كنت أظن أني قد اختبرت أقسى أشكال الألم، وأن جسدي لم يعد يملك سرًا يمكن أن يخيفني، لكنني كنت مخطئًا. دائمًا ما تحمل مونو اختبارًا جديدًا، وكأنها تستمد لذتها من كشف ضعفي ثم تعريته أمام عينيّ.
قادَتني اليوم إلى وادٍ عميق يقطعه نهر عارم، ينهار من بين الصخور العملاقة إلى أسفل في شلالٍ لا يُشبه شيئًا رأيته من قبل. الماء كان يتدحرج من علٍ مثل جدارٍ سماوي، أبيض ناصعًا، مضطربًا كغضب إلهٍ قديم. الرذاذ يرتفع إلى السماء كسحب صغيرة تبعثرها الريح، والضجيج يصم الآذان حتى شعرت أن قلبي نفسه بدأ يدق بإيقاع الشلال.
وقفتُ إلى جانبها، والبرد يتسلل إلى عظامي قبل أن تلمسني قطرة واحدة. نظرتُ إليها، وقد شبكت ذراعيها خلف ظهرها، مائلة برأسها قليلًا، كعادتها حين تُقرر أن تطرح درسًا قاسياً. ابتسمت ابتسامة لم أفهمها، نصفها حنان ونصفها سخرية.
قالت بصوتها الذي يقطع الضوضاء رغم صراخ المياه:
ــ "اسمع جيدًا يا بليك. هذا التدريب ليس قوة عضلية فقط، بل هو امتحان لإرادتك. الشلال هذا، إن دخلت تحته، لن يكون مجرد ماء… إنه ثقل الكون بأسره. سيسقط عليك كما يسقط الزمن على الإنسان. معظم من جربوه انهارت أجسادهم، بعضهم فقد الوعي، بعضهم هرب مذعورًا. أنت؟ عليك أن تبقى واقفًا. أن تثبت أنك صخرة لا يقتلعها شيء."
كلماتها انغرست في صدري مثل مسامير. أردت أن أجادلها، أن أخبرها أنني لم أعد بحاجة إلى اختبارات جديدة، أنني أثبت نفسي مئة مرة من قبل. لكن عينيها لم تمنحاني فرصة. كان فيهما يقين لا يقبل الرفض.
تنفست بعمق. شعرت بالبرد يملأ رئتي كأنه جليد. تقدمت خطوة نحو الشلال. الأرض مبللة، والأحجار زلقة، لكن أصابعي انغرست في الهواء كمن يهيئ نفسه للعاصفة. كلما اقتربت، ارتفع هدير الماء حتى صار كصفير داخل دماغي. لم أعد أسمع أفكاري، فقط ضوضاء متواصلة، وحش أبيض يسقط من السماء.
ثم رفعت يديّ إلى الأعلى، كما لو أنني سأستقبل السماء بذراعي.
خطوت الخطوة الأخيرة، ودخلت.
…
لم يكن ما توقعته. لم يكن ماءً يتساقط، بل سيوفًا حادة تنهال على جسدي بلا رحمة. في اللحظة الأولى ظننت أن عظام كتفي تحطمت، أن عمودي الفقري سُحق. ارتجفت ساقاي، كدت أن أنهار. تنفست… لكن الهواء لم يدخل رئتي. أحسست أنني أغرق واقفًا.
أغمضت عيني. حاولت أن أتذكر كلماتها: "سيسقط عليك كما يسقط الزمن." الزمن… نعم، هذا هو. كل ثانية من حياتي كانت تسقط الآن عليّ دفعة واحدة. موت جدي، خيانة سورا، صرخات نيمو الأخيرة… كلهم كانوا هنا، يُسقطون أثقالهم عليّ.
صرخت، ليس من الألم، بل من الرفض. رفضت أن أنحني. وضعت قدمي بقوة على الصخر، غرست أصابعي في الهواء وكأنني أقاتل وحشًا خفيًا.
الثواني تحولت إلى دقائق. والماء لا يتوقف. كل ضربة أقوى من السابقة، لكن شيئًا في داخلي بدأ يتغير. جسدي الذي كان يرتجف بدأ يثبت. الألم الذي كان يحرقني تحول إلى نار داخلية تدفعني إلى الأعلى بدل أن تسحقني.
فتحت عيني. رأيت من خلال الضباب وجه مونو، واقفة عند الحافة، تراقب. لم أستطع أن أقرأ مشاعرها، لكنني أدركت أنها تنتظر شيئًا محددًا: أن أتحرر من خوفي، أن أقبل الثقل بدل أن أرفضه.
عندها رفعت رأسي. لم أعد أنحني للماء، بل جعلته يتدفق عليّ وكأنه عباءة سماوية. فجأة، كأن صوته تغير: لم يعد هديرًا مزعجًا، بل موسيقى عميقة، طبول خفية تُعلن ولادة جديدة.
وقفت مستقيمًا.
ابتسمتُ رغم الألم.
لأول مرة، لم أشعر أن الشلال يسحقني… بل شعرت أنني أصبحت جزءًا منه.
لم يكن مرور الدقائق إلا اختبارًا لصبري، لكن تحت الشلال تفقد فكرة الزمن معناها.
كل لحظة بدت دهراً، وكل نفس كان معركة.
الماء يهوي على رأسي وجسدي بقوة ألف مطرقة، يطرقني بلا رحمة، يجلدني كما لو كنت صخرة عارية في مهب عاصفةٍ لا نهاية لها.
لكن، الأدهى من الألم الجسدي… كانت الذاكرة.
تحت هذا الضغط الهائل، عقلي لم يعد ملكي. الصور انطلقت كالسيل: وجه نيمو وهو يبتسم بآخر أنفاسه، ميساكي وهي تتلاشى في الهواء تاركة صدى وداعها، سورا وهو يضحك بخيانته، والدماء التي لم أغسلها بعد عن يدي.
كأن الشلال لم يكن ماءً، بل شاشة كونية تُعرض عليها كل لحظات ضعفي وخساراتي.
عينيّ مغلقتان، لكنني رأيت كل شيء.
