذه المرة لم يكن يضربني بخفة أو تعليم فقط… لا، لقد كان التدريب أشبه بمعركة حقيقية. قبضته اصطدمت بكتفي بقوة جعلتني أصرخ من الألم وأسقط على ركبتي. حاولت النهوض، لكن قدمه دفعتني من صدري وأسقطتني مجددًا أرضًا.
صرخت بداخلي: لماذا بهذه القسوة؟ هل هذا حقًا تدريب؟ أم أنه يريد تحطيمي؟
التفت نحوي، وملامحه جادة وهو يقول:
"لن تصبح قويًا إذا واصلت السقوط هكذا. انهض! انهض وقاتل، أظهر أنك تريد أن تتعلم!"
جمعت ما تبقى من قوتي، ووقفت مترنحًا. قبضتي المرتجفة حاولت توجيه ضربة نحو وجهه، لكنه تفاداها بسهولة، وأمسك بذراعي ثم رماني أرضًا بقسوة جعلت الهواء يخرج من صدري. شعرت وكأن عظامي تتفتت.
بدأ الغضب يمتزج مع الإحباط بداخلي، وصرخت بضعف وأنا أرفع رأسي:
"أنا… أحاول…!"
لكن هاروكا لم يتوقف. اندفع نحوي مرة أخرى، ووجه لكمة قوية كادت تصيب وجهي مباشرة لولا أن صوتًا حادًا شق الجو:
"توقف حالًا، هاروكا!"
جمد جسده في اللحظة الأخيرة، والقبضة توقفت على بعد سنتيمترات من وجهي. عيناي التقت بعينيها… توراكو. كانت تقف هناك، شعرها يتطاير مع نسيم الغروب، وعيناها مشتعلة بالغضب.
قالت بحدة وهي تقترب بخطوات سريعة:
"ألا ترى ما تفعله؟ إنه مجرد تدريب، لا ساحة قتال! سوف تحطمه بهذا الشكل!"
تجمد هاروكا، ثم تنهد ببطء وأبعد يده عني، وملامحه لا تزال هادئة لكنه بدا وكأنه شعر بالذنب قليلًا.
"لم أقصد… كنت فقط أحاول أن أجعله يدرك ضعفه بسرعة."
توراكو وقفت أمامي، كأنها حاجز يمنع أي ضربة أخرى. رفعت حاجبها ونظرت إليه باستهزاء:
"إدراك الضعف لا يعني تدمير من تريد تدريبه. إن كان هذا أسلوبك، فسوف أتولى تدريبه بنفسي."
نظرت إليها بدهشة، بينما الألم يمزق جسدي، لكن شيئًا داخلي شعر بالراحة. لم تكن كلماتها مجرد دفاع عني، بل كانت وعدًا بأنني لن أُترك وحدي وسط هذا الجحيم.
هاروكا التفت بعيدًا، ثم قال بنبرة محايدة:
"افعلي ما تشائين، لكن لا تظني أن التدريب سيكون سهلًا فقط لأنك ترأفين بحاله."
ابتسمت توراكو بثقة، ثم مدت يدها وساعدتني على النهوض. همست لي بصوت منخفض لكنه ثابت:
"لا تقلق، سأكون أنا مدربتك من الآن. سوف أريك كيف تقاتل بطريقة تفهمها، لا بطريقة تحطمك."
رفعت رأسي نحوها، ورغم التعب الذي يغمرني، وجدت نفسي أبتسم ابتسامة ضعيفة… ابتسامة شخص وجد الأمل وسط الألم.
رفعتني توراكو من على الأرض بسهولة، وكأنني مجرد طفل، فيما كانت آثار الألم لا تزال تعصف بكل جزء من جسدي. وقفت أمامي بخطوات ثابتة، نظراتها تحمل شيئًا غريبًا… مزيج من القوة والثقة، لكن أيضًا دفء لم أجده في أسلوب هاروكا.
قالت بابتسامة خفيفة:
"حسنًا، لنبدأ التدريب. لا تقلق، لن أرميك أرضًا في كل مرة تحاول فيها التحرك."
ابتلعت ريقي بتوتر. كنت أعرف أنها جادة، لكن وجودها أمامي بتلك المسافة القصيرة جعل قلبي يخفق بسرعة غريبة. القتال معها يعني الالتصاق بها… ملامسة يدها، كتفها، وربما أكثر…
رفعت قبضتي مترددًا، وأخذت وضعية دفاعية ضعيفة. لاحظت توراكو ذلك، فرفعت حاجبها بخفة وسألت بنبرة مستغربة:
"ما بك؟ لماذا تتراجع هكذا؟ اقترب. يجب أن تواجهني، لا أن تبتعد عني."
خطوت خطوة صغيرة نحوها، لكن جسدي تجمد. عيناي تهربان من عينيها، وكل مرة أقترب أشعر بتيار كهربائي يمر في داخلي.
