خرجتُ من الحفرة، تتبعني أنفاسي المتقطّعة، وقطرات العرق تختلط ببقايا الدم والرماد العالقين على وجهي. كانت يداي ترتجفان، لا من الضعف، بل من بقايا صدى المعركة التي خاضها جسدي حتى أقصى حدوده. رفعت بصري، فإذا بمونو تقف عند حافة الحفرة، عيناها تلمعان بصفاء غامض، كأنها لم تكن تُلقي بي إلى الهلاك بل إلى امتحان لا مفرّ منه. مدت يدها إليّ، فوضعت كفي المرتعش بين أصابعها الباردة وسحبتني بقوة غير متوقعة حتى وجدت نفسي واقفًا أمامها.

سكتُّ لحظة، ثم انفجرت الكلمات من داخلي، غاضبة، مترددة، تحمل شيئًا من مرارتي القديمة:

"لا يمكنكِ أن تُلقي بي في مواقف كهذه دون أن تنبّهيني! لو كنتُ أقلَّ استعدادًا لكنتُ الآن جثة في قاع تلك الحفرة!"

ظلّت تنظر إليّ بهدوء مربك، لا اعتذار على شفتيها، ولا ندم في عينيها، فقط ابتسامة دقيقة ارتسمت وكأنها كانت تنتظر هذا الانفجار. ثم تقدّمت خطوة نحوي وقالت بصوت خافت، ولكنّه حادّ يخترق صدري:

"ومع ذلك… خرجتَ منها منتصرًا، بل أكثر مما كنتُ أتوقع. لقد رأيتُ بعيني كيف مزجتَ بين تحليلك الصوتي وسرعة جسدك، وكيف جعلتَ من الفوضى مقطوعة متكاملة. أنتَ… تتطوّر بسرعة لا تُصدّق."

كلماتها أصابتني في مقتل. شعرتُ بحرارة تتسلّل إلى وجهي، مزيج من الخجل والاعتراف الذي لم أُرِد أن أبوح به. قلبي دقّ أسرع، وكأن جسدي يُكذّب غضبي السابق ويعلن أنه ارتوى من مديحها. حاولتُ إخفاء ارتباكي، فأدرت وجهي جانبًا، لكنني لم أستطع منع ابتسامة صغيرة من أن تفلت رغمي.

لماذا… لماذا حين تمدحني هذه الفتاة أشعر كأنني لستُ ذلك الفتى البائس الذي تربّى على الكراهية؟ لماذا يبدو قلبي خفيفًا كوترٍ يعزف نغمة لم أعهدها؟

رفعتُ نظري إليها، مستجمعًا بقايا كبريائي، فقلت بنبرة حاولت أن أجعلها جادة:

"هذا لا يعني أنني سامحتكِ، لكن… سأعتبرها تجربة ضرورية."

ضحكت بخفة، ضحكة لم أسمع مثلها من قبل، ثم أدارت ظهرها ونادتني:

"كفى حديثًا يا فتى الموسيقى… لقد انتهينا من هذا الدرس. والآن… إلى التدريب التالي."

تقدّمت بخطوات واثقة، تاركة خلفها هواءً مثقلًا بالوعود والأسرار، فيما ظللتُ أنا واقفًا لبرهة، أستمع إلى إيقاع خطواتها، وأشعر أنّ نغمة جديدة بدأت تتشكّل في داخلي.

لم تمضِ دقائق على مغادرتنا الحفرة حتى قادتني مونو إلى مكان بدا وكأنه صفحة من عالم آخر، بعيد عن كل ما أعرفه. حقل الأنهار الأرجوانية، هكذا سمّته، أرض ممتدة من جداول شفافة تتلألأ بلون البنفسج تحت ضوء غريبٍ لا أعرف مصدره. المياه هناك لم تكن مياهًا عادية، بل بدت وكأنها تموجات ضوءٍ سائل، كل قطرة فيها تعكس وجوهًا وظلالًا تتلاشى بسرعة. وعلى حواف تلك الأنهار، تفتحت أزهار داكنة اللون، ينبعث منها ضوء خافت أشبه بالأنين.

وفوق كل هذا الجمال المريب… كانت الفراشات. فراشات ضخمة، أجنحتها مطلية بخطوط من الأزرق المائل للسواد، تتطاير ببطء فوق الرؤوس. لطالما كنتُ سأرتجف خوفًا أمام هذه الكائنات، لكنني الآن… لم أشعر بشيء. لا خوف، لا ارتباك، فقط هدوء داخلي يخبرني أن سمومها لم تعد قادرة على النيل مني. جسدي بات محصنًا، وكل لسعة موتٍ في أجنحتها صارت كأنها مجرد غبار.

