[منظور بليك]
وقفتُ وسط الغابة، محاطًا بأشجار عالية تمتد أغصانها نحو السماء وكأنها تحاول لمس الغيوم الرمادية. الأرض مغطاة بأوراق الشجر المتساقطة، وبعض الفطر ينتشر بين الجذوع، بينما صوت الريح بين الأشجار يشبه همسًا مستمرًا. الهواء بارد ورطب، يختلط برائحة التراب الرطب والأوراق المتعفنة، وكأن الغابة نفسها تراقبني وتنتظر أن أفشل أو أن أتقدم خطوة.
أمامي كانت الصخرة الضخمة، أكبر مما توقعت، حوافها مشققة وتبدو صلبة كما لو كانت جزءًا من الأرض نفسها. قبضت على مقبض سيفي، شعور الحديد البارد يمر في يدي، لكن القلب كان يختلط فيه شعور بالغضب والارباك.
"حقًا؟! صخرة، صخرة؟ هذا كل ما عندك؟" تمتمت لنفسي، بينما أحاول أول ضربة. سقط السيف على الصخرة، تصدّر صوت صدى معدني ضعيف، وكأن الصخرة تضحك عليّ.
توقفت، التقطت نفسًا عميقًا، وقلت في داخلي: أنت أقوى من هذا. فقط اضرب. مرة أخرى. لكن الضربة التالية لم تُحدث أي فرق. لا تشقق، لا انكسار، لا حتى شق صغير. مجرد صدى ممل.
غضبت، ولم أستطع منع نفسي من التذمر بصوت مرتفع: "أوووف! ماذا أفعل بهذه الصخرة؟! إنها... إنها لا تعرف من أنا!" حاولت مرة ثالثة، هذه المرة بقوة أكبر، لكن السيف ارتدّ قليلاً، مما جعلني ألتفت وأتساءل: هل أنا أحاول تقطيع صخرة أم أمارس نوعًا من الرياضة القاسية؟
اللحظة كانت مضحكة بعض الشيء، وأنا أتنفس بقوة وأتعرق، لكن ليس ضحكًا من القلب. أكثر شيء كان يزعجني هو شعوري بالغباء أمام هذه الصخرة الثابتة. حاولت تذكير نفسي بكلمات مونو: "الصبر والقوة ليست فقط في اليد، بل في العقل."
فجأة، شعرت بوخزة في قدمي من جذع شجرة قريب. رفعت بصري لأرى سنجابًا صغيرًا يراقبني بعيون مستديرة، وكأنه يقول: "حقًا، هل هذا ما تسميه تدريبًا؟" ابتسمت رغم نفسي، وقلبي خفق بطريقة غريبة؛ شعور بالحرج والضحك مختلطين.
أخذت نفسًا آخر، هذه المرة أبطأ، مركزًا على كل صوت حولي: خشخشة أوراق، همس الريح، حتى صوت ضربات قلبي. حاولت أن أهدأ، أتصور الصخرة تتفتت كما لو كانت مجرد ورقة. ثم، بحركة متقنة، ضربت مرة أخرى. هذه المرة، لم يُسمع الصدى المعتاد، لكن شعور غريب اجتاح ذراعي؛ الصخرة لم تتحرك كثيرًا، لكنها لم تعد صلبة كما قبل.
أصبحتُ أكثر تركيزًا، وأدركت أن المعركة ليست بين السيف والصخرة فقط، بل بين إرادتي وغضبي الداخلي. وعندما بدأت أدرك ذلك، ضحكة صغيرة خرجت مني، ليست ضحكة كبيرة، لكنها كانت خفيفة، مزيج من الإحباط والفخر. "حسنًا، صخرة، أنت لم تهزمني بعد، لكن لن تفلت بسهولة!"
وهكذا، وسط الأشجار العالية، والصوت المستمر للريح، والشمس المتسللة بين الأغصان، أدركت أن الغابة ليست مجرد مكان للتدريب، بل مرآة لأفكاري الداخلية. وكل ضربة، وكل فشل، وكل شعور بالغضب كان جزءًا من رحلتي التي تبدأ الآن حقًا.
جلست متكئًا على الصخرة بعد أن فقدت الأمل حتى في خدشها. شعرت بثقل جسدي يضغط على ذراعيّ، وعضلاتي ترتجف من المحاولة المستمرة، وعرقي يتصبب كما لو أن الغابة نفسها تتنفس معي. كيف يمكنني بحق الجحيم أن أقطعها إلى نصفين؟ تساءلت وأنا أضغط على شفتيّ، أذنيّ ممتلئتان بصوت نبضات قلبي، وفكري مشتت بين الغضب واليأس والإحباط.
أخذت نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة يديّ المتعبتين، عندما فتحت عيني فجأة بعد لهثي. توقف كل شيء حولي للحظة، كأن الريح والجداول وحتى أوراق الشجر تجمّدت. أمامي، كانت تقف فتاة في وسط الغابة، تنظر إليّ بثبات.
كانت صغيرة في السن، شعرها الأسود القصير والمجعد يلمع بخفة في ضوء الشمس المتسلل بين الأغصان، وعيناها الكبيرتان، بلون أزرق يميل إلى الأخضر، تحملان هدوءًا غريبًا وحزنًا خفيًا في الوقت نفسه.
ترتدي كيمونو داكن اللون، مزينًا بنقوش زهور الكرز الوردي والأبيض، وكأنها قطعة من الغابة نفسها. على جبينها، قناع ياباني تقليدي أبيض على شكل وجه ثعلب، مزخرف بزهرات زرقاء، يضيف إلى حضورها شعورًا بالغموض والرهبة اللطيفة في الوقت نفسه.
توقفت عن التنفس للحظة، أذنيّ تصغي لكل خفقة قلب، وفكري يحاول استيعاب ما أراه. لم أرها هنا من قبل، لم أشعر بها مطلقًا أثناء كل محاولاتي المستميتة مع الصخرة. كيف وصلت إلى هنا بحق الجحيم؟ هل كانت الغابة تخفيها؟ أم أنني كنت غارقًا جدًا في صخرتي لألاحظها؟
ابتسمت ابتسامة صغيرة، خجولة بعض الشيء، لكنها شعرت بالدفء. نظرت إليّ مباشرة وقالت بصوت هادئ، ملمس الكلمات كنسيم خفيف:
— مرحبًا… أنا اسمي ماكومو.
تجمّد لساني للحظة، شعور بالدهشة والارتباك يسيطر عليّ. كل التعب الذي شعرت به من قبل، كل الغضب واليأس، بدا فجأة أقل حدة أمام وجودها الغامض. الغابة حولنا صامتة، وكأنها تمنحني لحظة للتفكير، والتأمل، وربما… لإعادة التوازن الداخلي الذي كنت أفتقده طوال الوقت.
نظرت إليها، وعقلي يحاول ترتيب أفكاره: فتاة؟ هنا؟ الآن؟ كيف لم ألاحظ أي شيء طوال هذا الوقت؟ لكن شيئًا ما في هدوئها وحضورها جعله كل هذا منطقيًا بطريقة غريبة.
أخذت نفسًا، محاولةً أن أستعيد صوتي، لكن قبل أن أنطق، أدركت شيئًا آخر: حرارة الشمس على جلدي، رائحة التراب الرطب، همسات الريح بين الأشجار… كل شيء أصبح أكثر وضوحًا، كأن الغابة نفسها تتوقف لتستمع إلى لقاء غريب بدأ للتو.
ابتلعت ريقي، أحاول أن أبدو طبيعيًا رغم دهشتي:
— أ… أهلاً، أنا… أنا بليك. لم أرَك من قبل، كيف وصلتِ إلى هنا؟
ابتسمت مرة أخرى، بخفة هذه المرة:
— الغابة تسمح أحيانًا لمن يستمع لها أن يراه من يحتاج للمساعدة… وأنت كنت بحاجة إليها، يبدو.