تحركت توراكو بسرعة، وأمسكت بذراعي محاولة أن تجرني نحوها. جسدي تيبس فورًا، وكأنني فقدت السيطرة على نفسي. تركتني وهي تحدق بي بجدية أكبر:
"أكيهيكو… هل تتهرب مني؟"
أخفضت رأسي بخجل، محاولًا ألا أجيب. شعرت أن الدم يغمر وجهي. لو قلت لها الحقيقة… أنها تجعلني متوترًا فقط لأنها فتاة تقف قريبة جدًا… ستسخر مني بالتأكيد.
لكن صمتها طال. نظرت إليها بسرعة، فرأيت ملامحها وقد تغيرت. تلك الابتسامة الخفيفة اختفت، وحلت محلها نظرة حزينة، عيناها انخفضتا قليلًا وهي تهمس بصوت مكسور:
"أفهم… إذن، أنت تكره أن تتدرب معي."
تجمدت الكلمات في صدري. ماذا؟! لا، هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة!
أسرعت أرفع رأسي، وقلت بصوت مرتجف:
"لا! لا، الأمر ليس كذلك أبدًا! أنا… أنا فقط…"
ترددت لحظة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وأطلقت الحقيقة:
"أنا فقط أشعر بالخجل عندما أقترب منك. ليس لأنني أكرهك… بل لأنك فتاة، وأنا… لا أعرف كيف أتصرف أمامك."
تسمرت توراكو مكانها للحظة، ثم فتحت عينيها بدهشة، وصمتت كأنها تحاول استيعاب ما قلته للتو. وبعد ثوانٍ قصيرة، انفجرت ضحكة خفيفة من شفتيها، ضحكة لم تكن ساخرة بل دافئة، جعلتني أشعر بحرارة غريبة في صدري.
قالت وهي تبتسم لي:
"هذا كل شيء؟ يا لك من أحمق."
اقتربت أكثر بخطوات بطيئة حتى لم يعد هناك سوى بضع سنتيمترات تفصلنا، ثم وضعت يدها بخفة على كتفي، نظراتها مليئة بالاطمئنان:
"إذن اسمعني جيدًا… لا بأس أن تخجل. لكن لا تجعل ذلك يمنعك من التعلم. أنا هنا لأساعدك، لا لأؤذيك أو أضعك في موقف محرج. لذا، لا تبتعد عني وكأنني عدوك، مفهوم؟"
شعرت بوجهي يحترق أكثر، لكن هذه المرة لم يكن من الخوف أو الارتباك… بل من شيء أعمق، خليط من الاحترام والامتنان وربما شيء آخر لم أجرؤ على تسميته بعد.
أومأت برأسي بقوة، وقلت بصوت جاد هذه المرة:
"مفهوم. لن أتهرب بعد الآن."
ابتسمت توراكو ابتسامة واسعة، ثم ابتعدت نصف خطوة للخلف، ورفعت قبضتها قائلة:
"جيد. إذن لنبدأ التدريب مجددًا… وهذه المرة، لا أعذار."
وقفت في مواجهتها، شعوري بالخجل لم يختفِ، لكنه امتزج مع عزيمة جديدة. هذه المرة لم أرها فقط كفتاة تربكني… بل كمدربة، ورفيقة.
بدأنا التدريب فعليًا. توراكو اتخذت وضعية قتالية مرنة، بينما كنتُ أحاول أن أقلدها قدر ما أستطيع. لكن كل مرة تقترب مني لتعدل وضعيتي، أشعر بجسدي يتجمد وكأن العالم يتوقف لجزء من الثانية.
وضعت يدها على مرفقي لتصححه:
"ارفعه أكثر… لا، ليس هكذا. اجعله قريبًا من صدرك، كي لا تترك فراغًا في دفاعك."
شعرت بلمستها تخترقني كما لو أنها صعقة كهربائية، وخجلت حتى كدت أن أسحب ذراعي بعيدًا… لكنني تماسكت. لا. هذه ليست لحظة ضعف. إن ابتعدت الآن سأبدو طفلًا… يجب أن أتحمل.
أخذتُ نفسًا عميقًا، وأجبرت نفسي على التركيز في كلماتها، لا في قربها.
انتقلت لتعدل قدمي:
"انظر… وزنك كله على القدم الخلفية. وزّنه بين الاثنين. هكذا ستتمكن من المناورة بسرعة أكبر."
جثت على ركبة واحدة لتشير إلى موضع قدمي، ووجدت نفسي فجأة مضطرًا للالتصاق بها أكثر مما أتحمل. قلبي ارتفع نبضه بشكل جنوني، لكنني لم أتحرك.
"مفهوم…" تمتمت بصوت شبه مبحوح.
رفعت رأسها نحوي بابتسامة راضية:
"أحسنت، هذا أفضل."