تقدّمت مونو بخطوات ثابتة، ثم توقفت وسط الحقل، وأشارت بيدها كأنها تأمر العالم بالطاعة. فجأة، تجمعت خيوط خضراء باهتة من الهواء، كأن المكان كلّه انحنى لندائها. تشكّل أمامي مجسم غريب: إنسان، لكن ليس تمامًا. جسده شفاف كالماء الموحل، أخضر فاتح كضوء الغابة في صباحٍ ضبابي، وعيناه فراغان من بريق بارد. في يده قبض على سيفٍ أخضر زمردي، يتلألأ بنبضات كأنها تنبض بالحياة.

كان شكله أشبه بظلٍ مسكون، مزيج من روحٍ عالقة وسلاحٍ مُقدّس. خطوطه غير مكتملة، ومع ذلك فإن حضوره كان خانقًا، كأن الأرض تتهيأ لاحتمال خطواته.

قالت مونو بصوتها الرزين، وهي تنظر إليّ نظرة المعلّم الذي لا يرحم:

"هذا هو خصمك في هذا التدريب. قاتله… وكأن حياتك معلقة بخيط."

وقفتُ مشدوهًا للحظة، غير قادر على تحديد إن كان هذا الشيء وهمًا، أم تجسيدًا حقيقيًا لإرادةٍ لا تنتمي لعالم البشر. ما هذا الكائن…؟ وهل يعقل أن أقاتل شيئًا بلا قلب؟

لم يتركني الغموض طويلًا، إذ فجأة، وفي لمح البصر، رفع ذلك المجسم سيفه الأخضر، ثم أطلق منه ضربة هوائية مدمّرة. رياحٌ مقطّعة اندفعت نحوي كأنها شفرة غير مرئية تشقّ الفضاء.

شعرتُ بالهواء يصرخ في أذنيّ، والضغط يزأر في صدري، لكن جسدي تحرك قبل عقلي. رفعت سيفي، وانفجر صوته مع نغمة حادة، فارتطم الهجوم بخط معدني رنان، وارتجّ المكان من الصدمة. الشرر تراقص بين سيفي وبين الموجة الهوائية قبل أن تتبدّد في الهواء كدخانٍ متلاشي.

نظرتُ إلى خصمي، وقلبي يخفق بقوة، ليس خوفًا… بل حماسة لمعاركٍ لم أعهدها.

إذن… هكذا يبدأ الدرس التالي.

لم يتركني ذلك الكائن الغريب ألتقط أنفاسي. ما إن بددت ضربته الأولى حتى كان قد اختفى. نعم، اختفى تمامًا… كأن الريح التهمته. لم يكن هناك أثر، لا خطوات، لا صدى، فقط فراغ.

وفي اللحظة التي حاولت فيها استيعاب ما يحدث، عاد للظهور أمامي، أقرب مما توقعت، سيفه الأخضر يهبط بسرعة لا تُدركها العين. بالكاد رفعت سيفي وصدّيت، فاندفع الشرر بيننا، لكن جسده… تبخر من جديد.

"مستحيل… إنه سريع لدرجة لا تسمح لعيني باللحاق به… أين ذهب؟!"

أدرت وجهي في كل اتجاه، يدي مشدودة على مقبض سيفي حتى شعرت بعظامي تكاد تنكسر من قبضتها. ثم فجأة، شعرت بريحٍ حادة تمر بجانبي، وخط أخضر يخترق الهواء بجانب وجهي. لو لم أتحرك لحظة واحدة… لكان قد شطرني نصفين.

صرخت داخليًا: "لن أُسقط نفسي هنا… لن أسمح لسرعته أن تهزمني! يجب أن أهاجم… حتى لو لم ألمسه!"

اندفعت بجنون، ألوّح بسيفي في كل اتجاه، أضرب الهواء، أهاجم الظلال، أحاول أن أسبق مكان ظهوره. كل ضربة مني كانت تصيب الفراغ، كل صرخة في داخلي ترتد عليّ بمرارة العجز.

كان هو، في المقابل، بارداً كالحجر. لا صوت، لا ملامح، لا نفس ثقيل ولا حتى رعشة في جسده الشفاف. كأن القتال بالنسبة له ليس أكثر من عادة متكررة، أو لعبة مملة يُعيدها للمرة الألف.

