وقفت أمامنا تلك الروح الغامضة…
فتاة صغيرة في جسدها، لكن هيبتها تسحق المكان كما لو أنها كيان أكبر من الجبل نفسه.
معطفها الأصفر الفضفاض يتمايل بلا ريح، وغطاء الرأس الكبير يرسم ظلًّا على وجهها.
شعرها الداكن ينزل حتى أذنيها، خصلاته الكثيفة تغطي جبهتها، لكن عينيها… يا ليتني لم أنظر إليهما.
عيناها كانت كشرخين من الجمر المحترق، يقطران غضبًا.
جبهتها متشنجة، وفمها مقوس بانقباض بارد، كأنها ابتسامة ميت ينهض من قبره ليلعن من ينظر إليه.
شعرت أن الهواء يتقلص داخل رئتي، وكأن كل نفس أصبح خيانة ضد حضورها.
رغم الرعب، سألتها بصوت مبحوح:
«مونو… مالذي تفعلينه هنا؟ هل عاد بليك إلى منزله؟ هل انتهى التدريب؟»
أدرت بصري نحو نيرو لعلها تحمل لي جوابًا، لكن…
وجهها كان كطفل رمى في البحر وهو لا يعرف السباحة.
عيناها الواسعتان ترتجفان من الذعر، حدقتاها تبتلعان الفراغ، وفمها نصف مفتوح بلا كلمة.
ارتبكت أكثر، قلبي اهتز لحظة رأيتها هكذا، شعرت أنني أنا من عُرّيت أمام هذا الكيان.
قبل أن ألتقط أنفاسي، جاءني صوت مونو…
باردًا، قاطعًا، كأنه سيف من جليد يغرس في صدري:
«عرفت أنك مجرد جن مقزّز آخر… تحاول استغلال بليك.»
ارتجفت.
«…ماذا!؟»
أجابت ببرود يخفي احتقارًا دفينًا:
«لا تتغبى علي… أنت تقوي نفسك مع هذه الشيطانة فقط لتستطيع أنت وهي سرقة كتاب شمس المعارف.»
شعرت بالصدمة تضربني مرتين.
مرة من اتهامها لي، ومرة من ذكر الكتاب… ذاك الاسم المحرم الذي لا يُذكر إلا حين يتشقق العالم.
ارتجف كياني كله، كأنني اكتشفت فجأة أن جسدي ليس سوى وعاء هشّ في نظرها.
صرخت محاولًا إصلاح الموقف:
«هذا ليس صحيحًا! أنا أتدرّب لكي—»
لكن نيرو قاطعتني بصوت مذعور، وهي تدفعني بجنون:
«بابادوك! احذر!!»
لم أفهم، حتى التفتُ فرأيت.
وميض ذهبي داهم المكان، وانفجار عنيف مزّق الهواء.
الجدار الشرقي لمنزل بليك تحوّل إلى عاصفة من الحطام، وصوت الدمار كان كصراخ مئة روح محرقة.
وجدت نفسي أطير للخلف، جسدي يرتطم بالأرض بقسوة، والغبار يبتلعني أنا ونيرو معًا.
وحين رفعت رأسي وسط الركام، رأيتها…
مونو.
لم تعد مجرد الفتاة التي عرفناها.
كانت واقفة وسط الفوضى، معطفها الأصفر الطويل يرفرف كأجنحة كابوسية، وهالة من الاصفر والضياء الذهبي تحيط بجسدها النحيل.
عيناها لم تعودا بشريتين… بل كجمرتين معلقتين في الليل، تنبضان بوعيد لا يُرد.
كل ذرة من وجودها كانت تقول شيئًا واحدًا:
أنها لم تعد واحدة منا… بل أصبحت شيئًا يجب أن نخشاه.
لم أستوعب ما حدث بعد الانفجار. منزله… منزل بليك، ذلك المكان الذي كان يحمل رائحة الأمان والذكريات، صار ركامًا. أتنفس بصعوبة، ويدي لا تزال ممسكة بمظلتي، ذلك الشيء الوحيد الذي لم يخنني يومًا.
رفعت عيني لأراها.
مونو.
واقفة وسط الغبار والأنقاض، كأنها لم تتحرك قط. شعرها يغطي جزءًا من وجهها، وملامحها لا تحمل سوى صقيع قاتل. نظرتها نحوي لم تكن غضبًا فقط… بل كانت ازدراءً مطلقًا، كأنني مجرد طفيلي تافه يلوث الهواء.
"أنا لست شيئًا أمامها…"
همست في داخلي وأنا أشد قبضتي على مقبض المظلة.
لكنني تعلمت شيئًا خلال هذا الأسبوع من التدريب: أحيانًا لا يُسمح لك بالهروب، وأحيانًا عليك أن تقف حتى لو كنت تعرف أن نهايتك محتومة.
انطلقت نحوي فجأة، كأنها تمزق الهواء نفسه. لم أرَ سوى وميضٍ ذهبي يقترب، فرفعت مظلتي أمامي.
الاصطدام الأول!
صوت ارتجاج معدني مرعب، وحرارة ضغط دفعتني للخلف مسافة مترين. كانت قبضتها قد ارتطمت مباشرة بجدار المظلة، ولو لم أستخدم كامل قوتي لتحولت عظامي إلى غبار.
"مونو! اسمعيني! لست هنا لأ—"
لكنني لم أتمكن من إكمال جملتي. قدماها هوتا عليّ، ضربة سريعة لدرجة أن عيني لم تلحق بها. انحرفت بجسدي ووجهت المظلة كسيف طويل، حافتها المعدنية ارتطمت بساقها، فأحدثت شرارة، لكن… لم تتوقف.
بل التفتت بعينيها الباردتين وقالت ببطء:
"حـ…ثـ…الـة."
كرات النور الصحراوية!
رأيتها فجأة تتجمع حولها، كرات لامعة بلون الشمس المغبرة، تتوهج بحرارة حارقة. رفعت يدي سريعًا، وجعلت مظلتي تدور كعجلة، حاجز دوّار من الفولاذ والظل.
الأولى اصطدمت.
الثانية اخترقت الهواء وأحرقت أطراف معطفي.
الثالثة انفجرت أمام صدري، فأرسلتني أتدحرج وسط الركام.
"تبا… لا أستطيع مجاراتها…"
نهضت وركبتي ترتعش، وجسدي يرتجف من الحرارة. المظلة بيدي صارت أثقل، لكنها أيضًا… كانت كل ما أملك.
انطلقت مجددًا، لكن هذه المرة لم أستخدمها كدرع.
دفعت بها للأمام، مستقيمة، كرمح يخترق الفضاء. اخترقت سيلًا من كرات النور، حطمت اثنتين، وبالكاد وصلت إلى كتفها.
لكنها لم تتحرك.
لم تحاول حتى صد الهجمة.
مجرد نظرة واحدة من عينيها الجليديتين جعلتني أشعر أنني… غير مرئي.
"لماذا لا تفهمين؟ لماذا لا تسمحين لي حتى أن أشرح؟ أنا أتدرب لأجل بليك… لأجل أن أحميه حين لا يستطيع حماية نفسه!"
صرخت في داخلي، لكن فمي لم يستطع إخراج الكلمات.
كلما حاولت أن أفتح فمي، كانت هجماتها تسبقني، تقطع الهواء بيننا كالسكاكين، تجبرني على الصمت.
المظلة عادت لتدور كعاصفة، تارة كسيف يقطع موجات النور، وتارة كدرع يصد انفجاراتها. حتى أنني ثبتها بالأرض وقفزت للأعلى، مستعملًا إياها كعمود لأطير نحوها وأحاول إسقاط ضربة مباشرة.
لكن في اللحظة الأخيرة، ابتسمت… ابتسامة باردة جعلت قلبي يتجمد.
التفت بجسدها نصف التفافة، ورمتني بصفحة يد واحدة، كانت كافية لتحطمني في الهواء وأرتطم بالجدار البعيد.
أمسكت صدري وأنا ألهث.
"كيف… كيف لي أن أهزمها؟ هي لا تقاتلني فحسب، هي تستهزئ بي… كأنها تخبرني أني لست حتى خصمًا يستحق النظر إليه."
لكنني وقفت مجددًا.
مسحت الدم عن فمي، ورفعت مظلتي نحوها، والأنفاس الثقيلة تخرج مني.
قلت لها بصوت متقطع:
"مونو… حتى لو تجاهلتني… حتى لو كنتِ ترينني مجرد حثالة… لن أتوقف… حتى أفعل شيئًا واحدًا فقط… حماية بليك."
تلك النظرة الباردة مرة أخرى.
ثم رفعت يدها، وبدأت كرات النور الصحراوية تتجمع هذه المرة بحجم أكبر، ببطء قاتل، كأنها تعد لحكم نهائي.
أما أنا… فأعدت مظلتي لوضع الاستعداد، ويدي ترتجف، لكن عيني لا تبتعد عنها.
"حتى لو انتهى أمري هنا… سأثبت أنني لست مجرد جن تافه."
أمسكتُ مظلتي بقوة، أصابعي تشنجت حول مقبضها البارد. كنت أعلم أن الضربة القادمة من مونو لن تكون كأي هجوم آخر. العاصفة الذهبية التي تجمّعت بين كفيها بدت وكأنها ستبتلعني أنا ونيرو والبيت وكل شيء في هذا الحي.
“إذا فشلتُ هنا… فلن يبقى لي أي وجه أمام بليك.”
صرختُ في داخلي، ومع كل ذرة خوف داخلي أطلقتُ المظلة أمامي كدرع، فتحتها ودوّرتها بسرعة لدرجة أن الهواء نفسه أخذ يصرخ حولي.