بدأت بعدها بالهجوم الخفيف، رميات يد سريعة لتدربني على الصد. في البداية ارتبكت، وكنت أتراجع خطوة مع كل ضربة. لكن توراكو لم ترحمني:
"لا تتراجع! واجهني، أكيهيكو!"
صرخت كلماتها وكأنها صفعة أيقظتني. ثبت قدمي في الأرض، رفعت ذراعي كما علمتني، وصدّيت ضربتها للمرة الأولى.
ابتسمت ابتسامة عريضة، ابتسامة فخر واضحة، وقالت بحماس:
"هذا هو! جيد جدًا!"
شعرت بتيار دفء يجتاحني. لم أعد أفكر في الخجل بنفس القوة، بل في إحساس جديد… الإحساس بأنني قادر على التقدم.
واصلنا التدريب: ضربة، صد، حركة جانبية، هجوم معاكس. كانت تقترب كثيرًا أحيانًا، حتى يكاد شعرها يلامس وجهي، وكنت أشعر بوجهي يشتعل خجلًا. لكن هذه المرة، لم أهرب من قربها. تعلمت كيف أركز على القتال نفسه، على الإيقاع السريع بيننا، على النبض الذي يتسارع ليس فقط من الحرج بل من الحماسة.
وفي لحظة نجاح نادرة، وجهت ضربة بقبضتي صدتها توراكو بصعوبة، فتراجعت نصف خطوة للخلف. نظرت إليّ بدهشة صغيرة ثم ابتسمت وكأنها راضية عني حقًا.
"هكذا أريدك أن تكون، أكيهيكو. لا بأس أن تخجل… لكنك أثبت أنك تستطيع القتال رغم ذلك."
لم أستطع الرد. ابتسمت بخجل، بينما كان داخلي يغلي بمزيج من الفخر والارتباك.
لأول مرة، شعرت أنني لست مجرد عبء. ربما… ربما أستطيع أن أصبح أقوى فعلًا.
[منظور بابادوك]
بينما كان الآخرون يتصببون عرقًا من مجرد مواجهة خصم واحد، كان وضعي مختلفًا تمامًا. حين جاء دوري في التدريب، لم يتقدم أمامي شخص واحد… بل سبعة دفعة واحدة. كانوا مزيجًا من طلاب أقوياء ومتمرنين متمرسين، كل واحد منهم يظن أن بإمكانه إسقاط "المهرج الغريب" كما يسمونني أحيانًا.
ابتسمت، تلك الابتسامة التي تثير الريبة أكثر مما تطمئن. تقدّموا نحوي بصرخات حماسية، وكأنهم واثقون أن الكثرة ستمنحهم الغلبة.
أولهم اندفع عليّ بركلة عالية. أمالت رأسي قليلاً فقط، حتى شعرت بالهواء يصفع وجهي من مرور ساقه بجانبي. وفي اللحظة نفسها، قبضت على كاحله وأدرت جسده كدمية قماشية، لأسقطه فوق اثنين آخرين كانوا يحاولون الالتفاف خلفي.
ضحكت ضحكة قصيرة مبحوحة، ثم انحنيت بخفة إلى الأمام لتفادي لكمة ثالثة، ودفعت بجبهتي في صدره بقوة جعلته يتراجع مترين وهو يتنفس بصعوبة.
"أهذا كل ما لديكم؟ سبعة ضد واحد، ومع ذلك… ما زلتم تتباطأون."
لم أكن بحاجة للتفكير في حركاتي؛ جسدي كان يسبق عقلي. كل ضربة من خصومي كانت مجرد خطوة ناقصة في رقصة أسيطر على إيقاعها.
رابعهم هجم بسكين خشبية (أداة تدريبية)، لكنني أمسكت بمعصمه قبل أن يكمل حركته، ولوّيته للخلف حتى صرخ وأفلت السكين. التقطتها في الهواء، ودرت بها نصف دورة قبل أن أرميها نحو الأرض لتغرس بجانب قدمي خامسهم الذي تجمّد من المفاجأة.
"لا ترتجف. لن يقتلك هذا الخشب."
سادسهم وسابعهم قررا الهجوم معًا من الجانبين، ضربة مزدوجة نحو وجهي وبطني. في اللحظة نفسها، انحنيت إلى الوراء بمرونة غير إنسانية تقريبًا، حتى كاد رأسي يلامس الأرض، فمرت اللكمتان فوقي. قبل أن يستوعبوا ما حدث، اندفعت بقدمي كزنبرك، وضربت كل واحد منهما بقبضة في صدره، فسقطا على الأرض يلهثان.
وقفت وسط الدائرة، أعدت تعديل ياقة سترتي وكأن شيئًا لم يحدث، والابتسامة الغريبة لا تفارق وجهي.
"سبعة… ولم تتركوني حتى أتسلى."
