اليوم التالي...

كانت السماء صافية كمرآة من زُرقةٍ لا تُرى نهايتها، والشمس تبعث دفئًا لطيفًا يذيب بقايا برودة الليل. الهواء منعش، محمَّل برائحة الندى التي ما زالت عالقة بأوراق الأشجار المحيطة بساحة التدريب. شعرتُ كأن العالم كلّه يريد أن يقول لي: هذا يوم جديد... فلا عذر لك أن تتراجع.

وقفت أمام مونو، يدي مشدودة على مقبض السيف، أتنفّس ببطء وأشحذ كل حواسي. كانت مونو تطفو بهدوء كالمعتاد، شعرها الأسود القصير يلمع تحت الضوء، وعينيها المتألقتين تتابعانني بصرامة هادئة. رفعت يدها بخفة، وقالت بصوت بارد لكنه يحمل ثقة مطلقة:

«تدريبك التالي سيكون اختبارًا للرشاقة في جسدك... هل أنت مستعد؟»

ابتسمتُ رغم التوتر الذي يعصف بداخلي، وأجبت بحزم:

«نعم... أنا مستعد.»

في داخلي، كان هناك صوت آخر يهمس... لقد اجتزتُ أصعب من هذا. بعد كل تدريباتها القاسية، جسدي لم يعد كما كان. تنفّسي تغيّر، حركتي تغيّرت، وحتى قلبي أصبح أقوى... هذه المرة لن أسمح للخوف أن يعرقلني.

لوّحت مونو بيدها في الهواء، وارتفعت ذرات الضوء حولها لتتشكل في لحظة خاطفة. قالت وهي تنظر إليّ دون أن يطرف لها جفن:

«حسنًا... ابدأ.»

وفجأة، من العدم، انبثق شيء ضخم من تحت قدمي. شعرتُ بالأرض تهتز لحظة قبل أن ينفجر أمامي مِجسّ هائل، ذهبي بالكامل، يلمع كقطعة شمسٍ ممدودة. شكله يشبه ثعبانًا عملاقًا، لكن بلا عيون، بلا فم... مجرد كتلة طاقة خام، ملساء، لا تحمل أي ملامح سوى لمعانها المهيب.

اندفع نحوي بسرعة مدهشة، كأنه برق متجسد.

«إن لمسته، سوف يخترق جسدك تمامًا.» قالت مونو ببرود وهي تطفو في السماء، وكأنها لا ترى في الأمر خطرًا، بل اختبارًا باردًا.

صرخت بعزم، وأنا أرفع سيفي وأضبط إيقاع أنفاسي:

«حسنًا!!! أستطيع فعلها!»

أغمضت عيني لجزء من الثانية... وأطلقت تنفّس الصوت.

كل اهتزاز في الهواء، كل حركة طاقة حولي، صار يُسمع في داخلي كأنه نغمة موسيقية. المجسّ العملاق لم يعد مجرد هجوم، بل لحن حاد يخترق الأذن... ومع أول اندفاعة نحوي، انحنيت جانبًا بخفّة، وتركت الريح الذهبية تمر بجانبي كعاصفة لم تلمس سوى الفراغ.

فتحت عيني، وأنا أواجهه وجهاً لوجه، والابتسامة على وجهي لم تكن من التحدي... بل من يقين داخلي أنني سأفوز

اندفع المجسّ الذهبي كوميضٍ ناري يخترق الفراغ، طوله الهائل يلتف بين الأشجار في الغابة كأنه تنين من طاقة خالصة. الهواء نفسه صار يرتجف من سرعته، وكل حركة له تترك خلفها أثرًا لامعًا يذيب الأوراق اليابسة على الأرض.

ارتفع العرق على جبيني، وقلبي يطرق صدري بعنف. رفعت سيفي وأخذت نفسًا عميقًا، أحاول ضبط إيقاع التنفّس. هذا الشيء... ليس مجرد كتلة طاقة. إنه يملك وعيًا تكتيكيًا... إنه يلاحقني بدقة قاتلة. لو أخطأت مرة واحدة فقط، سأُحرق بالكامل.

المجس اندفع فجأة من الجانب، فغرزت قدمي في الأرض وقفزت للأعلى. الهواء حولي احترق كأنني قفزت فوق لهب متحرك. عيناي اتسعتا—لقد كان قريبًا جدًا، لو تأخرت لحظة واحدة فقط، لابتلعني بالكامل.