"كيف يمكنني أن أواجه خصمًا لا يملك ملامح؟ كيف أقرأ نواياه وهو بلا عيونٍ ولا ابتسامة ولا غضب؟"

شعرت بقطرات العرق تسيل على جبيني، يدي ترتجف لكن ليس من الخوف… بل من الغضب. الغضب من عجز جسدي أمام شيء لا يشعر.

"لا يهم كم أصرخ، أو أهاجم، أو أركض… بالنسبة له أنا مجرد حركة بطيئة. مجرد تجربة لا أكثر."

وعلى الرغم من كل ذلك، لم أتراجع. وقفت، أرفع سيفي من جديد، أتنفس بصعوبة، وصدري يشتعل:

"إن كنتَ آلة بلا ملامح… فسأفرض عليك أن تراني. سأجبرك على أن تعترف بي، ولو بصدعٍ واحدٍ في هذا الهدوء الملعون!"

لم يمهلني الكائن الأخضر سوى لحظات. رفع سيفه الشفاف، وارتجف الهواء حوله كما لو أن العالم نفسه انحنى تحت سلطته. ثم اندفعت نحوي ضربة هوائية هائلة، لم تكن نسمة… بل إعصارًا مضغوطًا يقتلع كل ما يعترضه.

تراجعت بسرعة، رفعت سيفي في اللحظة الأخيرة، فارتطم الهواء المعدني بشفرتي. كدت أن أطير بعيدًا من قوة الاصطدام، لكني ثبّت قدمي في الأرض بكل ما أملك. خلفي، الأشجار تناثرت إلى شظايا، الأرض تمزقت، والصخور تحولت إلى غبار.

"سيفه لا يقطع الحديد… بل الهواء نفسه. الرياح عنده سلاح أقوى من أي نصل."

ضغطت على مقبض سيفي، شعرت بدفء بركتي يتدفق في ذراعي. لم يمنحني قوة خارقة أو حيلة عجيبة، لكنه جعل كل حركة أكثر حدة، كل ضربة أدق، كل مناورة أسرع. صرت أشعر وكأن جسدي والسيف وحدة واحدة.

اندفعت للأمام، شققت الهواء بضربة جانبية، لكن لم ألمسه. جسده الشفاف اختفى من أمامي في لحظة. سرعته كانت جنونية، وكأن الريح تحمله بعيدًا قبل أن تصل إليه عيناي.

"أين هو؟!"

لم يتركني أفكر. عاصفة جديدة اخترقتني من الجانب، رمتني أرضًا. الألم اخترق ضلوعي، لكنني ضغطت على أسناني ونهضت من جديد. هاجمته بضربة علوية بكل قوتي، لكنه صدها ببرود، وجهه بلا ملامح، بلا شعور… كأنني أقاتل فراغًا حيًا.

كررت محاولاتي، ضربة تلو أخرى، أفقية، جانبية، طعنات سريعة، اندفاعات بكل اتجاه… لكن النتيجة واحدة: فراغ، أو صدى باهت على سيفه، يتبعه رد ساحق من الرياح.

"كل ضربة أقوم بها تُذَرّى مع الرياح… هل أنا أضرب كائنًا أم أطارد العدم نفسه؟"

قذفت نفسي للخلف لألتقط أنفاسي. صدري يحترق من السرعة، العرق يغطي وجهي، والغبار يخنقني. ومع ذلك، لم أجد أي تعبير في ملامحه. لا غضب، لا سخرية، لا حتى ملل… فقط برود مطلق.

"لو كانت المعركة مجرد اختبار، فهو لا يظهر أي إشارة… كأنه آلة وضعت هنا لتمزقني."

تمسكت بسيفي أكثر، شعرت ببركتي تزداد تماهيًا مع حركاتي. قلبي يدق كطبول الحرب، خوفي يصرخ داخلي، لكن بين كل هذا سمعت نفسي تهمس:

"لن أهرب. حتى لو كان إعصارًا… سأكون النصل الوحيد الذي يقف ضده."

الهواء انقسم فجأة أمامي. رفع الرجل الأخضر يده، ومع لمسة سيفه ظهر إعصار ضخم كأن الطبيعة نفسها انقلبت ضدي. الريح هبت بقوة تفوق كل ما شعرت به في حياتي، الأشجار انثنت حتى تكاد تلامس الأرض، الطحالب والجذور تطايرت كأوراق متقلبة، والأرض تحطمت إلى قطع خشنة تطير في كل الاتجاهات.

قبل أن أتمكن من اتخاذ أي خطوة، انقلبت الرياح جسدي في الهواء، كأنني مجرد دمية بلا وزن. شعرت بكل ذرة من جلدي تتلاشى، وكل عظم في جسدي يتراقص على حد فاصل بين الألم والانكسار. سيفي، الذي كان سندي الوحيد، انطلق من يدي وكأنه رغب في الانفصال عني قبل أن أصطدم بالأرض.