المدربون تبادلوا نظرات متفاجئة. لم يكن الأمر تدريبًا بالنسبة لي؛ بل مجرد إحماء بسيط. كنت أستمتع برؤية الارتباك على وجوههم أكثر من القتال نفسه.
كان الصمت قد خيّم على القاعة بعد أن طرحت خصومي السبعة أرضًا بسهولة. بعضهم ما زال يتأوه، وآخرون يحدّقون بي بعينين واسعتين وكأنهم رأوا شيئًا لا يجب أن يُرى. كنت أعدل ياقة سترتي ببطء، أستمتع بتلك النظرات المرتبكة. لم يكن الأمر تدريبًا… بل لعبة صغيرة كسرت بها ملل الانتظار.
حينها فُتح الباب بعنف، وخطوات ثقيلة تقدّمت نحوي. لم يكن أحد أقل من أونيزوكا نفسه. عيونه كانت تلمع بشراسة مزيّفة، كأنه جاء ليعلّمني درسًا أمام الجميع. ابتسمت، تلك الابتسامة التي يعرفها الجميع… ابتسامة من لا يأخذ الأمور على محمل الجد.
قال بصوت جهوري:
"كفى عبثًا يا غريب. سأُريك الفرق بين اللعب… والقتال الحقيقي."
أشار بيده للآخرين بالتراجع، ثم دخل هو وحده الحلبة. عضلاته مشدودة، وجسده يقطر عرقًا من تدريبه السابق. بدا كوحش يستعد للانقضاض.
تقدّم نحوي بخطوة ثقيلة، ثم اندفع فجأة بسرعة لا تتناسب مع حجمه. قبضته كادت تخترق الهواء من شدتها، لكنني لم أتحرك سوى قليلًا. أملت وجهي جانبًا، فمرت الضربة بجانبي كنسمة ساخنة. ابتسمت ابتسامة أوسع، وهمست:
"أحسنت… كدت تلمسني."
زمجر أونيزوكا، توالت ضرباته كالمطر: لكمة، ثم كوع، ثم ركلة جانبية. جسدي انساب بينها وكأنه دخان، ألتف، أنحني، وأرفع قدمي بخفة لتصطدم ركلته بالفراغ. كل مرة يفشل، كانت ملامحه تزداد حنقًا.
وفي اللحظة التي ظن أنه سيصيبني فيها، أمسكت معصمه. ضممت قبضتي حوله بقوة جعلت وجهه يتشنج، ثم دفعت جسده للخلف بحركة واحدة. ارتطم بالأرض، الأرضية اهتزت تحت وزنه، والهواء انقطع عن صدره لوهلة.
القاعة حبست أنفاسها. لم يُهزم أونيزوكا بهذه الطريقة من قبل.
وقفت فوقه، مائلًا برأسي، نظراتي ثابتة على وجهه المتعرق. لم أقل شيئًا. الصمت كان أثقل من أي كلمة.
لكن فجأة… انقلبت ملامحه. ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه وهو ينهض ببطء، يربت على قميصه. قال بصوت مغاير تمامًا، فيه شيء من التملّق:
"رائع… رائع جدًا. لم أتوقع هذا المستوى أبدًا. مهارتك… تليق بالقادة، بل وتفوقهم. بابادوك، ما رأيك أن تنضم إلينا؟ معًا يمكننا أن نصنع عصابة لا تقهر."
ضحكت، ضحكة قصيرة وغليظة، ثم أعدت ترتيب قفازي ببطء. اقتربت منه، وضعت يدي على كتفه، ونظرت في عينيه مباشرة.
"أنت لا تفهم… أنا لست هنا لأكون جزءًا من عصابتك. العصابة، القيادة، القوانين… كلها ألعاب بشرية تافهة. أنا فقط… أراقب وأتسلى."
تركته واقفًا مذهولًا، وبدأت أبتعد. عيونه ظلت تلاحقني، خليط من الغضب والارتباك والمهانة. لم ألتفت إليه مجددًا.
بدلًا من ذلك، وجّهت خطوتي نحو الحلبة الجانبية حيث كان أكيهيكو يتدرّب مع توراكو. جلست على مقعد خشبي، أسندت رأسي بيدي، وابتسامة خفيفة رسمت على شفتي. كان مشهده مختلفًا تمامًا عن معركتي… لم يكن قتالًا، بل صراعًا بين الخجل والرغبة في التعلّم.
"الآن… هذا أكثر متعة للمشاهدة." همست لنفسي، بينما عيني تتابع كل حركة، كل ارتباك، كل سقوط.