هبطت بين جذوع أشجار شاهقة، رائحة الصمغ المحترق تتصاعد من أماكن لمسها المجس. الأرض اهتزت تحتي وهو يضرب من جديد، وهذه المرة بخدعة. انقسم طرفه إلى فرعين، أحدهما يهاجمني من الأمام، والآخر يحاصرني من الخلف.

ذكي... إنه لا يهاجم فقط بقوة، بل يخطط لإغلاق كل مخرج.

صرخت في نفسي: ركز يا بليك! تنفّس الصوت... لا تنظر إليه كوحش، اسمعه كإيقاع!

أغمضت عيني لثوانٍ قصيرة وسط الفوضى. الأصوات من حولي تغيّرت:

همسات الرياح بين الأوراق.

الطنين الكثيف للطاقة الذهبية.

صوت ضربات المجس على التربة.

كلها تحولت إلى سيمفونية واحدة، كأنني أسمع لحنًا يوجه خطواتي.

فتحت عيني بسرعة، واندفعت للأمام. جسدي انحنى بانسياب كالماء، تجاوزت المجس الأمامي بخطوة جانبية، وفي اللحظة نفسها أدرت جسدي دورة كاملة لأفلت من الثاني وهو يمر من خلفي. الشرر الذهبي لمس طرف ردائي، فاحترق جزء منه على الفور.

تشنج وجهي، أسناني اصطكت من شدة توتري. هذا ليس تدريبًا عاديًا... إنه موت يقترب في كل ثانية.

صرخت وأنا أركض بين الأشجار:

«لن أسمح لك أن تهزمني! حتى لو كنتَ مجرد طاقة بلا روح!»

المجس لم يتوقف. بدلاً من ذلك، التف حول جذع شجرة ضخمة، واقتلعها بالكامل من الأرض ليقذفها نحوي. ارتجّت الغابة كلها، وتساقطت الطيور من أعشاشها وهي تهرب في كل اتجاه.

قفزت جانبًا، الشجرة تحطمت حيث كنت أقف، وارتفع الغبار. مع ذلك، المجس لم ينتظر. اخترق سحابة الغبار كرمحٍ ذهبي، اندفع نحوي بقوة تجعل الهواء يصرخ.

تبًا... سريع جدًا!

غرست سيفي في الأرض، وانطلقت مستعينًا به كارتكاز، قفزت لأعلى الأغصان. أوراق الأشجار تكسّرت تحت قدمي، وأنا أتنقل بينها بسرعة. لكن المجس تبعني للأعلى، يلتف بين الفروع كأفعى ضخمة، ويدمر كل شيء في طريقه.

شعرت بلهيب الطاقة يحرق وجهي كلما اقترب مني.

فكّر... فكّر! لا يمكنني أن أبقى في موقف الدفاع دائمًا... يجب أن أجرّه إلى فخ.

نظرت حولي. الغابة كثيفة، جذوع الأشجار قريبة من بعضها، الأغصان مترابطة. لو استغللتها جيدًا، ربما أستطيع تعطيله ولو للحظة.

قفزت بين شجرتين، وبدأت أركض بشكل متعرّج، أجبر المجس على مطاردتي في مسار ضيق. كان يندفع بعنف، كلما اصطدم بجذع أشعل النار فيه. الحرارة من ورائي كانت خانقة، ظهري يتصبب عرقًا، أنفاسي صارت أثقل.

لكن ابتسامة صغيرة ظهرت على وجهي: أجل... اقترب أكثر... دعني أسمع لحنك كاملًا.

المجس اندفع ليهاجمني من الأعلى، فالتفت فجأة وأطلقت كل قوتي نحو الأمام. سيفي اخترق الفراغ، ورحت أقطع الأغصان المتدلية بسرعة، حتى تساقطت فوقه فجأة.

لم يتوقف... لكنه تأخر جزءًا من الثانية ليشطرها. وكانت هذه الثانية كل ما أحتاج.

قفزت للأمام، دحرجت على الأرض، ووقفت في وضعية قتالية. السيف أمامي، عيني ثابتة.

الهواء بيننا صار مشبعًا بالشرر الذهبي، الأرض تحولت إلى رماد تحت قدميه. ومع ذلك، لم أهتز.