سقطت، أتنفس بصعوبة، رئتاي تكاد تنفجر من الضغط. نظرت حولي، والدم يلتصق بوجهي، لكن الرجل الأخضر كان واقفًا بثبات مريب، سيفه في يده، ووجهه صلب كالمرمر. لا حدة في ملامحه، لا أي أثر للعاطفة، حتى في وجهه كانت هناك لوحة جامدة من الهدوء التام.

وفجأة، جاءت الضربة التالية. لكمة قوية، مشحونة بالرياح، وصلت إلى وجهي قبل أن أغلق عيني، وصوت تصادم العظام مع الهواء كان كالانفجار. شعرت بأن كل جزء من جسدي يهتز، وكأن الداخل كله يشتعل بلا توقف.

حاولت الرد، رفعت يدي في محاولة لصد اللكمة القادمة، لكن الرياح كانت أعنف من أي شيء سبق أن واجهته. كل محاولاتي كانت مجرد تمويه؛ قبضاته كآلات، تهشم أي مقاومة تلوح في الأفق. شعرت باليأس للحظة، كل شعور داخلي يغرق في دوامة من الألم:

"هذا… هذا ليس مجرد رجل… إنه عاصفة متجسدة… وأنا مجرد ورقة في مهب الريح."

ثم بدأت أستخدم بركتي… السيف عاد إلى يدي بقدرة فائقة على التوازن والتحكم. كل حركة، كل ضربة، صارت أكثر كفاءة، أكثر دقة. لكن حتى بركتي لم تمنع القوة المدمرة التي تنطلق من كل لكماته. كل ضربة منه كانت كإعصار صغير، تقطع الهواء بصوت الصفير، تتحكم في الأشجار وكأنها دمى، تفرم الصخور إلى غبار.

بدأت أستعيد بعض السيطرة، رفعت يدي، اصطدمت قبضاته بأخرى، وكل ضربة ترتد عليّ، كأنها تحدد إيقاع عالمي جديد. شعرت بالقوة والضعف في آن واحد؛ القوة لأنني أستطيع الآن التلاعب بسيفي بمهارة أكبر، والضعف لأن كل ضربة منه تقضم جزءًا مني.

بدأنا نتبادل اللكمات بشكل لا يمكن للعقل استيعابه، كل حركة أسرع من السابقة، الأذرع تتحرك كالبرق، الأجسام تتقاطع كظلال في عاصفة قاتلة. الرياح تتقاطع، الغبار يندفع، الأوراق والطين يطيرون حولنا في دوامة من الفوضى. الأشجار تنهار، الأرض تتشقق، والطين يندفع في الهواء كأنه شلالات سوداء.

شعرت بكل جزء من جسدي يتألم: رئتاي تحترقان من الصفير، أضلعي تتلوى، ساعداي تصرخ من الجهد، وجهي ينكسر ببطء تحت وطأة الضربات. لكن في داخلي، كان صوت واحد يصرخ بلا توقف:

"لن أستسلم… حتى لو اقتلعت كل عظامي… حتى لو انهار العالم… لن أتركه يفوز."

اللكمات استمرت، كل واحدة تضرب الأخرى، ونحن نصنع موجة من الصراع المادي والروحي. قبضتي تتلاقى مع قبضته بسرعة لا يمكن تصورها، الهواء ينكسر حولنا، كل حركة تتسبب في اهتزاز كل شيء من حولنا.

عالمنا صار لوحة جنونية من العنف المتقاطع: أنا، هو، الرياح، الغبار، الأشجار، كل شيء في لحظة واحدة من الانفجار المستمر.

وفي لحظة صمت نسبي، شعرت بشيء غريب… جسده لا يظهر أي إرهاق، أي ألم، أي شعور. بينما كل جزء مني يصرخ بالوجع، كل جزء مني يشتاق للتنفس، كل جزء مني يريد الهروب… هو يواصل، هادئًا، ثابتًا، بلا أي تغير في المشهد.

"إنه… لا يمكن أن يكون إنسانًا… ربما قوة الرياح نفسها استحوذت عليه…"

وفي تلك اللحظة، أدركت أن ما يحدث ليس مجرد قتال. إنه اختبار صافي لقدرتي، تحدٍ يفرضه عليّ هذا الوحش الأخضر، اختبارٌ لا حدود له. وكل ضربة، وكل ردة فعل، وكل حركة سريعة… كانت تبني في داخلي شيئًا لم أشعر به من قبل: إصرارًا حارقًا لن أتوقف مهما حدث.

