كنت أتنفس ببطء، محاولًا أن أضبط إيقاع صدري مع خفقات الماء الذي يتردد صداه في ذاكرتي. العرق ينحدر من وجنتي، لكنه ليس مجرد عرق… بل خليط من جهد ثقيل وحيرة لم تهدأ منذ لحظة ظهورها.

جلستُ على صخرة ملساء عند حافة الجرف، والهواء يهبّ عليّ برائحة تراب مبتلّ، وكأن المطر مرّ من هنا قبل دقائق. خلفي، كان الحقل يمتدّ بلون أزرق شاحب، مغمور بضباب خفيف يجعل كل شيء يبدو أقرب إلى حلم.

ماكومو جلست أمامي، متربعة بالكيمونو الفضفاض. كان شعرها الأسود يسقط على كتفيها مثل ستارة مظلمة، يلمع بخفوت حين يلمسه ضوء القمر المتسلل من بين الغيوم. عيناها، رغم هدوئهما، فيهما شيء لا يُقرأ… شيء يشبه انعكاس بحيرة ليلٍ بلا قاع.

سكتنا طويلًا، كأن الصمت كان جزءًا من التدريب. كنت أستمع فقط إلى صوت أنفاسي المتقطعة، وصوت أنفاسها المنتظمة… متوازنة كإيقاع موسيقى لم أفهم لحنها بعد.

أخيرًا، كسرتُ الصمت.

قلتُ وأنا أحاول أن أبتسم ابتسامة خفيفة:

ــ "لم أظن أن التدريب على تنفس الماء سيكون مرهقًا هكذا… أشعر وكأن جسدي كله يغرق، حتى وأنا أجلس هنا على اليابسة."

رفعت رأسها قليلًا، ابتسامة بالكاد تُرى ارتسمت على شفتيها:

ــ "ذلك طبيعي. الماء لا يرحم من يقاومه… لكنه يحتضن من يسلم نفسه لإيقاعه."

تأملت كلماتها… شيء فيها كان أعمق من مجرد نصيحة. أحسست أنها تتحدث عن شيء أبعد من القتال. ربما عن الحياة نفسها.

أردفتُ وأنا أميل برأسي قليلًا:

ــ "إيقاع الماء… كأنك تتحدثين عن لحنٍ أسمعه داخلي."

ضحكت ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن ساخرة:

ــ "كل شيء له لحن يا بليك. النار، الريح، حتى الألم."

ثم أضافت بصوت منخفض:

ــ "وأحيانًا… حتى الموت."

تجمدت للحظة. هناك ظل بارد مرّ في صدري مع آخر كلمة.

أدرت نظري نحوها. كانت عيناها مثبتتين على الأرض، كأنها تتأمل شيئًا لا أراه.

رفعتُ صوتي قليلًا:

ــ "ماكومو… من أنتِ بالضبط؟"

رفعت عينيها نحوي ببطء. في تلك اللحظة شعرت وكأن الضباب المحيط بنا تجمد، والريح توقفت، حتى قلبي توقف عن الخفقان.

فتحت شفتيها وقالت:

ــ "أنا… كنتُ ذات يوم…"

ترددت، ثم أغلقت فمها فجأة. عينها اليسرى ارتجفت، وكأنها أدركت أنها قالت ما لا يجب أن يُقال.

ــ "كنتِ ماذا؟" سألتُ بصوت خافت، لكن في داخلي كنت أصرخ.

هي لم تجب. بل تحركت ببطء، تضع يدها على صدرها، وكأنها تكتم شيئًا.

وفي تلك اللحظة…

شعرت بشيء غريب. الهواء الذي كان باردًا صار أثقل، أثقل من أن يُستنشَق.

نفسٌ آخر خرج من صدرها، لكنه لم يكن نفسًا بشريًا. كان أشبه بزمجرة مكتومة.

قلبي قفز داخل صدري، وخطرت في ذهني صورة واحدة: خطر.

لم أتحرك. كنت مأخوذًا بين فضولي وخوفي.

بينما نظرتها كانت ثابتة عليّ، وكأنها تريد أن تقول شيئًا لكنها مكبلة من الداخل.

الصمت الذي تبع ذلك لم يكن مجرد صمت. كان بداية شيء… مجهول.

كنت ما زلتُ أُحدّق في عيني ماكومو، متسائلًا عمّا حاولت قوله ولم تُكمله. شعرت بصدري يضيق، وكأن شيئًا غير مرئي يضغط عليّ.

وفجأة…

ذلك الإحساس.

خلفي مباشرة، من عمق الغابة، جاء صوت لم يكن مجرد "خطوات". لم يكن صدى أحذية أو حفيف أوراق. كان شيئًا أثقل. خطوات تشبه دقات طبول الحرب، تتردد في الأرض وتخترق عظامي. كل وقعة كأنها تُخبرني: شيء أكبر منك يقترب.

مع كل خطوة، بدا أن الظلال بين الأشجار تتمدد أكثر، كأنها أفواه مفتوحة تستعد لابتلاعي.

شعرتُ ببرودة تسري في ظهري. ارتجف جلدي، وتيبست أصابعي على مقبض سيفي، بينما عيناي تلاحقان الفراغ وكأن الظلام نفسه أصبح خصمي.

قبل أن أستدير تمامًا، شعرت بيد دافئة على كتفي.

ماكومو.