همست في داخلي:

اسمع... أنفاسك. اسمع... نبضك. اجعل جسدك يتناغم مع هذا اللحن... وسوف تستطيع تجاوزه.

المجس ارتفع من جديد، هذه المرة يلوّح بجسده كالسوط. الضربة القادمة ستكون قاتلة، أسرع مما سبق.

شدّدت قبضتي على السيف...

وابتسمت.

المجسّ لم يكن مجرد طاقة عمياء، بل وحش ذهبي يعرف كيف يصطاد.

في اللحظة التي استعدت فيها لموجته الثانية، أحسست أن الهواء كله ارتجف وكأن الغابة ابتلعت أنفاسها.

انحنيت، دُرت، حاولت القفز، لكن...

بوووم!

المجس ارتطم بجذع شجرة عملاقة خلفي، فاحترق الخشب وانفجر إلى رماد أسود في لحظة. الشرر تناثر في الهواء كأمطار نارية، وحرارة حارقة لامست وجهي. ابتلعت ريقي بصعوبة... لو كنتُ أبطأ بجزء من الثانية لكان ذلك جسدي.

يا إلهي... إنه ليس مجرد هجوم، إنه برقٌ حي.

أخذت أعمق نفس بتقنية تنفّس الصوت. بدأت أسمع دقات قلبي كطبول حرب، وانبعاثات الطاقة من المجس كانت عالية، حادة، تخترق رأسي كصفير معدني. استطعت أن أحدد من أين سيأتي... من اليمين.

وثبت إلى اليسار بكل قوتي—لكن لم يكن ذلك كافيًا.

المجس انحنى فجأة، وبدل أن يهاجمني من الاتجاه المتوقع، التف كأفعى ضخمة غيرت مسارها في آخر لحظة.

«مستحيل!» صرختُ في داخلي، وأنا أُقذف للخلف بعد أن لامس طرفه كتفي.

صرخة ألم اخترقت حنجرتي. الحرارة اخترقت جلدي كجمرٍ غرس في اللحم. رائحة احتراق لحمي ملأت أنفي، وكادت تجعلني أتقيأ.

تعثرت، ركضت بضع خطوات للخلف ألهث، أضغط على كتفي بيدي المرتجفة.

حتى مع تنفّس الصوت... سرعته خارجة عن المنطق. أنا أسمع اللحن، أعرف النغمة، لكن جسدي لا يلحق بها. مرونتي... لا تكفي.

أحاطني المجس من جديد، يلتف بين الأشجار، يلتف كدوامة ذهبية رهيبة، يكسّر الأغصان، يقتلع الأوراق التي تتطاير كعاصفة خضراء. الغابة، التي كانت هادئة قبل قليل، صارت ساحة جنون. الطيور فرت مذعورة، والأرض تهتز مع كل ضربة.

حاولت أن أستخدم السيف هذه المرة. رفعت نصله أمامي بتركيز، وكل عضلة في جسدي تصرخ.

إن لم أستطع الهرب... فعليّ أن أقطع طريقه.

اندفع المجس من جديد، سريعًا، مستقيمًا كرمح.

صرخت وأنا أهبط بالسيف بكل قوتي:

«آآآآاه!»

اصطدم نصلي بالطاقة الذهبية... صوت الاحتكاك كان مثل صرير آلاف المعادن تنكسر معًا. الشرر تطاير، وصدري كاد ينفجر من قوة الارتداد. شعرت كأنني حاولت إيقاف جبلٍ كامل بسيف واحد.

ثم... ارتد المجس بقوة، واندفع من الجانب الآخر.

لم أملك الوقت للتفادي.

ضربني على الجانب وأرسلني متدحرجًا بين التراب والجذور. جسدي اصطدم بجذع ضخم، وتوقفتُ أتنفس بصعوبة، التراب يملأ فمي، الدم ينزف من جبهتي.

رفعت بصري فرأيت المجس يعلو من فوقي، طويلًا بلا نهاية، يتمايل في الهواء ككابوس من نور.

لا... لا يمكن... مهما سمعتُ لحنه، لن أستطيع اللحاق به. جسدي ثقيل، حركتي بطيئة... هو لا يمنحني فرصة حتى لأفكر.

قبضت على سيفي بقوة، أنفاسي متقطعة، قلبي يتسابق كطبل مكسور. عيني ارتجفت، لكن في داخلي لمعت فكرة صغيرة، يائسة:

إذا لم أستطع أن أسبقه... ربما أستطيع أن أجرّه إلى فخّي...