استدار الرجل الأخضر بسرعة مخيفة، وكأن الرياح نفسها تعانقه. سيفه الذي فقده دقائق فقط عاد إلى يده كما لو أنه جزء من جسده، ومعه عادت العاصفة. الهواء انقسم، الأشجار انكوت وانكسرت، جذورها تطايرت كالعصي، الطين والغبار ارتفع في سحب كثيفة تحول المكان إلى فوضى مدمرة، كأن الغابة نفسها تحولت لساحة معركة من عالم آخر. كل خطوة يخطوها كانت تحفر الأرض، كل حركة من سيفه كانت تزرع الفوضى.

رفعت سيفي، وقررت أن أختبر بركتي في مواجهة هذه القوة المدمرة. تنفست بعمق، شعرت بتدفق الطاقة في عروقي، وكل حركة من يدي أصبحت أكثر دقة، أكثر اتزانًا. وعندما جاءت أول ضربة من الرياح، ركزت، استخدمت تنفس الصوت، شعرت بالهواء المحيط بي يتفكك، وأعدت توجيهه بعناية، وصددت الضربة. للوهلة الأولى، شعرت بالدهشة من نفسي.

لكن الرجل الأخضر، كما هو معتاد، لم يظهر أي تعبير. وجهه جامد، برود كامل، لا ألم، لا غضب، لا فرح… فقط هذا السكون المقلق، كأنه يتحرك خارج الزمن، خارج كل العاطفة البشرية.

تحركنا عبر الغابة، أنا أحاول قراءة تحركاته، هو يتحرك كظل أخضر بين الأشجار المكسورة، مستغلاً التضاريس ببراعة مذهلة. صخور كبيرة، جذوع ساقطة، انحدارات حادة… كل شيء كان أداة في يده. اندفعت خلف جذع متساقط لتجنب هجمة قادمة، ومن فوق صخرة قفزت لأصنع زاوية هجومي، لكنه كان أسرع، اختفى، وظهر أمامي كوميض أخضر.

في داخلي، كل ثانية كانت مليئة بصراخ العقل:

"كيف يمكن أن يكون سريعًا هكذا؟ كيف يمكن أن تكون كل ضربة بهذه الدقة؟"

لكنها لم تكن مجرد سرعة… كانت السيطرة الكاملة على كل شيء حوله، الرياح، الأرض، الأشجار، حتى الغبار الذي يعلو فوقنا كان تحت إمرته.

ثم جاءت اللحظة الصادمة. سيفه انزلق عبر جسدي، بسرعة جنونية، ووصل إلى كتفي. شعرت ببرودة حادة تتسلل إلى عظامي، كأن الألم نفسه أصبح مادة ملموسة. حاولت يدوي أن أغلق الجرح، الدم اندفع بلا توقف، يتدفق بين أصابعي، يسيل على الأرض، يغطي يدي، يلطخ كل شيء حولي. شعرت بالغثيان، بالصدمة، بالإحباط، وكلما نظرت إلى الجرح شعرت بثقل الهزيمة ينهال عليّ.

المكان حولنا كان فوضى كاملة. الأشجار المحطمة، الطين الممزق، الغبار الكثيف، الطيور المذعورة تفرّ في السماء، حتى الأنهار الصغيرة التي كانت تجري بهدوء بين الصخور تغيرت إلى خيوط ضبابية من الغبار والماء المتقاطع مع الرياح. تحركنا عبر التضاريس بشكل ذكي: أنا أحاول استخدام الصخور كحواجز، الأخضر يستخدم الرياح ليقلب كل شيء ضدي، كل خطوة تتطلب استراتيجية دقيقة، كل هجوم يتطلب تركيزًا كاملًا.

وفي داخلي، صوت واحد يصرخ بلا توقف:

"لا… لا يمكن أن أترك نفسي… حتى لو انهار كل شيء… حتى لو انسكب الدم على يدي… سأستمر… سأثبت أنني أقوى من هذه العاصفة."

كنت واقفًا على صخرة مائلة، أراقب حركة خصمي، الدم يقطر من كتفي، شعور بالضعف يختلط بالإصرار. كل نفس أصبح مؤلمًا، كل حركة أصبحت معركة مع جسدي قبل أن تكون مع خصمي، ومع ذلك… لم يكن أمامي خيار آخر سوى الاستمرار.