ورأيت نفسي… صغيرًا، عاجزًا، منكسرًا.
كاد قلبي أن يعلن استسلامه. كدت أن أصرخ "يكفي!"
لكن في اللحظة التي انحنيت فيها قليلًا… سمعت صوتًا داخليًا، ليس صوت مونو هذه المرة، ولا صوت الماضي. كان صوتي أنا.
هامسًا في أذني:
ــ "إن ركعتَ الآن، ستظل عبدًا لذكرياتك إلى الأبد."
رفعت رأسي ببطء، شعرت وكأن ألف طن من الماء تحاول دفنه مجددًا. لكنني قاومت.
غرست قدميّ في الحجر كجذور شجرة قديمة، متجاهلًا انزلاق الصخر تحت جلدي.
فكرت: "إن كان هذا السيل هو الزمن، فسأقف حتى يعرف أنني لست ورقة طافية، بل جبل لن يتحرك."
شيئًا فشيئًا… تغير شعوري.
الألم لم يختفِ، لكنه تحول إلى إيقاع.
كل قطرة تسقط على جلدي لم تعد عدوًا، بل نبضة جديدة في جسدي.
وكل هدير في أذني لم يعد ضوضاء، بل موسيقى عميقة، طبول حرب تُشعل بداخلي إصرارًا لم أعرفه من قبل.
فتحت عيني فجأة.
لم يعد الضباب يحجب الرؤية. رأيت الشلال كما لم أره أول مرة: لم يعد جدارًا يهاجمني، بل جناحًا أبيض يحتويني.
وقفت مستقيمًا، ساعداي إلى جانبيّ، صدري منفتح نحو السماء، وابتسامة صامتة على وجهي.
كنت أتنفس ببطء، متوازنًا مع سقوط الماء. كل شهيق ينساب متناغمًا مع اندفاع الشلال، وكل زفير يذوب في ضجيجه.
لم أعد أنا وحدي تحت الشلال… صرت أنا والشلال شيئًا واحدًا.
مرت لحظات لا أعلم عددها.
ثم… فجأة، تراجعت قوة الماء في إحساسي، وكأنني تحولت إلى فراغ يسمح له بالمرور من خلالي دون أن يصيبني.
ذلك الثقل الجبار الذي كان يسحقني قبل قليل… صار مجرد مطر ناعم، لا يزيدني إلا انتعاشًا.
رفعت رأسي أكثر، وصرخت.
صرخة لم تكن ألمًا هذه المرة، بل ولادة.
صوتي ارتفع فوق هدير الشلال، ارتد صداه في الوادي كله، حتى العصافير المذعورة توقفت لحظة عن الطيران.
أدركت في تلك الصرخة أنني غلبت الشباب… غلبت نفسي.
لقد نجحت.
…
عندما خرجت من تحت الشلال، كان جسدي كقطعة حجر نُحتت من جديد، لكن روحي كانت أخف من الريح.
وقفتُ أمام مونو، مبتلًا من الرأس إلى القدمين، البخار يتصاعد من جلدي بفعل حرارة دمي.
نظرت إليّ طويلًا… لم تقل شيئًا.
لكن في عينيها، ولأول مرة منذ زمن، رأيت بريقًا من الدهشة.
دهشة صافية، كأنها لم تكن تتوقع أن أصل إلى هذه اللحظة.
ابتسمتُ، وقلت بصوت مبحوح، لكن مليء بالفخر:
ــ "هذا الشلال… لم يسحقني، يا مونو. بل أنا من سحقه."
خرجتُ من تحت الشلال أتنفس كما لو كنت قد ولدت من جديد، وقطرات الماء تنساب من شعري وملابسي لتترك أثرها على الأرضية الصخرية. وقفت أمام مونو، أحاول أن أخفي ارتجاف يديّ، لكن عينيّ فضحتا كل ما في داخلي من فخر.
رفعت حاجبها قليلًا، تلك الحركة النادرة التي لم أرها منها إلا مرات معدودة. نظرت إليّ مطولًا، وصوتها حين خرج بدا متوازنًا بين البرود المعتاد والدهشة الصادقة:
ــ "لم أتوقع… أن تُجيدها بهذه السرعة. عادةً، هذا التدريب يطحن التلاميذ لأيام، وربما أسابيع. أما أنت… فقد جعلت الماء ينحني لك في نصف يوم فقط."
تقدّمت نحوي، وضعت يدها على كتفي، باردة كعادتها، لكنها هذه المرة لم تُسحب سريعًا.
وأضافت بنبرة أخف، كأنها تكشف سرًّا:
ــ "هذا يعني أن لديك شيئًا يتجاوز القوة… لديك إرادة تصنع إيقاعها الخاص. وهذا ما يجعلني… مطمئنة لمستقبلك."
ابتسمتُ رغم تعبي، قلبي يخفق من وقع كلماتها أكثر مما خفق تحت ضربات الماء.
استدارت مونو بخطوات هادئة، ولوّحت بيدها باتجاه طريق ضيق يقود عبر الغابة.
ــ "انهض. لقد انتهينا من الشلال… والآن حان وقت التحدي التالي. هناك، خلف الوادي، بانتظارك تدريب سيُرغمك على مواجهة خوفك الحقيقي."
تقدمتُ خلفها بصمت، بينما داخلي يغلي بحماس لا يوصف.
قلتُ في نفسي، بصوت خافت يكاد يخرج من شفتي:
ــ "هيا إذن… إلى التدريب التالي."
وصلنا إلى ساحةٍ لم أرَ مثلها قط.
كانت الأرض متشققة، ينبعث منها وهجٌ أحمر كأنها جُرحت من أعماقها.
الهواء ثقيل برائحة الرماد، والسماء فوقنا تحولت إلى لوحة رمادية باهتة، يغطيها دخان متصاعد من حفر مشتعلة.
في منتصف المكان، دائرة واسعة تحيط بها ألسنة لهبٍ تتراقص مثل وحوش متعطشة.
لكن ما شدّ بصري حقًا… لم يكن النار.