لكنها لم تقف أمامي… بل خلف ظهري، تلتصق بي. دفعتُ نفسي خطوة للأمام، لأجعل جسدي درعًا يحجبها عن القادم. وقفتُ بظهري مستقيمًا قدر استطاعتي، كأني أملك قوة كافية لحماية مَن اختارت أن تتوارى خلفي.

كنت أسمع أنفاسها، متقطعة، متعبة. وعندما التفتُّ قليلًا لألمحها، كانت عيناها شاحبتين، متعبتين لدرجة جعلت قلبي ينكمش. وكأنها رأت هذا الكائن من قبل… وتعرف بالضبط ماذا يعني قدومه.

نظرتُ إليها، وكنت أعرف أن وجهي لا يخفي شيئًا. الخوف كان يطفح من عيناي. لا مجال للتمويه. شعرت كطفل يقف على حافة هاوية، يُجبر على مواجهة هاوية أعمق بكثير مما يتحمله.

همست بصوت مرتعش، متقطع:

ــ "بليك… أرجوك… اهرب. إن هناك شيطانًا قادم."

كلمتها الأخيرة اخترقتني مثل سهم. شيطان.

جسدي كله جمد في مكانه، وارتعش قلبي في صدري حتى شعرت أنه سيتوقف. الحروف ارتجت في أذني، تتكرر كأنها صدى لا نهاية له.

شيطان… شيطان… شيطان.

الخوف حاول أن يلتهمني. عقلي صرخ: اهرب… اهرب حالًا.

لكن قدماي لم تتحركا. لم يكن لدي مكان أذهب إليه. والأهم… أن عينيها المرتجفتين خلفي، وصوتها المكسور، جعلا شيئًا آخر يشتعل في صدري.

رفعت رأسي، شددت على قبضتي حول سيفي، وأجبرت صوتي على الخروج رغم ارتجافه:

ــ "لن أهرب. لقد أصبحت أقوى الآن… لن أخذلكِ يا ماكومو وأهرب. أصلاً… ليس لدي مكان أهرب إليه."

لم أكمل جملتي حتى جاء الصوت.

دوووم… دوووم…

خطوة أثقل من كل ما سبق.

الهواء نفسه اهتزّ حولي.

ومن بين الضباب الكثيف، انشقّت الظلال، وخرج منها كيان ضخم.

وقف أمامي، كُتبت لتقول شيئًا واحدًا:

وصل الشيطان.

لم أستطع أن أتنفس.

الكائن الذي خرج من بين الضباب لم يكن مجرد "شيطان" كما حذرتني ماكومو… بل كان شيئًا أكبر من كل تصوري.

بشرته كانت خضراء زيتونية لامعة، كأنها مطلية بزيت فاسد يتقطر من عروقه البارزة. كل وريد فيه ينبض كأفعى تتحرك تحت جلده. جسده هائل، كتلة من الشحم .

أظافره حمراء، ليست مجرد لون… بل كأنها غُمست في دماء آلاف الضحايا.

لكن ما جمدني في مكاني كان وجهه.

عيناه الصفراوان بحدقتين متقاطعتين، نظرة لا تُشبه نظرة إنسان ولا حيوان، بل كيان يبحث عن شيء واحد: الافتراس.

فمه كان ضخمًا، يمتد حتى أذنيه، مليئًا بأسنان مسننة كخناجر صدئة. ورغم بشاعته، كان يغطي فمه بأيديه المتقاطعة، كأن ضحكته محظورة على العالم… أو ربما لأن ما يخرج من ذلك الفم لا يليق أن يُسمع.

زحف نحوي على أطرافه، حركته لم تكن بشرية. يمشي على يديه كما تفعل الوحوش في الغابات، لكن بخفة مريبة رغم ضخامته.

صدري ضاق.

قدماي ارتجفتا.

كل خلية في جسدي صرخت: اهرب يا بليك… هذا ليس شيئًا يمكنك قتاله.

لكنه تكلم.

رفع رأسه، عيناه الصفراوان تلمعان في الضباب، وصوت خرج منه كأنه ارتطام صخور تحت الماء:

ــ "أخيرًا… وجبة طازجة… دمك يفوح من بعيد. سألتهمك حتى العظم، هاهاهاها!"

ضحكته كانت أشبه بصرير معدن يُجرّ على زجاج. ارتجف جلدي حتى الألم.

لكنني… تجاهلت صوته، تجاهلت قبحه، تجاهلت حتى الرعب الذي ينهشني. التفت إلى ماكومو خلفي، وصوتي خرج من صدري أثقل من الحديد:

ــ "ماكومو، اهربي حالًا… سأهتم بأمره."

صرخت:

ــ "لا! لن أتركك وحدك أمامه… إنه قوي!"

حاولتُ أن أبدو واثقًا، رغم أن داخلي كان يرتجف:

ــ "لا تقلقي عليّ، فقط ابتعدي. لا بأس… فهو لن يستطيع إيذائي أصلًا."

توقفت لحظة.

ماكومو نظرت إليّ نظرة غريبة… فيها حزن عميق، لكن في الوقت نفسه… ابتسامة صغيرة، باهتة، جميلة بطريقة لا تُصدق وسط هذا الجحيم.

جمالها تلك اللحظة أربكني.

لماذا ابتسمت؟ ولماذا نظرتها بدت وكأنها تعرف شيئًا لا أعرفه؟

قبل أن أستوعب أكثر، دوّى صوت الوحش من جديد، لكن هذه المرة بنبرة ساخرة:

ــ "لماذا تتكلم وحدك أيها البشري؟ هل جننت؟ أم تكلم سيفك؟ هاهاهاها… يبدو أن دماغك معطوب قبل أن آكلك."