لم يكن التحذير ولا الانتباه كافيًا. قبل أن أدرك شيئًا، انقض الرجل الأخضر بسرعة جنونية، سيفه الأخضر كأخضر الغابة نفسها، وجّه ضربة مباشرة نحو وجهي. لمست شفرته عيني، وصرخ الدم في داخلي كما لو أنه صدى كل الألم في الكون. لحظة، وانقلب كل شيء إلى ظلام دامس. عيني مصابة تمامًا، لم أعد أرى شيئًا.

وقف العالم على حافة الانهيار. ارتفع جسدي فوق صخرة، والدم يسيل على وجهي، والحرارة تتدفق عبر جلدي من الجرح العميق. قلبى كان يركض في صدري، عقلي يحاول أن يعيد ترتيب الفوضى، ولكن… الرؤية اختفت. كل شيء أصبح غيابًا، والارتفاع جعلني في موقف حرج لا مثيل له. شعرت بالعجز، بالصدمة، بالخوف، وكل الأصوات المحيطة تتضاعف في أذني.

لكن لم يكن أمامي خيار سوى الاستماع والتوجيه بالعقل والجسد. تذكرت بركتي، تذكرت تنفس الصوت، تذكرت كل ما تدربت عليه. "عيني قد خذلتني… لكن لا شيء سيوقف تنفسي، دليلي الآن هو الصوت، كل ضربة وكل خطوة ستُوجهها حاستي الأخرى."

بدأت أدمج بركتي مع تنفس الصوت، أشعر بالهواء حولي، يتدفق عبر كل شيء، يتغير اتجاهه، يخلق موجات من الضغط تساعدني على توجيه السيف بدقة حتى دون الرؤية. كل خطوة، كل حركة، كل صد، كل هجوم أصبح موجة صوتية ملموسة. يمكنني سماع الرياح، تردد ضرباته على الأرض، أصوات الغبار المتطاير، حتى تنفسه البارد أصبح مرشدًا لي.

الرجل الأخضر لم يظهر أي تعبير. الوجه نفسه، برود كامل، لا ألم، لا إحساس، مجرد قوة خام تتدفق بلا توقف. لكن هذا لم يمنعني. كل دمعة من الدم في عيني، كل جرح في جسدي، وكل خفقة قلبي أصبحت محركًا لقوتي.

تحركنا عبر الغابة، التضاريس كلها أصبحت ساحة معركة حية. جذوع الأشجار الساقطة استخدمتها كحواجز، الصخور الكبيرة قفزت عليها لتغيير زاويتي، حتى الطين والغبار تحولوا إلى أسلحة غير مرئية، موجات من الصوت تدفع الرياح، تدفع خصمي، وتحجب ضربة محتملة. الرجل الأخضر استغل الرياح إلى أقصى حد، يديرها حولنا، يفتت الأشجار، يقصف الأرض بالموجات الهوائية، وكل حركة له كانت كفيلة بتدمير أي شيء حوله.

بدأ مشهد التبادل المذهل. سيفه يندفع، الرياح تتشابك، الأرض تتحرك، الأشجار تنهار، وأنا أستمع، أتنفس، أتحرك، وأعيد توجيه كل موجة صوتية لتصدي ضربة أو لمهاجمة. كل لمسة من السيف، كل ارتطام مع الرياح، كل حركة جسدية كانت تخلق صدى في الغابة. الغبار يتطاير حولي، الطين ينقلب، وحتى المياه الصغيرة في الأنهار تتقلب، تتحرك كموجات في بحيرة صاخبة.

كنت أحس بكل شيء: قوة الرياح، زلزال الأرض، صلابة السيف في يدي، كل نبضة في جسدي، كل تدفق الدم من كتفي المصاب. كل شعور كان حادًا، كل إحساس كان مؤلمًا ومثيرًا في الوقت نفسه. عقلي كان يصرخ:

"استمع إلى كل شيء… اجعل الصوت دليلك… لا تثق بعينيك… كل شيء يعتمد على تنفسك… كل شيء يعتمد علىك أنت."

مع كل تبادل للضربات، شعرت بتطور مهارتي بسرعة غير مسبوقة. كل موجة هواء، كل ارتطام سيف، كل ضربة صدتها أو أطلقتها كانت درسًا حيًا. كنت أعيش كل حركة، كل اهتزاز، كل صدى، وكل تنفس كأنه جزء من جسدي.

الغابة حولنا لم تعد مجرد مكان، بل كيان حي. الصخور، الأشجار، الطين، الأنهار، الرياح، وحتى الضباب—كلها أدوات للقتال. الرجل الأخضر يحركها كما يريد، وأنا أتعلم كيف أستغل كل موجة صوتية، كل ارتداد، كل انعكاس، لتوجيه ضربتي القادمة.

