وقفتُ أمام الصخرة الضخمة، تلك الجلالة الرمادية التي حاصرت الممر الصغير في الغابة منذ أيام، وكأنها تمثل تحديًا بيني وبين نفسي، بين قوتي ورغبتي في الاستمرار. صباح الغابة كان هادئًا بشكل مخادع؛ أشعة الشمس تخترق أوراق الأشجار برفق، ترسم بقعًا ذهبية على الأرض المبللة بالندى، والهواء النقي يحمل معه رائحة التراب الرطب والطحالب، مع أنغام العصافير التي تشدو بحرية وكأنها لا تهتم بما يحدث على الأرض.

رفعت يديَّ على الصخرة بعد أن استطعت أخيرًا قطع جزء منها، لكن شعور الانتصار كان عابرًا. دفعتها بكل ما لدي من قوة… تحركت… لم يكن أكثر من سنتيمتر واحد. سنتيمتر واحد فقط، لكنها شعرت كأنها عشرة أمتار. صداع بدأ يعتصر رأسي، ويداي ترتجفان من الجهد، وعضلات ذراعيّ الصلبة كانت تصرخ من التعب.

"لا… لا يمكن أن أستسلم الآن… ليس بعد كل ما فعلته…" همست لنفسي، لكن الصوت بدا خافتًا وسط هدير دمائي المتسارعة ونبض قلبي الذي بدأ يضغط على أذنيّ. حاولت مرة أخرى، دفعة خفيفة ثم أقوى، ثم مرة ثالثة… الصخرة لم تتحرك إلا قليلًا، وكأنها تسخر مني، تتحدى كل ما لدي من قوة جسدية وروحية.

بدأت أنفاسي تتلاحق، وحسست بالعرق ينزف من جبيني ويقطر على ذراعيّ، يختلط بالغبار الرمادي المتطاير من سطح الصخرة. ظهري يؤلمني، ساقاي ترتجفان من التعب، لكن عينيّ لم تفارقان الهدف. كل جزء من جسدي كان يصرخ، "توقف! أنت لا تستطيع!" لكن شيء بداخلي كان يصرخ بصوت أعلى، "ادفع… لا تتراجع… يجب أن تتحرك!"

وقفت دقيقة أحاول استجماع قواي، أراقب جمال الغابة من حولي. الطيور لا تزال تغني، والنسيم يهز الأغصان برقة، والأشعة الذهبية تلمع على قطرات الندى على أوراق النباتات الصغيرة. كانت الطبيعة هادئة، جميلة، وكأنها تقول لي، "خذ نفسًا… استمتع باللحظة…" لكن الصخرة لم تهتم بجمال الغابة، لم تهتم بالهدوء أو بالعصافير… كانت مجرد حجر ضخم يقف بيني وبين مساري.

عدت لأمسك بالصخرة مجددًا، شعرت بتيبس في أصابعي، وتشنج في ساعدي الأيسر، وارتجفت قدماي على الأرض الصلبة، وكل عضلة في جسدي كانت توترت من أجل حركة صغيرة. دفعتها مرة أخرى، ببطء… كل خفقة قلب كانت تصنع شعورًا بالضغط على صدري، وكل نفس كان يأخذ مني جزءًا من قوتي. الصخرة تحركت قليلًا أكثر، ربما سنتيمترين هذه المرة… لكن لم يكن هذا كافيًا.

أغلقت عيني للحظة، استنشقت الهواء العليل، وتذكرت كل ما تعلمته من تدريباتي، كل الألم، كل الخيبات، كل الانتصارات الصغيرة. كان جسدي يتوسل للتوقف، لكن روحي كانت تحثني على الاستمرار. دفعت الصخرة بكل ما أوتيت من قوة، عضلاتي مشدودة، يداي تنزفان تقريبًا من الاحتكاك مع الحجر، وظهرى يشكو من كل ثانية أقضيها في هذا الجهد.

وبينما أنا هناك، منهك، كل خلية في جسدي تصرخ، وجمال الغابة من حولي يسخر مني بسلامه، فهمت شيئًا: الصخرة ليست مجرد حجر، إنها اختبار لقوتي، لإصراري، وقدرتي على تجاوز حدودي. ومع كل دفعة صغيرة، كنت أشعر ببطء أني أقترب من كسر حاجز يبدو مستحيلًا، وكل سنتيمتر يتحرك يشعرني بقوة لم أعرفها من قبل…

ثم دفعة أخرى، أعمق وأقوى، وصوت احتكاك الصخرة بالأرض يرن في أذني كصدى كل تحدياتي الماضية، وابتسمت رغم التعب، لأنني شعرت أني على وشك تحقيق شيء لم يكن أحد يظن أنه ممكن.