تجمدت.

كلماته… كسرت شيئًا في داخلي.

ما الذي يقصده؟ ألا يرى ماكومو؟

التفتُّ سريعًا إليها. كانت لا تزال خلفي، قريبة جدًا… أستطيع أن أشعر ببرودة يدها على ظهري. لكن الوحش… يتصرف كأنها غير موجودة.

ارتفعت دقات قلبي أكثر، وصوتي خرج مرتعشًا:

ــ "ماذا… ماذا تقول؟ ألا ترى هذه الفتاة؟!"

الشيطان توقّف، ثم مال برأسه ككلب حائر، وضحك ببطء:

ــ "أي فتاة؟ يبدو أنك مختل فعلًا. ماكومو؟ ماكومو؟… أين سمعت هذا الاسم؟"

بدأ يتمتم، كأنه يفتش في ذاكرة قديمة:

ــ "هل هو اسم إله؟ أو تعويذة؟ … للأسف… أنت غبي لأنك تؤمن بالآلهة."

صرخت فيه، فقدت السيطرة على نفسي:

ــ "عن أي هراء تتحدث بحق الجحيم؟! ألا تستطيع رؤية هذه الفتاة؟! إنها هنا!"

الشيطان اقترب أكثر، خفض رأسه حتى صرت أشم رائحة فمه الكريهة، وقال وهو يبتسم ابتسامة ملتوية:

ــ "أي فتاة تتحدث عنها؟ … هاهاهاها، أنت وحدك هنا أيها البشري. وحدك تمامًا."

أحسست بشيء ينكسر داخلي.

دم بارد جرى في عروقي.

نظرت خلفي مرة أخرى… ماكومو كانت هناك. عيناها تنظران إليّ بثبات، لكن… لم ينطق أحد غيري باسمها.

إذن… هل هي حقيقية؟ أم أنني… فقدت عقلي؟

قال الشيطان بصوت أجشّ، لعابه يتساقط من بين أسنانه المسننة:

ــ "حسنًا… أنا جائع… لذا لن أطيل الحديث."

لم يُكمل كلماته حتى انقضّ عليّ.

من بين جسده السمين خرجت أذرع زيتونية اللون، كثيرة، ملتفة على بعضها كالأفاعي، تُصدر صريرًا لزجًا وهي تتمدد نحوي. لم تكن أذرعًا بشرية… بل أشبه بجذور شجرة مسمومة تتحرك بوعي.

أحد تلك الأذرع اتجه مباشرة نحو رأسي.

صرخت غرائزي داخلي: اقفز الآن!

دفعت جسدي إلى الأرض، انزلقت على الركبتين، ثم اندفعت جانبًا في اللحظة الأخيرة. الذراع ضربت الصخرة خلفي، فتهشمت كأنها زجاج هشّ. تطاير الغبار، وارتجفت الأرض تحت قدمي.

نهضت بسرعة، قبضتي مشدودة على مقبض سيفي.

ــ "الآن!"

رفعت السيف بكل قوتي وضربت أقرب ذراع امتدت نحوي.

ششششق!

اخترق الفولاذ الجلد الزيتوني اللزج. دم أحمر سميك اندفع كنافورة، وصوت تمزق لحمي جعل معدتي تنقلب. الذراع انفصلت عن الجسد، وسقطت على الأرض كقطعة فاسدة.

أمسكتها بيدي اليسرى، رفعتها أمامه كغنيمة، ثم قطعتها ثانية لأتأكد.

لكن…

تجمدت.

الوحش لم يصرخ، لم يتألم، لم يبدُ عليه أي أثر للألم.

ابتسم… ابتسم كأنه يسخر من جهدي، وقال ببرود مميت:

ــ "اوه… يبدو أنك ماهر. لكن… هل تظن أن هذا يكفي؟"

فجأة… بدأت الذراع المبتورة تتبخر. تحولت إلى دخان قرمزي كثيف تلاشى في الهواء، بينما الجسد المهول للشيطان اهتزّ قليلًا، وذراع جديدة تشكلت من العدم، تنبض كاللحم الحيّ.

ارتجف صدري.

يتجدد…! حتى القطع لا يوقفه… كيف سأهزمه؟!

لم يكن لدي وقت لأفكر.

اندفعت ثلاثة أذرع أخرى دفعة واحدة.

الأولى صوبت نحو قدمي.

قفزت لأعلى، دورت جسدي في الهواء، سيفي يلمع تحت ضوء القمر.

قطعت الذراع الأولى إلى نصفين قبل أن تصلني.

الثانية جاءت من اليمين، كالرمح.

انحنيت بزاوية ضيقة، شعرت بحدّها يخدش كتفي، الألم جعل الدم يسيل لكنه لم يوقفني.

الثالثة باغتتني من الخلف.

استدرت بسرعة، ورفعت سيفي لأعلى، استقبلت الضربة بالحدّ المعدني. الشرر تطاير، وكأننا صدمنا معدنًا بمعدن.

لكن قوة الذراع دفعتني للوراء. انزلقت قدماي على الأرض المتشققة حتى اصطدمت ظهري بصخرة.

صوت ضحكته تبعني، عميق، مخيف:

ــ "أحب الصيد الذي يقاوم… أشهى بكثير من الفريسة المستسلمة."

أسنانه المسننة برزت أكثر، ولسانه الطويل لعق أطراف فمه.

رفعت رأسي، تنفسي ثقيل، عضلاتي ترتجف، لكن عيني اشتعلتا.