ضحكت خافتًا، محاولة تخفيف التوتر:
— حسناً… أعتقد أن الغابة قررت أن تكون مرعبة اليوم!
ضحكت خففًا أيضًا، وأشرت إلى الصخرة:
— أتعلم، يبدو أنك تحاول التعامل مع هذا العملاق الصخري؟
شعرت بخجل مفاجئ، ويدي ما زالت ترتجف قليلًا من التعب:
— آه… نعم، لقد حاولت طوال الوقت، لكنه… لا يتحرك، لم أستطع حتى خدشه.
ميلت برأسها، تنظر إلى الصخرة:
— أرى… حسنًا، لا تقلق. أستطيع أن أريك طريقة تجعل الصخرة تتجاوب معك، إذا أحببت.
رفع وجهي من بين ذراعي، محاولة استيعاب الأمر، وأنا أشعر بخليط من الفضول والحذر:
— سا… ساعديني؟ لكن… من أنت فعليًا؟ ولماذا… لماذا كنت تراقبني؟
ابتسمت بحنان خفي، وكأنها تعرف كل شيء:
— أنا ماكومو. أما عن سبب مشاهدتك… دعنا نقول فقط أنني أتابع من يحتاج إلى مساعدة. وأنت كنت بحاجة إليها، بليك.
تنهدت، محاولًا استعادة رباطة جأشي. شعرت فجأة براحة غريبة، كأن وجودها في الغابة أزال جزءًا من العزلة التي شعرت بها طوال الوقت أمام الصخرة.
— حسنًا… إذاً… أعتقد أنني سأحتاج فعلاً لمساعدتك، قلت بابتسامة خجولة، محاولًا المزاح قليلًا رغم التوتر.
ابتسمت ماكومو مرة أخرى، ونظرت حول الغابة الواقعية المحيطة بنا: أشجار عالية، أوراق تتطاير مع الريح، أشعة الشمس تتسلل من بين الأغصان، والهواء الرطب يحمل رائحة الأرض الرطبة والفطر. كل شيء بدا حيًا، وكأن الغابة نفسها ترحب باللحظة.
— لنبدأ إذًا، بليك، قالت وهي تميل للأمام بخفة، مستعدة لتوضيح خطواتها.
وقفت ماكومو أمام الصخرة، قامة قصيرة، خطواتها خفيفة ولطيفة، كأنها تتسلل بين الأشجار بدل أن تمشي، جعلت كل حركة تبدو وكأنها جزء من نغمة الغابة نفسها. اقتربت، ومدّت يدها برفق نحو سطح الصخرة، ولمستها بكفها، كأنها تلمس قلب شيء حي.
— هذه الصخرة، لا تقطع بالقوة الجسدية، بل بالقوة العقلية، قالت بصوت هادئ، كأنها تخاطب الريح نفسها.
تجمدت للحظة، وارتسم على وجهي استغراب صامت:
— ماذا؟
ابتسمت ابتسامة طفولية صغيرة، استدارت نحوي وقالت:
— لكي تقطعها، يجب أن تكون روحك وعقلك وقلبك وجسدك… كلها تريد فعلاً قطعها. يجب أن يكون عقل
ك صافياً من أي فكرة أخرى، عندها فقط ستصل إلى ما تريد.
ارتعشت حاجباي، وأنا أردد بصوت غريب وغير متأكد:
— و… كيف أفعل ذلك؟
فجأة، قفزت ماكومو فوق الصخرة، التي كانت أطول مني بأمتار، في قفزة واحدة، وجلست فوقها وكأنها مجرد حجر عادي في الغابة.
— ماذا؟ كيف فعلتِ هذا؟ قلت وأنا أرفع صوتي قليلاً، لكن عقلي لا يصدق ما أراه.
نظرت إليّ بعينين بريئتين:
— ماذا تقصد؟
تلعثمت، محاولاً التظاهر بأنني غير مهتز:
— ل… لا شيء…
جلس الصمت للحظات، والغابة حولنا تبدو وكأنها تحبس أنفاسها، أوراق الأشجار تتراقص على أنغام الريح، أشعة الشمس تخترق الأغصان لتلعب على جذوع الأشجار، ورائحة الأرض الرطبة تملأ الهواء. كل شيء يبدو حيًا، وكأن الغابة نفسها تنتظر ما سيحدث.
— حسناً… سأحاول، قلت وأنا أحاول أن أجمع شتات أفكاري.
أخرجت سيفي، قبضتي تتعرق، واليد الأخرى ترتجف من التوتر، أعدت النظر إلى الصخرة، عيني تتفحص كل شق فيها. حاولت إفراغ عقلي من أي فكرة سوى قطع الصخرة، لكن كل محاولة كانت تفشل. لا… لا أستطيع… لماذا لا أستطيع التخلص من كل هذه الأفكار؟
ضربت السيف على الصخرة مرة، ثم مرتين، وكل مرة شعرت بأن القوة الجسدية تتلاشى بلا جدوى، وكأن الصخرة تبتسم بسخرية خفية. عرق يسيل من رأسي، وأشعر بإرهاق كامل، جسدي يتأوه من الجهد، وقلبي يئن من الإحباط.
ماذا أفعل؟ هل سأظل هنا طوال اليوم أضرب في حجر صامت؟
جلست على ركبتي، سيفي مسند على الأرض، عيني تتابع ماكومو وهي تجلس بثبات فوق الصخرة، وجهها هادئ كما لو أنها تعرف سر الكون كله. شعرت بمزيج غريب من الإحباط والإعجاب، وشيء صغير في داخلي يقول: لا بد أن هناك طريقة… يجب أن أجدها.
نظرت إلي ماكومو، عينيها الواسعتان تعكسان هدوء الغابة من حولنا، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حازم:
— حركاتك جيدة، وسيفك و سيفك ممتازًا، وجسدك فوق الممتاز… لكن عقلك، دائمًا مشوش بأفكار لا معنى لها. حاول أن تكون هادئًا، لن ينتهي العالم إذا لم تستطع قطع صخرة.
شعرت وكأن كلماتها وضعت مرآة أمام عقلي، كل الأفكار المتناثرة بداخلي تتجمع للحظة، ثم أختفت. قلبي دق بسرعة، وعقلي… فجأة أصبح صامتًا، لكن شعورًا غريبًا من الفضول والرهبة امتزج بداخلي. هل يمكن فعلاً أن أتعلم هذه الطريقة؟ هل سأتمكن من فعل شيء لا أستطيع فعله منذ ساعات؟
— إذن… هل يمكن أن تعلّمني كيف أقطعها؟ سألتها وأنا أحاول أن أبدو واثقًا، لكن داخلي كان يرتجف بين الحماس والخوف.
ابتسمت ماكومو، ابتسامة صغيرة، شعرت وكأنها شمس صغيرة تخترق الغابة الكثيفة.
— هذا هو الطلب الذي كنت انتظره! بالتأكيد سوف أساعدك.
نزلت من على الصخرة العالية بسهولة، خطواتها الرشيقة تكاد لا تلمس الأرض، وأنا ما زلت مندهشًا من رشاقتها، شعرت بالإعجاب يغمرني بطريقة لم أكن أعرفها من قبل. الغابة حولنا، الأشجار الطويلة، أوراقها تتراقص بلطف مع الريح، صوت الطيور يتردد بين الأغصان، كل شيء بدا وكأنه توقف للحظة ليراقب ما سيحدث بيننا.
— يبدو أنك تجيد "تنفس الصوت"، قالت ماكومو وهي تلمح سيفي، لكني سوف أعلمك نوعًا آخر من التنفس.