وهكذا، وسط الخراب، الدم، الغبار، والصمت المروع على وجه خصمي، كنت أرى—ليس بعيني، بل بحواسي كلها—معركة لا تشبه أي شيء رأيته من قبل، معركة ستبقى محفورة في ذاكرتي إلى الأبد.

القتال أصبح متعادلاً بشكل لا يصدق. على جهة، الرجل الأخضر، بسرعته الجنونية، ضرباته الهوائية المدمرة، وموجاته الاعصارية التي كانت تقطع الأشجار وتشق الأرض، وكأن الرياح نفسها كانت سلاحه. وعلى الجهة الأخرى، أنا، بليك، أتحرك بتنسيق مذهل بين بركتي وتنفس الصوت، أستشعر كل موجة هواء، كل ارتداد في الأرض، كل تغيير في الرياح، لأصدّ ضرباته أو أعيد توجيه هجوم مضاد بدقة متناهية.

كل ضربة له كانت كقنبلة صغيرة تنفجر بالقرب مني، وكل ضربة لي كانت موجة صوتية تصد الهجوم أو تكشف عن نقطة ضعفه. الغابة من حولنا أصبحت كيانًا حيًا، جذوع الأشجار المتساقطة كانت حواجز، الصخور الكبيرة منصات للارتقاء أو القفز، الطين والمياه تتحرك تحت أقدامنا كما لو أن الطبيعة نفسها صارت جزءًا من المعركة.

حاولت صدّ ضرباته مرات لا تحصى باستخدام تنفس الصوت. كل مرة كانت أصوات الرياح، ارتطام الأشجار، حتى أصوات نفسه وهو يتحرك، كانت دلائلي. ومع كل تصدي، شعرت بالقوة تتدفق داخلي، وكأن البركة لم تعد مجرد قدرة، بل امتداد طبيعي لي، كذراع إضافية تسمع وترى بدلاً عن عيني.

الرجل الأخضر، كالعادة، لم يظهر أي تعبير. وجهه الجماد لا يتغير، برود قاتل، لا ألم، لا غضب، لا إحساس. كل ما في الأمر قوة خامية، دقيقة، مطلقة. كنت أرى العالم حوله يتشوه مع كل حركة، وكنت أسمع في داخلي:

"أستطيع السيطرة على صوت كل ضربة… أستطيع أن أتحرك بلا رؤية… لا شيء سيوقفني… كل موجة، كل ارتداد، كل صدى، هو سلاحي الآن."

رغم التعب، الدم، والصدمة السابقة، واصلت القتال. كل حركة كانت تستهلك جزءًا مني، كل تبادل للكمات والرياح كان اختبارًا صارخًا لمهارتي وحواسي. تحركنا عبر التضاريس المتنوعة: ارتقيت على صخرة ضخمة لأهجم من أعلى، انزلقت على جذع شجرة ساقطة لأفاجئه من الجانب، حتى الطين المتحرك حول جذور الأشجار استخدمته لإبطاء سرعة حركته أو تحويل اتجاه الرياح. كل مكان كان استراتيجية، كل خطوة كانت خطة.

وسط هذا الجنون، شعرت فجأة بلمسة هادئة على جسدي. مونو من بعيد، يرسل سحر الشفاء لي. شعور غريب اجتاحني، حرارة ناعمة تتغلغل في جسدي، الدم يجري بلا عائق، الألم يخف، كل جرح يلتئم شيئًا فشيئًا وكأن جسدي يعود ليشكل قوة جديدة. شعرت بالامتنان، والحرية، والقوة تتجدد بداخلي، كل شيء أصبح أكثر وضوحًا رغم فقداني لعيني.

مونو كانت هناك، بعيدة جسديًا لكن قريبة قلبي وروحي، كل نبضة شفاء كانت كيدها تمسك بي، تدعمني، تمنحني فرصة لمواصلة القتال. كنت أسمع صوتها كهمس:

"تمسك، بليك… اكمل، كل شيء بيدك…"

حركتنا في الغابة أصبحت لوحة حية: جذوع الأشجار تنهار، الطين يرفرف، المياه تتقلب، الغبار يملأ المكان، وكل ضربة تتبع الأخرى في تناغم مذهل بين القتال والهندسة البيئية. شعرت بكل اهتزاز، كل ضربة، كل تغيير في الرياح وكأن الغابة نفسها تتنفس معنا، تراقب، تتفاعل.