ــ "لن أكون وجبتك… حتى لو كان جسدك يتجدد ألف مرة!"

اندفعت نحوه بكل ما أملك.

ضربة من الأعلى… قطع سريع للأسفل.

ذراعان سقطتا.

دوران للجانب… طعنة مباشرة نحو صدره.

السيف غاص في جسده، حتى شعرت بحرارته السوداء على قبضتي.

لكنه لم يسقط.

اقترب وجهه من وجهي، ابتسامة لا تُطاق، وصوت همسه مثل صفير الريح بين القبور:

ــ "أقتلني… أقطعني… سأعود دائمًا. الجوع… لا يموت."

دفعني فجأة بكتلة جسده، ارتطمت بالأرض، والغبار غطى أنفاسي.

نهضت، سيفي مرفوع، جسدي ينزف، لكن روحي تصرخ:

لا بد أن هناك طريقة… لا بد أن هناك نقطة ضعف… وإلا سأُبتلع هنا الليلة.

تواجهنا من جديد.

أنا… والشيطان ذو الأذرع المتجددة.

المعركة لم تنتهِ… بل بدأت للتو.

تنفس ببطء، كل شهيق يلسع رئتي، وكل زفير يصرخ بالألم.

الشيطان أمامي، جسده الأخضر يلمع كالزيت في ضوء القمر، أذرعه المتعددة تتلوى كالثعابين، تحرك نفسها بشكل متقن ومرعب.

قفزت للأمام، سيفي يلمع، ضربت الذراع القريبة مرة أخرى، لكن قبل أن أصل إليها، ظهرت يد جديدة من الظلام، كأن الأرض نفسها أنبتت أطرافه.

صرخت من فرط التوتر:

ــ "كيف… كل ضربة… تعود كما لو لم تحدث!"

ابتسم الشيطان، وظهر فجأة على يميني، يلتف حولي كعاصفة، أذرعه تتحرك بسرعات لا يفهمها العقل، كل واحدة تحاول إصابتي من زاوية مختلفة.

حركتها سريعة، لكني تعلمت شيئًا… شيء من تدريب ماكومو: الإحساس بالاهتزازات في الأرض والهواء.

دفعني الغضب أكثر من الخوف.

انطلقت بقدمي اليمنى، شعرت بالاهتزازات تحت الأرض، رددت خطواته في ذهني، وحركت السيف بقطع مزدوج، الأولى للأعلى، الثانية للأسفل.

اصطدمت الأذرع المعدنية بحركة خاطفة، صدرت أصوات تمزق وصرير، لكنها لم تتوقف… بل بدأت تتجمع لتشكل جدارًا أمامي.

صوت ماكومو خلفي يدقّ كنبض قلبي:

ــ "بليك… ركّز! لا تهدر طاقتك كلها!"

التفتت لأسفل قليلاً، أراها تتشبث بالحافة الحجرية، نظرتها متعبة، لكنها ثابتة. شعرت بها تتحرك بجانبي، وكأنها تحاول تحميني من أي هجوم مفاجئ، لكن كل ذراع قادمة كأنها تحدّي مستمر.

قفزت للأعلى، دوّرت جسدي في الهواء، وقطعت ذراعًا اتجه نحو رأسي، ثم انزلقت على الأرض لتفادي أخرى، دم أسود يسيل من المكان الذي ضربته.

ابتسمت، رغم التعب، لكن لم يكن ابتسامة انتصار، كانت ابتسامة من نوع آخر، تلك التي تقول: "أنا على قيد الحياة… لكنك لن تنهيني بسهولة."

الشبح الأخضر لم يتوقف.

ظهر فجأة من الأعلى، يداه تتقاطعان، ثم ضرب نحوي، قوة الضربة ارتجفت عبر جسدي كله، شعرت بالاهتزازات تصل إلى ظهري، كل شيء حولي يتشوه كأن الغابة نفسها تصرخ.

صرخت داخليًا:

ــ "لا… لن أستسلم! لن أسمح له… لن أسمح لأي كائن أن يسيطر عليّ!"

التفت سريعًا، استخدمت حركة شبه دائرية، ذراعي تلتقي مع السيف في قوس دفاعي، لكن قوة الضربة دفعتني للوراء عدة أمتار، وجسدي ارتطم بصخرة كبيرة، سمعته تصدع تحت وزني.

دموعي لم تعد من الألم، بل من شعور الغضب المكبوت.

الشيطان أمامي، يضحك بصوت عميق، أذرعه تتحرك في نمط متكرر، لكنه سريع جدًا، لا يمكن للبصر وحده مواكبته.

استخدمت تنفس الصوت الذي تعلمته مع مونو، ركّزت على الاهتزازات في الأرض والهواء، شعرت بحركته قبل أن تتحرك.

قطع سريع، انزلاق جانبي، ضربة ثانية… لكن الشيطان ليس بشريًا. كل ضربة مجرد خدعة، وكل حركة مفتاح لاختباره أكثر.

تذكرت كلمات ماكومو:

"القوة الجسدية ليست كافية… عليك دمج العقل والجسد والروح."

كل خطوة، كل ضربة، كل حركة كانت اختبارًا لي، شعرت بحرارة الدم تحت جلدي، قوة الشيطان تتسلل إلى كل نبضة قلب، لكنه لم يستطع أن يعرف ما أستطيع أن أفعله بعد، شعرت بأني أبدأ بالتحكم، لكن لم يكن بعد كافيًا.