حاولت مرة أخرى، دفعة أعنف، كل عضلة في جسدي تصرخ من التعب، ويداوي الألم في ساعدي وظهري، وكل نفس أصبح معركة بحد ذاته. الصخرة لم تتحرك. لم تتحرك! شعرت بغصة في صدري، وعيوني تدمع من الإرهاق والإحباط، وكأن كل جهدي حتى هذه اللحظة لم يكن سوى مجرد خربشة على سطح الحجر الصامت.

"هذا… هذا مستحيل…" همست لنفسي بصوت خافت، صوتي يكاد يضيع وسط هدير دمائي المتسارعة. حاولت أن أتحمل، أن أعطيها دفعة أخيرة، لكن جسدي رفض التعاون، وكأن الأرض نفسها تمتص قوتي، وكأن الغابة تراقبني بهدوء، بدون أي تعاطف.

جلست ببطء على الأرض، أشعر بالبرودة تحت جسدي، وأخذت أستلقي على ظهري. الغابة من حولي كانت أكثر جمالًا من أي وقت مضى؛ الأشعة الذهبية تتسلل بين الأغصان، ترسم خطوطًا رقيقة على وجهي، وطيور الصباح لم تتوقف عن الغناء. نسيم خفيف يلامس بشرتي العرقانة، يحمل رائحة التراب الرطب والزهور الصغيرة، وكل هذا الجمال جعل قلبي يهدأ قليلًا رغم شعوري بالهزيمة.

أغمضت عيني لحظة، وأصوات جسدي المتعب، تنفسه السريع، آلامه المتناثرة في كل زاوية، كلها تتحدث إليّ بلغة واحدة: "توقف… استرح… لا شيء سيهدمك إن أخذت دقيقة لتتنفس." شعرت بالاستسلام، لم يكن استسلامًا للضعف، بل استسلامًا للوعي بأنني بحاجة للراحة قبل أن أستعيد قوتي.

حاولت تنظيم أنفاسي، أشعر ببطء الدم يتدفق إلى كل أطراف جسدي، ساقاي مرتاحتان على الأرض، ظهري مستوي على الأرض الصلبة، ويدي ترتاحان من حمل ثقل الصخرة. شعرت بعظمة الطبيعة من حولي أكثر من أي وقت مضى؛ الأوراق تلمع تحت أشعة الشمس، الطيور تغني بحرية، والعصافير الصغيرة تتنقل بين الأغصان وكأن العالم كله لا يتوقف عن الحركة بينما أنا هنا، مجرد إنسان يواجه صخرة ضخمة.

وبينما أنا مستلقي، شعرت بشيء غريب: هدوء الغابة بدأ يدخل داخلي، يملأ روحي بطاقة غريبة، وكأن الطبيعة تقول لي: "لا تيأس، فحتى أصعب العقبات يمكن التغلب عليها إذا أعطيت نفسك فرصة للتنفس." ابتسمت ببطء، رغم الألم، وبدأت أفكر: ربما ليس الوقت المناسب الآن، لكن في النهاية سأجد طريقة… سأدفع هذه الصخرة، حتى لو استغرقت كل قوتي وكل لحظة من حياتي.

فتحت عيني مجددًا، نظرت إلى السماء بين الأغصان، شعرت بالهدوء يتسلل إلى قلبي المتعب، وكل نفس أصبح أعظم من مجرد هواء؛ كان وعدًا بأنني سأستعيد قوتي، وأن هذا الاستسلام المؤقت ليس هزيمة، بل بداية جديدة لمحاولة أقوى.

بعد دقائق من الاستلقاء على الأرض، شعرت بليك بأن جسده بدأ يهدأ، وأن كل نفس أصبح أعمق من السابق، كما لو أن الهواء نفسه يحمل قوةً خفية تداعب كل خلية بداخله. أخذ نفسًا عميقًا، وحاول أن يركز على تقنية التنفس التي تعلمها منذ وقت طويل، دون الحاجة للسيف، دون الاعتماد على أي قوة خارجية.

شعور غريب اجتاحه فورًا، كأن الدم بدأ يتسارع في عروقه، ينفتح في كل جزء من جسده، يتدفق بحرية لم يعرفها من قبل. حرارة لطيفة بدأت تنتشر من قلبه إلى أطرافه، وعضلاته المتعبة أصبحت مشبعة بطاقة جديدة، كل خلية تصرخ بالحياة. تنفسه أصبح منتظمًا، عميقًا، كأن الرئتان أصبحتا مضختين لا نهاية لهما، يملأان كل جزء من جسده بالأكسجين والقوة.