لكن قبل أن أكمل التفكير، اندفع المجس من جديد بسرعة تفوق حتى أفكاري.

الألم كان يلتهم كتفي، كأن جمرة انغرست تحت الجلد. تنفسي متقطع، وعرقي يختلط بالتراب والدم. المجس يلوح من حولي كدوامة ذهبية، يضرب الأرض والهواء بلا توقف، يذكرني في كل لحظة أنني مجرد هدف صغير في عينه.

لكن شيئًا ما... بدأ يتضح لي.

كلما حاولتُ أن أصدّه بقوة، كنت أُسحق. جسدي ثقيل، مرهق، وسرعته تسحقني. لكن عندما تعثرت بالصدفة قبل قليل، وانزلقت على جذع مكسور، لاحظت أن المجس مرّ بجانبي ولم يلمسني.

هل يعقل؟… لم يكن تجنبي للضربة قوةً، بل مجرد حركة خاطئة... حركة لم أُخطط لها.

قلبي ينبض بجنون، عيناي تتابعان المجس وهو يلتف في الهواء. أخذت نفسًا عميقًا، أطلقت تنفّس الصوت، أصغي للذبذبات، للصوت المعدني في الهواء...

«يمين... يسار...» تمتمتُ لنفسي.

جسدي صرخ ألمًا، لكنني أجبرت نفسي أن أرخي عضلاتي بدل أن أشدها. عندما اندفع المجس من اليمين، بدل أن أصدّه مباشرة، انزلقت بجسدي للأمام، منخفضًا كراقص يتفادى رمحًا. حرارة الطرف لامست ظهري، حرقته، لكنني تفاديت الضربة فعلاً.

«آآآاه!» صرخت من الألم، لكنني ابتسمت من خلال الدم.

هذا هو... ليس الصد. ليس القوة. إنما الانسياب.

المجس هدر كعاصفة ثانية، يندفع من الأعلى. هذه المرة لم أواجهه بالسيف، بل دُرتُ على عقبي، استعملت الجذع المحطّم كدعامة، قفزت فوقه. الهواء الحارق مسّ ساقي، ورائحة اللحم المشوي تصاعدت... لكنني نجوت مرة أخرى.

الاحتراق يلتهمني، كل خطوة تكلفني صرخة، لكن حركاتي... بدأت تتغير.

لم أعد أواجهه كجدار، بل كظل. جسدي يتلوى مع ضرباته، يسقط أرضًا ثم ينهض، ينحني، يتدحرج، يزحف، يقفز... كل مرة يُصيبني بجرح جديد، لكنه يعلّمني كيف أُفلت.

أنا بطيء... لكن إن جعلت الأرض تساعدني؟ إن جعلت الحركة أبسط، أقصر؟...

صرخت وأنا أندفع، أضع يدي على جذع متفحم وأستعمله كارتكاز، أقفز للجانب وأسمح للمجس أن يحطم الأرض التي كنت أقف عليها قبل ثانية.

الغابة تهتز، التربة تتفتت، والدخان يغطي الجو. لكنني الآن... أسمع إيقاعًا آخر.

ليس فقط صوت المجس، بل إيقاع جسدي أنا.

دقات قلبي، خطواتي، حتى شهيقي وزفيري... كلها تنسجم مع أصواته.

«أنا أستطيع...» همستُ.

«أستطيع أن أسايرك!»

المجس اندفع مجددًا، وأنا هذه المرة لم أهرب فقط. رفعت سيفي، لكن ليس بقوة عمياء. جعلت ضربة السيف تتمايل مع حركتي، كرقصة. اصطدم الطرف الذهبي مع نصلي، الشرر تطاير، لكني انزلقت جانبه بدل أن أُسحق تحته.

هذه ليست قوة... هذه مرونة. جسدي يتعلم... يتأقلم... يتكيف.

القتال أصبح أطول، أعمق.

المجس يضرب من عشرة اتجاهات في لحظة، وأنا أتمايل بينها:

أحيانًا أسمح له أن يخدشني بدل أن يثقبني.

أحيانًا أهبط على الأرض وأزحف، أستغل انخفاض جسدي.

أحيانًا أستعمل جذوع الأشجار كدروع مؤقتة، أختفي خلفها وأتحرك مع انهيارها.