بل كان صفّ الجذوع الخشبية الضخمة، عشرة منها، مكدّسة بعناية كأعمدة جبارة قُطعت من غابة عريقة.
جذوع سميكة، ثقيلة بما يكفي لسحق أي إنسان تحتها.
التفتُّ نحو مونو مذهولًا.
عيني لم تصدقا ما تراه.
قلبي رفض الفكرة حتى قبل أن تنطق.
لكنها نطقت.
وبصوتها الرزين، قالت ببرود وكأنها تعلن عن تمرين عادي:
ــ "اليوم… ستقف وسط النيران.
ستحمل هذه الجذوع العشرة على ظهرك.
ولن يُسمح لك بالسقوط… حتى يتوقف اللهب عن الرقص من تلقاء نفسه."
تراجعت خطوة بلا وعي، شعرت أن الأرض تهتز تحت قدمي.
ضحكتُ بسخرية مشوبة باليأس، كأنني أحاول أن أجد منفذًا للهرب عبر كلماتي:
ــ "أتمزحين معي؟! هذا مستحيل… مجرد الوقوف وسط النار جنون! فكيف أضع عشرة جذوع فوق ظهري؟! سيحترق جلدي قبل أن أرفع أول جذع!"
رفعت يديّ لأشير إلى الجذوع، إلى ألسنة النار، إلى المشهد الجحيمي أمامي، كأنني أحتاج دليلاً على أنني لست أهذي.
لكن مونو لم تُبدِ أي ردة فعل.
نظرت إليّ بثبات، بعينيها الباردتين، وكأنها ترى شيئًا خلف خوفي لا أراه أنا.
شعرت بالغضب يتصاعد داخلي.
كل جزء من عقلي كان يصرخ: "ارفض! هذه ليست قوة، هذه انتحار!"
صرخت بصوت مبحوح:
ــ "لن أفعل! أنا لست آلة! لست وحشًا تتحكمين فيه! هذه المرة… لن أضع نفسي في وسط الموت لمجرد أنكِ قلتِ ذلك!"
كانت يداي ترتجفان، لم أعرف هل من الغضب أم من الرعب.
أحسست أني على وشك أن أهرب، أن أستدير وأترك كل هذا التدريب خلفي.
لكن مونو… ابتسمت ابتسامة خفيفة، شبه خفية، كأنها كانت تنتظر هذا الانفجار منذ البداية.
اقتربت مني خطوة، والنار في الخلفية تعكس ظلها الطويل على الأرض المتشققة، حتى بدت ككائنٍ أسطوري خرج من الجحيم.
وقالت بهدوء، كأنها تسكب الجليد على نيران خوفي:
ــ "أخيرًا… ها أنت تُظهر خوفك بصراحة."
حدّقتُ في مونو بعينين يملؤهما الغضب والذهول.
النيران تتراقص خلفها، تلسع الهواء وتجعله كالسكاكين، والجذوع العملاقة تصطف صامتة كأنها تنتظر ضحية جديدة.
أنا، الضحية.
قلتُ بنبرة متمردة، تتخللها رجفة لم أستطع إخفاءها:
ــ "تريدين أن أُحرق نفسي؟ هذا تدريب أم إعدام علني؟"
لم تغضب. لم ترفع صوتها.
اكتفت بأن تُغلق عينيها لحظة، ثم فتحتهما ببطء، كأنها تمنحني وقتًا لأفرغ كل انفعالي.
ثم قالت بهدوء عميق، كأن كلماتها تخرج من مكان أبعد من صدرها:
ــ "النار… ليست عدوك يا بليك. النار انعكاسك.
إن استسلمت لفكرة أنها ستحرقك، ستحترق.
وإن آمنت أنك تستطيع تجاوزها… فلن تمسك بك إلا كالظل."
ابتسمتُ بمرارة، ساخراً من حكمتها الباردة:
ــ "هل تظنين أن مجرد التفكير الإيجابي سيجعلني محصنًا من اللهب؟ النار نار، مونو، ولن تتحول إلى نسيم بمجرد أن أغمض عيني وأتخيل غير ذلك."
تقدمت نحوي، بخطوة واحدة فقط، لكن وقعها في صدري كان أشبه بزلزال.
أشارت إلى الجذوع وقالت:
ــ "أما الجذوع… فهي ليست اختبار قوة.
إنها وزن الماضي، وزن الذكريات التي تحملها على ظهرك.
كل جذعٍ منها يمثل خيانة، خسارة، دمًا لم تجف آثاره من يديك.
لن تستطيع أن تلقيها أرضًا، لأن الماضي لا يُرمى.
لكن تستطيع أن تحملها، أن تجعلها جزءًا من قوتك."
ارتجف قلبي عند كلماتها. لم أقل شيئًا.
شعرت أنني عُرّيت فجأة أمامها.
كل الصور التي غزتني تحت الشلال، كل الأرواح التي فقدتها، كأنها تجسدت فعلًا في هذه الجذوع السوداء.
رفعت مونو يدها قليلًا، وأشارت إلى صدرها ثم إليّ:
ــ "الاحتراق يبدأ هنا. في الفكرة.
إذا سمحت للخوف أن يشتعل، سيتحول جسدك إلى رماد.
لكن إن أقنعت نفسك أنك أقوى من اللهب… ستكتشف أن النار ليست سوى امتحان لخيالك."
سكتت لحظة، ثم أضافت بصوتٍ أقل برودًا، فيه شيء لم أسمعه من قبل… احترام؟
ــ "لقد نجحت في ترويض الماء. أثبت لي أنك تستطيع أن تجعل النار تنحني لك أيضًا."
تجمدت مكاني، أنظر إليها.
لم أكن أريد الاعتراف، لكن كلماتها اخترقتني كالسيف.
هي لم تعد مجرد معلمة باردة.
في تلك اللحظة، شعرت أنها ترى ما لا أستطيع أنا أن أراه في نفسي.
خفضت رأسي قليلًا، هامسًا كأنني أكلّم نفسي أكثر مما أكلّمها:
ــ "إن لم أُصدّق… سأحترق. وإن صدّقت… سأخرج حيًا."