جلست متكئًا ، أتابع بعيني نصف المغلقتين تدريب أكيهيكو مع توراكو. كان المشهد أشبه بعرض هزلي أكثر من كونه تدريبًا؛ أكيهيكو يتلوى بخجل كلما اقتربت منه توراكو، يرفع ذراعيه بتردد، ثم يخطئ في التوقيت، فتلتصق ضرباته بالهواء بدلاً من جسدها. ابتسمتُ بخبث، وقلت في نفسي:
"ولو… هذا الولد كتاب مشاعر مفتوح، لا يدري كيف يخفيها، لكن المدهش… كيف هذه الفتاة لا تلاحظ أنه يكن لها مشاعر؟ هل هي غبية أم أنها تتغافل؟"
أخذت نفسًا عميقًا، ثم أعدت نظري إليه وهو يحاول تنفيذ حركة هجومية. قدماه تتحركان بسرعة، يركض بخطوات صغيرة مرتبكة، يرفع قبضته عالياً قبل أن يسقط بها إلى الأمام… فيصطدم وجهه برفق بكتف توراكو، فيتراجع خجلًا كأنه ارتكب جريمة. زفرتُ ضحكة مكتومة.
"على الأقل… يحاول." تمتمتُ بصوت مسموع، ثم تركت تنهيدة ساخرة تفلت من صدري، "عكسي أنا."
فجأة، جاءني صوت هادئ خلفي:
"إذاً لماذا لا تحاول؟"
التفتُ بسرعة، وها هي نيرو تقف بخطوات ثابتة، شعرها يتماوج مع النسيم، وعينيها تركزان في وجهي كأنها تخترق جدارًا خفيًا بداخلي. للحظة شعرت بشيء يشبه الانجذاب يسري في داخلي، رغم أني لم أسمح يومًا لمثل هذا الإحساس أن يقترب مني.
ابتسمتُ باستهزاء لأغطي ارتباكي وقلت:
"أوي، نيرو… يا له من تدريب عظيم الفائدة، لو ذهبت لأسقط الأشجار بقبضتي، لكان أكثر نفعًا."
رفعت حاجبها وقالت:
"ما زلت ترى الجميع تحتك، كأنك وحدك تقف فوق جبل. لكنك تعلم في داخلك… أنك لست الأقوى."
صمتُّ، ثم ابتسمتُ ببرود:
"أجل، أعرف أنني لست الأقوى… لكني أحاول."
أجابت بنبرة صارمة:
"أنت لا تحاول بجدية. تراهم كأنهم ذباب يحوم حولك، بينما كل واحد منهم بشر مثلك. يحاولون، يتألمون، ويسقطون ليقفوا من جديد. أما أنت… تتفرج وتحتقر."
هززت رأسي:
"بالنسبة لي… هم مجرد ضعفاء."
اقتربت مني بخطوة، نظراتها ازدادت حدة:
"وما العيب في الضعيف؟ إن فكرت جيدًا… فأنت أيضًا ضعيف. وأنا أقوى منك… ومع ذلك، لم أنظر إليك يومًا كذبابة."
ارتجف داخلي للحظة، لم أتوقع أن تستعمل كلماتها كسيف موجه نحوي. قلتُ محاولًا كسر حدّة الموقف:
"ألم تبالغي قليلًا في موضوع الذباب؟"
لكنها ابتسمت بخفة، ثم قالت فجأة:
"إذن… لماذا لا أدربك أنا؟"
شعرت بتيار غريب يجري في عروقي، مزيج من التحدي والارتباك. نظراتها لم تترك وجهي، ابتسامتها كانت ثابتة لكنها عميقة، كأنها تنتظر أن أتخذ قرارًا سيغير شيئًا بداخلي.
بلعت ريقي، وتظاهرت باللامبالاة، لكن داخلي كان يموج بتوتر لم أختبره من قبل. أخفيت ارتباكي بابتسامة باهتة، وقلت:
"لا بأس."
لكن صوتي خرج مترددًا، كأن في داخلي خوفًا صغيرًا من مواجهة ما سيأتي.
خرجت مع نيرو إلى الغابة خلف المدرسة. الليل كان ساكنًا، لكن داخلي كان يغلي. أمسكت بمظلتي السوداء، سلاحي المفضل. بالنسبة لهم مجرد مظلة… لكن في يدي هي أكثر من ذلك بكثير.
فتحتها ببطء، صوتها المعدني يعلن بداية المعركة. ابتسمت بخبث وقلت:
"لا تندمي لاحقًا… التدريب معي ليس نزهة."
نيرو لم تبتسم. عيناها تلمعان بهدوء قاتل:
"أثبت كلامك… إن استطعت."
تحركت أولًا. أمسكت المظلة مطوية، قبضتها للأمام، واندفعت بها كسهم مستقيم كما لو كانت رمحًا. الهواء انشطر أمامي، لكن نيرو انحنت بخفة، قبضتها ارتطمت بالأرض فتناثرت الحجارة في وجهي.
أدرت المظلة بسرعة، ورفعتها بزاوية لأوجه ضربة جانبية، كما لو كانت سيفًا قصيرًا. ضربت كتفها، لكن نيرو صدّت بساعدها المغطى بهالتها، فصدر صوت الحديد ضد الصخر.