ابتسم بليك لنفسه رغم الألم، شعوره كان أقرب إلى النشوة. كل عضلة في جسده كانت مشدودة بقوة، كل عصب ينبض بالطاقة، حتى أن نبض قلبه أصبح واضحًا في أذنيه، كطبول حية تدق في أعماقه، تنبهه بأن شيئًا عظيمًا على وشك الحدوث.

ثم شعر بشيء غريب يحدث في جبهته، في الجانب الأيمن تحديدًا. حرارة الشمس التي تسللت بين أغصان الغابة كانت تلتقي مباشرة مع بشرته، وكأنه جيده يمتص الطاقة مباشرة من أشعة الشمس، يمتصها ويحولها إلى قوة لا يمكن تصورها. شعور غريب، مزيج من الألم والانتشاء، اجتاحه، كل شريان يتوهج، وكل شعرة على جسده تكاد ترقص من القوة المتدفقة.

وفجأة، على جانب جبهته اليمنى، ظهر علامة حمراء غامضة، تشبه الشعلة العمودية، صغيرة في البداية، لكنها بدأت تتوهج، تكبر، وتلمع مع كل نفس يأخذه بليك، وكأنها تعكس القوة التي تتجمع بداخله، تعلن عن ولادة طاقة جديدة لم يعرفها من قبل.

حركة صغيرة من أصابعه، ثم يديه، ثم جسده كله، شعوره بالغابة من حوله أصبح أكثر وضوحًا، وكأن كل شيء متصل به، وأن الطبيعة نفسها تساعده على تحقيق هدفه. غمز الشمس، صوت العصافير، نسيم الأشجار، كلهم أصبحوا جزءًا من طاقته، كلهم يوجهونه، يدفعونه.

أخذ نفسًا أخيرًا، وأطلقه مع دفعة كاملة من جسده، شعور لا يوصف: الدم يتدفق كما لو كان نهرًا مشتعلًا، العضلات متوهجة بالقوة، وكل شعور بالضعف السابق اختفى، كأن جسده أصبح آلة متكاملة من القوة والنشاط.

وببطء، بدأت الصخرة تتحرك… مليمترًا بعد مليمتر، لكنها كانت تتحرك هذه المرة بسلاسة، كأن الأرض نفسها تفرش له الطريق، وكأن كل قطرات العرق، كل دمعة الألم، وكل لحظة استسلام لم تذهب هباءً. استمر في الدفع، حتى مع كل دفعة، الصخرة بدأت تتزحزح بشكل أكبر، حتى تمكن بليك أخيرًا من تحريكها بالكامل، قلبه ينبض بشدة، وابتسامة انتصار ترتسم على وجهه، بينما العلامة على جبهته لا تزال متوهجة، شاهدة على اللحظة التي اكتشف فيها أن قوته الحقيقية ليست في السيف، بل في نفسه.

وقفت الصخرة أمامه أخيرًا، بعد كل هذا الجهد، ووقف بليك متعثرًا على ركبتيه، يتنفس بصعوبة، كل شهيق وزفير كان يختلط بصوت قلبه المتسارع. كان تعب جسده واضحًا في كل حركة، العضلات مشدودة، عرقه يتصبب من كل جزء فيه، وكأن جسده كله شارك في معركة استنزاف لا تنتهي.

لكن رغم كل هذا التعب، شعور الفرح والانتصار اجتاحه بالكامل. ابتسامة لا إرادية ارتسمت على وجهه، وعيونه تألقت بنور داخلي، شعور لا يوصف بالإنجاز، وكأن كل قطرة عرق، كل لحظة ألم، كل شبر من إرادته قد تجمعت لتشكل هذه اللحظة.

رفع يديه إلى جبهته بشكل غريزي، ليتفحص العلامة الحمراء التي ظهرت قبل قليل، الشعلة العمودية الغامضة. استدار بليك حول نفسه، محاولًا فهم ما يحدث، وكأنه ينظر إلى لغز حي ينبض على جلده. العلامة لم تكن فقط رمزًا، بل كانت شيء حي، متوهجًا، ينبعث منه شعور غريب بالقوة والطاقة، شيء لم يره أو يشعر به من قبل.

وفجأة… اختفت العلامة.

كأنها لم تكن موجودة من الأساس، وكأن الضوء والحركة لم يلمسا جلده. توقف بليك فجأة، وعيناه تتسعان من الدهشة، عقله يحاول تفسير ما حدث، شعور بالحيرة يلتهمه: "ماذا…؟ هل هذا حلم؟ أم قوة جديدة تظهر وتختفي؟"

وفجأة تذكّر بليك شيئًا… تذكر صوتها، ضحكتها الهادئة، حضورها الغامض. تذكر كيف نظرت إليه لأول مرة، وكيف همست له بكلمات غامضة مليئة بالقوة والإيمان به. قلبه خفق بقوة، وشعور غريب دافئ اجتاح صدره: كانت هذه هدية ماكومو.