انطلقت كرة النور الصحرواية من يد مونو مثل نيزك ساطع. اصطدمت بالمظلة فانفجرت موجة ضوء وحرارة هائلة. قدماي انغرست في الأرض، والعرق اندفع على وجهي كالمطر. شعرتُ بأن عظامي ستتكسر من الضغط، ومع ذلك دفعت بجسدي كله لأبقى واقفاً.
مونو لم تتحرك خطوة. كانت تنظر إليّ ببرود، بعينيها نصف المغطاة بشعرها، وكأنها تشاهد حشرة تحاول النجاة عبثاً. لم يكن في ملامحها غضب، بل مجرد ازدراء هادئ… وكأن قوتها لا تستحق أن تُبذل في شخص مثلي.
“هذا… هذا الفرق بيننا. لكنها مخطئة… لن أسمح لها أن تضعني تحت قدميها. أنا لا أتدرّب لأجل نفسي، بل لأجل بليك!”
دفعت المظلة فجأة كرمح، اخترقت الضوء المتفجر وشققت طريقاً نحوها. كدت أن أصل، لكن بمجرد أن رفعت يدها الأخرى، ارتفع حولي جدار من الشظايا الذهبية وأُجبرت على التراجع.
قهقهة باردة خرجت من شفتيها:
"ممل. لا أحتاج لإضاعة وقتي أكثر."
رفعت كفها، وانفتح من راحة يدها نور غريب. من ذلك النور خرجت كرة ذهبية صغيرة، بحجم رأس إنسان عادي، تطفو في الهواء أمامها. لم تكن تصدر صوتاً، ولم يكن لها ملامح وجه، سوى حلقتين مضيئتين كالعينين، تحدقان فيّ بصمت مخيف.
أشارت مونو إليها بلا مبالاة:
"قاتله يا ويش. إذا تمكن من الصمود، ربما أستمع إلى كلماته."
بردٌ غريب اجتاح ظهري. مونو كانت قد حكمت عليّ بالإعدام، لكن بطريقة ملتوية… عبر هذا الكيان الغامض الذي لا يرمش ولا يتنفس.
وضعت المظلة أمامي من جديد، بيني وبين تلك العينين الذهبية، وابتلعت ريقي بصعوبة.
“إذن… الجولة الحقيقية تبدأ الآن.”
تقدمت ببطء أمام الكرة الذهبية الصغيرة. لم يكن لديها صوت، ولم تتحرك إلا بحلقات مضيئة تشبه العينين. شعرت بغربة مريبة، شيء بداخلها يقول لي إن هذا ليس مجرد خصم عادي.
رفعت المظلة أمامي، أحاول أن أستشعر أي حركة. “لا أستطيع أن أضربها مباشرة… يجب أن أجد نمط تحركها.”
قفزت فجأة، أدارت المظلة حولي كدرع، وتصدت لألسنة نيران صغيرة أطلقتها ويش. الحرارة كانت لاذعة، لكنها لم تصل إلى جسدي بفضل المظلة التي تحولت إلى حاجز ثابت، صامد.
كل ضربة أطلقتها ويش كانت محكومة بدقة قاتلة. كرة النور كانت تتفجر أحيانًا إلى عدة شظايا نارية صغيرة، كل واحدة تبدو كأنها تبحث عن جسدي. كنت أركض، أدفع بالمظلة لأصدها، وأحيانًا أستخدمها كرمح لأصوب محاولة اقتحام نحو ويش، لكنها تتجنبني بشكل شبه سحري، وكأنها تعرف كل خطوة مسبقًا.
“كيف يمكن لكائن بهذه البساطة أن يكون بهذه الدقة…؟ لا… لا يهم. يجب أن أركز على قوتي الداخلية… !”
حاولت استخدام المظلة كدرع لحماية نفسي أثناء القفز نحو الكرة الذهبية، ثم قلبتها فجأة لأحولها كسيف ضيق، وضربت الهواء حول ويش في محاولة لتفريقها أو إخراجها عن توازنها. لكن الكرة الصغيرة لم تهتز. لم أشعر بأي صدع في صلابتها أو في مسارها.
“إنها… تتحرك بسرعة لا يمكنني تصورها… حركتها مثل النار نفسها… تدمّر كل شيء.”
صرخت في داخلي، محاولًا إيجاد خطة جديدة:
أحيانًا أدفع الكرة بواسطة المظلة، لكنها تتحرك فجأة في اتجاه آخر.
أحيانًا أرفع المظلة لأصد موجات النار، لكنها تتوزع حولي، متغلغلة في كل فجوة.
أحيانًا أحاول محاصرتها من الأعلى والأسفل، لكن الكرة تطفو وتتجنب كل حيلة.
مع كل لحظة، شعرت بالإرهاق يتسلل إلى جسدي، ولكن شعور الحماية الذي أحتاجه لبليك كان يغذيني. كل محاولة فاشلة كانت كدرس، وكل ضربة كانت اختبارًا لصمودي.
حاولت الصراخ، محاولة لإقناع ويش بأنني خصم يمكن هزيمته، لكن الكرة لا تملك صوتًا، لا تعابير، فقط الحلقات الذهبية تحدق بي بلا رحمة. شعرت بعزلة قاتلة، وأنا أقاتل شيء بلا عقل أو قلب، بلا أي مؤشر يمكن تفسيره.
ومع كل لحظة، بدأ الخوف يتسلل داخلي. “إذا لم أجد طريقة… إذا فشلت… بليك لن يكون بأمان… وكل تدريبي… كل جهودي… لن تكون لها قيمة!”
أطلقت المظلة كرمح وحاولت أن أصيب الكرة مباشرة، لكن فجأة، أطلقت ويش انفجارًا ناريًا هائلًا، محطمة الأرض تحت قدمي. ارتفعت في الهواء مع المظلة، أحاول السيطرة على مسار الكرة، لكن كل محاولة باءت بالفشل.
“لا… لا يمكن… لن أستسلم… يجب أن أجد نقطة ضعفها… شيء… أي شيء…”
لكن كل مرة أفكر فيها بخطة، الكرة الصغيرة تتحرك بسرعة خاطفة، تضرب الأرض وتشتعل، تحرق كل شيء حولها، وتدمر كل خطوة أضعها في الحسبان. شعرت بالقوة الهائلة لويش، ليس في جسدها، بل في وجودها كله، في الطريقة التي تجعل كل حركة لي محسوبة بعناية.
في النهاية، بعد دقائق طويلة من الاشتباك المستمر، شعرت بالضعف يتسلل إلى جسدي. كل عضلة كانت منهكة، كل تفكير بدا محاصرًا. دفعت المظلة أمامي في آخر محاولة، ولكن الكرة الصغيرة كانت أسرع. اصطدمت بي مباشرة، فُجرت موجة نار دفعتني بعنف إلى الأرض، وأطاحت بي جانبًا، مغطاة بالغبار والنار والدمار.
سقطت على الأرض، جسدي يئن من الألم، وعيني تلتقطان صورة الكرة الذهبية الصغيرة تطفو أمامي، بلا أي حركة أخرى، تحدق بي بصمت قاتل. لم أستطع القيام، لم أستطع الرد… كنت محطمًا.
“لقد خسرت… أمام هذه الكرة الصغيرة… أمام ويش…”
سقطت على الأرض، جسدي يئن من الألم وكأن كل عضلة قد تحطمت، وكل عظلة تمزقت. كنت أتنفس بصعوبة، روحي مدمرة، وعقلي عاجز عن التفكير بعد الهزيمة القاسية أمام ويش. “كل هذا… كل جهودي… كل تدريبي… كل أمنيتي أن أحمي بليك… ذهبت هباءً.”
ألم جسدي كان قاتلًا، لكنه لم يكن أشد من شعور الهزيمة التي كانت تلتهم قلبي. كل نفس أخذته كان يذكّرني بفشلي، وكل حركة كانت تؤلمني كما لو أن جسدي كله يرفض أن يتحمل هذه الذلّة. حاولت أن أرفع رأسك، لكن الألم في كتفيّ وظهري وصدري جعل كل محاولة محكوم عليها بالفشل.
وفجأة، بينما كنت غارقًا في هذا العذاب، شعرت بهدوء غريب، ثم رأيت مونو وويش تحلقان فوقي، وكأن العالم كله توقف للحظة واحدة. عينا مونو الباردة كانت تحدق بي، تلك النظرة التي لا تعرف الرحمة، تملؤها الاحتقار والقسوة:
"عرفت انك سوف تخسر أيها الجن الحثالة"، قالتها مونو بصوت بارد كالثلج.
بدأت مونو بتكوين كرة ذهبية موجهة نحوي، شعاعها يلمع كأنه مصمم ليمحوني من الوجود. شعرت بأن الموت قريب، وبأن هذه الكرة الصغيرة قد تكون نهايتي. حاولت النهوض، شعرت بالدم يتصبب من جسدي، لكن الألم كان أقوى من إرادتي. “أرجوك… لا… أريد أن أعيش… أريد أن أرى بليك… أريد أن أسمع أكيهيكو… أريد أن أبقى…”
تخلّيت عن كبريائي، عن كل فخر كنت أتمسك به، وتوسلت بكلمات مرتجفة:
"أرجوكي… أرجوكي… فقط اسمعيني…"
لكن مونو ردت ببرود قاتل، كأنها لا ترى في كلامي سوى قمامة لا تستحق الاستماع:
"أنت لا تستحق أن تسمع، أنت تستحق أن تدمر وتختفي من هذا العالم، وكل الجن يستحقون الإبادة حتى آخر فرد منهم."
تلك الكلمات كانت كالسكاكين، لكنها لم تكن الأقسى. الأقسى كان الكرة الذهبية التي انطلقت نحوي بسرعة مذهلة، أحرقت الهواء حولها وأحاطت بي بشعاعها القاتل. “أنا… لا أريد الموت… أريد البقاء… أريد أن أعيش… أريد…”
وفجأة، قبل أن تصل الكرة إلي، سمعت صوتًا مألوفًا يقطع كل شيء:
"ختم!!!"