أومأت برأسها، وابتسمت ابتسامة خاطفة… قصيرة، لكنها حقيقية.
ــ "أخيرًا… بدأت تفهم."
اقتربت من الجذوع، كل واحدة ضخمة، خشبية، كأنها جذور جبلٍ قطعت من قلب الأرض.
جلست على الأرض لثوانٍ لأحسب قوتي، ثم دفعتها إلى ظهري.
الصمت كان يعلو، إلا من صرير الخشب تحت يديّ وصوت اللهب المتصاعد.
شعرت بثقلها يضغط على كتفيّ، على عمودي الفقري، كما لو أن كل جذعٍ يحمل تاريخًا من المعاناة التي لم أتعامل معها بعد.
مع الجذع الأول، اهتزت ساقاي، اهتزت ركبتي، وكاد جسدي أن يستسلم قبل أن أبدأ.
تذكرت كلمات مونو: "إذا سمحت للخوف أن يشتعل، سيتحول جسدك إلى رماد"…
مع كل جذع جديد أضفته، أصبح الثقل أقسى، ليس جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا.
كان كأن كل خطأ ارتكبته، كل ضعف شعرت به، كل فشل في الماضي، تم ضغطه في هذا الحمل.
تنفسي أصبح ثقيلًا، وضربات قلبي تتسارع، وعضلات ظهري تحترق من الجهد، وكأن النار ليست حولي فقط، بل في أعماقي.
حملت عشرة جذوع على ظهري.
كانت أشبه بمحور صغير للأرض على عمودي الفقري، كل خطوة تتطلب تركيزًا هائلًا لتوازن الوزن.
الجلد على كتفي بدأ يلتصق بالعرق، والحرارة من اللهب بدأت تتسلل، لكنني ذكرت نفسي: "لن أستسلم. النار ليست عدوك."
خطوت خطوة، ثم أخرى.
كل حركة كانت معركة بين الجسد والعقل، بين الألم والرغبة في الانتصار.
رأسي كان يصرخ من الجهد، ساقاي ترتعشان، لكن شيء داخلي كان يدفعني للأمام… إرادة لا تعرف الاستسلام، شعور بمونو التي تراقبني من بعيد، تثق أنني سأنجح.
بدأت أشعر بالدم يتدفق أسرع، كأنه يحاول نقل القوة لكل عضلة متعبة.
مع كل خطوة، كنت أتحرر من ثقل نفسي القديم، وأدرك أن الجذوع ليست مجرد خشب… بل رموز لكل شيء كان يثقل روحي.
تقدمت وسط النار، والحرارة اشتدت، لكنها لم تحرقني.
كان شعورًا غريبًا، مزيج بين الانتصار والخوف والدهشة: جسدي يصرخ، نفسي تتحداها النار، لكن داخلي… أنا أقوى.
عندما توقفت أخيرًا، بعد ما بدت ساعات من المشي، وضعت الجذوع أرضًا.
سقطت على ركبتيّ، ألهث، جسدي كله يرتجف، لكن شعور النصر كان يملأ قلبي.
النار كانت حولي، لكنها لم تلمسني.
لقد تحكمت في أفكاري… في خوفي… وفي إرادتي.
مونو اقتربت ببطء، نظرت إليّ بعينين تعجبهما الصراحة:
ــ "لم أكن أتوقع أن تنجح بهذه السرعة… لقد تجاوزت كل توقعاتي."
ابتسمت، لم أستطع منع شعور الفخر يغمرني، لم يكن مجرد تدريب جسدي…
لقد شعرت لأول مرة أن إرادتي أقوى من أي عائق، أقوى من أي نار.
ــ "حسنًا…" قالت، ووجهها يخفي ابتسامة صغيرة، "التدريب التالي ينتظرنا."
رفعت مونو نظرتها نحوي، والشرر يتراقص من حولنا كما لو أن النار نفسها تراقبنا.
ــ "بليك… التدريب التالي هو الأخير"، قالت بصوتها البارد والهادئ الذي يخفي دائمًا قوة لا يجرؤ أحد على تحديها.
شعرت بقلب ينبض بسرعة، وابتسامة خفيفة تشق وجهي رغم التعب.
أخيرًا… نهاية سلسلة هذه التدريبات، نهاية المرحلة الأولى. شعور الفخر امتزج بالحماس، وبدا لي أن كل قطرة عرق، كل خطوة مؤلمة، لم تذهب سدى.
ــ "انتبه جيدًا، بليك…" قالت مونو، بينما كانت الشمس تتسلل بين أعمدة الدخان واللهب، "أنت لم تصبح منيعًا من النار… لا أحد يمكن أن يصبح كذلك. ما فعلته هو أن جسدك وعقلك أصبحا قادرين على تحمل حرارة النار أكثر من قبل… لأنك تعلمت كيف تتحكم في نفسك، في خوفك، في أفكارك."
ابتلع الهواء في صدري، شعور بالدهشة والاعتراف بالمجهود الذي بذلته.
لم يكن مجرد جسد يتحمل الألم، بل عقل تاه بين الألم والخطر، وعاد أقوى وأكثر تركيزًا.
مونو وقفت أمامي، شعاع من الضوء الذهبي يلمع على حوافها، وعيونها لم تفارقني لحظة واحدة.
ــ "والآن… التدريب الأخير… سيكون قتالك ضدي."
سكتت لبرهة، كأن الوقت توقف للحظة، وشعرت بقلب ينبض بعنف.
قتالي معها؟!
هي، التي علمتني، التي أرشدتني، التي دفعت بي إلى أقصى حدود قوتي؟
لكن في أعماق قلبي، شعرت بشعور لا يمكن إنكاره…
حماسي، شعور بالتحدي، وإحساس بأنني أخيرًا مستعد، أنني لم أعد مجرد تلميذ يركض خلف معلم.
ابتسمت ببطء، حتى وأنا ألهث من المشي بين النار والجذوع،
ــ "حسنًا… التدريب الأخير… أنا جاهز."
نظرت مونو إليّ للحظة، كما لو كانت تتحقق من شيء، ثم أومأت برأسها بخفة.