وأحيانًا... أواجهه بضربة خاطفة، نصلي يمر بجانبه ويترك أثرًا باهتًا على طاقته.

الحرارة تحرق رئتي. الدم يغطي يدي. كل عضلة في جسدي تصرخ، لكن قلبي... قلبي يضحك.

لقد بدأنا نتعادل... لم أعد مجرد فريسة.

ابتسمت، وأنا أُمسك سيفي بيد مرتجفة.

«هيا أيها الوغد... لن أهرب بعد الآن. هذه رقصة بيننا... حتى النهاية.»

والمجس رد عليّ بهدير ذهبي، يهتز في الهواء كأنه قبل التحدي.

العرق كان يتصبب من جبيني، تتسارع أنفاسي، والهواء من حولي يتشقق تحت ضغط المجسات الذهبية العملاقة. لم يعد الأمر مجرد اختبارٍ عادي… لقد تحوّل إلى معركة حقيقية من أجل البقاء.

المجس أمامي انفجر فجأة إلى ثلاثة أذرع ذهبية هائلة، كل واحد منها يتلوى كالأفعى الجائعة، يضرب من اتجاه مختلف. الأرض تنفجر تحت وقع ضرباته، تتطاير الأحجار وجذوع الأشجار المحطمة في الهواء، والغابة تتحول إلى ساحة حرب.

رفعت سيفي بسرعة، التويت بجسدي، ثم قفزت للخلف لتفادي ضربة جانبية. لكن فجأة—شعرت بذبذبة في الأرض. من تحت قدمي!

صرخت داخلي:

“من تحت! أسرع يا بليك!!”

قفزت إلى الأعلى بكل ما أملك، وفجأة انبثق مجس ذهبي آخر من باطن الأرض، اندفع نحوّي بسرعة رصاصة، حتى كدت أرى انعكاسي على سطحه المضيء. كنت أبطأ من اللازم… لم أستطع تفاديه تمامًا، فمرّ بجانبي، ليترك أثرًا محترقًا على جانبي الأيسر. الألم كان وحشيًا، كأن النار التصقت بجلدي.

شهقت:

"تبًا… إنه لا يمنحني أي مجال…"

لكن عيني لمعت. الألم نفسه أجبرني على الانتباه… جسدي كان يتعلّم!

بدأت أتحرك بخفة أكبر. صرت لا أقاوم اندفاعي، بل أستغلّه. بدلًا من أن أتوقف فجأة لأتفادى، كنت أترك نفسي أتمايل مع الحركة، ألين جسدي كأغصان الأشجار التي تهتز مع الريح.

المجس هاجم مرة أخرى، من الأمام هذه المرة. لم أقفز للخلف… بل انحنيت بانسياب، جسدي يقترب من الأرض، والهواء يصفع وجهي. شعرت أني صرت أخف، أسرع. المجس مرّ فوقي بسرعة مرعبة، حتى كدت أسمع صرير الطاقة الذهبية وهي تشقّ الأجواء.

“هذا هو… إن حاولت مواجهته بالقوة فقط سأُسحق… يجب أن أجعل جسدي ينساب معه… يجب أن أصبح أسرع منه بخطوة، ولو بخطوة صغيرة فقط.”

لكن المجس لم يمنحني فرصة للراحة. فجأة، تراجع قليلًا، ثم أطلق كرة ذهبية ضخمة بحجم صخرة. انطلقت نحوي بسرعة هائلة، ثم انفجرت بصوت مدوٍّ. الغابة كلها اهتزت، أوراق الأشجار تساقطت كالعاصفة، والانفجار ولّد موجة هوائية رمتني بعيدًا.

تدحرجت على الأرض، سيفي يتطاير من يدي، وغبار كثيف يملأ المكان. سعال حارق خرج من صدري، لكني أجبرت نفسي على النهوض.

حين انقشع الغبار، رأيت المجسات تهتزّ حولي. كانت أطول… وأقوى. وكأنها تسخر مني.

قبضت على سيفي من جديد، أنظر لها بعينين مشتعلة:

"حسنًا… تريدين رفع المستوى؟ فلنرفع معًا."

اندفعت، هذه المرة جسدي كان مرنًا كالماء. قدمي تضرب الأرض بخفة، كتفاي يلتفان مع كل حركة، سيفي يلمع بخطوط قوسية سريعة. المجس الأول انقضّ عليّ، فدرت حوله، ألقيت جسدي في نصف التفافة، وطعنت جانبه بخط مائل. لم يخترق السيف تمامًا، لكنه شقّ سطحه، والشرر تطاير من نقطة اللمس.