ارتعشت لحظة، وارتسم على وجهي مزيج من الدهشة والحيرة:
— نوع آخر؟
— نعم، إنه "تنفس الماء"، أجابت بابتسامة هادئة، عيناها تتلألأ كجداول صغيرة في الغابة.
شعرت بقلبي يقفز من شدة الفضول، تنفس الماء… ماذا يمكن أن يعني هذا؟ هل سأتمكن فعلاً من قطع الصخرة بهذه الطريقة؟ لكن رغم كل شيء، كان شعور داخلي يقول لي: أخيرًا، سأتعلم شيئًا حقيقيًا، شيئًا قد يغير كل شيء.
كان الهواء حولنا رطبًا قليلًا، ورائحة الأرض المبللة تتصاعد من التربة، أوراق الشجر تتراقص بخفة، وكأن الغابة كلها تنتظر اللحظة التي سأبدأ فيها رحلتي مع هذا التنفس الغامض. شعرت بطاقة غريبة تتسلل من الأرض إلى قدميّ، وكأن كل شيء حولي يهمس: ركز… استمع… وابدأ.
وقفت أمامي ماكومو، ابتسامتها الرقيقة تلمع كقطرة ندى على أوراق الشجر، وصوتها هادئ لكنه مليء بالسلطة الطبيعية للمعرفة:
— أسلوب التنفس المائي، وهو أحد أساليب التنفس الأساسية التي كان يستخدمها قاتلو الشياطين لمواجهة الأخطار منذ قديم الزمان…
شعرت بقشعريرة تسري على عمودي الفقري. قاتلو الشياطين؟ أساليب قديمة؟ أنا في وسط غابة، أمام فتاة صغيرة، وهي تتحدث عن هذه الأشياء وكأنها أمور طبيعية…
تابعت ماكومو حديثها، وأنا أستمع بانبهار مطلق:
— تنفس الماء يمنح مستخدمه قدرات استثنائية، من خلال تسخير تقنيات التنفس لزيادة القوة والسرعة والتحمل. عند استخدامه، يمكن للمقاتل أداء تقنيات مستوحاة من تدفق الماء باستخدام السيف.
بدأت عيني تتسع بينما تشرح التقنيات، وكل اسم تقريبًا يُفتح أمامي نافذة جديدة من الدهشة:
— الشكل الأول: قطع سطح الماء…
— الشكل الثاني: عجلة الماء…
— الشكل الثالث: رقصة التدفق المتحرك…
رقصة التدفق المتحرك؟! ماذا يعني هذا؟ هل سأرقص مع السيف حول الصخرة؟ ابتسمت ماكومو حين رأت حيرتي، وكأنها قرأت أفكاري قبل أن أقولها.
تابعت وهي تضع يديها خلف ظهرها:
— الشكل الرابع: ضربة المد والجزر، شكل الخامس: المطر المبارك بعد الجفاف، شكل السادس: الإعصار المتغير…
— شكل السابع: قطرة متموجة، شكل الثامن: شلال الحوض، شكل التاسع: سبلاش المائي الفوضوي، وأخيرًا الشكل العاشر: تنين التغيير.
شعرت وكأن رأسي يفيض بالمعلومات، وكل شيء بدا وكأنه رقصة معقدة من الحركة والهدوء والقوة. قلبي دق بسرعة، وعقلي يحاول أن يربط بين كل هذه الأسماء والحركات.
ثم نظرت إلي ماكومو بجدية:
— التركيز أمر أساسي، بليك. تنفس الماء يتطلب تركيزًا عاليًا للتحكم في التنفس، والتحكم في تدفق الطاقة الداخلية. كما أنه يزيد القوة الجسدية والتحمل، ليصبح المقاتل أكثر صلابة.
ابتلعت ريقي بصعوبة، شعور بالرهبة ممزوج بالإثارة يختلط بداخلي. إذا استطعت تعلم هذا… إذا استطعت التحكم بعقلي وجسدي، ربما أتمكن من قطع الصخرة في النهاية… وربما أكثر من ذلك…
نظرت إليها بعينين مليئتين بالفضول والحماس:
— هل لديك أسئلة أخرى حول تنفس الماء؟
ابتسمت، وأنا أحاول أن أسيطر على حماسي:
— نعم… كل شيء يبدو معقدًا، لكن أريد أن أبدأ فورًا، أريد أن أرى كيف أشعر بهذه القوة…
ابتسمت ماكومو، وكأنها كانت تنتظر هذا الحماس مني:
— حسنًا، لنبدأ إذاً. لكن تذكر، القوة تأتي من العقل أولًا قبل الجسد…
شعرت بأن الغابة من حولنا أصبحت أكثر وضوحًا، كل ورقة، كل شعاع ضوء، وكأنها تنتظر اللحظة التي سأبدأ فيها رحلتي مع "تنفس الماء". قلبي ينبض، يدي ترتجف قليلاً، لكن شيئًا داخلي يقول لي: أنت جاهز… استمع، وابدأ…
لكن فجأة تسلّل إليّ شعور غريب، ثِقلٌ في صدري وكأن شيئًا غير مكتمل يلحّ على عقلي. التفتُّ نحو ماكومو وسألتها:
"ما هي هذه الشياطين التي يتحدث عنها الجميع؟ وكيف انقرضت؟ هل هي مثل الشياطين التي نقرأ عنها في الديانات؟"
نظرت إليّ نظرة طويلة، ثم أطلقت تنهيدة قصيرة قبل أن تجلس أمامي وكأنها تستعد لشرح أمرٍ معقد. قالت بهدوء:
"هناك فرق كبير يا بليك بين الشياطين التي أقصدها أنا وتلك التي تتحدث عنها الديانات. هنا… الأمر مختلف تمامًا. في هذا العالم، لا يوجد نوع واحد من الشياطين بل عشرات، مئات… أصناف متفرعة ومتنوعة، تمامًا كما هو الحال مع عالم الحيوان. قد تختلف الفصائل، لكنهم جميعًا في النهاية ينتمون إلى فئة واحدة… الشياطين."
هززت رأسي مستوعبًا، ثم قلت:
"فهمت… إذن حدّثيني عن تلك الفصيلة التي تقولين إنها انقرضت."
أغمضت عينيها للحظة كأنها تسترجع ذكرى بعيدة، ثم بدأت بصوت جاد:
"قبل قرنٍ من الزمان… كان هناك صنف من الشياطين مخيف إلى حد لا يوصف. هذه المخلوقات لم تُولد شياطين، بل كانت بشرًا عاديين… إلى أن تلوثوا بدم سيد الشياطين موزان كيبوتسوجي، فتحوّلوا إلى كيانات لا يوقفها شيء."
تقدمت قليلًا وكأنها تريد أن تغرس الصورة في ذهني، ثم عدّدت ببطء:
"امتلكوا قوة هائلة تفوق البشر بأضعاف، وجسدًا خالدًا يتجدّد مهما جُرح أو قُطع. بعضهم فقد أطرافًا كاملة… ثم أعادها في لحظات. كانوا يملكون قدرات خاصة، تُعرف باسم فنون الدم الشيطانية، تختلف من واحدٍ لآخر: من التحكم بالنار والثلج، إلى خلق الأوهام، وحتى السيطرة على الأشياء من حولهم."
شعرت بقطرات عرقٍ باردة على جبيني بينما هي تتابع:
"لكن رغم رعبهم، لم يكونوا بلا ضعف. الشمس كانت عدوهم الأكبر… مجرد شعاع واحد كان يحرقهم حتى يصيروا رمادًا. كذلك، إن قُطع رأسهم بسيف النيتشيرين المخصص… انتهى وجودهم إلى الأبد."
توقفت لحظة، نظرت إليّ بعينين مثقلتين بالذكريات، ثم أضافت:
"كانوا يتغذّون على البشر ليزدادوا قوة، ينهشونهم ليلًا بلا رحمة. تخيّل أن تخرج قرية كاملة من التاريخ في ليلة واحدة… هذا ما فعلوه."