ــ "إذاً لنبدأ."
… مع شعور بالرهبة والحماس،
النار لم تحرق جسدي، لكنها أوقدت شيئًا داخلي…
شيئًا يقول لي أن المعركة القادمة…
قد تكون الاختبار الحقيقي لقوتي وإرادتي…
الهواء حولنا كان مشحونًا بشعور لا يمكن تفسيره بالكلمات، كأن كل جزيء من الغابة كان متيقظًا، ينتظر اللحظة التي ستنفجر فيها قوة لا يمكن السيطرة عليها.
وقفت مونو أمامي، شعاع الضوء يلمع على ملامحها، وكأنها ليست مجرد إنسانة بل كيان يطفو فوق الواقع، أسرع من العين، أخطر من أي شيء واجهته من قبل. رفعت يديها بهدوء، وتلألأ حولها وهج فضي، كأنها تستدعي الريح نفسها لتكون سلاحها.
أمسكت بسيفي بقوة، كل عضلة في جسدي مشدودة، وكل نفس يعبر عن تركيز كامل. شعرت بالقدرة التي اكتسبتها خلال التدريبات… التحكم في إرادتي، تماهي عقلي مع جسدي، فهم الحركة والوقفة والاندفاع قبل أن تنفذ.
انطلقت مونو فجأة، سرعتها تفوق قدرة العين على تتبعها، طارت فوق الأرض كنسمة عاتية، وبدأت تدور حولي في دوائر سريعة، محاولة استكشاف نقاط ضعفي. كل حركة لها كانت مدروسة بدقة متناهية، كل خطوة تحمل قوة الرياح والضوء معا، وكأنها تراقص السحاب.
لكن هذه المرة، لم يكن الخوف رفيقي.
بل شعور بالسيطرة، شعور بأن كل جزء مني أصبح يقظًا، أن كل قطعة من روحي وجسدي تتفاعل مع تهديدها بدقة.
هجمّت عليّ مونو بسرعة البرق، لكنني استجبت بسرعة مذهلة، استخدمت السيف لصد هجماتها، كل ضربة كانت موجة صوتية داخل عقلي، كل حركة كانت تدرسني قوة الانضباط، قوة التركيز. شعرت بثقل السيف يتحول إلى امتداد لروحي، كأنه جزء مني، يقرأ الرياح والضوء والسرعة قبل أن تأتي.
مونو لم تتوقف، طيرانها جعلها غير متوقعة، تهبط فجأة على الأرض، ثم ترتفع في الهواء من جديد، كل هجوم منها اختبار لقدرتي على التكيف. لكن شيئًا غريبًا حدث… بدلاً من أن أرهب، شعرت بالإثارة، شعور بالتحدي ينبض في صدري، وكأن كل هجمة من مونو تكشف عن جانب جديد في قوتي لم أكن أعرفه من قبل.
كل حركة كانت درسًا:
سرعة مونو كانت تجعلني أركز على التقدير والتوقع.
هجماتها العنيفة أجبرتني على استخدام كل عضلة، كل نفس، كل تركيز.
وأنا أقاتل، بدأ شعوري بالخوف يتلاشى، واستبدله فهم عميق: أنا لست مجرد متدرب، أنا الآن من يقرأ الحركة قبل أن تحدث، من يتحكم بالضربة قبل أن تأتي.
صوت السيف وهو يقطع الهواء، تصادم ضربة بضربة مع طاقة مونو، كل ارتداد يرسل صدى داخلي، شعور بالقوة والحرية، شعور بأنني أعيش اللحظة بكل جوارحي.
أصبحت الحركة الآن سلسلة متصلة من الهجمات والدفاعات، عقل وجسد واحد، كل ضربة محسوبة، كل خطوة متوقعة. شعرت لأول مرة أنني أستطيع مواجهة مونو بلا خوف، بل بالاحترام والقوة، وأن هذا القتال ليس مجرد اختبار جسدي، بل اختبار لعقلي وروحي.
اشتدت المعركة، وكل ضربة من سيفي كانت مصحوبة بانفجار من الطاقة، أشعة الضوء تنكسر على شفرة السيف، ترسم خطوطًا متوهجة في الهواء. ركضت نحو مونو بهجوم مباشر، السيف يلمع كبرق في يدي، ضربتها على جسدها بسرعة فائقة.
لكني شعرت بالصدمة: ضربتي عبرت جسدها، لكنها لم تصبه بأي أذى، كأنها مجرد ظل يتحرك بلا وزن. اندهشت، لكن لم يكن هناك وقت للتردد.
مونو ابتسمت ابتسامة خفيفة، باردة، وهي تطلق مروحة اصطناعية من طاقتها، قوة غير مرئية تدور حولها بسرعة هائلة. في لحظة، اختفت فجأة أمامي، وكأنها دخلت
الهواء نفسه، ثم شعرت بلمسة غريبة داخل صدري، شعور بوجودها داخل جسدي.
صرخت من المفاجأة، حاولت سحب نفسي، لكن قبل أن أفهم ما يحدث، خرجت مونو من ظهري بسرعة مذهلة، تدور في الهواء وكأنها جزء من الريح نفسها، تاركة وراءها أثرًا من الطاقة يلمع في الفراغ.
توقف قلبي لثوانٍ، شعور بالدوار والغضب يختلط بالإعجاب: لقد تمكنت من تجاوز حدود الفهم البشري. كل حركة لها كانت درسًا جديدًا، كل اختفاء وظهور يجعلني أضطر لإعادة تقييم هجماتي.لكن شيئًا غريبًا حدث داخلي: بدلاً من الخوف، شعرت بقوة التركيز والوعي الكامل. كل شعور بالخطر تحول إلى فهم، كل خيبة بسبب عدم قدرتي على إيذائها أصبحت دافعًا لإتقان حركتي القادمة.
تقدمت مجددًا، السيف مشع بالطاقة، أطبق على قبضتي، أستعد للهجوم التالي. هذه المرة، لم أهاجم بقوة فقط، بل حاولت قراءة تحركاتها بدقة، توقع مكان خروجها قبل أن تحدث الحركة نفسها.