زأرت المجسات معًا كأنها كائن حي واحد، ثم اندفعت في هجوم متزامن.

يمين، يسار، أعلى، أسفل—ضربات متلاحقة، تكتيكية، لا تمنحني وقتًا لالتقاط أنفاسي. لكن كل حركة جديدة كنت أقوم بها صارت أخف… أكثر انسيابية.

قفزت للأعلى لأتفادى مجسًا، ثم انزلقت بخط جانبي لتفادي آخر، ودرت حول الثالث بخطوة ضيقة، جسدي بالكاد يلامس الأرض. أصبحت وكأنني جزء من الغابة نفسها… جزء من المعركة.

“أستطيع مواكبتها الآن… جسدي بدأ يفهم… لكن إن توقفت للحظة فقط—سأُسحق.”

وفجأة، من خلفي، خرج مجس ضخم آخر، أضخم من كل ما سبق، يندفع نحوي مثل رمحٍ ذهبي. استدرت بسرعة، وفي لحظة حاسمة—أدرت جسدي كأنني أرقص على حافة الموت، تركت اندفاعه يمر بجانبي، شعرت بحرارته تمسّ وجهي، لكنني بقيت واقفًا.

قلبي يدقّ كطبول حرب، عيناي تلمعان.

"لن أتراجع… لن أُسحق… سأجعلك وسيلتي لأتعلّم المرونة… حتى لو أحرقتني ألف مرة!"

المجسات كلها اهتزت مرة أخرى، كأنها أدركت أن ميزان القتال بدأ يتعادل.

الغابة تحولت إلى جحيم حيّ، وأنا… كنت في قلبه.

كانت أنفاسي تتلاحق، العرق يختلط بآثار الحروق التي تركتها المجسات الذهبية على جلدي، وكل عضلة في جسدي تصرخ من الألم. لكن في داخلي… لم يكن هناك سوى صمت عميق. صمت يشبه حافة الموت.

المجس الذهبي أمامي لم يكن مجرد طاقة، بل وحش متكامل. سريع، هائل الطول، يتضاعف في لحظة، ويطلق كرات ذهبية تنفجر كقنابل شمسية وسط الغابة. الأشجار من حولي تشتعل، الأرض تهتز، وسماء الغابة امتلأت بالرماد والشرر.

(تنفس الصوت… المرونة… اجمعهما معاً)

أغمضت عيني لحظة، أطلقت زفيراً هادئاً، وسمعت. كل اهتزاز في الأرض، كل فرقعة في الهواء، كل ذبذبة تولدها المجسات. ومع كل صوت… كنت أجد ثغرة، حركة، زاوية للهروب.

المجس اندفع نحوي بسرعة تفوق الرؤية، لكنه هذه المرة لم يكن أسرع من مرونتي الجديدة. جسدي انحنى بانسياب، دحرجت كتفي على الأرض، ودرت نصف دورة لأتفادى ضربته. ومع انحناءة حادة، مرّت طاقة الموت بجانبي تاركة أثر احتراق على التربة.

"هــه…"

ابتسمت بمرارة وأنا أستعيد توازني.

"حتى لو كنتَ مصنوعاً من طاقة خام… فكل طاقة لها نبض… وكل نبض يمكن كسره."

انطلقت مجسات أخرى من تحت الأرض كالأفاعي، تحاول ابتلاعي. قفزت بين الأشجار، قدماي تلامسان الجذوع فقط للحظة قبل أن أدفع نفسي للأمام. الجسد أصبح أخف… أسرع… أكثر مرونة.

لكن المجس لم يتوقف. فجأة انقسم لثلاثة، أحدها هاجمني من الأعلى، الآخر من الجانب، والثالث اندفع من تحت الأرض.

"لو تأخرت لحظة… سأُسحق."

أطلقت شهيقاً عميقاً، ثم صرخت:

"تنفس الصوت: الدمج!!"

تحركت بسرعة لم أعرف أنني أملكها، جسدي التوى كالرمح في الهواء، سيفي ارتطم بالأرض ليرتد ويغير مساري، وبحركة واحدة قطعت المجس الجانبي، ثم دورت حول نفسي لتفادي المجس السفلي، وفي نفس اللحظة قفزت عالياً لأفلت من ضربة المجس العلوي.