أدرك بليك أخيرًا، مع ابتسامة نصف حزينة ونصف فرحة: العلامة، القوة، كل هذا لم يكن إلا طريقة ماكومو لتعليم جسده وقلبه أن القوة الحقيقية ليست فقط في السيف أو العضلات، بل في الإرادة والإيمان الداخلي.

نظر حوله في الغابة مرة أخرى، شعور الصباح الدافئ، أصوات العصافير، الأشجار المتموجة بنسيم الريح، كل شيء بدا أكثر إشراقًا، كما لو أن الطبيعة نفسها تحتفل بهذه اللحظة الصغيرة، ولكنه كان يعلم في أعماقه أن هذا النجاح لم يكن مجرد قوة جسدية، بل رسالة حية من شخص غريب، لكنه مؤثر جدًا.

ابتسم بليك لنفسه، ودمعه يكاد يسيل من فرط المشاعر، وتذكر عيني ماكومو تقولان له بصمت: "القوة الحقيقية دائمًا بداخلك، بليك… لا تنسَ ذلك."

وهنا، مع كل نفس، شعر بليك أنه تغير، لم يعد نفس الشاب الذي عانى طوال الصباح، بل أصبح أقوى، أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا لأي تحدٍ قادم.

مرت لحظات الصمت بعد فرحة بليك، وكأن العالم كله أخذ نفسًا عميقًا معه. الشمس كانت تتسلل عبر أغصان الغابة، ترسم بقعًا ذهبية على الأرض المتشققة، ورائحة الأرض المبتلة تتصاعد من بين الحشائش بعد الأمطار الخفيفة التي تركتها الليلة الماضية. بليك أخذ نفسًا عميقًا، وقرر أن يمنح نفسه بعض الوقت للراحة، بعيدًا عن القتال والصراع، بعيدًا عن كل شيء، حتى عن نفسه السابقة.

في الصباح الباكر، حمل صنارته الصغيرة واتجه نحو بحيرة هادئة مخفية بين الأشجار. الماء كان صافياً كالزجاج، يعكس السماء الزرقاء وغيومها المتناثرة، ويعكس الأشجار المحيطة به كما لو كان يرسم لوحة طبيعية متكاملة. جلس على صخرة ملساء قرب الشاطئ، شعر بالرطوبة في الهواء على وجهه، واستمع إلى هدير خفيف للماء عند اصطدامه بالصخور الصغيرة، وصوت العصافير التي تبدأ يومها بالغناء، كأنها ترحب به إلى عالم جديد.

بيدين متقنتين، ألقى الطُعم في الماء، ثم جلس صامتًا يراقب الطعم ينجرف مع التيار. كل حركة من يديه كانت دقيقة، كل نفس من أنفاسه موجه نحو التركيز على الصيد. دقائق مرت، ثم ارتجف الخطاف فجأة. ابتسم بليك، وبدأ سحب الصيد بحذر، عضلاته مشدودة، يديه تشعر بثقل السمكة، لكنه كان سعيدًا بهذا الشعور، كل مجهود كان وكأنه يذكّره بأنه على قيد الحياة، وأنه قادر على التحكم بنفسه وباللحظة.

بعد قليل، أصبح لديه ما يكفي من السمك. أشعل نارًا صغيرة على ضفة البحيرة، وبدأ يطهوها على الحجر الساخن. رائحة السمك المشوي امتزجت مع رائحة الغابة الطازجة، رائحة الخشب والرطوبة والأعشاب، ومع كل شهيق، شعر بليك بسلام داخلي نادر، كأنه لم يعرفه من قبل. جلس يأكل ببطء، كل قضمة كانت متنفسًا، وكل طعم يتغلغل إلى داخله وكأنه يملأ فراغًا لم يكن يعلم بوجوده من قبل.

وبعد أن انتهى، استلقى على ظهره على العشب الرطب، يراقب السماء التي بدأت تتحول إلى لون برتقالي دافئ مع اقتراب الغروب، شعر بجسده المثقل بالنعاس والهدوء، وأغلق عينيه قليلاً. النوم جاءه سريعًا، عميقًا، يغمره وكأن الغابة نفسها تحميه، والنسيم البارد يلامس وجهه برفق.