كل هجمة من مونو كانت اختبارًا لقدرتي على التكيف والسيطرة على الخوف، وكل ضربة من سيفي كانت محاولة لإحباط سرعتها الخارقة، حتى لو لم تصبها فعليًا. شعرت لأول مرة أنني أصبح مقاتلًا حقيقيًا، العقل والجسد كيان واحد، وأن هذه المعركة ليست مجرد تدريب، بل رحلة لاكتشاف قوتي الداخلية وحدودها الحقيقية.
انطلقت مونو مرة أخرى، اختفت فجأة في الهواء كنسمة شديدة السرعة، وأنا أتابعها بعيني المفتوحتين على وسعهما، قلبي يدق بعنف، وكل عضلة في جسدي مشدودة استعدادًا للحركة التالية. فجأة، وجدت نفسي أرتطم بقوة في الهواء وأسقط في البحيرة الباردة، مياهها الداكنة تلتف حولي، تصطدم بكل جزء من جسدي.
في البداية شعرت بالدهشة، ثم بدأت أعاني من ضغط الماء، كل تنفس كان صعبًا، وكل محاولة للحركة كانت تقابل مقاومة عنيفة. وفجأة، شعرت بـ ألم غريب، كالقبضة الذهبية التي تشدني من كل جهة. رفعت عينيّ لأرى مونو: من يديها خرجت سلاسل ذهبية متوهجة، ممتدة كأذرع حية، تحاول أغراقي، كل واحدة تتلوى في الماء كأنها تملك حياة خاصة، كل حبل منها يشدني بقوة رهيبة نحو الأعماق.
لكني تذكرت التدريب: السقوط تحت الشلال، النار، الجذوع الثقيلة، تحمل الغرق، والتحمل الذهني. أخذت نفسًا عميقًا، وركزت كل وعيي على شعور المياه بدلاً من مقاومته، على أنني قادر على التنفس والتحرك داخل القيود. بدأت أحرك ساقي وذراعي برفق، أتحرك مع تيار الماء بدلًا من الصراع ضدهم. كل سلسلة تحاول ثني حركتي كانت مجرد تحدٍ يختبر إرادتي وصمودي.
في عمق نفسي، شعرت بمزيج من الخوف والغضب والإعجاب. الخوف من فقدان السيطرة، الغضب من التحدي الموجه لي، والإعجاب بقدرتها الفائقة على الاختبار والمعرفة بكل نقاط ضعفي. لكن شيئًا ما بداخلي تغير بشكل غير مسبوق: لم أعد مجرد مقاتل يحاول النجاة، بل صار جسدي وعقلي كيانًا واحدًا، يتحرك بانسيابية مع كل تهديد، يقرأ كل تحرك قبل أن يحدث.
بدأت أرفع السلاسل ببطء، كل حركة كانت تحتاج تركيزًا هائلًا، كل مجهود جسدي يتحرك بتناغم مع وعيي الذهني. شعرت بثقل الماء على صدري، لكنني لم أستسلم، شعرت بـ روح التدريب منذ الشلال، النار والجذوع، كل لحظة صبر أصبحت جزءًا مني.
وفجأة، شعرت بالانطلاق: تدفق قوة داخلية، طاقة حقيقية كانت مخبأة طوال الوقت، تسمح لي بتجاوز القيود الذهبية والمياه المظلمة. دفعت نفسي للأعلى، انطلقت عبر سطح البحيرة، والسلاسل تنكسر تدريجيًا عند ملامستها لسطح الماء، كما لو أن إرادتي الحقيقية كانت أقوى من أي سحر.
خرجت من الماء، تنفسي لا يزال متسارعًا، جسدي منهك، لكن داخلي يحتفل بنصر صامت. التفت لأرى مونو، تقف على ضفة البحيرة، عيناها تتأملانني، الابتسامة الباردة تتحول قليلًا إلى دهشة خفية وإعجاب صامت.
"لم أكن أتوقع أن تتمكن من النجاة بهذه السرعة…"، قالت بصوت هادئ لكنه يحمل تقديرًا نادرًا، "لقد أصبح تحملك الغرق حقيقيًا، ولكن لا تظن أنك أصبحت منيعًا ضد كل شيء… هذا التدريب يعلمك أن القوة ليست في القدرة على المقاومة فقط، بل في التحكم في نفسك وعقلك تحت الضغط."
ابتسمت وأنا أتنفس بعمق، كل تعب جسدي اختلط بشعور بالتمكين الداخلي والثقة المطلقة. أدركت أن كل خطوة تدريبية، كل سقوط، كل شعور بالخوف كان جزءًا من هذا التطور النفسي والجسدي، وأنني أصبح مستعدًا للمرحلة الأخيرة.
مونو أشارت إلى السماء، وقالت بصوتها المعتاد البارد: "الآن، التدريب الأخير. مواجهة حقيقة، مواجهة قدراتك بالكامل. هذا القتال… سيكون ضدِّي."
تقدمت خطوة واحدة نحوها، السيف مشع بطاقة غريبة، قلبي ينبض بالحماس، روحي مشتعلة بإرادة الصمود، وعقلي صار مركزًا بالكامل على التحدي القادم.
كانت المياه تتلألأ خلفي، السلاسل الذهبية مجرد أثر لتذكير بأنني اجتزت المحن، لكن التدريب الحقيقي كان سيبدأ الآن: مواجهة مونو، مواجهة أقصى حدود قوتي، ومواجهة نفسي الحقيقية.
وقفت مونو أمامي، عيناها الباردتان تلمعان تحت أشعة الشمس الخافتة، وأصابعها تومض بحركة دقيقة، وكأنها ترسم دائرة في الهواء. وفجأة، انطلقت من يديها كرات ذهبية صغيرة، متوهجة ومتفجرة، ترتفع في الهواء مثل شموس صغيرة، ثم تهبط بسرعة باتجاهي. كل كرة كانت تحمل حرارة وطاقة لا يمكن تصورها، وكأنها تنبض بالغضب والاختبار لكل ثانية من وجودي.