قفزت، أدرت نفسي، ورفعت سيفي في ضربة هائلة نحو ذراعه الأمامية، لكنه اختفى في لحظة، فقط ظهر ظل يتحرك بسرعة خاطفة نحو ظهري.

صرخت، لمجرد الوعي:

ــ "ماكومو…!"

لكن لم يكن هناك وقت للنداء، الأذرع تتقاطع حولي، الغابة تتحرك وكأنها تتنفس معي ومعه، القتال لم ينته… بل بدأ للتو.

الغابة حولي تهتز، كل ورقة وكل غصن يرمقني بنظرة الشيطان الخضراء.

كل حركة له كأنها سهم، كل ذراع تتحرك بسرعة لم أرها من قبل، لكنه لم يعرف بعد أنني تعلمت شيئًا… شيئًا من ماكومو، من تنفس الماء.

تنفس عميق، شعرت بالماء يتدفق في داخلي، كما لو أن جسدي كله أصبح تيارًا.

أول شكل: قطع سطح الماء

ضربتي الأولى كانت حادة، سريعة، مستقيمة. قطعت الهواء أمامي كما يقطع السكين الماء. وصلت الضربة إلى ذراعه، لكنه تجدد بسرعة، لم أتوقف، ضربتي التالية كانت عجلة الماء، دورة كاملة حول نفسي، سيفي يقطع الهواء من كل اتجاه، محاولة لإرباكه وتفادي أذرعه.

ابتعدت قليلاً، شعرت بالقوة تتجمع في ساقي، في جسدي كله، وابتعدت عن أي هجوم مباشر.

رقصة التدفق المتحرك

تحركت بانسيابية، انزلقت بين جذوع الأشجار، تجنبت أذرعه بسرعة، ضربة هنا، تراجع هناك، كل حركة كانت محاولة لتفادي الضربات المباشرة، لكن مع الهجوم المضاد في الوقت نفسه.

صرخة الشيطان ارتجفت في الغابة، صوته العميق مليء بالغضب، وكل خطوة منه ترفع الغبار حولي.

ضربة المد والجزر

تركت الطاقة تتراكم في يدي، ضربات متتالية باتجاه ذراعه المتجددة، محاولة لإحداث أثر أكبر قبل أن تختفي الضربة في التجدد.

لكن كل ضربة أصابته أشعلت داخلي الغضب أكثر، شعرت بأنني أتحكم بالتدفق الآن، كل حركة، كل خطوة، كلها محسوبة.

المطر المبارك بعد الجفاف

دفعت نفسي لأعلى، سيفي يلمع، ضربة رحيمة، محاولة لإنهاء أي تهديد سريع، لكنه استقبلها بابتسامة، وأذرعه امتدت لتغطي كل المكان حولي.

تنهدت قليلاً، لكن لم يكن وقتًا للتوقف.

الإعصار المتغير

أدرت سيفي كدوامة، أمتص قوته، أردت عكس ضربته، لكن سرعته كانت مذهلة، شعرت بالضغط على كل عضلة، وكأن الهواء نفسه يعارض حركتي.

قفزت جانبًا، تجنبت ذراعًا طويلة تهدد صدري، شعرت بالدوار، لكن لم أسمح للخوف أن يتحكم بي.

قطرة متموجة

ضربة خاطفة، سريعة كالبرق، محاولة لخلخلة توازنه، لكنه مازال متجددًا، يضحك، ويتحرك بسرعة مخيفة.

شلال الحوض

رفعت سيفي من الأعلى، ضربة قوية نحو رأسه، لكنه انحنى فجأة، وكأن جسده كله سائل، تمكنت فقط من خدش سطحه، لكنه لم يتأثر، والدم لم يخرج… مجرد طاقة خضراء تتلاشى بسرعة.

سبلاش المائي الفوضوي

تحركت بانسيابية، انزلقت على الأرض الرطبة، استخدمت كل جذع وكل حجر كدعم، ضربة هنا، ردة فعل هناك، شعرت بأنني أبدأ بفهم نمط تحركه، لكن لم يكن كافيًا بعد للسيطرة الكاملة.

تنفس عميق، قلبي ينبض بسرعة، كل أدرع تحركت، وكل ساحة حولي أصبحت ساحة اختبار.

لم أتوقف عن التحرك، كل ضربة، كل تجنب، كل تقاطع، كان محاولة لإيجاد الفجوة، محاولة لإيجاد نقطة ضعفه، لكن هذا الكائن لم يمنحني أي فرصة… القتال مستمر، والغابة تتنفس معنا، والليل يبدو أنه لا نهاية له.

تساقط العرق من جبهتي، وأحسست بثقل في كل عضلة من جسدي.

التنفس أصبح صعبًا، كل حركة كانت تستهلك مني كل قطرة طاقة. تنفس الماء، الذي بدا لي كأنه سلاح هائل، أصبح الآن عبئًا جسديًا ونفسيًا. شعرت وكأن كل جزء من جسدي يصرخ من التعب، وكل ضربة قمت بها كانت محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة.

وفجأة، وقف الشيطان أمامي، عينيه الصفراء تتقاطع، يبتسم ابتسامة مرعبة، ويقول بصوت خشن:

"أنت خصم مزعج حقًا… لم أتعب هكذا في الصيد منذ… منذ…"

توقف فجأة، وصرخ مقهقهة، صوته يملأ الغابة ويجعل كل أوراق الأشجار ترتجف:

"هذه التقنية التي استعملتها… لقد تذكرتها! نعم… لقد تذكرتها! كانت هناك فتاة استخدمتها أيضًا، واجهتني هي وصديقها أحمر الشعر… يا ترا… نسيت اسمها…… ماكومو! أذن هذا ما كنت تتحدث عنه."