استيقظ بليك متأخرًا بعض الشيء، الشمس كانت قد ارتفعت أكثر، والجو أصبح أكثر دفئًا، لكنه شعر بحيوية جديدة تتدفق في جسده، في عروقه، كما لو أن العلامة التي ظهرت على جبهته البارحة قد تركت أثرها الدائم في داخله. قرر التوجه نحو بحيرة الدموع الأبدية، مكان آخر مفضل لديه وسط الغابة، حيث المياه كانت داكنة بعض الشيء، ولكنها عاكسة للسماء والأشجار بشكل ساحر، كأنها مرآة للماضي والحاضر معًا.

جلس بليك على حافة البحيرة، ساقاه تغوصان جزئيًا في الماء البارد، ويداه تتلاعب بخفة في سطح الماء. كل موجة صغيرة كانت ترتد على جسده، كل انعكاس للسماء في الماء كان يذكره بجمال العالم البسيط، الذي لم يعد يلاحظه في حياته السابقة المليئة بالصراعات.

هنا، جلس لساعات، مستمتعًا بالهدوء، مستمتعًا بالمكان، مستمتعًا بشعور التحرر الداخلي الذي نالَه بعد كل التعب، بعد كل المعارك، بعد كل الألم. العصافير تستمر في التغريد، الرياح تمر بين الأشجار، والأمواج الصغيرة تتحرك بانسيابية على الماء. كل شيء كان يبدو وكأنه يتنفس مع بليك، يشارك معه سلامه الداخلي، يذكره بأن الحياة ليست مجرد معارك وقوة، بل أيضًا لحظات صامتة من الجمال والهدوء.

مع كل دقيقة تمر، شعر بليك أن هذه اللحظات الهادئة تمنحه طاقة غير مرئية، قوة هادئة، شعورًا بالثبات الداخلي، وكأن العالم كله أخيرًا منح بليك فرصة ليتنفس، ليعيش، ولينظر إلى ما حوله بعينين جديدتين، عالِمًا أن كل يوم جديد يمكن أن يكون فرصة جديدة، حتى لو كان مجرد صيد سمك، طهوه، ومراقبة انعكاسات البحيرة في ضوء الشمس.

حل الغروب ببطء، ألوانه تتدرج بين البرتقالي الغامق والأرجواني المخملي، والسماء تعكس نفسها في بحيرة الدموع الأبدية كلوحة تتغير مع كل لحظة. جلس بليك على صخرة كبيرة، ساقاه تتدلّيان فوق الماء، وعيناه تراقبان انعكاس الغيوم التي بدأت تتلاشى في الأفق. الهواء أصبح بارداً قليلاً، لكنه منعش، ويحمل معه رائحة الغابة المسائية والندى على العشب.

أغمض بليك عينيه للحظة، وأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا استدعاء كل طاقته الداخلية، ولكنه لم يهرب هذه المرة إلى القوة وحدها. بدلاً من ذلك، أدار ذهنه إلى ذكريات الأيام الماضية، ووجوه من فقدهم وأحبهم، وصار قلبه يكتنفه شعور غريب بالحنين والاشتياق.

تذكر بابادوك، بابتسامته الغامضة وأسلوبه الغريب، وكيف كان دائمًا يختبره بطريقة فريدة، يضغط عليه ليتجاوز حدوده. شعر بليك بامتنان غريب له، وبحزن لأنه لم يعد موجودًا ليشاركه هذه اللحظة الهادئة بعد صخرة الدهشة.

ثم جاء في باله أكيهيكو، صديقه الذي عرفه منذ البداية، الذي شاركه الكثير من الأوقات، ولكن هذه المرة لم يكن يعرف شيئًا عن قوة أكيهيكو، مجرد ذكريات للضحك، للمنافسات البسيطة، ولتلك اللحظات التي كان يشعر فيها بالراحة بقربه.

ولم يستطع أن يتجاهل مونو، تلك الفتاة الغامضة التي أصبح وجودها في حياته مصدرًا للاطمئنان، حتى لو لم يكن يعرف الكثير عنها أو عن أفكارها.

ابتلع الحنين قلبه، شعور بالاشتياق الغامض إلى كل من أحبهم، إلى كل ضحكة، إلى كل لحظة بسيطة كانوا فيها معًا، حتى لو كانت مؤلمة أحيانًا. لقد مر أسبوع كامل منذ أن غابت مونو، أسبوع كامل من الصمت والهدوء، ومع ذلك كان كل يوم يمر يحمل في داخله شعورًا بأن هناك شيئًا ينتظره، شيئًا لم يكتشفه بعد.