اختفت الكرة في لحظة، كأنها لم تكن موجودة أصلًا. استدرت ببطء لأرى من أنقذني، وقلبي توقف عن الخفقان للحظة من المفاجأة. هناك كانت نيرو، واقفة بثبات، عينيها مليئة بالغضب، وهي تستخدم سحرها لتطبيق الختم على ضربة مونو.
مونو توقفت فجأة، استدارت ونظرت إليها، ووجهها البارد لم يتغير، لكن كلماتها كانت حادة كالشفرة:
"إذاً أيها الشيطانة… ما هو هدفك من إنقاذ هذا الجن؟"
نيرو وقفت بكل شجاعة، غضبها متدفق:
"هذا ليس جنًا، إنه لديه اسم! اسمه… بابادوك!!"
تبادلت العيون بين الثلاثة، التوتر يتصاعد، كل واحدة تعرف أن المعركة لم تنته بعد، وأن الصراع سيستمر. الموقف كان محمومًا، والجو مليء بالطاقة المتأججة، وكل واحدة منهن كانت على أهبة الاستعداد لاستئناف القتال في أي لحظة.
كنت لا أزال على الأرض، جسدي يكاد ينفجر من الألم، لكن قلبي ينبض بشيء جديد… شعور بالأمل، شعور بأنني لست وحيدًا، وأنني لم أفقد كل شيء بعد.
[منظور نيرو]
قلبي كان ينبض بسرعة جنونية، وكل شعرة في جسدي مشدودة على أعصابها، بينما كنت أواجه مونو. لم يكن مجرد قتال، كان اختبارًا لكل ما دربته، لكل قوتي، لكل شيء أؤمن به. أمامي تلك الطفلة الباردة، عيناها الذهبيتان كالجليد، مليئتان بالاحتقار والبرود، وكأنها ترى في كل شيء من حولها مجرد أشياء تافهة لا تستحق العناء.
بدأت مونو بتكوين كرة ذهبية صغيرة، بحجم رأس إنسان، مشعة بقوة هائلة، وخلفها موجات من الانفجارات تملأ الأفق. البلدة حولنا كانت تنهار، المباني تتصدع، والنوافذ تتطاير، والشوارع مليئة بالحطام والدخان. كل خطوة لها كانت تقطع الأرض وتحطم الجدران، وكأن كل شيء يسعى للهروب من قوتها المدمرة.
تحولت على الفور إلى عصفور، جناحي يخترقان الهواء بسرعة، أتنقل بين المباني المدمرة، أراقب حركة مونو وأحاول فهم نمطها. كل كرة ذهبية تطلقها كانت تتفجر على الفور، ترسل موجات صدمية تهز الأرض، وكأنها تحاول استهلاكي بالكامل. شعرت بالخوف، لكنني كنت أعلم أن الاستسلام ليس خيارًا.
"يجب أن أفهمها… يجب أن أجد ثغرة…" ترددت الكلمات في رأسي مرارًا وتكرارًا. كانت كراتها الذهبية تنطلق بتتابع سريع، لكن كل ضربة أحاول أن أختمها بسحر الختم الذي تعلمته. كانت الكرة تختفي لوهلة أمام عيني، لكنها تعود في لحظة ثانية، أحيانًا من زوايا لم أتمكن من توقعها.
حاولت التنقل سريعًا بين المباني المدمرة، جناحي يرفرفان بلا توقف، أبحث عن اللحظة المناسبة لإغلاق ختمي على هجومها. شعرت بالحرارة تتسلل إلى جسدي، لم يكن مجرد قتال جسدي، كان اختبارًا لكل قدراتي السحرية، لكل ذكائي، ولكل صبري.
"كل ضربة لها قوة هائلة… كيف يمكن أن أغلقها كلها؟" همست لنفسي، وقلبي يكاد ينفجر من التوتر. كل مرة أطبق الختم، أشعر بطاقة رهيبة تعود إليّ، لكنها ليست كافية دائمًا. انفجاراتها تحولت إلى موجات تهز المباني من أساسها، وجدران الحي تتفتت على نحو مروع. الدمار كان لا يوصف، والرياح الحارة من الانفجارات تعصف بشعري وملابسي، تجعل كل نفس أصعب من السابق.
حاولت أن أركز على نمطها، على تحركاتها، على توقيتها. كل كرة ذهبية كانت تحمل قوة مدمرة تفوق أي شيء واجهته من قبل، لكن في داخلي شعور غريب: "إذا استطعت أن أفهم توقيتها، ربما أستطيع أن أخلق فرصة… فرصة واحدة فقط…".
قلبها كان باردًا، كل نظرة من عينيها كانت كالسكاكين، تحتقرني بالكامل، تجعلني أشعر أنني مجرد جسد صغير عديم القيمة. لكن كلما شعرت بهذا الاحتقار، كلما شعرت برغبة أكبر في الدفاع عن بليك وبابادوك، وعن كل ما أؤمن به.
تنقلت بين المباني المدمرة مرة أخرى، أطبق ختمًا على كرة مونو الذهبية تلو الأخرى، أهرب في الهواء بتقلبات مفاجئة، أتحرك كالعاصفة، وأحاول أن أوازن بين الهجوم والدفاع. انفجاراتها تجعل الأرض ترتجف، الطوب والحطام يتطاير في كل الاتجاهات، وكل مرة تمر فيها الكرة بالقرب مني، أشعر وكأنها تحاول أن تحرقني بالكامل، أن تمحو كل شيء من حولها.
"يجب أن أظل هادئة… يجب أن أجد نقطة ضعفها…" فكرت، وقلبي يخفق بعنف، بينما جناحي يخترقان الهواء، وأنا أتنقل بين أنقاض البلدة، أراقب كل حركة لمونو، كل اهتزاز في يديها، كل لمحة في عينيها الذهبية الباردة.
ومع كل لحظة تمر، كان القتال يزداد ضراوة. البلدة بأكملها أصبحت ملعبًا لانفجاراتها، والسماء مغطاة بالدخان المتصاعد. كل شيء من حولنا يتحطم، لكنني لم أستسلم، لم أترك الخوف يسيطر عليّ. شعور الحماية لبليك وبابادوك كان يقويني، يجعلني أواصل القتال رغم كل الألم، رغم كل الخطر.
وفي هذه اللحظة، بينما كنت أحلق فوق شوارع الحي المدمرة، أحسست بأن القتال لم ينته بعد، وأن مونو لم تكشف كل قوتها بعد. كل حركة لها كانت تحمل الموت، وكل كرة ذهبية تنطلق كانت تخلق دمارًا هائلًا، وكل لحظة تمر كانت تزيد من التوتر والدراما في قلبي.
لم تنتهِ المعركة بعد…
الدمار حولنا أصبح لا يُصدق. المباني المتهالكة تتهاوى كما لو أن العالم نفسه ينهار، والنيران المشتعلة في أرجاء البلدة تلقي بظلالها على وجهي. كنت أطير، جناحي يرتجفان مع كل انفجار، وكل شعرة في جسدي تشعر بطاقة متفجرة تتسلل من كرات مونو الذهبية.
لكن الأمر لم يكن سهلاً هذه المرة؛ ويش ظهر فجأة، كرة صغيرة بلا صوت أو تعابير، مجرد عينين متوهجتين تطل عليّ كالفخ. كنت أعلم أنها لن تكون مجرد إضافة بسيطة، فهي تحمل قوة لا يستهان بها، قدرة على التدمير المجهري والحركة السريعة.
مونو من فوق، بنظرتها الباردة المعتادة، تلقي بالكثير من كرات الذهبية في مسارات مختلفة، بعضها يتجه مباشرة إليّ، وبعضها موجه إلى المباني لتحطيم كل شيء حولنا. ويش، تلك الكرة الصغيرة، تتحرك بين هذه الانفجارات بسرعة مذهلة، تضيف طبقة أخرى من التهديد الذي يجب أن أتعامل معه.
حاولت التركيز على توقيت الضربات، كل كرة ذهبية كانت تتفجر قبل أن تلمس الأرض، موجات الانفجار ترسل الحطام والدخان في كل مكان. تحولت إلى عصفور مرة أخرى، أتنقل بسرعة بين أعمدة الدخان والأنقاض، أحاول أن أطبق ختمي قبل أن تصل أي كرة إليّ. شعوري بالضغط كان يزداد، وكأن قلبي سينفجر مع كل لحظة.
"يجب أن أفصل بينهما… يجب أن أغلق الكرة الذهبية الخاصة بويش قبل أن تضربني…". ترددت هذه الأفكار في رأسي بينما كنت أتنقل في الهواء، أبحث عن أي ثغرة في الدفاع المشترك بين مونو وويش.
مونو تطلق كرة تلو الأخرى، وأنا أحاول أن أطبق الختم على كل واحدة، لكن ويش تتحرك بشكل غير متوقع، تتنقل بسرعة فائقة حول انفجاراتها، وتخترق كل محاولة مني. شعرت بالإرهاق يزداد مع كل ثانية، كل ضربة مونو الذهبية تتسرب إلى أسفل قدمي، كل انفجار يجعل الأرض تهتز وتغطي جسدي بالغبار والحطام.
"يجب أن أفهم نمطها… نمطهم…" همست لنفسي، بينما جناحي يخترقان الهواء، أحاول أن أتنبأ بحركاتهم، أبحث عن لحظة واحدة، لحظة كافية لتطبيق ختمي على ويش. كانت مشاعري مزيجًا من الخوف والغضب والحرص الشديد على حماية الجميع، كل تلك المشاعر تجعلني أكثر يقظة وأكثر قوة في الوقت ذاته.