ارتدت للخلف، رفعت المظلة مفتوحة أمامي لأغطي صدري، كما لو كانت درعًا دائريًا. لحظة اندفاعها نحوي، سقطت ضربتها الثقيلة على سطحها المعدني، فارتدت القوة إلى الخلف وكأنها اصطدمت بجدار فولاذي.
ضحكت بسخرية:
"تخيلي… مجرد مظلة تصد ضربتك."
لكنها لم تتأثر. في لحظة خاطفة ظهرت أمامي، قبضتها تهوي نحو وجهي. فتحت المظلة سريعًا للأعلى، ودفعتها بقوة إلى الأسفل لأضربها بالرأس، كما لو كنت أستعملها كفأس. الاصطدام ارتجف معه جسدها للحظة، لكن عينيها بقيتا ثابتتين.
تراجعت وأنا أتنفس بثقل، قلت بصوت منخفض:
"هذه المظلة… ليست أداة. إنها سيفي، رمحي، درعي… وكل ما أملك."
ابتسمت نيرو أخيرًا، ابتسامة صغيرة بالكاد تُرى:
"جيد… الآن بدأت تفهم. لنرحّب بالقتال الحقيقي."
أخفضت المظلة قليلًا، أنفاسي تتسارع من الحماس أكثر من التعب. نظرت إلي نيرو، كانت واقفة بهدوء، ذراعاها مطويتان وصوتها جاف كالسيف:
"توقف. حركتك الأخيرة كانت فوضوية."
قطبت حاجبي: "أي حركة؟ لقد كدتُ أصيبك في الرأس."
هزّت رأسها ببطء:
"كلمة كِدت تكفي لتعرف أنك فشلت. عندما استعملت المظلة كفأس، انزلقت بزاوية خاطئة. لو كنتَ في قتال حقيقي، لضربك خصمك قبل أن تنزل الضربة."
عضضت على أسناني. رفعت المظلة مجددًا وأعدت الحركة. هتفت نيرو:
"أبطأ! لا تستعجل. القوة بلا توازن… عبث."
خفضت السرعة، ركزت على ثبات قدمي، وهويت بالمظلة بزاوية معدلة. هذه المرة، ارتسم خط غبار مستقيم على الأرض.
"أفضل." قالت وهي تهز كتفيها. "لكن ما زلت تفكر بالمظلة كوزن زائد تحمله. توقف عن ذلك. المظلة امتداد لجسدك. عِش معها."
رفعت حاجبًا ساخرًا: "مظلة وجسد واحد؟ هذه جملة تصلح لفيلم رومانسي سخيف."
لم تضحك. تقدمت نحوي بخطوة مفاجئة ووجهت لكمة، بالكاد رفعت المظلة أمامي وصدّيت. لكن نيرو ضربت من جانب آخر بسرعة البرق. انفجرت في وجهي:
"خطأ آخر! المظلة ليست فقط حاجزًا، إنها زاوية، إنها انحراف. صدّ الضربة لا يعني تحملها، بل تفريغها."
ارتجفت يدي من قوة الصدمة. صرخت: "سحقًا، أنتِ تعلّمين وكأنكِ آلة!"
نظرت إليّ بعينيها الهادئتين وقالت:
"الآلة أفضل منك الآن. على الأقل تعمل بدقة."
ضحكتُ رغمًا عني. لم أعد أميز هل هذه إهانة أم تحفيز.
أخذتُ نفسًا عميقًا. جربت هجومًا جانبيًا، المظلة مطوية تتحرك بسرعة سيف قصير. نيرو انحنت بمرونة، لكنني استدرت فورًا ودفعت المظلة مفتوحة نحوها كدرع يدفع العدو للخلف. ارتدت للخلف نصف خطوة.
ابتسمت قليلًا هذه المرة:
"أخيرًا… بدأت تجمع بين الدفاع والهجوم في حركة واحدة. هكذا أريدك."
وقفتُ مستقيمًا، شعرت بقطرات العرق تسيل من جبهتي، لكن في صدري إحساس لم أعرفه منذ زمن: شيء يشبه الفخر، شيء يشبه… أنني لست وحيدًا.
قالت نيرو بنبرة هادئة:
"لا تنسَ، بابادوك… القوة ليست أن تلوّح بمظلة كسيف. القوة أن تجعل من كل تفصيلة سلاحًا… من كل لحظة تفوقًا."
ابتسمتُ بخبث وأنا ألوّح بالمظلة في الهواء:
"إذا كنتِ تقصدين أن أتعامل معها كجزء مني… فاستعدي، لأنني سأجعلك تندمين على تعليمك لي."
رفعت حاجبها بابتسامة خفيفة:
"أُرحب بالمحاولة… يا تلميذي العنيد."
مرّ أسبوع. أسبوع كامل وكأنني عبرت فيه سنوات.