كنت أستمع وأنا مشدودٌ كليًا، كأن جسدي نفسه يرفض أن يتحرك. سألت بصوت خافت:
"وهكذا… انتهوا جميعًا؟"
أومأت برأسها ببطء:
"نعم… بفضل مقاتلين كرّسوا حياتهم لمحاربتهم. قاتلوا جيلًا بعد جيل، مستخدمين سيوف النيتشيرين التي تحمل ضوء الشمس في جوهرها. وفي النهاية… ضحّوا حتى أسقطوا موزان نفسه. ومع سقوطه… انقرض ذلك الصنف من الشياطين."
رفعت بصرها نحو السماء الرمادية، ثم قالت بنبرة خافتة أشبه بالتحذير:
"لكن لا تنسَ… انقراض فصيلة لا يعني أن الظلام انتهى. فالعالم لا يخلو أبدًا من شياطينه."
أصغيتُ إلى كلمات ماكومو بكل جوارحي، وكأن صوتها ينساب داخلي مثل جدول ماء صافٍ يتغلغل في عطش روحي للمعرفة. كنت أسمع نبضات قلبي تتسارع مع كل تفصيلة، وكأن الحقيقة التي تكشفها الآن تنقش نفسها في أعماقي.
نظرت إليها وقلت بترددٍ خفيف:
"إذن… تلك الشياطين التي انقرضت… لم تكن مجرد أساطير إذن؟ لقد كانت حقيقة عاشها البشر."
ابتسمت ماكومو بخفوت، لكن خلف ابتسامتها ظلٌّ من الحزن، حزنٌ لم أفهمه فورًا. جلست أمامي متقاطعة الساقين، ووضعت يديها على ركبتيها وكأنها تحاول أن تُثبّت ذاكرتها قبل أن تفلت منها.
قالت بصوت منخفض:
"نعم… لقد ملأوا الأرض فوضى، أكلوا أرواح الأبرياء، وحوّلوا الليالي إلى جحيم ممتد. تخيّل أن يخرج إنسانٌ من منزله ولا يعود، أو أن تجد قرية بأكملها وقد اختفت كما لو ابتلعتها الأرض… تلك كانت حقيقة يومية."
شعرتُ ببرودة تسري في ظهري، وانكمشت قبضتي على مقبض سيفي كأنني أبحث عن سندٍ ملموس يحميني من رعب كلماتها. حاولت أن أبدو متماسكًا وسألتها:
"لكن… إن كانوا بتلك القوة والقدرة على الشفاء، كيف انقرضوا؟ لا يبدو أن مجرد بشر عاديين كان بإمكانهم مجابهتهم."
رفعت ماكومو بصرها نحوي، وعيناها تلتمعان بضوء هادئ يشبه انعكاس القمر على سطح ماء:
"لم يكن بشرًا عاديين يا بليك… كان هناك أناس كرّسوا حياتهم كلها لمحاربتهم. مقاتلون يحملون سيوف النيتشيرين التي تتغذى على ضوء الشمس، ويتنفسون بأساليب قتالية تقلب موازين المعركة. لقد ضحوا بأنفسهم، جيلًا بعد جيل، حتى استطاعوا في النهاية القضاء على سيد الشياطين نفسه… موزان كيبوتسوجي."
توقفت قليلًا، ثم أضافت ببطء وكأنها تلقي سرًا:
"لكن موت موزان لم يكن النهاية… بل كان بداية لصراعٍ آخر. فالعالم… لا يخلو أبدًا من الظلام."
ابتلعتُ ريقي بشعورٍ مختلط؛ خليط من الدهشة والرعب والرهبة. داخلي كان صراعًا لا يُهدأ: جزءٌ مني يريد الهرب من هذه المعرفة، وجزء آخر يزداد فضولًا ويغرق أكثر.
سألتها بصوت خافتٍ يقطعه التردد:
"ماكومو… هل تعتقدين أن هذه الشياطين… أو فصائل أخرى منها… لا تزال موجودة حتى الآن؟"
لم تُجب مباشرة. فقط نظرت إلى الأفق، إلى السماء الملبّدة بالغيوم، وكأنها تسمع شيئًا أنا عاجز عن سماعه. ثم همست:
"أحيانًا… يظل الظلام مختبئًا في أماكن لا نراها. وربما… لم ينتهِ كل شيء كما نعتقد."
رفعت بصرها نحو السماء الرمادية، ثم قالت بنبرة خافتة أشبه بالتحذير:
"لكن لا تنسَ… انقراض فصيلة لا يعني أن الظلام انتهى. فالعالم لا يخلو أبدًا من شياطينه."
تجمدت الكلمات في داخلي كأنها وُقّعت بختم لا يُمحى. شعرت أن صدري يضيق، وأن الهواء صار أثقل من أن أتنفسه.
شياطين كانوا بشرًا… خالدون… يلتهمون الناس ليتقوّوا أكثر…
لم أكن أعرف إن كان هذا مجرد حكاية قديمة، أم أنه إنذار لمستقبل يقترب.
عقلي امتلأ بضجيج الأفكار: هل يمكن أن يعودوا؟ وإن عادوا، هل أستطيع أنا… مجرد شخص يحمل سيفًا، أن أواجه مثل هذه الكائنات؟
رحت أحدّق في الصخرة أمامي، تلك التي فشلت في قطعها، وشعرت بالهوة الهائلة بين ضعفي وما سمعته الآن.
لكن وسط خوفي، اشتعلت في داخلي شرارة صغيرة… غريبة، عنيدة.
إن كان الظلام لا ينتهي، فربما عليّ أن أكون النور الذي يقف في وجهه.
رفعت يدي إلى
مقبض سيفي، لم أقطعه بعد… لكن للمرة الأولى، لم أرَ الصخرة مجرد حجر، بل رمزًا. حاجزًا يقف بيني وبين العالم الذي ينتظرني.
وقفتُ أمام الصخرة من جديد، أصابعي مشدودة على مقبض السيف، لكن هذه المرّة لم يكن الأمر مجرد محاولة غاضبة أخرى. كان هناك صمت يملأ الغابة من حولي، صمت كأنه بانتظار شيء… شيء مهم.
اقتربت ماكومو، بخطواتها الهادئة التي تكاد لا تترك أثرًا على العشب المبلل. وقفت بجانبي وقالت بصوت منخفض لكنه حاسم:
"بليك… قبل أن تُمسك السيف، عليك أن تُمسك أنفاسك."
نظرتُ إليها باستغراب، فابتسمت، ابتسامة صغيرة لكنها مملوءة بالثقة.
"تنفسك هو روحك، وإن لم تعرف كيف تُسيطر على روحك، فلن تسيطر على سيفك."
أشارت لي أن أغمض عيني. ترددت لحظة، ثم فعلت.
"تخيل نفسك ماءً… بلا شكل، بلا قيود… الماء يأخذ أي هيئة، يتدفق من بين الصخور، لكنه حين يريد… يتحول إلى سيف حاد لا يُقهر."
كلماتها غرقت في أعماقي. حاولت أن أتنفس كما قالت، ببطء… شهيق طويل يدخل صدري، كأنه يملؤني ببرودة النهر… ثم زفير يخرج ببطء، كأنني أترك خلفي كل اضطراباتي.
وضعت يدها برفق على كتفي، وقالت:
"هذه هي البداية… الآن استمع جيدًا. سأعلمك الشكل الأول: قطع سطح الماء. ضربة واحدة… سريعة، حاسمة… مثل الموجة حين تتحطم على الصخر. لا تتوقف، لا تتردد."