مونو ارتفعت في السماء، تصوب كراتها نحو المباني المحطمة لتخلق انفجارات هائلة، كل موجة صدمة تصيب الحجارة المحطمة وترسلها في كل الاتجاهات. ويش تتحرك حولها، تجعل كل محاولة مني للالتفاف خطيرة للغاية، وأشعر أن كل ثانية تمر يمكن أن تكون الأخيرة.
حاولت التقدير، أطبق ختمًا على إحدى كرات الذهبية، ثم على الأخرى، أتنقل بحذر شديد بين الحطام، أراقب كيف تتعاون مونو وويش. كل شيء يزداد تعقيدًا، وكل حركة خاطئة يمكن أن تُكلفني حياتي. شعرت بالقوة التي اكتسبتها من التدريب، لكنها لم تكن كافية دائمًا أمام التنسيق بين الخصمين.
حاولت أن أرفع مستوى تفكيري الاستراتيجي، أدمج كل مهاراتي: التحول لعصفور، الختم، المناورات الجوية، وحتى استخدام الرياح الناتجة عن جناحي لتغيير مسار بعض الكرات. كل مرة أشعر فيها أني أقترب من السيطرة، ويش تتحرك بشكل غير متوقع، وكأنها تتنبأ بكل خطوة.
لحظة تلو الأخرى، كنت أطبق ختمًا على ويش، أشعر بالطاقة المانوية تتدفق عبر جسدي، أختار اللحظة المناسبة بدقة شديدة، لكن مونو تستمر في إطلاق انفجاراتها الذهبية، كل موجة تهدد بتحطيم كل شيء حولي. الدمار أصبح شاملاً: الشوارع محطمة، الحطام في كل مكان، النيران تنتشر بسرعة، وكل انفجار يرسل موجة حرارية أشعر بها على وجهي.
مع كل لحظة، كنت أحاول أن أجد ثغرة لتطبيق ختم دائم على ويش، بينما أتحاشى انفجارات مونو الذهبية، كل ذلك وأنا أحلق في الهواء، أراقب، أحسب، أتحرك، وأحاول ألا أستسلم للضغط والرهبة التي يخلقها القتال.
وفي النهاية ، بعد سلسلة طويلة من المناورات والتخطيط السريع، تمكنت أخيرًا من تطبيق ختم متواصل على ويش، أوقف حركتها بشكل مؤقت، لكن مونو لم تنتهِ بعد، وما زالت الكرة الذهبية العملاقة تحوم في الهواء، تستعد لإطلاق موجتها القادمة.
القتال لم ينته بعد… وكل ثانية تعد جديدة من الموت أو الانتصار…
الدخان والغبار يملأان المكان، والدمار أصبح جزءًا من الأفق حولنا. المباني المحطمة تحولت إلى أنقاض، الشوارع مغطاة بالحطام، والنيران تتسلل من كل فجوة. كل انفجار من كرات مونو الذهبية يرسل موجة صدمية تجعل الأرض ترتجف، وجسدي يرتجف معها. شعرت أن كل خطوة أخطوها هي تحدٍ بين الحياة والموت، وكل حركة تتطلب تركيزًا لا يصدق.
لقد استهلكت كل طاقتي في القتال، لكن رغم ذلك لم أستطع الاسترخاء لحظة واحدة. مونو كانت كالظل الأسود الذي لا يترك فرصة للتنفس، كراتها الذهبية تنفجر في كل الاتجاهات، والحرارة الهائلة الناتجة عنها تحرق الهواء حولي.
تحركت بعنف، جناحي يرفرفان بقوة، أتنقل بين المباني المحطمة، أحاول استخدام سحر الختم لتقليص قوة كراتها أو حتى إيقافها مؤقتًا. ثم رأيتها: لحظة واحدة، غفلة صغيرة في نمط إطلاقها للكرات، وكنت أستطيع أن أشعر بثغرة في حركتها.
"هذا هو… الآن أو أبدًا" همست لنفسي، وأطلقت الختم على إحدى كرات الذهبية القادمة، أحاول أن أسيطر عليها بالكامل، ثم بدأت أركز على مونو نفسها. كل شيء بدا متوقفًا لثوانٍ: تنفسها البارد، نظرتها الثابتة، جسدها متمدد في الهواء كقطعة حجرية، وعيونها الذهبية لا تعكس إلا البرود المطلق.
اكتشفت الثغرة من مراقبتي لطريقة إطلاقها: عندما تركز على كرة ذهبية كبيرة، تكون زاوية يدها اليسرى أقل حركة، وهذا يسمح لي بمحاولة ختمها. كان شعوري بالفخر والتوتر في نفس الوقت، أنني اقتربت من السيطرة على تلك الوحشية الباردة.
لكن شيئًا ما لم يكن على ما يرام… عندما حاولت تطبيق الختم، شعرت بقوة تتجاوز كل توقعاتي، قوة تدفع الختم بعيدًا عن مكانه، كأنها تمتصه قبل أن يصل إليها. استغراب اجتاحني بالكامل:
"كيف هذا…؟ لماذا لا أستطيع ختمها؟"
كل خبرتي في السحر، كل تدريبي، كل طاقتي، كل الختمات التي مارستها، كلها تصطدم بجدار غير مرئي. شعرت بأن جسدي يرتجف، وأن قلبي يتسارع، لكنني لم أستسلم، وقلت لنفسي:
"لا… يجب أن أفهم… أراقب… أستفيد من كل حركة"
وهي لا تتوقف، كرات الذهبية تحوم حولها في مسارات متشابكة، تنفجر بقوة تهدد كل شيء حولنا. فجأة، شعرت بطاقة مركزة تهز جسدي، لم أستطع حتى التحرك بسرعة كافية لتجنبها، حينها أطلقت مونو شعاعًا ساطعًا من عينيها الذهبية مباشرة إليّ.
الضوء كان مذهلًا، أعمى عيني للحظات، حتى الهواء حولي اهتز من شدة القوة. كل شيء أصبح أبيض حولي، شعور بالعجز الكامل يملأ جسدي، والضربة لم تصدمني فقط جسديًا، بل أحسست بها في عروقي وعمق روحي.
عندما تلاشى الضوء، وجدت نفسي ساقطة على الأرض، جسدي يرتجف، جلدي محروق من الحرارة الهائلة، أقدامي مكسورة بعض الشيء، وظهري محمول على موجة من الألم الذي لم أشعر بمثله من قبل. كل جزء من جسدي يصرخ، لكن الدماغ يتشبث بالوعي:
"يجب أن أستعيد السيطرة… لم أنته بعد…"
مونو هبطت بثبات، نظرتها الذهبية الباردة لا تتغير، لكنها لم تتوقف للحظة، كأنها تعرف أنني سأعاود الهجوم، وكأنها تتوقع كل خطوة قبل أن أفكر بها. ويش لا تزال محمية، مستعدة للتحرك مرة أخرى، أعداء متحدون ضد شخصي الوحيد.
تألقت عيني محاولة فهم كيفية هزيمتها، أراقب زاوية يدي وحركتها في إطلاق الكرات الذهبية، أبحث عن نمط، أي خطأ صغير، أي فجوة يمكنني استغلالها، حتى شعرت بأنني اكتشفت نقطة ضعف لحظية في توازن جسدها أثناء إطلاقها للكرة الأخيرة.
"هكذا… هذه هي الفرصة…" همست لنفسي، وحاولت تطبيق ختم سريع عليها، لكن المفاجأة كانت… الختم لم يثبت. شعرت بطاقة تتدفق عكس توقعاتي، كأن جسدها كله مركز على امتصاص القوة وتحويلها، والشعور بالعجز يزداد.
ثم فجأة، مونو أطلقت ضربة أخيرة مذهلة، شعاع ساطع أكثر قوة من أي انفجار سابق، يندفع كالسيف الناري عبر الهواء. الأمواج الناتجة من الطاقة المدمرة كسرت النوافذ المحطمة حولي، اقتلعت الأبواب، وأرسلت حطام المباني على بعد أمتار، جسدي تراجع بلا تحكم، وكل جزء مني يتألم من شدة القوة.
كنت أرتجف، جسدي محطم، روحي تكاد تتداعى، لكن دماغي ما زال يحاول أن يفكر، يحاول أن يضع خطة جديدة، حتى في هذه اللحظة التي شعرت فيها بالهزيمة الجزئية. كل شيء حولي مدمر، البلدة أصبحت ساحة قتال مليئة بالأنقاض والدخان، والنيران تتصاعد من المباني المتبقية.
وها أنا، ساقطة على الأرض، أراقب مونو وويش، أدرك أن القتال لم ينته بعد، وأنني سأحتاج لكل ذكائي وقوتي لمواجهة ما سيأتي.
[قبل 10 دقائق]
[منظور اكيهيكو]
الهواء مشبع بالغبار والدخان، والصوت المستمر للانفجارات يملأ أذني. لم يكن الأمر مجرد صوت، كان كالصاعقة تهشم كل شيء حولي، كل شيء أفتقده من أمان منزل بليك. تذكرت اللحظة الأولى التي انهار فيها المنزل، الحطام ينهال من كل مكان، وكنت أسقط على الأرض بلا حول ولا قوة، حركاتي محدودة بسبب صدمة الانفجار. كنت أستعيد وعيي بصعوبة، أتنفس بصعوبة، عيني تتجه نحو المنظر الرهيب: سقف المنزل مكسور، الجدران محطمة، والأرض ملطخة بالغبار والركام.
وبين الحطام، رأيته… بابادوك. يقاتل، مظلته تتحرك بخفة ورشاقة مذهلة، لكنها تكاد لا تملك قوة كافية لإيقاف تلك الوحوش، أو على الأقل تلك القوة المدمرة التي تحملها ويش. شعرت بمزيج من الفزع والإعجاب، كل ضربة كانت تصدر صدى الانفجار حول المباني، والحرارة الناتجة من كرات ويش الذهبية تحرق الهواء. جسد بابادوك يتأرجح من الضربات، ولكنه لا يستسلم، يحاول استخدام كل خبرته لإيقاف ويش، وأنا أراقب كل حركة، كل ارتجاف عضلي، كل تقطير للعرق على جبينه.