وكنت أفكر داخليًا، بين كل حركة:

"حتى الآن، أنا أستطيع مجاراته… حتى وأنا أعمى، كل شيء يصبح واضحًا بحواسي… هذه ليست مجرد معركة… إنها اختبار كل شيء تعلمته… كل شيء أمتلكه… كل شيء أنا عليه."

الرجل الأخضر لم يهدأ للحظة. كل ضربة من قبضاته الاعصارية كانت تهب الغابة كإعصار، تحطم الأشجار وتشق الأرض، تُغرق المكان بالغبار والطين المتطاير. الرياح المدمرة كانت تتلوى حوله كما لو كانت جسده الثاني، كل موجة من الهواء كانت محاولة لإسقاطي، لتجويفي في الهواء، لتقطيع كل شيء بيني وبينه.

لكني كنت مستعدًا، كل ما تعلمته في التدريب، كل تنفس صوت استخدمته منذ البداية، كل إحساس جديد منحته لي بركتي، كل حركة في التضاريس كنت أستفيد منها. كل جذر، كل صخرة، كل ارتداد في الأرض أصبح جزءًا من خطتي. كنت أتنقل بين الأشجار الساقطة، أرتقي على الصخور المائلة، أركض فوق جذوع الأشجار المائلة لتوجيه ضربات مضادة. شعرت بأن الغابة نفسها صارت امتدادًا لي، كل صوت، كل هبة هواء، كل اهتزاز في الأرض يرشّدني.

قلبي كان ينبض بسرعة، عروقي ممتلئة بالقوة والتركيز، كل شيء بدا واضحًا رغم فقداني للعينين في البداية. كنت أتنفس وأشعر، أتحسس الرياح، أراقب الأرض، أسمع كل همسة في الهواء، وكل شيء أصبح دليلًا لي.

ثم جاء اللحظة الحاسمة.

تركت الرياح تنهار من حولي، لكنني ركّزت كل طاقتي في تنفس الصوت، أدمجت البركة مع كل حركة في جسدي. شعرت بالقوة تتدفق من أطراف أصابعي إلى السيف، كل نبضة في صدري تضاعفت، كل ذبذبة من الرياح حولي أصبحت جزءًا من سلاحي. انفجرت الطاقة في ضربة واحدة، سيفي يلمع بضوء أخضر نقي، موجة صوتية قوية تصد الرياح، تكسر الأرض حوله، تصدم الرجل الأخضر بعنف لم يعرفه من قبل.

القتال النهائي كان طويلًا، كل تبادل ضربات كأنه سيمحو الأرض، كأن الغابة نفسها تتنفس معنا وتتحطم مع كل حركة. كل ضربة منه كانت تبتلع جزءًا من الواقع، وكل رد مني كان يقابله بمزيج من القوة والتركيز والخبرة. كل لحظة شعرت بأن جسدي وروحي أصبحا أداة واحدة، كل شيء تعلمته من التدريب صار الآن ضرورة للبقاء.

النهائية جاءت بعد لحظات من الجنون: موجة الرياح الأخيرة تصدت لها بموجة من الصوت المشبع بالبركة، ضربتي الأخيرة اخترقت دفاعاته، واجهت البرود القاتل في وجهه، لكن الهجوم كان بلا مقاومة، بلا فرصة للرد. استسلمت الرياح، تهدأت الأرض، وانتهى الرجل الأخضر واقفًا أمامي، بلا تعبير، لكن سقوط قوته كان واضحًا، لحظة صمت رهيبة امتدت لثانية واحدة، ثم تلاشت طاقته.

وقفت ألتقط أنفاسي، جسدي يلهث، عروقي مشدودة، كل عضلة تتحدث عن التعب الشديد، ولكن قلبي ينبض بالإنجاز. شعرت بيد مونو تلمس المكان عن بعد، تهز الغابة بسحرها لإعادة تشكيل التضاريس: الأشجار عادت واقفة، الأرض المستوية تشق الطريق، حقل الأنهار الأرجوانية بدأ يلمع من جديد، الفراشات السامة عادت لتطير برقة كما لو لم يحدث شيء.

نظرت إليها وابتسمت بضعف، كلمات قليلة خرجت مني:

"لقد… فعلتها…"

همست، وهي تبتسم وتعيد ترتيب المكان بسحرها:

"كنت تعرف ذلك منذ البداية،لقد فعلتها يا بليك."

المشهد انتهى، الغابة صامتة لكن مليئة بالأثر، كل شيء متجدد، وكل شيء في داخلي أصبح أقوى، وأكثر تركيزًا، أكثر استعدادًا لأي تحدٍ قادم.

2025/08/30 · 8 مشاهدة · 3724 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025