فتحتُ عينيّ ببطء، ورأيتُها تسحب سيفها بخفة، كأنها مجرد نسمة. حركة واحدة… وانطلق نصلها يلمع في الهواء. كان الأمر كأن سطح الغابة قد انشق للحظة، ضربة نقية، لا تحمل أي جهد زائد.
"رأيت؟" قالت بهدوء وهي تخفض سيفها. "القوة ليست في العضلات، بل في تدفق النفس مع الحركة."
جفلتُ، فقلبي بدأ يخفق بسرعة.
هل أستطيع حقًا أن أفعل مثلها؟ أم أنني مجرد هاوٍ يركض وراء المستحيل؟
رفعت سيفي. قبضتي تعرّقت. سمعتُ صدى كلماتها في رأسي: كن ماءً… بلا خوف… بلا تردد.
شهيق طويل… زفير بطيء… ثم اندفعت!
قطع سيفي الهواء بصرخة حادة، لكن… لم تُكسر الصخرة. بقيت ثابتة في مكانها، وكأنها تسخر مني.
شهقتُ غاضبًا: "تبااااااااً!!!"
ضربتُ الصخرة بقدمي، فارتد الألم إلى عظامي، وصرختُ مجددًا:
"حتى وأنا أتنفس مثل ماء لعنة الله، لا شيء يتغيّر!!"
سمعتُ ضحكة خافتة خلفي. التفتُّ، كانت ماكومو تضع يدها على فمها لتخفي ابتسامة صغيرة.
"أنت تتنفس جيدًا… لكنك تفكر كثيرًا. لا تفكر… فقط كن الموجة."
شعرتُ بوجهي يحترق، خليط من الإحباط والحرج.
هل سأظل أبدو كالأبله أمامها طوال الوقت؟ أم أنني… سأجد لحظة واحدة أُثبت فيها أنني لست عاجزًا؟
لم تتركني ماكومو أضيع في غضبي طويلاً. كانت نظراتها ثابتة، هادئة، كأنها بحر لا ينفعل مهما ألقيت فيه الصخور. تقدمت نحوي وقالت بصوت واثق:
"جيّد… الآن عرفتَ كيف تُطلق ضربة صافية. لكنها ليست كل شيء… الضربة وحدها بلا دفاع تجعلك هشًّا. لهذا سأُريك الشكل الثاني."
تراجعت خطوة إلى الوراء، رفعت سيفها، وبدأت تتحرك بخفة كأنها تدور داخل إيقاع موسيقي لا أسمعه. الهواء من حولها تبدّل، وصوت السيف وهو يشق الفراغ أخذ شكل دائرة كاملة. كانت تدور بجسدها بخطوة انسيابية، والسيف يتبعه في مسار دائري كامل، ليُشكل حلقة من الماء المتخيّل.
"الشكل الثاني: عجلة الماء." قالتها وهي تُكمل دورتها، سيفها يلمع كالقمر في ليلة عاصفة.
"إنها ليست فقط للهجوم… بل لحماية نفسك. إن كنتَ محاطًا، تدور كالموجة، كل من يقترب منك سيتحطم عند الحافة."
ابتسمت بثقة وهي تُنهي حركتها، طرف سيفها ثابت أمامها:
"جرّب… دع جسدك هو العجلة، ودع أنفاسك هي التي تُحرّكه."
شعرت بقلبي يقفز في صدري. عجلة ماء؟… دوران كامل؟ أنا بالكاد أتقنت الشهيق والزفير في الأولى!
لكنها كانت تراقبني بابتسامة مطمئنة… ابتسامة كأنها تقول: أنت تستطيع.
أخذت شهيقًا عميقًا… الهواء ملأ رئتي كنسيم نهر بارد. قبضت على سيفي، قدماي انغرستا في الأرض.
زفير… ثم اندفعت بدوران كامل، سيفي يتبعني.
لكن النتيجة… كانت فوضى. قدماي تعثرت، كدت أن أسقط، والسيف أفلت مني للحظة قبل أن أتمسك به.
صرخت غاضبًا: "تبا! هذا مستحيل!"
ضحكت ماكومو بخفة، ليست سخرية، بل دفء:
"المستحيل فقط كلمة تقولها حين لا تثق بنفسك. حاول مجددًا، ولكن هذه المرّة… لا تُقاتل الأرض تحتك. تمايل معها."
أغمضتُ عيني لوهلة… تذكرتُ كيف كان صوت الماء في النهر الذي مررتُ بجانبه يومًا. الماء لا يُعارك الصخر… بل يلتف حوله، يرقص معه، ثم يتجاوزه.
تنفست… شهيق طويل… زفير بطيء.
ثم دُرت.
قدماي انزلقتا بسلاسة، جسدي التف كأنه جزء من الهواء، وسيفي خط دائرة شبه كاملة. للحظة شعرت بالريح تُحيطني، كأني فعلاً وسط موجة.
سمعتُ صوت ماكومو خلفي، فيه نبرة فخر خفية:
"أجل… هذا هو الشعور. هذه بداية العجلة."
وقفتُ لاهثًا، عرقي يتصبب، لكن وجهي ابتسم رغماً عني. لأول مرة… لم أشعر أنني أفشل. بل شعرتُ أنني أتعلم.
ربما… فقط ربما… أستطيع أن أقطع تلك الصخرة في يوم ما.
كنت ألهث من التعب بعد محاولاتي المتكررة، وذرات العرق تتساقط من جبيني، لكن ماكومو لم تدع لي مجالاً للاستسلام. وقفت أمامي، تنظر إلي بعينيها الهادئتين، ثم قالت:
"أحسنت… لقد بدأت تفهم كيف يتحرك الماء. لكننا لم ننتهِ بعد. الآن… ستتعلم الشكل الثالث."
رفعت سيفها بخفة كأنها ترسم خطوطًا غير مرئية في الهواء، جسدها يميل يمنة ويسرة بخطوات رشيقة. لم تكن تتحرك في خط مستقيم مثلما فعلتُ في الضربات السابقة، بل انساب جسدها في مسار متعرج، متلوٍ، كأنها ظل موجة ترقص فوق سطح البحر. وبين كل انحراف وآخر، كانت تضرب بسيفها بسرعة خاطفة، وكأنها تضرب وتختفي في اللحظة نفسها.
"الشكل الثالث: رقصة التدفق المتحرك."
قالتها بصوت رخيم، ثم تابعت:
"الماء لا يتوقف أبدًا… إنه يتلوى ويتدفق حول أي عقبة، لكنه لا ينسى أن يُصيب ما أمامه. بهذه الرقصة… يمكنك تفادي هجمات خصمك بينما تُهاجمه في الوقت نفسه. السر… هو ألا تفكر في ضربتك التالية، بل تترك جسدك ينساب كما ينساب النهر."
كنت مأخوذًا بها… بحركاتها قبل كلماتها. شعرتُ أنني أشاهد رقصة حقيقية، رقصة فيها حياة، فيها حرية. كيف يمكن أن أجاري هذا؟
أخذتُ نفسًا عميقًا… ثم حاولت.
تحركتُ للأمام، جسدي متعرج، أقدامي تخط مسارًا متلوّيًا. سيفي في يدي، لكن ضرباتي كانت مترددة، ثقيلة. مرةً أصبتُ الهواء، ومرةً أخرى كدت أن أفقد توازني.
"أنت متصلب!" صاحت ماكومو بخفة وهي تضحك. "دع الماء يقودك، لا أنت من يقوده."
زممتُ شفتي، حاولت مجددًا. هذه المرة أغمضتُ عيني لجزء من الثانية، وتخيلت نفسي قطرة ماء تنحدر في جدول ضيق، تتلوى بين الصخور الصغيرة دون أن تتوقف. جسدي بدأ ينحني بانسيابية، قدماي تتحركان وكأن الأرض نفسها تدفعني، وكل مرة أغير فيها مساري، كان سيفي يتبعني بضربة قصيرة، سريعة.