ثم وقع… سقوطه على الأرض بعد انفجار هائل. شعرت بالذعر يتسلل إلى صدري، اندفعت نحوه دون التفكير في نفسي.
وقفت أمامه، جسده مازال يرتجف من الألم بعد خسارته أمام ويش. عينيّ تلتقط كل تفصيلة: وجهه مشوه بالتعب، زوايا فمه مشدودة بعنف، عيونه التي كانت دائمًا مليئة بالعزم الآن تحمل صدى هزيمة لا تُنسى. قلبي انقبض، شعور بالخوف اجتاحني، شعور بأن أي لحظة قد يفقد فيها وعيه أو ينهار أكثر.
"ركّز عليّ… لن تموت، أنا هنا… لن أتركك تقع… أنت بخير، أنت بخير… استمع إليّ… لن تموت…" حاولت أن تكون كلماتي حبل نجاة يسحب روحه من هاوية اليأس.
ابتلع غصته بصعوبة، ثم نظر إليّ بعينين مليئتين بالحزن، بريق داخلي مختلط بالإحباط. "أشعر بأنني… ضعيف جدًا… مجرد جن نكرة… لا أستحق البقاء… كنت أستحق أن أموت هناك… كنت جبانًا… كنت أتمنى لو أنني… لم أكن هنا أصلاً…"
كلماته كانت كالسكاكين تخترق قلبي، شعرت بالحزن يتضاعف، لكن شعلة أمل صغيرة بدأت تشتعل بداخلي. اقتربت منه أكثر، أنظر مباشرة في عينيه، أرى الألم، الإحباط، والشعور بالعجز، وأردت أن أكون أكثر من مجرد صديق، أردت أن أكون دعمه حين يظن أن العالم كله ضده.
"اسمعني جيدًا… أنت لست ضعيفًا… لست نكرة… أنت صديقي… وستظل صديقي مهما حدث. لن أتركك تشعر بالهزيمة وحدك. أنت لم تكن جبانًا، بل كنت تحاول حماية الجميع بما لديك… وأنا أرى ذلك… أرى كل ما بذلته… وأقسم لك… سأقف بجانبك دائماً، لن تذهب إلى أي مكان وحدك…"
ابتسم قليلاً، محاولةً أن أشعره بالدفء الذي فقده بعد الهزيمة، شعرت بأن قلبي ينبض بقوة، وكل جزء مني يصرخ بأن يرفع معنوياته، بأن يشعر بالأمل مرة أخرى.
ابتسم قليلًا، دمعة واحدة انزلقت من عينه، لكنها حملت أكثر مما كنت أتوقع. أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يحاول استعادة نفسه من الهزيمة.
"كلماتك… تجعلني أشعر بأنني… ربما يمكنني الوقوف مرة أخرى… ربما يمكنني ألا أخسر بعد الآن… سأتعلم… سأصبح أقوى… لن أخسر مجددًا… ولن أسمح لأي أحد أن يستهين بي… أعدك… سأقف، مهما كلفني الأمر…"
وقف على قدميه ببطء، كل حركة كانت مليئة بالألم، لكنه حمل عزيمة واضحة في عينيه، شعاع من الإرادة الذي لم أره من قبل بعد الهزيمة.
"هذا هو الشخص الذي أعرفه… الذي يقف دائمًا، حتى لو تعثر… لن نترك أي قوة تهزمه، أعدك… أنا معك إلى النهاية، مهما حدث."
ابتسم ابتسامة ضعيفة، تلك الابتسامة التي تحمل مزيجاً من الألم والعزم. كان واضحًا أنه استمد قوة جديدة من تلك الكلمات، قوة لم تكن موجودة في قتاله السابق.
"بعد كل ما رأيته، كل ما شعرت به… لن أخسر بعد الآن… مهما واجهت من قوة… مهما كان الثمن… لن أخسر… لن أسمح لأي أحد أن يجعلني ضعيفًا مرة أخرى… لن أسمح… لن أسمح!"
رغم التعب والجراح، عيناه كانت تتوهج بشعلة جديدة، جسده يتصلب بالإرادة، وكل عضلة فيه توحي بالاستعداد للوقوف من جديد. لم يكن مجرد جن يقاتل… كان شخصًا مستعدًا ليواجه العالم كله، مدفوعًا بالعزم، وملؤه روح لا تُقهر.
وقفت بجانبه، أشعر بفخر لا يوصف، شعور بأننا معًا قادران على مواجهة أي شيء، شعور بأن هذه اللحظة هي ولادة من جديد لإرادته، الإرادة التي لن تنهار بعد الآن.
نظرت إلى وجهه، مزيج من الألم والغضب، ثم العزيمة المطلقة. كان كل شيء في تعابيره يتحدث عن شخص لم يعرف الاستسلام، عن روح تحاول أن تنهض رغم كل شيء. وابتلعت غصتي، شعرت بدفء يملأ صدري، شعور بأننا متحدون في مواجهة الظلام، شعور بأن الكبرياء والولاء يمكن أن يعوضا عن كل الألم الذي نحس به.
ثم استدرت، وعيني تتجه نحو الدمار الهائل الذي خلفته مونو في البلدة. كنت أرى الأطفال يبكون، النساء يصرخن، العجائز يسقطن بين الحطام، والحرائق تتصاعد من كل زاوية. قلبي انقبض، شعوري بالعجز يزداد، شعرت بأن كل ثانية تمر دون تدخلنا تكلف أرواحًا بريئة، شعور يثقل جسدي كما لو أن الحطام قد تعلق بي أيضًا.
وبينما كنت أراقب، بدأت أرى نيرو، تتحرك بين الأنقاض كالريح، جناحيها يرفرفان بسرعة، تحاول ختم كرات مونو الذهبية، تنقذ الأرواح من الضرر، وكل حركة منها مليئة بالإصرار والتركيز، لكنها أيضاً مليئة بالإرهاق، أستطيع رؤية وجهها مشوه بالتعب والقلق. شعرت بشيء من الحزن العميق لها، شعور بمعاناة أخرى تشاركنا نفس الكفاح، نفس الرغبة في حماية الأبرياء.
ثم، لحظة غير متوقعة، نيرو تفقد السيطرة للحظة بعد ضربة مونو الأخيرة، شعاع يلمع ويعم عينيها للحظات، وأرى في وجهها الصدمة والارتباك، محاولة فهم سبب فشل ختم مونو. كل تفاصيل وجهها تقول: "لماذا؟ كيف هذا؟". شعرت برغبة في التدخل، ولكنني أيضًا شعرت بمزيج من الإعجاب والرهبة، تلك القوة المدمرة التي لا يمكن التنبؤ بها.
عدت إلى بابادوك، الذي حاول الوقوف على قدميه رغم الألم الجسدي الهائل، كل عضلة في جسده متألمة، عينيه تلمعان بالغضب، وفمه يصدر كلمات متقطعة من الألم:
بابادوك: "هذا… هذا لم ينته… لن أسمح لهم… لا أبدًا…"
كنت ممسكًا بذراعه بحزم، عيني مليئة بالإصرار: "لن تخسر… لن أسمح لك أن تشعر بالهزيمة، أنت قوي… نحن نقف معك… لن ندع مونو تسيطر على كل شيء!"
شعرت بقوة تملأ صدري، رغبة عارمة في أن أساعده، في أن ننتصر معًا. عيني تراقبان كل حركة، كل تفصيلة في القتال، أحاول أن أفهم أي ثغرة في هجوم مونو أو ويش، أحاول أن أكون مستعدًا لأي شيء، لكن شعوري بالمسؤولية كان يثقل كل لحظة.
كانت المشاعر مختلطة: الخوف، القلق، الغضب، الإعجاب، الإحباط، كل شيء يختلط معًا في داخلي. كل جزء من جسدي يتألم من الانفجارات والصدمات، لكن عيني لا تزالان مركّزتين على القتال، على بابادوك، على نيرو، على البلدة المدمرة، على الأطفال والنساء والعجائز الذين يحتاجون إلينا.
نظراتي إلى بابادوك تحمل الوعد: "سأقف بجانبك… لن تظل وحيدًا… لن نخسر معًا… مهما كلفنا الأمر". شعرت بأن كل ضربة، كل حركة، كل انفجار، هي اختبار لإرادتنا، اختبار لقدرتنا على الصمود رغم الظلام الذي يحيط بنا.
الدمار حولنا أصبح رمزية للمعركة، كل أنقاض تحكي عن قوة مونو، كل شعاع ذهبي يلمع في السماء يذكرنا بالخطر الحقيقي الذي نواجهه، لكن كل نظرة إلى بابادوك ونيرو تجعلني أعلم أن الإصرار لن يموت، وأن قلبنا موحد ضد هذه القوة الغاشمة.
وبينما كانت نيرو تستعيد وعيها بعد ضربة مونو الأخيرة، شعرت بأن اللحظة قد حانت لنثبت أننا أقوى من كل شيء، لنقف مرة أخرى، لنقاتل معًا، ول
نحمي كل من نحب. وكل شيء بدا وكأنه يسير نحو انفجار جديد من الأحداث، وكل جزء من نفسي كان على أهبة الاستعداد للغوص مجددًا في قلب المعركة.شعرت بألم حارق يسري في جسدي، كل جزء مني يئن من ضربة مونو الأخيرة. الأرض تحت ظهري كانت مشوهة، كل شيء حولي يهتز من قوة الانفجار. رفعت عينيّ ببطء، لأجدها واقفة أمامي، هالة من الهيبة والخطر تحيط بها، جسدها مستقيم كالتمثال، عينان باردتان كالجليد تخترقان روحي بلا رحمة.