تجمدت في مكاني، صدمة عميقة تجتاح قلبي، وكنت عاجزًا عن الكلام.

"مالذي تقصده أيها اللعين؟" صرخت بصوت مرتجف، أحاول أن أسيطر على الرعشة في يدي.

ضحك الشيطان، ثم استمر وهو يهمهم بمرارة:

"اخخ… لا أتذكر كثيرًا، لقد مرت عشرون سنة، لكن كان هناك فتاة وفتى يتدربان هنا. و بالنسبة لي… أي أحد هنا يصبح وجبتي. هجومها كان مذهلًا… الفتاة كانت تستخدم نفس تنفس الماء الخاص بك، وكانت تدعى… ماكومو… لكني أكلتها! بينما صديقها الأحمر استطاع الهروب…"

نظرت إلى ماكومو الواقفة خلفي، قلبِي يضرب بشدة، وارتعشت كلماتي:

"إذن… أنت شبح!"

قهقهة الشيطان ملأت الهواء من جديد:

"لكن كان طعمها لذيذًا جدًا… مان، قوامها مثالي! لحمها طازج، بما أنها ما زالت صغيرة… يا ترا، هل ستكون انت بنفس طعمها؟"

غضب عميق اجتاح جسدي، شعرت بالدم يغلي في عروقي، كل شيء حولي أصبح ضبابيًا، أصوات الغابة، صرخاته، وحتى الريح، كل ذلك بدا وكأنه يتلاشى أمام اندفاع الغضب الذي يملأ قلبي.

"كم من شخص قتلت هنا؟" صرخت، صوتي مليء بالرهبة والغضب المختلطين.

ضحك الشيطان ببرود:

"لا أعلم… أنا لا أعد… لكن كنت موجودًا هنا منذ 47 عامًا…"

قفزت، القوة تنبعث من كل جزء في جسدي، الغضب أعاد لي الطاقة التي فقدتها.

تذكرت فجأة، نقطة ضعف كل الشياطين: قطع الرأس.

تنفست بعمق، وكل جسدي أصبح تيارًا من الماء، تنفس الماء العاشر: تنين التغيير.

سيفي أصبح امتدادًا لكل غضبي، كل قواي، كل لحظات تدريبي مع ماكومو.

أغلقت عيني، ركزت، وتحركت بسرعة لا يصدقها العقل، شعرت كأن الهواء نفسه ينساب مع ضربتي، كأنني جزء من التيار، جزء من الطوفان.

دوامة من الماء تتشكل حول سيفي، تتلألأ كالفضة في الضوء الخافت للغابة، أطلقت ضربة مباشرة، سريعة، حادة، تهدف إلى رأسه مباشرة.

صرخة الشيطان امتلأت بالغضب والفزع، أذرعه امتدت لتصد الضربة، لكنه لم يستطع التحرك بالسرعة الكافية أمام قوة هيئة التنين.

ضربة واحدة، حادة، مركزة، سقطت رأس الشيطان أخيرًا، منفصلة عن جسده.

الغابة صمتت للحظة، الريح توقفت، وحتى الدقائق شعرت وكأنها توقفت عن الدوران.

وقفت أنا، الصدر يعلوه الغضب المتناغم مع الانتصار، عرق يغطي جسدي، دموع امتزجت بالغضب والفخر…

لقد انتصرت، لقد أصبحت أقوى، وهذه اللحظة كانت البداية الحقيقية لما كنت أستطيع أن أكونه.

سقط رأس الشيطان على الأرض، يتدحرج ببطء، كأنه يرفض الاستسلام رغم كل ما حدث.

بدأ جسده المقرف يتبخر، الرماد الأحمر القرمزي يتصاعد في الهواء كأن الغابة نفسها تصرخ من فزع. أما رأسه، فقد تبخر ببطء، كل حركة منه مشحونة بغضب لا يوصف.

وقفت أمامه، أنظر مباشرة إلى عينيه الصفراء المليئة بالحنق والكراهية، بينما يتناثر الرماد حولي. صوته، رغم كونه متلاشٍ، ما زال يصل إليّ:

"أيها اللعين… كيف تجرؤ على قطع رأسي؟ من تظن نفسك؟! أنا سيد هذه المنطقة منذ 47 عامًا!"

أجبت بصوت صارم، لا مجال للخوف فيه:

"لا أهتم أيها الوحش… فهذا جزاؤك بعد قتل كل هؤلاء الأبرياء."

وقفتُ في مواجهة الغضب المتجسد، أستشعر قوة الشر التي كانت تسكنه، أرى في عينيه المرعبتين كل سنوات الرعب التي عاشها، كل الأرواح التي ابتلعها، كل الظلام الذي زرعه.

في المقابل، شعرت بوضوح بقوة إرادتي تتماسك، كل شعور بالخوف والتعب يتلاشى أمام الغضب الذي تحوّل إلى حزم وتصميم. نظرت إليه مباشرة، بدون تردد، وكأنني أصر على إظهار أنه لم يعد هناك مجال للخضوع.

تلك اللحظة كانت صامتة، حتى الرماد الأحمر كان يلوح في الهواء كأنه يراقبنا، لحظة المواجهة الأخيرة بين إرادتين، واحدة شريرة لا تتوقف عن التدمير، والأخرى شابة، حية، لا تعرف الهزيمة.