فتحتُ عيني… ووجدت نفسي أتنفس بانتظام، قلبي يخفق بقوة، لكن حركاتي أخف من قبل.
لم تكن مثالية، لكنها كانت البداية.
صفقت ماكومو بخفة، ابتسامتها مشرقة أكثر من أي وقت مضى:
"ها هو… بليك يبدأ أخيرًا في الرقص. لا تنسَ… الماء لا يتوقف أبدًا."
وقفتُ وسيفي في يدي، أنفاسي متسارعة، صدري يعلو ويهبط. شعرتُ بشيء لم أشعر به منذ زمن طويل… الثقة.
ربما الطريق لا يزال طويلاً، لكنني لأول مرة، لم أشعر أنني أركض خلف المستحيل. بل كأنني أسير بجانبه.
كنت أظن أنني بدأت أسيطر على الأمر بعد تعلمي الرقصة السابقة، لكن ماكومو لم تمنحني وقتًا للراحة. وقفت أمامي بسيفها، تلوح به بخفة كأنها ترسم دوائر من الضوء، وقالت بابتسامة:
"الآن سننتقل إلى الشكل الرابع… هنا، ستشعر بمعنى القوة المتدفقة حقًا."
تقدمت خطوة نحوي، ثم رفعت سيفها بكل هدوء، وعيناها تتلألآن بحماسة غامرة:
"الشكل الرابع: ضربة المد والجزر. سلسلة من الضربات السريعة، كل واحدة تعزز الأخرى، كما يفعل الموج حين يضرب الشاطئ مرة بعد أخرى. لا تُعطِ خصمك وقتًا ليلتقط أنفاسه… كن أنت الموج، دعه يغرق."
قبل أن أتمكن من الرد، انطلقت ماكومو.
سيفها انقضّ أول مرة كشرارة خاطفة، ثم تبعها ثانية أقوى، وثالثة أسرع… ومع كل ضربة كانت الأرض من حولي ترتج وكأنها تستجيب لقوة غير مرئية. بدا الأمر وكأنها لا تهاجمني بسيف، بل بعاصفة كاملة.
ارتجف جسدي وأنا أشاهدها، مبهورًا أكثر من خائف. كيف يمكن لفتاة صغيرة أن تحوي كل هذه الطاقة؟
"جرب." قالت وهي تخفض سيفها برشاقة، أنفاسها هادئة كأنها لم تتحرك للتو.
أخذتُ وضعيتي، قبضتي مشدودة حول مقبض النيتشيرين. شعرت بعضلاتي متوترة، وقلبي يتسارع. رفعت سيفي وحاولت أن أتذكر كلماتها… كن الموج.
انطلقتُ بالضربة الأولى. شعرتُ بثقلها في البداية، كأنها اختبار. ثم الثانية، أسرع قليلًا، كأنها تكسر قيودي. الثالثة… كانت مختلفة. جسدي بدأ ينساب وحده، سيفي يتحرك مع أنفاسي، وكل ضربة تُشعل التالية، تضيف إليها قوة غير مفهومة.
"أحسنت!" صاحت ماكومو بصوت يملؤه الفرح، وهي تتابع حركتي بدقة. "لا تتوقف… اجعل ضرباتك مثل الموج، كل موجة تلي الأخرى بلا انقطاع!"
أحسست بسيل من القوة يجري في جسدي، كأن دمي صار ماءً، وكل ضربة هي موجة تدفعني للأمام. الهواء حولي تفتت مع مرور السيف، والعرق يتطاير من وجهي، لكنني لم أشعر بالإرهاق… بل بالانتعاش.
توقفت في النهاية، سيفي ثابت أمامي، أنفاسي ثقيلة لكن عيني لامعتان.
نظرت إلى ماكومو، فوجدتها تبتسم برضا عميق.
"هذا هو… لقد بدأتَ تفهم كيف يكون الماء حين يغضب."
ابتسمت رغم تعبي، وداخل صدري اشتعل شعور غريب… ليس فقط بالفخر، بل بشيء أكبر: إحساس بأنني لم أعد مجرد هاوٍ يتعلم الضربات… بل أنني بدأت أتعلم كيف أصبح موجة حقيقية.
وقفت أتنفس بصعوبة، ما زال جسدي يترنح من زخم "ضربة المد والجزر". كنت أتصبب عرقًا، لكن داخلي يغلي بالحماس… لم أشعر بهذا الحيّ من قبل. ماكومو، على عكس مظهري، كانت لا تزال واقفة بهدوئها المعتاد، سيفها يتلألأ كأنه لم يتلوث بلمسة التعب.
اقتربت مني، رفعت يدها لتزيح خصلة شعر التصقت بجبهتها، وقالت بصوت منخفض:
"لقد أبليت حسنًا… لكن، ليس كل المعارك تُحسم بالقوة. أحيانًا، يكون السيف رسالة، لا عقاب."
نظرتُ إليها باستغراب، حاجبي مرفوعان:
"ماذا تقصدين؟"
ابتسمت ابتسامة حزينة، ثم رفعت سيفها ببطء، كأنها تحمل شيئًا أثمن من الذهب:
"الشكل الخامس… المطر المبارك بعد الجفاف. إنها ليست ضربة للانتصار، بل ضربة للنهاية… النهاية الرحيمة. عندما يستسلم خصمك، أو يغرق في يأسه، لا يكون هناك جدوى من تعذيبه أكثر. حينها، تنزل هذه التقنية كالمطر بعد عطش طويل… تقطع بلا ألم، وتُنهي عذابه في لحظة."
كلماتها أثقلت صدري. لم أكن أتوقع أن "التنفس" يحمل هذا الوجه الرقيق… بدا الأمر إنسانيًا بشكل غريب.
"أرني." قلت، ونبرة صوتي ممتزجة بين الحذر والفضول.
أومأت ماكومو، وأخذت وضعية لم أر مثلها من قبل. هادئة تمامًا، سيفها مائل بانسياب، أنفاسها متناغمة، حتى الريح من حولها بدت وكأنها توقفت احترامًا للحظة. ثم تحركت.
لم أرَ سوى ومضة، خطًا رفيعًا يلمع كالندى. لم يكن فيها عنف ولا اندفاع، فقط نقاء مدهش. لحظة واحدة، وانتهى كل شيء.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، حتى أنني لم أدرك أنني كنت أحبس أنفاسي. هل… يمكن للسيف أن يكون بهذا القدر من الرحمة؟
استدارت نحوي، وقالت بصوت يكاد يكون همسًا:
"جرب… لكن تذكر، هذه ليست تقنية تستعرض بها قوتك. إنها وعد… وعد بأنك لن تستخدمها إلا حين يحتاجها قلبك، لا غرورك."
أخذت وضعيتي، وقلبي يضرب في صدري. لم تكن المسألة مجرد حركة جسدية هذه المرة، بل شيء أعمق. تخيلتُ وجوه من سقطوا حولي… كل من عانوا أكثر مما يستحقون. رفعت سيفي، أطلقت نفسًا عميقًا، وحاولت أن أجعل ضربتي نقية كما فعلت هي.
ومض النصل، وسمعت خفقة كأنها أمطار رقيقة تتساقط في داخلي. لم أقطع شيئًا حقيقيًا، لكن قلبي شعر بخفة غريبة، كأنني أنهيت معركة لم تبدأ أصلًا.
نظرتُ إلى ماكومو، فرأيتها تبتسم بهدوء، عيناها تعكسان فخرًا وطمأنينة.
"هذا هو… لقد لمست قلب التقنية."
ابتسمتُ رغم ارتجاف يدي، وهمست في نفسي:
"ربما… لم يكن السيف يومًا للقتل فقط، بل أيضًا… للرحمة."