وفجأة، وسط هذا الصمت الذهبي، ظهرت بوابة ضوئية ذهبية صغيرة أمامه على ضفة البحيرة. الضوء كان خافتًا في البداية، لكنه بدأ يتضخم تدريجيًا، يشبه أشعة الشمس في منتصف النهار، لكنه مركز في مكان واحد. بليك جفل، قلبه بدأ يخفق بسرعة، شعور غير مألوف من الإثارة والدهشة اجتاحه.

ومن البوابة، خرجت مونو بخطوات هادئة وثابتة، عيونها تلمع ببريق غامض، وابتسامة خفية ترتسم على وجهها. بليك لم يستطع الكلام، فقط جلس مندهشًا، قلبه يرفرف كما لو كان يقفز من صدره.

قالت مونو بصوت هادئ لكنه مليء بالدفء:

"لقد عدت… ولم أكن أعلم إن كنت ستتمكن من كل هذا وحدك، ولكن الآن أراك… وقد فعلت ما لم أتوقعه."

ابتلع بليك ريقه، لم يستطع أن يصدق أنه بعد أسبوع من الغياب، بعد كل هذه اللحظات الهادئة والتأملات، مونو كانت هنا، أمامه، وكأنها جاءت لتكون شاهدة على إنجازاته، وليس لمراقبته طوال الوقت.

ابتسم بليك أخيرًا، شعوره بالفرح امتزج مع إرهاقه، ومع كل جمال الغروب من حوله، شعر بالاكتمال الداخلي لأول مرة منذ زمن بعيد. كل التعب، كل التدريب، كل الاشتياق، كان يستحق لحظة واحدة كهذه، لحظة سلام، لحظة لقاء، ولحظة إدراك أن كل شيء كان يسير نحو هذا، نحو أن يرى من يحب، وأن يشعر بأن وجوده لا يزال مهمًا في هذا العالم الكبير والمعقد.

الغابة حوله بدأت تهدأ مع الغروب الأخير، والبحيرة تعكس الألوان الأخيرة للشمس، وريح خفيفة تمر بين الأشجار، تحمل معها أغاني العصافير الأخيرة قبل الظلام، وكل شيء يبدو وكأنه يشهد على بداية فصل جديد في حياة بليك، فصل يجمع بين القوة، الصداقة، والجمال الذي وجد في أبسط لحظات الحياة.

جلس بليك أمام مونو، والبوابة الذهبية خلفها تتلاشى ببطء في ضوء الغروب. أخذ نفسًا عميقًا، لا يستطيع أن يبدأ الكلام إلا بعد لحظة من الصمت. ثم، بدون مقدمات، مد يده نحو مونو، واحتضنها برفق. لم يكن احتضانًا رومانسيًا، بل احتضانًا يفيض بالأمان، بالراحة، وبالامتنان لوجودها أمامه بعد أسبوع كامل من الغياب.

مونو بدت متفاجئة للحظة، ثم استجابت بهدوء، مرتدية ابتسامة خفية، كأنها تقول بلا كلمات: "أنا هنا، لا تقلق". شعر بليك بأن كل توتره، كل إرهاقه، وكل شعور بالوحدة خلال الأيام الماضية، بدأ يتلاشى في هذا الاحتضان. كان احتضانًا يربطه بماضيه، بحاضره، وبالأشخاص الذين يعني لهم شيء.

بعد لحظات، ابتعد بليك قليلًا، لكنه لم يتركها بعيدًا عنه. نظر في عينيها، وبدأ بالكلام:

"مونو… كل شيء تغير، هذا الأسبوع كان صعبًا أكثر مما تتصورين. هناك… هناك ماكومو. لقد ساعدتني بطريقة غريبة… أعطتني هدية لم أفهمها إلا بعد أن تمكنت من دفع الصخرة."

توقف للحظة، وكأن الكلمات تحتاج أن تُرش بالهدوء قبل أن تستمر. "وكان هناك… شيطان. ظهر فجأة في الغابة، قوي بشكل لا يصدق. حاولت كل شيء، وكل مرة كنت أشعر أنني أفشل، لكن… شعرت بقوة جديدة بداخلي. وأثناء كل هذا، كنت أفكر فيكم، فيكم أنتم الثلاثة، في أكيهيكو، في مونو، وفيك أنت. كل شيء كان يدفعني للأمام."

مونو ابتسمت، وبدت عيناها تلمعان بالفضول والاهتمام. لم يكن بليك بحاجة لأن يشرح لها كل التفاصيل، بل فقط أن تشعر بأنه كان وحيدًا، وأن وجودها الآن، كان يمنحه راحة لم يشعر بها منذ زمن.