"أعيدي لي ويش، أيتها الشيطانة." قالت بصوت بارد، بلا أي تلميح للرحمة، ووقفت كأنها تتحدى الكون كله.
ضحكتُ بغضب مختلط بالخوف، أحاول أن أبدو أكثر قوة مما أشعر، "من هو ويش من الأساس؟"
حتى قبل أن أنهي كلامي، اخترقت كرة نور ذهبية الأرض بجانب وجهي، جعلتني أتراجع على الفور، وأدركت أنها لا تمزح أبدًا. شعرت بغضبها يتصاعد، هذه المرة كان صوتها أشد، حادًا كالحديد، "أعيديه لي، أيتها الشيطانة!!!"
حاولت أن أتنفس بعمق، أرى كل تفاصيلها بوضوح: جسدها مشدود، يديها مرفوعتان كما لو كانت مستعدة لإطلاق المزيد، عينان لا تعرفان الشفقة. "فهمت… فهمت… تقصدين ويش، تلك الروح الصغرى… إنه بخير… لقد ختمته فحسب."
نظرت لي بغضب لا يوصف، "أعيديه لي!" صرخت هذه المرة بغضب يزلزل الهواء من حولنا.
"لا… لا يهم إذا أعدته، ستتسببون في دمار شامل هنا." حاولت أن أظل هادئة رغم الألم الذي يعتصر جسدي.
"سوف اقتلك." قال صوتها البارد، عميق، كأنه صاعقة، كل حرف فيه يشع تهديدًا مميتًا.
ابتسمت رغم كل شيء، أتنفس بصعوبة، "لا بأس… إن قتلتني فلن تسترجعي ويش أبدًا."
التوتر كان يملأ الجو، شعرت برائحتها، بالغضب يتصاعد مثل البركان على وشك الانفجار. كل جسدها متوتر، أصابعها مشدودة، وجهها صارم، عينيها تلمعان بغضب لا يرحم.
شعرت بورقة في جيبي، تلك الورقة التي كانت تذكرتي الوحيدة للأمان. عرفت أنها لن تقتلني طالما لم أعطها ويش، لكنني كنت مصممة ألا أعيده أبدًا.
فجأة، قالت بابتسامة باردة، "حسناً، سوف اقتلك وتستعيده إذا."
صُدمت، عيناي اتسعتا، قلبي كاد يتوقف، كل شيء حولي تجمد للحظة.
بدأت مونو تكون كرة نور ذهبية ضخمة، تحوم في الهواء، تهدد بتدمير كل شيء حولها. حاولت أن أفكر بخطة، أي خطة، لكن جسدي كان مثقلاً بالألم، كل فكرة تتلاشى في ضباب الصدمة والإصابة البليغة.
فجأة، من يميني، ضربت ضربة برق زرقاء عمودية، شديدة، صارت كالشعاع، اجتاحت الهواء صوب مونو مباشرة، جعلتها تطير في الهواء. شعرت بالدهشة تتسرب في داخلي، لم أصدق عينيّ، مونو كانت ترتجف، لكنها سرعان ما تعافت، وكأن البرق لم يترك فيها أي أثر.
ثم ظهر أمامي… أكيهيكو. برق يحيط به بالكامل، عيناه زرقاء بالكامل، جسده مشدود، قوته تشع في كل زاوية من المكان، الغضب يخرج منه مثل العاصفة، المظهر أكثر فخامة من أي وقت مضى، كل شعرة من جسده كأنها تشع تهديدًا.
صوته هز الهواء، عميق وغاضب، "ابتعدي عنها، أيتها الطفلة!"
وقف هناك، يلمع حوله البرق الأزرق، كأنه حائط من القوة، وكأن الكون كله يقف إلى جانبه، عيناه ترصده بكل حدة، الجهد الذي بذله واضح في كل حركة، كل عضلة منه مشدودة، كل شعور بالغضب والتحفز يملأ المكان.
الجو حولنا صار مشحونًا بالطاقة، الهواء يتشقق من شدة البرق الأزرق الذي ينبعث من يديه، وكل جزء مني يترنح من حرارة المواجهة. لم يكن أكيهيكو في وعيه بالكامل، عينيه كانت تتوهجان بالزرقة، جسده يتحرك بلا توقف، كآلة حادة موجهة ضد مونو. كل ضربة من البرق كانت تسير بسرعة تكاد تتجاوز قدرة العين على تتبعها، تضرب المكان بلا رحمة، تترك خلفها خطوطًا من الدمار والانفجار.
مونو، رغم برودها المعتاد، كانت تتحرك بسرعة مذهلة، تحاول مجاراة كل وميض من البرق، كل كرة نور ذهبية كانت تتصدى له بدقة. جسدها صامد، توازنها ثابت، لكنها لم تكن قادرة على مطابقة القوة الخام التي يطلقها أكيهيكو. كل كرة نور كانت تصطدم بالأرض مسببة انفجارًا هائلًا، وتتناثر الحطام في كل الاتجاهات. المنازل تتهدم، السيارات تتحطم، النوافذ تتحطم مع كل تفجّر، والناس يصرخون ويهرعون للاختباء.
كل ضربة من أكيهيكو كانت مدفوعة بغضب داخلي هائل، شعور بالعدالة والغضب الممزوج بالخوف على من أحب. كانت البرق يسافر بسرعة البرق الحقيقي، يقطع الهواء بصوت هدير، يترك خطوطًا زرقاء على الحوائط، يذوب كل ما يقابله. شعرت بنفسي أحاول قراءة حركة مونو، لكن سرعتها تجعل كل شيء صعبًا، كل خطوة لها محسوبة، كل حركة جسدها تهدف للبقاء.
وفي داخلي، شعرت بخوف غير معتاد، لم أعد مجرد محاربة، كنت أشاهد الدمار يتزايد: المباني المدمرة، النيران التي تشتعل، الأطفال والنساء والعجائز الذين يحاولون الفرار، بعضهم يصاب بجروح، بعضهم يبكي، وبعضهم يتجمد من الرعب. قلبي يتألم على كل روح بريئة، كل شيء يبدو وكأن المدينة نفسها تصرخ من الألم.
مونو، رغم صلابتها، بدأت تظهر عليها علامات الإرهاق، عينيها تتسعان قليلاً، جسدها يتحرك ببطء أكثر مع كل محاولة للرد على البرق، لكنها لا تزال محافظة على هدوئها، برودها يشبه الجليد المتحرك، لكن عينها بدأت تُظهر وميض القلق.
حاولت أن أستجمع قواي، كل جزء مني يصرخ بأن هذه المواجهة يجب أن تنتهي قبل أن يسقط المزيد من الأبرياء. كل ضربة من البرق كانت محاولة لإيقافها، كل ومضة كانت صرخة غضب داخلي، ولكن مونو كانت قوية بما يكفي لتثبت أنها لن تنهار بسهولة.
ثم، في لحظة حرجة، تمكن اكيهيكو من الإمساك بها، قبضته على رقبتها الصغيرة كانت حازمة، جسدها يترنح قليلًا أمام قوة قبضته. نظر إليها مباشرة، صوته مليء بغضب لا نهائي، "توقفييييييبببييي،انظري لما فعله!!!!!!!"
تجمّدت للحظة، عيناها اتسعتا، وأخيرا بدأت تدرك. نظرت حولها، كل الدمار الذي خلفته، المباني المحطمة، الناس المصابين، النيران المشتعلة، الصرخات التي ملأت الهواء. وميض الغضب في عينها بدأ يتحول تدريجيا إلى شعور بالذنب والندم.
وقف هناك، و هو لازال يمسكها، أظهر لها كل ما أحدثته هذه المواجهة، كل العواقب التي لم تكن تراها من قبل. كل لحظة كانت تعليمًا قاسيًا، شعور بالمسؤولية يدب في قلبها. بدأت تفهم أخيراً: القوة ليست مجرد تدمير، بل مسؤولية، كل حركة لها تأثير، وكل تصرف قد يجرح الأبرياء.
مع كل هذا، انتهى القتال بشكل تدريجي، بدون ضوضاء، إلا من صوت الرياح والصدى البعيد للانفجارات. برود مونو المعتاد بدأ يلين قليلاً، وعيناها اللتان كانتا مثل الجليد بدأت تعكس شعورًا جديدًا، شعور بالوعي بالدمار الذي سببته.
بعد لحظات، اختفت كل هائلة البرق حول أكيهيكو، وسقط على الأرض منهكًا، جسده مرهق من الطاقة الهائلة التي خرجت في دقيقة واحدة فقط. كان التنفس ثقيلًا، وعضلاته متيبسة، كل جزء منه يتألم من الجهد الهائل.
مونو كانت لا تزال واقفة، طائرة في الجو، تحدق في كل المصابين والدمار الذي خلفته. عيناها كانت تلتقط كل شيء: الأطفال المصابين، العجائز الذين سقطوا، الأبرياء الذين فقدوا الأمان في لحظة واحدة. نظرت إلى يديها، كأنها لا تصدق أنها كانت السبب في كل هذا، وكأن كل هذه الكوارث خرجت من بين أصابعها. ثم أطلّت بنظرة قصيرة إلى بابادوك، الذي، رغم إصاباته، كان يحاول إنقاذ الناس المحاصرين تحت الحطام، يدفع نفسه إلى حدود قدراته، قلبه مملوء بالإصرار على حماية الآخرين.
شعور مونو بالتضارب الداخلي بدأ يظهر على وجهها: الغضب والبرود المعتاد، ممزوج بالندم والدهشة من حجم الكارثة التي أحدثتها. فجأة، وسقطت على الأرض، كأنها لم تعد قادرة على الوقوف أمام حجم الخطأ الذي ارتكبته، كأن وعيها أوقفها عن أي حركة أخرى.