كنت ما أزال أشعر بوقع "المطر المبارك" في داخلي، كأنه ترك نغمة غريبة تهدئ صدري. لكن ماكومو لم تمنحني وقتًا طويلًا للتأمل. صفّرت بخفة، ثم قالت وهي تمسك سيفها من جديد:
"الآن… حان وقت العودة إلى العاصفة."
رفعتُ حاجبي بدهشة:
"عودة…؟"
ابتسمت ابتسامة مشاكسة لأول مرة منذ بدأت تدريبي معها، ثم وقفت في وضعية جديدة. الهواء حولها تغير فجأة، وكأنه انجذب إلى نصلها. سمعت صفير الرياح يتكثف، يتجمع، ثم يلتفّ من حولها كدوّامة صغيرة.
"الشكل السادس: الإعصار المتغير."
تحركت بخطوة سريعة، وبدأ سيفها يدور معها، ليس في حركة عشوائية، بل في دوامة دقيقة ومدروسة. الهواء نفسه صار يصرخ من قوة الدوران، والأوراق المتساقطة من الأشجار القريبة أخذت تُسحب في مسارها، تتطاير في دائرة واسعة. كان المشهد أشبه بعاصفة صغيرة في قلب الساحة.
رفعت صوتها لتغطي على هدير الرياح:
"هذه التقنية… ليست مجرد هجوم. إنها درع وعاصفة في آن واحد. عندما يهاجمك خصم قوي… تستطيع أن تبتلع قوته داخل هذا الإعصار، ثم تعكسها نحوه."
حدقتُ بعيني الواسعتين، أحاول فهم ديناميكية حركتها. لم تكن مجرد ضربة، بل سلسلة متواصلة من الالتفافات، كل لفة تعزز التيار أكثر فأكثر.
"جرب!" صرخت وهي تثبت ساقيها في الأرض.
ترددت لحظة، لكني رفعت سيفي، وأخذت نفسًا عميقًا. حاولت تذكّر إيقاع أنفاسي… الشهيق، الزفير، ثم الانسجام. خطوت خطوة، وبدأت أدور. في البداية بدا الأمر أخرقًا، مجرد حركة جسد تتأرجح بلا معنى. لكن… عندما عدّلت إيقاع أنفاسي، بدأت أشعر بتيار هواء يلتف حولي.
كان ضعيفًا أول الأمر، بالكاد يحرك شعري، لكن شيئًا ما اشتعل داخلي. أسرعت، كررت الدوران، وكل مرة أحسست بالرياح تزداد قوة، تتجمع من حولي.
فجأة، انطلقت دفعة هواء قوية من نصل سيفي، كأنها صرخة إعصار صغير. الغبار ارتفع من الأرض، الأوراق تطايرت بعنف، وحتى ماكومو اضطرت لتغرس قدميها كي لا يزحزحها التيار.
توقفت وأنا ألهث، صدري يرتفع ويهبط بسرعة. التفتت إليّ ماكومو، شعرها مبعثر من الرياح، لكنها كانت تضحك بخفة:
"هاه… ليس سيئًا أبدًا. يبدو أن العاصفة بداخلك أكبر مما توقعت."
ضحكتُ بدوري، وأنا أستند على سيفي كعصا كي لا أسقط:
"العاصفة بداخلي؟… بل أشعر أنني كدت أطير!"
ضحكت أكثر، ثم أومأت برأسها:
"هذا هو الشكل السادس. سيفك لم يعد مجرد نصل… لقد صار إعصارًا متغيرًا."
كنت ما أزال ألهث من أثر "الإعصار المتغير"، والعرق يتصبب من جبيني. أحسست أن جسدي صار أثقل، لكن عيني ماكومو الهادئة لم تسمح لي بالاستسلام. اقتربت بخطوات خفيفة، كأنها تسبح فوق الأرض، ثم قالت بصوت منخفض، لكنه مشبع بالهيبة:
"الآن… ستتعلم أسرع أشكال الماء."
رفعتُ رأسي إليها بتعب وفضول:
"أسرع…؟"
أومأت، ثم وضعت يدها على مقبض سيفها. لم تتخذ وضعية هجومية معقدة، فقط انحنت قليلًا إلى الأمام، وكأنها تتحضر للركض.
"الشكل السابع: قطرة متموجة."
في لحظة… لم أرَ سوى أثر خفيف على الأرض، ثم ومضة برق مائي خاطفة أمامي. الهواء انقسم كأن سكينًا غير مرئي مزّقه. لم أسمع سوى صوت خفيف، أشبه بقطرة ماء سقطت في بحيرة ساكنة، لكنه حمل وراءه قوة عجيبة جعلتني أرتجف.
سحبت سيفها للخلف، واستدارت إليّ بعينيها البريئتين، وقالت بابتسامة لطيفة:
"كما لو كنتَ قطرة ماء، صغيرة… لكنك تحمل في داخلك القدرة على تمزيق سطح كامل. في هذا الشكل، السرعة ليست مجرد حركة… إنها كل شيء."
شعرت بحلقي يجف. لم يكن هذا مجرد هجوم، بل إعدام خاطف. ضربة واحدة، سريعة لدرجة أن العين تكاد لا تراها.
أخذت وضعية مماثلة لها، قدماي ثابتتان، أصابعي مشدودة على مقبض السيف. استنشقت الهواء حتى امتلأت رئتاي، ثم أطلقته في زفير طويل. حاولت أن أُفرغ ذهني من كل شيء… أن أكون قطرة.
تحركت.
لم يكن جسدي متماسكًا كجسد ماكومو، لكنه انطلق. شعرت بأن الأرض تفقد ثقلها تحت قدمي، والسيف يندفع مع أنفاسي. خطفت لحظة واحدة من الزمن، كأن العالم كله تباطأ من حولي.
ثم—شقت ضربتي الهواء.
الغبار ارتفع بخط مستقيم أمامي، وكأنني قطعت بخيط غير مرئي ما يقف في طريقي. توقفت بعدها فجأة، صدري يحترق من اللهاث، لكن قلبي كان يخفق بقوة لم أشعر بها من قبل.
سمعت تصفيقًا خفيفًا خلفي. التفت، فرأيت ماكومو تضحك، وجهها مشرق كضوء القمر:
"هاه… لقد كسرت السكون. ربما لم تكن كاملة بعد… لكنها بداية جيدة جدًا."
ابتسمتُ رغم التعب، وأنا أرفع سيفي بتثاقل:
"إنها أسرع مما تخيلت… شعرت للحظة أنني… لم أعد إنسانًا."
أومأت برقة، ثم ردت:
"ربما… في تلك اللحظة القصيرة، كنتَ بالفعل شيئًا آخر. كنتَ قطرة… وكنتَ موجة في آن واحد."
تنهّدت وأنا أحاول أن أهدأ بعد ضربة "قطرة متموجة". عرقي يتصبب من جبيني، لكن قلبّي كان يزحف بسرعة البرق. ماكومو وقفت أمامي، عينها تتلألأ بشدة، كأنها تحاول أن تنقل لي شعور النهر الجاري.
"حان الوقت للشكل الثامن… شلال الحوض." قالت بصوت هادئ، لكنه يملك ثقلاً في الهواء.
التفتّ نحوي وأنا أرى الطريقة التي وضعت بها قدميها، ثقل جسدها منحنيًا قليلًا للأمام، والسيف يلمع في ضوء الغابة المتساقط بين الأشجار. شعرتُ بأن كل حركة منها تنقل رسالة: القوة ليست فقط في العضلات، بل في الاندماج مع الجاذبية والانسياب مع الطبيعة.
"شلال الحوض…؟" تمتمت وأنا أراقبها.