تنهد بليك، وأردف: "لكن الأهم… هو أنك هنا الآن. لم أكن أعرف إن كنت سأتمكن من فعل أي شيء بدون وجودك. فقط… شكراً لأنك عدت."

مونو لم تقل شيئًا، لكنها اقتربت أكثر، ووضعت يدها على كتفه بشكل صامت، كأنها تقول: "أنا معك، دائمًا."

جلسا على ضفة البحيرة، مع الشمس تغرب خلف الأشجار، ومع النسيم البارد يداعب وجوههما، شعر بليك بالسلام لأول مرة منذ أن بدأ كل هذا الجنون. كان هناك إرهاق كبير في جسده، لكنه أصبح خفيفًا عندما شعر بأن هناك من يفهمه، من يقف بجانبه، ومن يشارك لحظاته الصغيرة والكبيرة.

كان الحديث بينهما بسيطًا، لكن كل كلمة كانت مليئة بالصدق: بليك يروي ما مر به، مونو تستمع، وابتساماتها الصغيرة تعطيه شعورًا بالأمان، وكأنها تقول له أن كل ما حدث، مهما كان عنيفًا أو غامضًا، لن يفرق بينهما.

حين بدأت الألوان الأخيرة للغروب تتلاشى، شعر بليك بأن هذا اليوم لم يكن مجرد يوم صعب أو مجرد اختبار لقوته، بل كان تجربة لصداقة حقيقية، لروح مرتبطة بالآخرين، ولحظة إدراك أن القوة ليست فقط في العضلات أو في السيف، بل في من يشاركك الطريق ويقف بجانبك.

احتضن بليك نفسه لحظة، ثم نظر إلى مونو مرة أخرى، مبتسمًا: "لا أعرف ما يخبئه الغد، لكن… طالما أنت هنا، أظن أنني سأكون بخير."

ومونو اكتفت بالابتسام، والبحيرة أمامهما تعكس السماء المظلمة الآن، كأنها شاهدة صامتة على بداية فصل جديد من حياتهما، فصل يجمع بين القوة، الصداقة، والأمان الذي يأتي من وجود شخص يفهمك حقًا.

جلس بليك على ضفة البحيرة، الصباح يطل بخجول بين الأشجار، والهواء نقي مليء برائحة الرطوبة والطحالب، عندما اقتربت مونو منه بحركة هادئة، وهي تحمل بيدها ورقة قديمة، مطوية بعناية. مدّت لها الورقة، وعيناها تلمعان ببراءة ودفء:

"هذه… من أكيهيكو." قالت بصوت هادئ، وكأنها تخشى أن يختفي الصوت مع نسيم الصباح.

بيد مرتجفة قليلًا، أخذ بليك الرسالة، شعر ببرودة الورقة ضد كفه، وبرفقها الملمس الذي يحمل بين طياته الكثير من الذكريات. جلس، وفتح الرسالة ببطء شديد، كما لو كان يخشى أن أي تمزق فيها يمحو شيئًا من وجود صديقه.

بدأ بليك بالقراءة، وحينما وقع نظره على الكلمات الأولى، شعر بقلبه يخفق بسرعة:

"بليك، إذا كنت تقرأ هذه الرسالة، فاعلم أنني أفتقدك أكثر مما يمكن للكلمات أن تعبر. كل يوم بدونك يبدو فارغًا، وكأن الهواء نفسه يفتقد شيئًا أساسيًا. أنا بخير… على الأقل أحاول أن أكون بخير، لكن الحقيقة أنني أفتقد كل شيء عنك، عن طريقنا، وعن لحظاتنا المجنونة والمليئة بالمغامرات. لا أستطيع أن أصف كم كنت أتمنى لو كنت هنا معي اليوم."

توقف بليك للحظة، شعر بغصة صغيرة في حلقه، وكأن كل وحدة الأيام التي قضاها بعيدًا عن أكيهيكو تتجمع في ثقل يضغط على صدره. أخذ نفسًا عميقًا، وعاد للقراءة:

"تدري، بليك… لقد كنت أتمرن كثيرًا. أحاول أن أرفع من مستواي، لا لأحد سواك، لأني أريد أن أكون شخصًا تستطيع الاعتماد عليه، حتى لو كنت بعيدًا. لقد بدأت ألاحظ تغيراتي… حتى أنني أستطيع الآن التحكم في بعض القوى التي لم أجرؤ على لمسها من قبل. كل مرة أفعل شيئًا جديدًا، أتمنى لو كنت هنا لترى ذلك. كل خطوة صغيرة أتقدمها، أتخيل ابتسامتك، وأسمع ضحكتك التي كانت تجعل كل شيء يبدو أسهل."