الآن…
منذ اليوم الأول، لم تدعني نيرو ألتقط أنفاسي. كل حركة كانت توبخها، كل خطوة كانت ترفضها، حتى أنني كدت أظن أنها لا تريد مني التعلّم بل تريد تحطيمي. لكنها، في أعماق عينيها الصارمتين، كنت أرى تلك الشرارة: هي تصنع مني شيئًا آخر.
في الليالي، حين أستلقي منهكًا، كنت أسمع صدى كلماتها:
> "لا تكن مظلة تحتمي بها… كن المظلة التي تُمطر موتًا على أعدائك."
أسبوع مضى، وخطواتي تغيّرت. صرت أثبت قدميّ على الأرض كما لو أنني أزرع جذوري فيها. يدي لم تعد تهتز حين أصدّ ضرباتها، وذراعي تعلّما كيف يلتفان، كيف يدوران بالمظلة لتكون مرة سيفًا، ومرة رمحًا، ومرة درعًا، من دون أن تغيّر شكلها ولو للحظة.
لكن المفارقة… أنني لست الوحيد الذي تطوّر.
فأكيهيكو كان يتدرب أيضًا، وإن لم يكن معنا دائمًا. في بعض الأحيان، كنا نراه بعيدًا في الساحة الخلفية، يواجه ثلاثة أو أربعة من طلاب النادي دفعة واحدة. لم يكن يملك مظلة، ولا أسلحة غريبة، لكنه كان يستعمل جسده كما لو أنه آلة مدججة.
كنت أوقف تدريبي أحيانًا لأراقبه، فنيرو تصرخ في وجهي:
"تركيزك هنا، لا هناك!"
لكني كنت أبتسم بخبث وأقول:
"أريد فقط أن أرى… هل سيسقط هو أيضًا مثلي."
لكن أكيهيكو لم يسقط. بالعكس… كان يسقط الآخرين.
أتذكر مرة، في اليوم الرابع، حين رأيته يلتف فجأة حول خصمه ويضربه بكوعه في البطن، ثم يتبع الضربة بركلة منخفضة سحبت الأرض من تحت قدميه. أحدهم صرخ:
"هذا جنون! لم تكن هكذا قبل أسبوع!"
ضحك أكيهيكو وقال ببرود:
"لم أكن أتعامل بجدية قبلكم… لكن الآن؟ الآن أعتبر كل حركة حياة أو موت."
كنت أبتسم ابتسامة مائلة وأنا أراقب. شيء بداخلي قال: هذا الفتى… ليس عادياً.
لكن عودتي دائمًا كانت أقسى.
نيرو لا تعرف الرحمة. بعد أسبوع، جسدي مغطى بالكدمات. حتى في يدي، حيث أمسكت المظلة آلاف المرات، تكوّنت طبقات سميكة من الجلد المتشقق.
كانت تضربني أحيانًا بظهر سيفها الخشبي حين أخطئ، فأصرخ:
"سحقًا، ألا تعرفين شيئًا اسمه الشفقة؟!"
فتردّ ببرود:
"إن أردت الشفقة… عد إلى سريرك. لكن إن أردت البقاء في القتال، تعلّم أن تحتمل."
كنت أضحك رغم ألمي. كأنني كنت أعشق ذلك الألم، لأنه كان الدليل الوحيد أنني أتغير.
بعد أسبوع كامل، صرتُ قادرًا على شيء لم أجرؤ على تخيله من قبل:
الهجوم والدفاع في اللحظة نفسها.
المظلة لم تعد مجرد أداة أحركها. صارت تتحدث بلساني.
في إحدى الليالي، بينما كنا نتدرب في الخارج، حاولت نيرو أن تختبرني. هجمت فجأة بسرعة صاعقة، وبدل أن أتراجع أو أصدّ، فتحت المظلة نصف فتحة، واستعملت حافتها لصدّ ضربتها من جانب، ثم اندفعت بدورة كاملة، لأغلقها فجأة وأضرب بمقبضها في خاصرتها.
تراجعت بخطوة، عينيها متسعتان للحظة.
"هكذا…!" قالت بصوت خافت. "الآن بدأت تفهم."
رفعت المظلة على كتفي كأنها سيف عظيم وقلت بابتسامة ساخرة:
"أسبوع واحد… وأنا أفضل من آلة. ألا تشعرين بالفخر يا معلمتي؟"
ضحكت لأول مرة منذ سبعة أيام. ضحكة قصيرة لكنها اخترقتني:
"لا تكن واثقًا أكثر من اللازم، بابادوك… الغرور يسقط الرجال أسرع من أي سيف."
لكنني لم أرد عليها. كنت أعرف…
أنا لم أعد نفس الشخص الذي وقف أمامها قبل أسبوع.
لقد خرجت من تحت المطر… مظلة متعفنة، ولكنها لا تُكسر.