لكن الكرات الذهبية بدأت تنهال. عشرات الكرات، كل واحدة بحجم صخرة، تنفجر بانفجارات كأنها شمس صغيرة تمزق الغابة.

"يجب أن أوقفها… لا يوجد خيار آخر."

خطرت لي فكرة مجنونة… استعملت المجس نفسه كدرع. انطلقت نحوه، طعنت جسده الذهبي بالسيف، ثم سحبت نفسي للخلف، مجبراً المجس أن ينحني أمامي. وبخطة تكتيكية، جعلت الكرات تنفجر فيه بدلاً مني.

الانفجار هز الغابة، الأشجار تهاوت، الدخان غطى السماء… لكنني خرجت من بين الرماد، وسيفي في يدي، ونظري ثابت.

المجس أصبح مترنحاً، طاقته تتشقق، ومع ذلك… لم يستسلم.

فجأة… توقفت كل الحركة. المجس أخذ يتوهج بضوء غريب، ثم بدأ يتشظى ليشكل أوهاماً… نساءً طويلات القامة، جميلات، شبه عاريات، بوجوه مثالية وابتسامات آسرة. أصواتهن الرقيقة تسللت إلى أذني كهمس ملائكي.

"بليك… تعال…"

"أنت مرهق… دعنا نُريحك…"

"استسلم… بين أذرعنا لن تشعر بالألم بعد الآن."

تجمدت للحظة. جزء مني، المتعب، المجروح، كاد أن يستسلم. جسدي كان يصرخ للراحة، وروحي كادت أن تتصدع أمام هذا الوهم المثالي.

لكنني ابتسمت… ابتسامة باردة، جافة.

رفعت سيفي، ونظرت إليهن بنظرة قاتلة.

"أوهام… مجرد قشور فارغة."

بصوت خافت لكن حاد كالسكين قلت:

"حتى أجمل الأكاذيب… تُقطع."

اندفعت، جسدي مرن كسوط، سيفي يشق الهواء. الأوهام تبعثرت، تلاشت كغبار ذهبي. وفي نفس الضربة، سيفي اخترق قلب المجس الرئيسي.

صرخة مدوية خرجت منه، أشبه بارتجاج الأرض نفسها، ثم انفجر الضوء الذهبي حولي كالنجوم المتحطمة.

وقفت هناك، جسدي يرتجف من الألم، لكن عيني ثابتتان.

تنفست ببطء، والهواء المحترق يملأ رئتي.

"انتهى… لقد كسرت قيودي…"

في الأفق، وسط الدخان والرماد، سمعت صوت مونو وهي تبتسم:

"… أحسنت، بليك. لقد بدأت تفهم كيف تُقاتل حقاً."

سقطتُ على الأرض كمن سُحبت منه كل طاقة العالم.

أنفاسي كانت متقطعة، صدري يعلو ويهبط وكأنني ألهث بعد سباق ضد الموت نفسه. يداي المرتعشتان بالكاد تمسكان السيف، ورغم أن العرق يغطي وجهي بالكامل إلا أن قطرات الدم المحترقة على ذراعي كانت أشد لسعاً من أي حرارة عرفتها.

أغمضت عيني للحظة، وسمعت وقع خطوات خفيفة تقترب. وعندما فتحتها، كانت مونو واقفة أمامي، هادئة كعادتها، كأنها لم ترَ قبل قليل ذلك الجحيم الذي مزق جسدي وروحي.

رفعت يدها برفق، وبمجرد أن حركت أصابعها انسكبت طاقة شفافة كالنسيم عليّ. أحسست بجروحي تلتئم، حروقي تبرد تدريجياً، وكأن الماء العذب يغمرني من الداخل. عظامي التي كانت تصرخ بالألم هدأت، وعضلاتي الممزقة عادت لتلتئم ببطء.

حينها، نظرت إليّ بابتسامة رقيقة وقالت:

«لقد كنتَ رائعاً يا بليك… ليس فقط بقوتك، بل بذكائك أيضاً. لقد استخدمت مرونتك وتنفسك بطريقة لم أكن أتوقعها منك.»

شعرتُ بوجهي يحترق بطريقة مختلفة هذه المرة، لم يكن من الحروق… بل من الخجل. أدرتُ وجهي بعيداً، محاولاً إخفاء ابتسامة غبية كادت تنفلت مني.