ابتسم بليك بمرارة ودفء معًا، وعيناه تبدأان باللمعان قليلًا، شعوره يختلط بين الاشتياق والفرح، بين الفرح لرؤية أكيهيكو يتطور وبين الحنين للأيام التي قضوها سويًا.

استمر بالقراءة، وكل كلمة كانت تضاعف شعوره بالحنين:

"أحيانًا، في الليل، أغلق عيني وأتخيلك جالسًا أمام البحيرة، كما تحب، صامتًا، تفكر، وتراقب الماء يلمع تحت أشعة القمر. أتمنى لو كنت هنا، لنشرب الشاي، لنضحك، لنصمت معًا… أي صمت يكون ممتعًا طالما أنت هناك. لم يمر يوم دون أن أفكر فيك، بليك. حتى في أحلك اللحظات، وجودك في ذهني يخفف عني الحمل، ويعطيني القوة لأكمل."

أخذ بليك نفسًا طويلًا، يشعر بيديه ترتعشان وهو يضغط على الورقة، كأنها الرابط الوحيد بينه وبين صديقه. كل كلمة كانت توغّل في قلبه، كل جملة تترك أثرًا على صدره.

تابع بليك القراءة، وكأن الرسالة كانت حياة كاملة تُنقل إليه في دقائق قليلة:

"أنا أتعلم الكثير، بليك. ليس فقط عن القوة، ولكن عن نفسي. أفكر في كل شيء تعلمته منك، في كل لحظة كنت فيها معي، في كل نصيحة، في كل صراخ وضحك، وكل لحظة جنون. لقد علمتني شيئًا أساسيًا… أن القوة لا تأتي فقط من التدريب أو السيف، بل من القلب، من الأشخاص الذين يقفون معك، ومن الرغبة في حماية ما تحب. وأنت، بليك… علمتني كل هذا، وأتمنى أن أراك قريبًا، ليس فقط كصديق، بل كشخص يريد أن يشاركك كل شيء، كما كنت دائمًا."

غالبه شعور غريب، مزيج من الحنين، الامتنان، والشعور بالمسؤولية تجاه صديقه. أحس أن قلبه يملؤه دفء غريب، لكنه أيضًا يقابله شعور خفيف بالحزن لأنه لم يكن هناك ليشارك أكيهيكو في هذه اللحظات.

واصل القراءة، الكلمات الأخيرة كانت أكثر حميمية:

"أتمنى أن تكون بخير، بليك. وأتمنى أن لا تشعر بالوحدة أبدًا، حتى لو كنت بعيدًا. أنا أعدك، سأستمر بالتطور، وسأكون هنا، دائمًا، حتى نلتقي مرة أخرى. أشتاق إليك، صديقي. - أكيهيكو."

جلس بليك صامتًا، يحمل الورقة على صدره، يغلق عينيه، ويشعر بدفق المشاعر: اشتياق عميق، فرحة لمقابلته، وفخر بصديقه، وهدوء غريب يغمر قلبه. أغمض عينيه مرة أخرى، وأخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستنشق كل قوة أكيهيكو، كل حنينه، وكل وجوده، ويدرك في داخله أن هذه الرسالة لم تكن مجرد كلمات، بل كانت صلة روحية تجعل بعد المسافات غير مهم.

فتح عينيه ببطء، وابتسم لمونو، التي كانت تجلس بصمت، تراقبه بعينين هادئتين: "لقد فهمت… أعتقد أنني شعرت بكل شيء كما شعرت به أكيهيكو." قال بصوت خافت، والابتسامة ترتسم على وجهه، محملة بالراحة، القوة، والامتنان.

رفع بليك عينيه بسرعة بعد أن أنهى قراءة الرسالة، شعور الطاقة يغلي داخله كما لو أن الكلمات قد أذابت كل تعب الأيام الماضية. قبض قبضتيه بقوة، وارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة، مليئة بالحماس والعزم الذي لم يعرفه منذ زمن.

نظر إلى مونو بعينين متوهجتين، صوته يمتلئ بالقوة والحماسة:

"هية… التدريب التالي!"

قفز من مكانه، كأن الأرض نفسها تدعمه، والهواء المحيط به يرن بصدى الطاقة المتجددة. مونو ابتسمت بخفة، تلمح شعاع الحماس الذي يشع من بليك، وشعرت أن هذا اليوم سيكون بداية لمرحلة جديدة مليئة بالقوة، الصداقة، والمغامرة.

وبينما كانت أشعة الشمس تتسلل بين الأشجار، بدا العالم كله وكأنه ينتظر

انفجار هذا الحماس الجديد.

2025/09/03 · 6 مشاهدة · 3819 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025