شيئًا فشيئًا، بدأ الشيطان يختفي، أول الرماد الأحمر ثم رأسه البطيء، حتى اختفى تمامًا عن ناظري، ولم يبقَ إلا صمت الغابة، المليء برائحة الرماد والهدوء بعد العاصفة.

وقفت وحيدًا، أتنفس بصعوبة، جسدي منهك من القتال، قلبي لا يزال ينبض بالغضب والفخر في آن واحد. نظرت حولي، الغابة صامتة، وكأنها تحاول استيعاب ما حدث للتو، شعرت بأن شيئًا ما في داخلي قد تغيّر إلى الأبد.

لقد نجوت، لكن شيئًا في داخلي يقول إن هذا الانتصار لم يكن مجرد نهاية… بل بداية لرحلة جديدة، أصعب، أكثر خطورة، وأكثر إلحاحًا.

وقفت هناك، جسدي يرتعش من التعب الشديد، عرق يغطي جبيني، ويدي لا تزال تهتز من القوة الهائلة التي استنزفتها. الغابة صامتة حولي، إلا من صوت الرماد المتناثر وهو يلامس أوراق الشجر.

ماكومو توقفت خلفي، تنفسها متقطع، عيناها الواسعتان تعكسان مزيجًا من القلق والتعب والارتياح. لم تحاول الاقتراب، بل وقفت للحظة، تراقبني بصمت، كأنها تتأكد من أنني على قيد الحياة.

أدركت فجأة شعورًا غريبًا في داخلي، مزيج من الانتصار والخوف، الفخر بالقدرة على مواجهة الشيطان، والرهبة من القوة التي استنفدتها تنفس الماء العاشر. كانت ضربتي الأخيرة، "تنين التغيير"، قد أفرغتني تمامًا، شعرت بأن جسدي قد وصل إلى حدوده، وأن قلبي لا يزال يلهث بسرعة.

ابتلعت ريقي، ونظرت إلى ماكومو، صوتي أجش قليلًا:

"لقد… لقد انتهى… أليس كذلك؟"

ابتسمت لي ابتسامة باهتة، لكنها لم تصل إلى عينيها. كانت متعبة، وعيناها تحملان وزن الأسرار التي حملتها طوال الوقت. أخيرًا، ترددت قبل أن تتكلم، بصوت مرتعش:

"بليك… لقد… لقد كنت أخشى أن يحدث الأسوأ… أنا آسفة… لم أخبرك الحقيقة من قبل…"

توقفت، شعرت بثقل كلماتها. نظرت إليها بحذر:

"ما… ما الذي لم تخبريني به؟"

تنهدت ببطء، كما لو أن الحديث يثقل كاهلها، ثم همست:

"أنا… أنا لست فقط من تدربك… أنا… شبح. كنت هنا منذ سنوات طويلة، ووكنت أختفي أمامك دائمًا لحماية شيء… ولم أرد أن تثقل على قلبك الحقيقة."

تجمدت للحظة، شعرت بصدمة قوية، قلبي يخفق بشكل أسرع من ذي قبل، والرياح الباردة تمر عبر الغابة كأنها تواسيني على هذا الكشف.

"شبح…؟ أنت… حقًا شبح؟"

قالتها بصوت متردد، محاولة استيعاب الحقيقة.

أومأت، عينها تلمع بالحزن والندم، ثم أكملت:

"كنت أخفي الأمر عنك، لأني… لم أرد أن تعرف الحقيقة وتفقد القوة أو الثقة بنفسك… لم أرد أن أضعك في خوف دائم."

شعرت بشيء ما يذوب في داخلي، مزيج من الغضب، الخوف، التعاطف والفخر. أنا كنت أعتقد أن كل شيء كان مجرد تدريب، ومواجهة الشيطان كانت النهاية… لكن الحقيقة أكبر، وأعمق.

تنفست ببطء، مستعيدًا قليلاً من قوتي:

"ماكومو… لا بأس. ربما لم تخبريني، لكنني الآن أعرف… وأدركت أن القوة ليست فقط في السيف أو تقنيات التنفس… القوة في الإرادة، وفي القدرة على مواجهة الحقيقة، مهما كانت مخيفة."

ابتسمت بابتسامة ضعيفة، ووضعت يدها على صدري بلطف، كأنها تلمس قلبي لتهدئته:

"أنا… آسفة، بليك. كنت أخاف أن أثقل عليك، لكنك أثبتت اليوم أنك أقوى مما توقعت. أنت… حقًا شخص لا يعرف الاستسلام."

وقفت هناك، شعور غريب يملأ صدري، أستوعب كل ما حدث، كل القتال، كل التعب، كل الخوف، وأدركت شيئًا مهمًا: هذه ليست مجرد معركة ضد الشياطين، بل بداية لفهم أعمق للقوة، للماضي، وللأشخاص من حولي… بما في ذلك ماكومو، الشبح الذي كان يحمي حتى دون أن أعرف.

الغابة بقيت صامتة من حولنا، إلا من صوت الرماد البطيء المتساقط، كأنها تشهد ولادة جديدة لقوة بليك… ولعلاقة أكثر عمقًا مع ماكومو.

وقفت أمامي ماكومو، وعيناها تتلألأان بضوء خافت، شعور بالسلام والامتنان يملأ ملامحها المتعبة. لكن شيئًا غريبًا بدأ يحدث.

ببطء، بدأت ملامحها تتلاشى، كما لو كانت تتفكك إلى جسيمات ضوء هادئة. ارتجف جسدي، شعور بالصدمة امتد داخلي، لم أكن مستعدًا لرؤية هذا.