أومأت برقة، ثم رفعت سيفها عاليًا فوق رأسها. كان كل شيء حولها يبدو صامتًا، إلا من صوت الريح الخفيفة وورق الأشجار الذي يلمع تحت ضوء الشمس المفلتر. فجأة… أسقطت السيف نحو الأرض، بسرعة هائلة، وكأن شلالًا يتهاوى من أعلى الجبال.
هواء قوي تدفق حولي، والصدمة جعلت جسدي يرتعش. شعرت بأن ضربة واحدة من هذا الشكل قادرة على سحق أي شيء يقف أمامها.
"انظر، بليك…" قالت ماكومو وهي تبتسم، "في هذا الشكل، القوة تأتي من الأعلى… من المكان الذي ترى فيه العالم كله في لحظة واحدة، ثم تُفرغ كل شيء في ضربة واحدة. ليس الهدف فقط تدمير الخصم، بل التأكيد على وجودك في اللحظة."
رفعت سيفي بتردد، وعيناي تحاولان محاكاة حركتها. شعرت بثقل جسدي، لكنني ركّزت على كل ما حولي: أصوات الغابة، الرائحة الرطبة للتربة، حتى حركة أوراق الشجر. أخذت شهيقًا عميقًا، ثم رفعت السيف فوق رأسي وأطلقت ضربة…
سقط السيف مع صدق وانسيابية، الهواء يزمجر حولي، والغابة من حولي تتمايل وكأنها تعترف بالضربة. لم تكن بعد مثالية، لكنها كانت أقرب كثيرًا من أي محاولة سابقة.
ابتسمت ماكومو، وقالت:
"حسناً… لقد شعرت بالمياه تتدفق فيك، بليك. لقد بدأت تفهم روح هذا الشكل."
شعرت بالإنجاز يملأ صدري، بينما قطرات العرق تلتصق ببشرتي، وقلبي يرفرف بين الحماس والخوف. كنت أعلم أن هذه البداية فقط… وأن أمامنا رحلة طويلة مع بقية أشكال تنفس الماء.
وقفتُ أنا وماكومو في قلب الغابة، حيث كانت أشعة الشمس تتخلل بين أغصان الأشجار، تُلقي بقع ضوء على الأرض المليئة بالأوراق المتساقطة والجذور المتشابكة. الهواء رطب قليلًا، ورائحة التراب المبتل تملأ أنفي. كنت أعلم أن كل خطوة سأخطوها هنا ستكون اختبارًا حقيقيًا لتوازني وقدرتي على التحرك بانسيابية.
ماكومو نظرت إليّ بابتسامة هادئة، ثم قالت:
"الشكل التاسع… سبلاش المائي الفوضوي. هذا الشكل سيعلمك كيف تتحرك على أي سطح دون أن تفقد توازنك. الأرض ليست دائمًا صلبة، وعليك أن تتعلم كيف تتكيف مع كل انحدار، كل جذع، كل حجر."
رفعت سيفي وبدأت أولى خطواتي بحذر، أراقب قدمي وهي تلمس الأرض الرطبة، أحاول أن أوازن بين وزن جسدي وقوة ضربة السيف. شعرت بأن كل خطوة هي درس، كل حركة هي تجربة.
ماكومو تابعت، وهي تتحرك أمامي بسهولة كأن الأرض ليست إلا ماءً هادئًا تحت قدميها:
"انظر إليّ، بليك. لا تحاول أن تقاوم الأرض، بل اجعلها جزءًا منك. اجعل كل حركة تتدفق مثل الماء."
حاولت تقليدها، لكن أول قفزة لي كانت فوضوية، سقطت على ورقة زلقة، وانزلق جسدي قليلًا. شعرت بالإحباط، لكن ماكومو لم تضحك، فقط رفعت يدها مشجعة:
"مرة أخرى، لكن هذه المرة… اشعر بالأرض تحتك، لا تفكر في السقوط."
أخذت نفسًا عميقًا، ركزت كل أفكاري على الأحاسيس: وزن جسدي، ملمس الأرض، تدفق الطاقة في ساقي، حركة السيف في يدي. رفعت السيف وانطلقت، خطوة خطوة، ثم قفزة صغيرة، وهنا شعرت بالانسياب، الأرض تتبعني، كل حركة سلسة، كل ضربة متناغمة.
ابتسمت ماكومو، وعيونها تلمع بالإعجاب:
"رأيت ذلك؟ هذا هو سبلاش المائي الفوضوي. عندما تتحكم بعقلك وجسدك معًا، تصبح قادرًا على التحرك بلا خوف، بلا تردد… وكأنك تجلس على الماء."
شعرت بحالة غريبة من الفخر، تخللتها جرعة من الحماس والخوف. الغابة من حولي لم تعد مجرد أشجار وأرض، بل أصبحت حلبة تدريب حية، تتنفس معي ومع كل خطوة أخطوها، وكل ضربة أطلقها.
وقفتُ أمام ماكومو، قلبي ينبض بسرعة أكبر من أي وقت مضى. الغابة من حولي صمتت فجأة، وكأن الأشجار نفسها تتوقف عن الحركة لتراقب ما سأفعله. الأوراق المبللة على الأرض تلمع تحت أشعة الشمس المتسللة، وأصوات الطيور البعيدة بدت وكأنها تتلاشى. كل شيء أصبح مركزًا في هذه اللحظة، وأنا… مجرد رجل أمام صخرة، وسيف، وتعليم جديد لم أستطع حتى تصوره.
قالت ماكومو، بصوت هادئ لكنه مشحون بالقوة:
"الشكل العاشر… تنين التغيير. هذا هو أقوى أشكال تنفس الماء. عند استخدامه، سيتحول سيفك إلى تنين حي، يلتف حول الخصم، ويمنحك القدرة على شن هجوم نهائي. لكن لتحقيق ذلك، يجب أن تكون كل جزء منك واحدًا… قلبك، عقلك، جسدك، وسيفك."
شعرت بالإثارة والرهبة تتصارع داخلي. كيف يمكن لسيف أن يتحول إلى تنين؟ وكيف سأتمكن من السيطرة على شيء بهذه القوة؟ حاولت أن أتنفس بعمق، أفرغ كل الأفكار من رأسي، كل الشكوك، كل الخوف… وأن أترك روحي تتدفق مع السيف.
ماكومو رفعت سيفها، وبدت كأنها جزء من الهواء نفسه، ثم قالت:
"ركز، بليك. تخيل التنين، شعوره، حركته، تدفق قوته. أنت والسيف واحد
، لا فصل بينكما."
رفعت سيفي، وبدأت حركة بطيئة في البداية، أشعر بالتيار يسري من أصابع يدي إلى النصل، ثم إلى جسدي كله. ثم، فجأة، شعرت بالقوة تتجمع، تدور في داخلي كأنه ماء يحاول التحرر، وتتحرك معي، متشابكة مع كل خطوة أخطوها.
صوت الرياح بين الأشجار أصبح أشبه بزمجرة التنين، ورأيت سيفي وكأنه يلتف حول الهواء أمامي، يتخذ شكل تنين طويل، ممتد، يلتف حول كل جزء من المكان. شعرت بالدهشة، الإعجاب، والخوف في نفس الوقت.
ماكومو ابتسمت، وعيناها تلمعان بفخر نادر:
"هذا هو تنين التغيير. استشعر قوته، لكن تذكر… القوة الحقيقية ليست في السيف أو التنين، بل فيك أنت. إذا فقدت تركيزك، حتى أعظم قوة لن تنقذك."
أخذت نفسًا آخر، وتركت كل شيء يندمج معي: السيف، التنين، الغابة، كل إحساس داخلي… وبدأت في توجيه الحركة النهائية. شعرت كأنني أمتلك قوة لا حدود لها، كأن كل شيء حولي يتحرك مع تنفسي، ومع ضربة واحدة، كل الطاقة مركزة في هذه اللحظة الحاسمة.