تمتمتُ بصوت خافت:

«لم… لم يكن شيئاً عظيماً… مجرد حركات بديهية لا أكثر.»

لكنها ضحكت ضحكة قصيرة، وكأنها قرأت ما في داخلي، ثم أضافت بنبرة ساخرة بعض الشيء:

«أتعلم ما هو أغرب شيء فيك يا بليك؟ لم تتأثر بوهم الفتيات الجميلات إطلاقاً… ومع ذلك، مجرد أن أمدحك بكلمتين ترى وجهك يتحول إلى الطماطم!»

شعرتُ بقلبي يقفز من مكانه، انفجر وجهي خجلاً وصرخت محاولاً إخفاء ارتباكي:

«ماذا تقولين بحق الجحيم!!؟ أنا… أنا لا…»

ضحكت أكثر وهي تضع يدها على فمها لتخفي ابتسامتها الهادئة. ذلك جعلني أغضب أكثر، لكنني لم أجد ما أقوله. كل كلمة كنت أحاول صياغتها كانت تذوب على لساني.

وقبل أن أتمالك نفسي، فجأة شعرت بجسدي يطفو.

رفعتني مونو بلمسة واحدة كما لو كنت ريشة في مهب الريح.

«هـ… هاااا!؟ ماذا يحدث!؟» صرختُ بذهول وأنا ألوّح بذراعي في الهواء مثل طفل لا يعرف السباحة.

نظرت إليّ ببرود غريب وهي تبتسم ابتسامة مشاغبة:

«أوه، لا تقلق… التدريب لم ينتهِ بعد.»

لم أفهم ما قصدته حتى رمَتني بلا رحمة إلى الأسفل.

صرختُ بكل قوتي، والهواء يصدم وجهي بينما أسقط في حفرة عميقة بدت وكأنها لا نهاية لها.

ارتطمتُ بالأرض أخيراً، ليس ارتطاماً قاتلاً ولكن بما يكفي ليجعل الغبار يتطاير حولي. سعلتُ ونهضتُ ببطء، أنفض الغبار عن ملابسي، وصوتي يرتجف من الغضب:

«مونووووو! هل جننتِ تماماً!!؟ لماذا فعلتِ ذلك!؟»

من الأعلى، جاء صوتها الرائق، يتلاعب بأعصابي أكثر:

«قلت لك… هذا هو تدريبك التالي.»

رفعت رأسي ببطء… ثم توقفت عيناي فجأة.

أمام ناظري، في عمق الحفرة الواسعة، كانت هناك أفعى بيضاء عملاقة.

بيضاء… نعم، بيضاء كالجليد، قشورها تلمع مع ضوء خافت يتسرب من الفتحة بالأعلى. طولها كان لا يوصف، جسدها يلتف في دوائر ضخمة تكاد تملأ المكان كله.

عيناها حمراوان متوهجتان كجمرتين في الليل، نظرتها كانت ثاقبة، مخيفة… لا تحمل رحمة، فقط فضول مميت. لسانها ينزلق بين فكيها ببطء، يصدر صوتاً صفيراً بارداً جعل الدم يتجمد في عروقي.

رائحة المكان كانت خانقة، مزيج من رطوبة الأرض وتعفن غريب. جدران الحفرة مغطاة بالطحالب الخضراء، قطرات ماء تتساقط من الأعلى كأنها عدّاد للوقت الذي تبقى لي قبل أن أُبتلع.

ابتلعتُ ريقي بصعوبة، قلبي يخفق بسرعة تكاد تقتلني.

حدقتُ في الأفعى الضخمة وأنا أتمتم لنفسي:

«أهذه… مزحة أخرى منك يا مونو؟ لا يمكن أن يكون هذا مجرد تدريب… هذه وحشية صريحة.»

ابتسمت الأفعى وكأنها فهمت خوفي… نعم، ابتسمت.

ذلك الالتواء البطيء لفكها الهائل، ذلك البريق الدموي في عينيها، كان كافياً ليجعل كل جزء في جسدي يصرخ: "اركض!"

لكن لم يكن هناك مكان للهرب…

ولأول مرة منذ زمن طويل، وجدت نفسي أتساءل… هل هذه المرة لن أنجو؟

2025/08/27 · 9 مشاهدة · 3354 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025