استغلّت نيرو الفرصة سريعًا، مدركة أن أي لحظة قد تعيد مونو إلى جنونها، وقد يُهلك الجميع. ركضت نحوها بسرعة خارقة، قلبها يخفق بشدة، يدها ترتجف قليلًا من قوة العزم، لكنها ركزت على المهمة. وضعت يديها على الجروح التي أصابتها خلال القتال، همست بسحرها، "سحر الختم – ختم الإصابات"، وفجأة شعرت طاقتها تتجدد، جروحها تلتئم، قوتها تعود تدريجيًا، كأنها استعادت نفسها بعد الانهيار.
انطلقت نحو مونو، عيناها مركّزة على كل حركة، مستعدة لتطبيق ختم الختم النهائي. وقفت أمامها، رأتها ساكنة، وجهها البارد كما اعتدنا، لكنها كانت عميقة في أفكارها، عينها تمسح كل الدمار، كل الدماء، كل الأبرياء الذين تأثروا. شعرت نيرو بثقل المسؤولية، قلبها يئن: هل تختمها الآن، وتضع حدًا للدمار، أم تتركها حرة بعد أن رأت حجم الألم الذي سببته؟ الحرب الداخلية كانت محتدمة داخلها، الصراع بين الرحمة والعدالة، بين الحفاظ على حياة الجميع أو إنقاذ روح واحدة من الانهيار النفسي.
رفعت نيرو يدها، وقالت بصوت ثابت لكن مليء بالعاطفة: "نزع الختم".
وبلحظة واحدة، عادت ويش إلى مونو، تتحرك حولها بحرية، كأنها لم تغادر أبدًا. تعلّقت مونو بها، ابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها البارد، لكنها هذه المرة كانت صادقة. نظرت إلى نيرو، همست باعتذار خافت، "شكراً… على كل شيء… لم أقصد كل هذا."
ثم بدأت مونو بحركة بطيئة، مركزة، تصنع تعويذة ضخمة. الأجواء ارتجت من قوتها، السماء تلألأت بضوء ذهبي أبيض، كأن العالم نفسه ينعكس فيها. بدأ تأثير التعويذة يظهر تدريجيًا: الدمار يختفي، المباني المهدمة تعود إلى شكلها الأصلي، الأرض تتساوى، والناس المصابين يعودون للحياة، ينهضون دون أي أثر للأذى. حتى بابادوك وأكيهيكو، الذين تعبوا وأصيبوا في القتال، شعروا بطاقة التعويذة تجدد في جسدهم، شفاؤهم صار سريعًا.
نيرو وقفت، تنظر إلى مونو، إلى البلدة التي عادت للحياة، إلى الأطفال الذين يركضون بحرية، والنساء والعجائز الذين يبتسمون بلا خوف. شعور بالارتياح ملأ قلبها، لكنها علمت أن هذه اللحظة لن تُنسى أبدًا، وأن القوة، مهما عظمت، هي مسؤولية يجب أن تُحترم.
مونو، بعد أن أكملت التعويذة، نظرت إلى السماء ثم إلى الأرض، وجهها البارد صار أكثر هدوءًا، وكأنها تعلمت درسًا عميقًا عن القوة والدمار، وعن الحدود التي يجب أن تُحترم.
وقفت هناك، منبهرة، عيناي لا تفارقان التعويذة الهائلة التي صنعتها مونو. الحرارة تتصاعد من الأرض والسماء، الضوء الذهبي الأبيض يملأ المكان، كأن كل شيء من حولي يتوهج بطاقة جديدة. لم أشهد أبدًا قوة بهذا الحجم، ولم أشعر أبدًا بهذا الإحساس بالرهبة والانبهار في وقت واحد.
وفجأة، ظهر بابادوك وأكيهيكو أمامنا، يخطوان بحذر، وجوههما مليئة بالقلق والخوف، عيونهما تتحرك بسرعة لتفقد أي علامة عدائية من مونو. كان التوتر يسيطر عليهما، كل عضلة مشدودة، وكل حركة محسوبة بعناية، وكأنهما على شفا مواجهة لا مفر منها. شعوري بالخوف امتزج بشعور بالطمأنينة لوجودهما إلى جانبي، لكن قلبي ظل يخفق بشدة.
مونو وقفت بهدوء، عينها الباردة تراقبنا، ثم قالت بصوت بارد، مليء بالبرود والفخامة:
"لا تقلقوا… لن أهاجمكم قبل أن أستمتع باليمنى."
تبادلنا النظرات بيني وبين أكيهيكو وبابادوك، ثم بدأت أوضح الموقف بصوت مرتفع، قلبي لا يزال يخفق بسرعة:
"مونو، أنت تفهمين خطأ… نحن لا نريد القتال معك، نحن نتدرب فقط… نتدرب لحماية بليك… ليس لسرقة كتاب شمس المعارف أو أي شيء آخر!"
بابادوك أضاف، صوته مليء بالإصرار والصدق:
"نحن نقاتل ونتدرب فقط لنتمكن من الدفاع عن أصدقائنا… عن بليك… لم يكن هناك أي نية لمهاجمتك أو الاستيلاء على شيء يخصك."
أكيهيكو، وهو يهز رأسه، أضاف بحذر لكنه صادق:
"كل ما نفعله هو لحماية من نحب… نحن لسنا أعداءك."
توقفنا جميعًا لحظة، ونظرنا إلى مونو. كان وجهها البارد لا يزال حادًا، لكنها أخذت نفسًا عميقًا، ثم انحنت قليلاً، وكأنها تحاول أن تعالج شعورها الداخلي المتضارب، وقالت بصوت منخفض، مشحون بالندم:
"أعتذر… أعتذر جدًا لكم… كنت على وشك أن أقتلكم جميعًا… أرجو أن تسامحوني على أفعالي الشنيعة… لقد فقدت السيطرة على نفسي…"
وقفت للحظة، عيناي تراقبانها، بينما أفكر في حجم الدمار الذي تسببت به، وفي كل الألم الذي شعرت به من قبل. كانت لحظة صمت طويلة، مليئة بالتفكير العميق.
بابادوك تنفس ببطء، وجهه لا يزال يحمل آثار التعب والجروح، لكنه رفع رأسه قليلاً، نظر إلى مونو بعينين هادئتين وقال:
"لقد فهمنا… لن نقول لا… لقد ارتكبت أخطاء، لكنها كانت بدافع القوة والخوف… وسنمنحك فرصة للتعلم والتصحيح."
أكيهيكو، وعيونه لا تزال تلمع بالحرص والصدق، أضاف:
"نعم… نحن نعلم أن لديك نوايا صعبة ومشاعر معقدة… لكن الآن، نحن نختار أن نسامحك… لأنك جزء من هذا العالم، ولأنك تستطيع أن تتعلم وتغير."
مونو نظرت إلينا، دموع صغيرة تشق طريقها على وجنتيها، وجهها البارد بدأ يلين شيئًا فشيئًا، وقالت بخضوع:
"شكرًا… شكرًا لكم… لن أنسى أبدًا ما فعلتموه لي… سأعمل على أن أكون جديرة بمسامحتكم…"
وقفنا جميعًا للحظة، صمتنا مليء بالراحة المؤقتة، وبحسرة على ما مضى، لكن أيضًا بالأمل لما سيأتي.
سألتني مونو بجدية في عينها.
"ما هو هدفكي من تدريب ذالك الجن و الصبي الاشقر"
وقفت أمامها، عيناي تراقبان كل حركة في وجهها الجاد، أشعر بثقل الحديث يملأ المكان، بينما صوتي كان هادئًا لكنه صادق.
"تقصدين بابادوك وأكيهيكو، أنا فقط أرى فيهم الإمكانيات ليصبحوا مدافعين عن هذا العالم في المستقبل، بجانب بليك."
حدقت بي مونو بعمق، وكأنها تحاول قراءة كل ما في داخلي، ثم سألت بصوت جاد:
"وما هو سبب حاجتك لبليك؟"
توقفت قليلاً، عيناي تبحثان عن الكلمات الصحيحة، ثم همست بصوت منخفض:
"آسفة… هذا أمر أحتاج أن أتحدث به مع بليك وجهًا لوجه… لذا سأنتظر حتى يعود من التدريب."
وقفت لحظة صامتة، ثم أضفت:
"وأعلم أن غضبك تجاه ما حدث مبرر…"
مونو سكتت قليلاً، كأنها تغوص في شعور بالذنب، ثم قالت بصوت خافت:
"في الواقع… لقد أحسست بوجود شخص قوي هنا، شعرت بالخطر، فقررت القدوم بنفسي لأرى الوضع."
ابتسمت بخفة، محاولًة تهدئتها:
"إذا كنت قد ظننتِ أنني شخص يريد القضاء على بليك…"
أجابت بسرعة، وهي تنظر إليّ بعينين صادقتين:
"نعم… وآسفة على تسرعي في الاستنتاج."
لحظة صمت طويلة مرت بيننا، مملوءة بفهم متبادل، كأن كل شيء عادت له توازنه مؤقتًا. شعرت بأننا، رغم كل الفوضى والدمار، استطعنا أن نجد لحظة من الصفاء والتفاهم، تعطي بارقة أمل لما سيأتي لاحقًا.
قاطع الحماس كلامنا فجأة، وصوت أكيهيكو كان مملوءًا بالشغف والفضول:
"هل بليك بخير؟ كيف حاله؟ هل تتطور قوته؟ متى سينتهي التدريب؟"
ابتسمت مونو، وكانت تلك الابتسامة نادرة وملفتة للانتباه، وقالت بهدوء وثقة:
"أجل، بليك يتطور بوضوح، لكننا ما زلنا في بداية التدريب، لذا لا أتوقع أنه سيعود قريبًا."