"ماكومو… ما الذي يحدث؟!" صرخت، أحاول الاقتراب منها، لكن قدمي كأنها معلقة عن الأرض.

ابتسمت لي بابتسامة حزينة، صوتها كان خافتًا لكنه واضح:

"بليك… لقد… حققت ما جئت لأجله… انتقمت… وأعدت لي شيئًا لم أستطع استعادته منذ زمن."

شعرت بمزيج من الحزن والارتياح يغمر قلبي. لم أرها مجرد شبح أو معلمة، بل شخصًا كان يحمل ألمًا كبيرًا منذ سنوات.

تقدمت خطوة نحوها، محاولًا الإمساك بيدها قبل أن تتلاشى، لكنها رفعت يدها ولامست وجهي برفق:

"شكرًا لك، بليك… لأنك كنت قوياً بما يكفي، وشجاع بما يكفي…"

ثم همست بصوت أكثر حنانًا:

"هناك شيء أريد أن أعطيك إياه… ليس هدية بالمعنى الحرفي، لكنها شيء غامض… شيء قد يساعدك في المستقبل، ولكن لا يجب أن أظهره الآن… فقط تذكر وجوده."

أحسست بيدها تمر على كتفي برفق، ودفء غامض انتشر داخلي، شعور بأن شيئًا كبيرًا ينتظرني، شيء لا أفهمه بعد، لكنه مهم.

بدأت ماكومو تتلاشى بسرعة أكبر الآن، الضوء الذي يغلفها أصبح أكثر إشراقًا، وصوتها أصبح بعيدًا:

"بليك… أعدني بشيء… أعدني بأنك ستجد صديقي… سابيتو… يوماً ما… لا تتوقف عن البحث عنه…"

صرخت بصوت مختنق:

"ماكومو! لا تذهبي! أعدك… سأجد سابيتو… مهما حدث!"

ابتسمت لي واحدة الأخيرة، عيناها تلمعان بالامتنان والطمأنينة، ثم اختفت تمامًا، تاركة خلفها غيابًا صامتًا وغموضًا ساحرًا.

وقفت هناك، صامدًا رغم التعب، أشعر بمزيج من الحزن والفخر والدهشة. لم أكن أعلم بعد معنى الهدية الغامضة التي تركتها لي، ولم أكن أعرف متى أو كيف سأجد سابيتو، لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا: ماكومو آمنت بي، وآمنت أنني سأكمل ما بدأته، وأن هذه القوة ليست مجرد مهارة، بل إرادة وعزيمة لتجاوز أي عقبة… حتى الموت نفسه.

بعد اختفاء ماكومو، بقيت واقفًا وسط الغابة، أستشعر الصمت والهواء البارد يلفني من كل جانب. كل شيء بدا ساكنًا، وكأن العالم نفسه توقف للحظة، تاركًا لي الفرصة للتفكير.

وقفت أمام الصخرة الكبيرة، يدي على مقبض السيف بإحكام. كل شيء بدا هادئًا فجأة؛ الغابة، الرياح، حتى قلبي كان ينبض بوتيرة ثابتة، رغم الإثارة التي شعرت بها.

تذكرت كل لحظة مع ماكومو: ضحكتها، نصائحها، تحذيراتها، وكل لحظة صبر وتعليم. كل تلك الذكريات تدفقت في ذهني، كأنها نغمة واحدة تتشكل إلى إيقاع داخلي يقود يدي.

أخذت نفسًا عميقًا، ركّزت عيني على مركز الصخرة، على الخطوط والشقوق التي تشبه تفاصيل وجهها في تلك اللحظات الصعبة. لم أستعمل أي قوة سحرية، لم أستدعي أي طاقة خارقة… كان كل شيء في يدي، في ذراعي، وفي جسدي كله.

رفعت السيف، وبدأت بتحريك يديّ ببطء، مركزًا على التقنية الصحيحة: زاوية الهجوم، قوة الدفع من الكتف، توازن الجسد، وحتى توقيت التنفس. كل شيء كان دقيقًا كما علّمتني ماكومو، ولكن هذه المرة كانت الإرادة بداخلي أقوى من أي تدريب سابق.

مع خطوة للأمام، وضربة قوية مباشرة من الأعلى، ضربت السيف الصخرة. اهتزت الأرض تحتها، تصاعد الغبار والقطع الصغيرة تتطاير حولي، ثم… انقسمت الصخرة إلى نصفين، بشكل طبيعي لكنه قوي، دون أي وميض أو طاقة خارقة، مجرد ضربة متقنة وقوة جسدية صافية.

وقفت هناك، يدي ترتجفان قليلًا من الجهد، ولكن شعور الإنجاز غمرني بالكامل. لم أقطع الصخرة فقط، بل تجاوزت حاجزًا داخليًا، شعرت بالقوة الحقيقية للإرادة البشرية والتقنية الماهرة.

ابتسمت، وقلت بصوت خافت، وكأنها تصل إليها حيثما كانت ماكومو:

"لقد فعلتها… شكراً لك، ماكومو. كل شيء تعلمته منك كان كافيًا."

الهواء حولي كان هادئًا، والغابة تستعيد سكونها، لكن

بدا لي أن كل شيء تغير؛ شعرت بأنني أصبحت أقوى، ليس بالقوى الخارقة، بل بقدرتي على التركيز والإصرار.

2025/09/03 · 8 مشاهدة · 4339 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025