وفي الخلفية، بينما كنت أستمع لصوت أنفاسي وأنفاس نيرو، سمعت ضحكة أكيهيكو وهو يهزم آخر من خصومه، يرفع قبضته إلى السماء ويقول:
"الخطوة القادمة… لن تكون تدريبًا بعد الآن."
شعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
نحن الثلاثة… أنا، نيرو، وأكيهيكو… كنا نتغيّر.
لكن السؤال الذي ظل يطاردني: إلى ماذا؟
عدنا نحن الثلاثة من ساحة التدريب؛ أنا وأكيهيكو ونيرو. البلدة في هذه الساعة بدت كأنها تلتقط أنفاسها بعد نهارٍ طويل: الأبواب نصف مغلقة، الشوارع شبه خالية، ورائحة الخبز الحار تتسلل من المخابز المتأخرة. كنت أحمل مظلتي على كتفي وأتمايل بخطواتي، بينما أكيهيكو يسير بصمتٍ غريب، كأنه يفكر بشيء أثقل من جسده. نيرو كانت خلفنا بقليل، تسير بهدوئها المعتاد، عيناها لا تفصحان عن شيء.
قطع أكيهيكو الصمت أولًا:
ــ "أتعرفان… اشتقت لبليك."
التفتُّ إليه وأنا أرفع حاجبي.
ــ "هاه؟ أسبوع واحد فقط وهو يتدرب مع مونو في ذلك الجبل الصيني البعيد، وكأنك فقدته لسنوات."
ابتسم بخفة لكنه لم ينكر:
ــ "أسبوع كامل لم نره، لم نسمع صوته… أشعر بفراغ غريب. كأن جزءًا من روتيننا اختفى فجأة. حتى التدريب هنا مع العصابة لم يبدُ نفسه بدونه."
تأملت وجهه قليلًا، ثم ضحكت لأكسر هذا الجو العاطفي:
ــ "أكاد أصدق أنك تحب بليك أكثر مما تحب توراكو."
ارتبك على الفور واحمر وجهه حتى الأذنين:
ــ "م… ماذا؟! لا تبدأ يا بابادوك… أنا لا… هذا لا علاقة له بتوراكو!"
صفقت بالمظلة على كتفي وضحكت:
ــ "هههههه! كلما أنكرت أكثر، كلما تأكدتُ أكثر. يا رجل، حتى في ساحة التدريب كنت ترتجف عندما اقتربت منك. هل التدريب يحتاج كل هذا الارتباك؟"
ــ "أصمت!"
صرخ وهو يحاول أن يسبقني بخطوته، لكن ارتباكه كان يفضحه أكثر من أي كلام.
هنا، دخل صوت نيرو في الحديث، منخفضًا وهادئًا كنسمة باردة:
ــ "أحيانًا… الحياء ليس ضعفًا، بل دليل على أن المشاعر حقيقية. أنتم تسخرون، لكن ربما ما يشعر به أكيهيكو صادق جدًا لدرجة أنه يخيفه."
ساد الصمت للحظة، كأن كلماتها رمت ثقلًا غير مرئي علينا. نظرتُ إليها لأجدها ترفع وجهها نحو السماء المظلمة، نجومها تلمع بخجل.
ثم قالت بصوتٍ يكاد لا يسمع:
ــ "لم أستمتع منذ زمن طويل… سنوات وأنا أعيش بلا طعم، بلا لحظة راحة. لكن هذا الأسبوع… رغم قسوته، كان مختلفًا. شعرتُ أنني حيّة قليلًا."
نظرتُ إليها وأنا أبتسم نصف ابتسامة، فيها شيء من السخرية وشيء آخر من الاحترام:
ــ "إذن حتى أنتِ، يا نيرو، تجدين المتعة أحيانًا. يبدو أن وجودنا لم يكن عديم الفائدة."
أما أكيهيكو فابتسم بخجل وقال:
ــ "أنا سعيد لسماع هذا… ربما نحن جميعًا تغيرنا هذا الأسبوع، بطريقة ما."
نيرو لم ترد، لكنها منحتنا ابتسامة نادرة، قصيرة العمر لكنها كافية لتضيء قلبك لثانية.
واصلنا السير ونحن نتبادل القليل من المزاح والكلام، حتى وصلنا إلى المنزل. فتحتُ الباب أول الداخلين، وكنت على وشك قول تعليقٍ ساخر، لكنني جمدت في مكاني.
كانت مونو واقفة في وسط الردهة. ذراعاها متقاطعتان، وعيناها تلمعان بغضب صامت. نظرتها اخترقتنا واحدًا واحدًا، كأنها تحاسبنا دون كلمة.
أكيهيكو ابتلع ريقه، ونيرو توقفت تمامًا كتمثال، أما أنا… وضعت المظلة على كتفي وقلت في داخلي:
ــ "يا إلهي… لقد هبط الجبل إلى هنا."