في اللحظة الأولى، شعرت بالقلب يتوقف، جسدي يتوتر بالكامل، وصدري يضرب بشدة. الكرات تتجه نحوي بسرعة مذهلة، تحبس الأنفاس، كل واحدة كأنها تهدد بتفجير كل شيء حولها. لكن شيئًا بداخلي تذكر كل التدريب الذي خضته: الشلال، النار، الجذوع، الغرق. أخذت نفسًا عميقًا، وركزت على إيقاع تنفس الماء والبرق الذي تعلمته سابقًا، وبدأت أعالج كل تهديد كجزء من التحرك الطبيعي، لا كخطر مميت.
أمسكت بسيفي، شعاعه يلمع كما لو أنه امتداد لروحي، وتركت شعور الخوف يتبدد، وركزت على الحركة: كل كرة تصلني، كنت أستشعر اهتزازها في الهواء، أقرأ مسارها، وأقطعها بضربة واحدة دقيقة وسريعة. كل ضربة كانت كقصيدة: السرعة، القوة، الدقة، كلها في تناغم مثالي.
الكرات الذهبية انفجرت عند ملامستها للسيف، شرارات تتطاير في كل اتجاه، موجات الطاقة تصدح حولي، لكنني لم أشعر بأي ضرر. شعرت بالانتصار الداخلي، ليس فقط لقدرتي على صد الهجوم، بل لتحكمي التام في جسدي، عقلي، وسيفي في نفس اللحظة.
مونو لم تتوقف، لكنها زادت من سرعة الكرات، ألوانها أصبحت أكثر توهجًا، وانفجاراتها بدأت تخلق دوامات هوائية تحاول دفعني بعيدًا. كانت تدخل في تكتيك متطور: الكرات لا تهدف فقط للضرب، بل لمحاولة إرباك حواسي وفرض ضغط نفسي، كما لو أنها تقول: "هل تستطيع التحمل أكثر؟".
ابتسمت قليلًا، لأنني شعرت بأن كل تدريب سابق كان مجرد تمهيد لهذا اللحظة. بدأت أتحرك بشكل أكثر انسيابية، أقرأ كل مسار، أستخدم السيف لإعادة توجيه انفجارات الكرات بعيدًا عني، أقطع كل كرة في منتصف الهواء قبل أن تصل. شعرت بثقل المسئولية يتلاشى، واستبدلته بالثقة المطلقة: الثقة بأن جسدي وعقلي أصبحا كيانًا واحدًا قادرًا على التكيف مع أي تهديد.
الانفجارات الذهبية تحيط بي من كل جانب، والدخان الذهبي يملأ الجو، لكنني لم أتوقف، بل أصبحت كل ضربة مزيجًا من القوة والرشاقة والفهم العميق للطاقة التي حولي. وكل ضربة كانت تزيد من إعجابي بتدريب مونو، وأدركت أن هذا هو معنى القوة الحقيقية: ليس مجرد القوة الجسدية، بل الانسجام التام مع العقل، الروح، وكل ما تعلمته في التدريبات السابقة.
بعد لحظات، توقفت الكرات، ووقفت أمامي مونو، عيناها متسعتان قليلًا، وابتسامة خفيفة على وجهها البارد:
"لم أتوقع أن تتمكن من التحكم بهذه السرعة… لقد تجاوزت مرحلة التحمل، والآن بدأت تفهم معنى استخدام القوة بعقل وروح واحد."
تنفست بعمق، جسدي لا يزال يهتز من شدة التركيز والطاقة، لكن داخلي كان مليئًا بالفخر والثقة المطلقة. أدركت في تلك اللحظة أنني لم أعد مجرد متدرب، بل أصبحت خصمًا يملك القدرة على مواجهة أي تحدي، حتى مواجهة مونو نفسها.
مونو نظرت إليّ، وقالت بصوتها المعتاد البارد، لكنها تحمل شيئًا من الاحترام:
"الآن، بليك… التدريب التالي هو مواجهة كاملة، كل شيء بيننا سيكون اختبارًا لقدرتك على التحكم، على القوة، وعلى روحك."
ابتسمت وأنا أرفع سيفي، الشعور بالفخر والإرادة يملأ صدري، مستعدًا للتحدي النهائي، حيث كل شيء سيُختبر، وكل مهاراتي ستصل إلى أقصاها.
وقفت مونو أمامي، غامضة كالظل والرياح معًا، تنتظر اللحظة التي سأبدأ فيها. شعرت بأن الهواء من حولي أصبح أسمك، كل جزيء فيه يتحرك مع نبضات قلبي، ومع كل ثانية يزداد التوتر، لكن شيئًا بداخلي تذكر الشلال، النار، الجذوع، الغرق، كرات مونو الذهبية… كل تدريب سابق كان جزءًا من هذه اللحظة، وكنت مستعدًا.
أمسكت بسيفي، وأغمضت عيني للحظة قصيرة، ثم بدأت أتحرك وفق تنفس الصوت. الهواء حولي اهتز، وكأن الغابة نفسها تنطق كل حركة معي. استخدمت كل هيئة من هيئات تنفس الصوت، واحدة تلو الأخرى، لتصبح ضرباتي سلسلة لا تتوقف:
1. هيئة الطائر المنحدر: انطلقت بسرعة فائقة، سيفي كرمح من الضوء، متجاوزًا أي تهديد مادي. كل خطوة كانت محسوبة، وكل ضربة تنقل ذروة الطاقة من جسدي إلى السيف. شعرت بالانسياب بين الرياح، كأنني أصبح جزءًا منها.
2. هيئة البحر الهادر: أدرت جسدي في حركة دوامية، لأفادي هجوم مونو، وأعيد الهجوم بسيفي في موجات متناغمة. كل ضربة كانت تصدر صدى قويًا في المكان، كأن الأرض نفسها تتردد مع كل حركة.
3. هيئة الرعد الخافت: ركزت الطاقة في ساقي، واندفعت للأمام بضربة قوية، أتبعتها بسلسلة ضربات متتالية، أراقب سرعة مونو في الهواء، متوقعًا كل تحرك، متزامنًا معها في الرشاقة والدقة.