تداخلت مشاعر أكيهيكو بين الاشتياق العميق لصديقه والحماس لرؤية قوته بعد هذا التدريب الشاق، بينما كان وجهه يلمع بالأمل والحماسة.
فجأة، ضُرب على ظهره بيد بابادوك، وهو يهأنه بمزيج من المزاح والفخر:
"أيها الشقي، لم أتوقع أن تملك سحرًا، أكنت تخفيه هنا طوال الوقت؟"
استدار أكيهيكو مذهولًا، ينظر إلى يديه وكأنها غريبة عليه، متذكّرًا قوة البرق التي خرجت منه قبل قليل:
"في الواقع، كنت في غير وعيي وقتها، ولا أعلم كيف خرجت تلك القوة من الأساس…"
نيرو ابتسمت بحزم، وقالت بصوت واثق:
"يبدو أن التدريب في بوفورين قد أثمر نتائجه. أنت أيقظت قوة عنصر البرق داخلك."
اندلع شعور الصدمة في أعيُن أكيهيكو، فرفع حاجبيه مذهولًا وقال:
"ماذا؟ أنا أمتلك سحر البرق؟"
ابتسمت نيرو وقالت مطمئنة:
"نعم، ونحتاج فقط أن يتعود جسدك عليه، وعلينا أن نتعلم التحكم فيه. سأساعدك على ذلك أيضًا."
توهجت فرحة أعمق في قلب أكيهيكو، وعيناه تلتمعان بالأمل والعزم، نظر إلى السماء وقال بحزم وإصرار:
"انتظرني يا بليك… مهما كنت قويًا عندما تعود، سأكون قوي أنا أيضًا. فقط أنتظر…"
وكان في صوته مزيج من العزم، الإصرار، والحب العميق لصديقه، وكأن السماء نفسها تشهد ولادة قوة جديدة تتأهب للحماية والصمود.
نظرت إلى بابادوك، وكان واقفًا خلفنا، وملامحه تشع بالحزن العميق؛ عيناه نصف مغمضتين، فمه مشدود بخفوت، وكتفاه مائلان إلى الأمام كما لو كان يحمل وزن الهزيمة على ظهره. شعرت فورًا بما يعنيه هذا: كبرياؤه الذي تعرّض للضرب قد تألم بشدة، والانكسار الذي أصابه لم يكن مجرد هزيمة جسدية، بل كسر لكرامته واعتباره لذاته.
قلت له بصوت لطيف، أحاول كسر حاجز الحزن:
"هاي، بابادوك، ماذا تفعل؟ لماذا تظهر هذا الوجه الحزين؟ هذا ليس من طباعك."
ابتلع الهواء بصعوبة، وأجاب وهو يحدق في الأرض:
"أ.. آسف…"
ابتسمت بحذر وقلت مرة أخرى:
"ماذا؟ هذا ليس طباعك بالفعل."
تردد، ثم قال بلهجة مشوشة:
"ا..اصمتي…"
وضع أكيهيكو يده على كتف بابادوك، مُظهرًا له دعمه الكامل، كأنه يقول له بصمت: لن تكون وحيدًا، سنتجاوز هذا معًا. قال بصوت مطمئن ومليء بالعزم:
"هي، لا تحزن. سنصبح أقوى، لا تقلق."
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه بابادوك أخيرًا، وكأن شعاع الأمل بدأ يتسلل عبر الحزن، لكنه فجأة تذكر كلامه السابق أمام أكيهيكو، وضربه على طول بحركة مفاجئة وقال بلهجة حادة:
"انسى كل ما سمعت سابقًا!"
بدت ملامحه وكأنها استعادت طبيعته تمامًا؛ الكبرياء عاد، والعزيمة تعود لتملأ عينيه. أصبح من جديد الشخص الذي يعرفه الجميع: قوي، مصمم، ومستعد لمواجهة أي تحدٍ، دون أن يترك الهزيمة تسيطر على قلبه.
بدأت مونو تطفو ببطء نحو السماء، جسدها مضاء بهالة ذهبية خافتة، وعيناها الباردتان تتأملاننا للحظة، ثم قالت بصوت هادئ وثابت:
"حسنًا، يجب عليّ أن أعود إلى بليك الآن، لذا حان وقت الوداع."
ابتسم بابادوك بنبرة ساخرة:
"لا أظن أننا نمتلك ذكريات جميلة معك لتخبرينا أنه وقت الوداع."
توقفت مونو فجأة، وكأنها تذكرت شيئًا، وعادت لتشكل شيئًا من الضوء الذهبي بين يديها. تدريجيًا، تحول هذا الضوء إلى سيف.
هو سيف كاتانا ياباني تقليدي،الشفرة طويلة ومنحنية قليلاً، وهي إحدى السمات المميزة للكاتانا. يبدو أنها مصقولة ولامعة.
المقبض لونه أبيض ومزين بلفائف ذهبية اللون، مما يضفي عليه مظهراً أنيقاً.
الغمد أبيض اللون ومصمم لحماية الشفرة.
الواقي هو الجزء الذي يفصل المقبض عن الشفرة، ولونه ذهبي.
هذا المزيج من اللونين الأبيض والذهبي يعطي السيف مظهراً فخماً وجميلاً.
. مدت السيف إلى أكيهيكو وقالت له:
"هذا لكي يساعدك في التدريب على عنصر البرق. اعتبره مجرد هدية لتعويض ما فعلته."
نظر أكيهيكو إلى السيف بدهشة وإعجاب، يده ترتعش قليلًا وهو يمسك به، وعيناه تتلألأ بالحماس والامتنان، بينما شعوره بمسؤولية القوة الجديدة يزداد.
ثم استدارت مونو إلى بابادوك، وعيناها المليئتان بالبرود والثقة المتحفظة التقتا بنظرة متوترة من بابادوك، يحاول إخفاء ارتباكه خلف هدوئه المعتاد. قالت مونو بصوت منخفض ولكن حاد:
"أنا لا أثق في الجن، ولا أثق بك… لكن… بما أن بليك يقف إلى جانبك، فسوف أراقبك فقط."
أجابها بابادوك بصوت هادئ يحاول إخفاء توتره:
"حسنًا، أنا لا أهتم فعليًا."
ابتسمت مونو قليلاً، ثم قالت بنبرة أرق:
"يا نيمو، سحر الختم الذي تستخدمينه رائع جدًا ومفيد حقًا، أتمنى أن تعلمي الصبي الأشقر وهذا الجن على أكمل وجه ليتمكنوا من مساعدة بليك في المستقبل."
أجابت نيرو بثقة:
"حسنًا، سأفعل."
أخذت مونو لحظة للتفكير، ثم أكملت:
"أنا لا أعرف ماذا تريدين من بليك، لكني أحترم قوتك."
نظرت نيرو إليها بعينين ملؤهما الاحترام والهدوء، وكأنها تعترف بالثقل الذي تحمله مونو وقدرتها على اتخاذ القرارات الصعبة.
ومع ذلك، بدأت مونو تطفو مبتعدة عنا ببطء، وداعها هادئ وثابت. أمامها فتحت فجأة بوابة مكانية ذهبية اللون، متلألئة كالشمس عند الغروب، وانزلقت داخلها بخفة، ثم انغلقت البوابة خلفها، تاركةً السماء صافية والهواء هادئًا، معلنة انتهاء هذا اليوم الطويل والصعب، ومخلفةً وراءها شعورًا بالارتياح والخوف والدهشة المختلطة بيننا.
[منظور بليك]
مضى يوم كامل منذ رحيل مونو، وكنت مستلقيًا على صخرة في أعلى الجبل، أستمتع بهواء الصباح البارد ولكن داخلي كان مملوءًا بالفراغ. قضيت معظم الوقت نائمًا أو أنظر إلى الأفق بلا حراك، أتناول بعض الطعام والماء بين حين وآخر بلا أي حماس، وأتحرك فقط بين المكان الذي أستلقي فيه وصخرة قريبة أراقب منها الأسفل. حتى لحظات التدريب والتحدث مع مونو كانت تتكرر في ذهني، وكل ذلك جعل اليوم يبدو فارغًا، خاليًا من الحياة. شعور بالوحدة اجتاحني، لأن طوال هذا الشهر كنت معها، نتدرب سويًا، نتحدث، نتشارك الطعام والضحك… واليوم، بدونها، كل شيء بدا بلا معنى.
وفجأة، لمحَت عيني ضوءًا أصفر ساطعًا ينير بين الصخور. رفعت رأسي لأرى بوابة ذهبية تتفتح في الهواء، ومن خلالها خرجت مونو.
صرخت و أنا أجري نحوها
"مونو!!!!"
قفز قلبي من مكانه حين اقتربت مونو، وبدون أي تردد أمسكت بها بين ذراعيّ، ضاغطًا عليها برفق لكن بثبات، وكأنني أريد أن أنقل لها كل شعوري بالاشتياق والفراغ الذي شعرت به طوال اليوم. كان حضننا متشابكًا بطريقة تمنع أي مسافة بيننا، دفء جسدها مقابل برد الهواء الجبلي، ورائحة شعورها المألوفة تغمرني. حاو
لت مونو الابتعاد قليلًا، عيناها تكاد تقولان “ماذا تفعل؟”، لكني لم أسمح لها، فأعادتها برفق إلى صدري، ووجدت نفسي أتنفس معها ببطء، وكأن هذا الحضن أصبح ملاذًا لنا، لحظة صمت ومطمئنة وسط كل الفوضى التي عشناها. في النهاية، أرخَت مونو جسدها قليلًا، واستسلمت للحظة، لتصبح مشاعركم معًا متشابكة، صامتة، لكنها تقول أكثر من أي كلمة يمكن أن نبادلها.