4. هيئة النسيم المتقاطع: استخدمت حركتي للتهرب والدخول في المساحات الضيقة، أقطع أي هجوم موجه نحوي، وأخلق مساحة جديدة للهجوم المضاد، كأنني أتنفس عبر كل فجوة هوائية حولي.
5. هيئة الصوت الأخير: في ذروة كل الطاقة، ركزت كل ما تعلمته، كل تدريب سابق، كل لحظة صبر ومثابرة، في ضربة واحدة متفجرة، سيفي يشع ضوءًا أبيض نقيًا، والهواء يهتز حولي بأكمله. شعرت بأن كل حواسي أصبحت واحدة، كل حركة صارت معبرة عن نفسي بالكامل، كل نبضة قلب تُترجم في قوة السيف.
مونو تراجعت قليلًا، مفاجأة في عينيها، لكنها لم تتوقف. بدأت تستخدم سرعتها المذهلة، طيرانها الحر، وتلك القدرة الغريبة على الدخول والخروج من أي مكان، محاولًة التشويش عليّ، لكنني كنت مستعدًا. تنفس الصوت لم يكن مجرد تقنية، بل أصبح عقلي، جسدي، وروحي واحدًا، أرى كل هجوم قبل حدوثه، وأتفاعل معه كما لو كان جزءًا مني.
الضربات كانت تتصادم، الانفجارات الهوائية تتردد في المكان، كل موجة من تنفس الصوت كانت تصنع موسيقى غريبة، إيقاعها ينبض مع قلبي، ومع كل ضربة أشعر بالقوة الداخلية تتضاعف. لم يعد القتال مجرد مواجهة، بل تجربة تجسد كل ما تعلمته، كل ما تحملته، كل ما صبرت عليه.
وفي لحظة واحدة، جمعت كل الهيئات، كل الخبرات، وكل التركيز، وأطلقت هجمة مركبة، موجة صوتية تجتاح المكان بالكامل، تهتز فيها الأرض، ويصدح الهواء بصوت عميق ومرعب. مونو ابتعدت، لكن عيناها تحملان الاحترام، إدراكًا بأنها وجدت خصمًا قادرًا على التكيف مع كل قوة، ومواجهة كل تحدٍ.
وقفت أنا، سيفي مشع، جسدي يهتز من شدة التركيز، لكن داخلي مليء بالفخر. شعرت لأول مرة أن تنفس الصوت لم يعد مجرد تقنية، بل أصبح جزءًا مني، وسلاحًا، ودروس الحياة التي مررت بها كلها أصبحت حاضرًا في هذه اللحظة.
مونو تنهدت، وقالت بصوت هادئ، تحويه الدهشة قليلًا:
"لم أتوقع أن تتمكن من استخدام كل الهيئات بهذه الدقة والقوة… لقد أصبحت أقوى مما توقعت… وأقرب لأن تكون مقاتلًا حقيقيًا."
ابتسمت، وأنا أرى المكان حولنا، الدخان يتلاشى، الرياح تهدأ، والماء يلمع تحت الشمس الخافتة. القتال انتهى، لكن التدريب لم ينتهِ بعد… الرحلة الحقيقية لتعلم السيطرة على كل قوة داخلنا بدأت الآن بالفعل.
بعد أن هدأت الرياح، وتنفس المكان الصافي حولنا، شعرت بشيء جديد ينبعث بداخلي. القتال ضد مونو باستخدام تنفس الصوت أزال القيود عني، وكأن كل عضلة وكل خلية في جسدي تدرك الآن معنى القوة والسيطرة. لم يكن مجرد تدريب جسدي بعد الآن، بل إدراك كامل لتدفق الطاقة داخلي.
نظرت إلى مونو، وكانت عيناها تشع بالإعجاب، لكنها لم تتراجع، وكأنها تنتظر اللحظة التي سأنتقل فيها للخطوة التالية. شعرت بشيء يشبه نداء الماء، الهدوء والقدرة على الانسياب بين كل شيء، كأنني أندمج مع النهر نفسه.
أمسكت بسيفي مجددًا، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم بدأت تنفس الماء، وأول شيء لاحظته هو شعور جسدي المذهل:
كل حركة أصبحت أخف، أسرع، وأكثر مرونة.
كل ضربة تحمل معها قوة دفع هائلة، تنساب كما لو أنني أقطع الماء نفسه.
القدرة على التحمل، التي اكتسبتها من حمل الجذوع، من النار، ومن الغرق، أصبحت الآن سلاحًا داخليًا لا يُقهر.
بدأت أولى الحركات:
1. قطع سطح الماء: ضربة واحدة سريعة، مباشرة، لكنها قوية بما يكفي لتحريك الهواء حولي، وخلق موجة تدفع مونو للوراء.
2. عجلة الماء: أدرت جسدي بالكامل، ضاربًا بطريقة دائرية متقنة، أستغل كل قوة جسدي في دائرة واحدة. شعرت بالقوة الهائلة تتدفق من ساقي إلى ذراعي، ثم إلى السيف، كما لو أن كل العضلات أصبحت آلة متناغمة.
3. رقصة التدفق المتحرك: بدأت بالتحرك بانسيابية حول مونو، أتفادى هجماتها الجوية، وأردها مرة أخرى بسلسلة من الضربات الدقيقة التي تصيب كل هدف، دون عناء.
كل حركة كانت تعبيرًا عن صمتي الداخلي وقوتي المكتسبة. شعرت لأول مرة أني لم أعد أقاتل فقط بالسيف أو بالقوة الجسدية، بل باستخدام كل تجربة حياتية، كل تدريب مررت به، كل لحظة من الإرادة الصلبة.
مونو، رغم سرعتها وقدرتها على الطيران والدخول والخروج من الأشياء، بدأت تتراجع قليلًا، وقد بدا على وجهها دهشة حقيقية لم أرها من قبل. حاولت مهاجمتي بكرات ذهبية متفجرة، لكنها لم تعد فعالة ضدي، فأنا أمزج الآن بين قدرة التحمل الهائلة وتقنيات تنفس الماء، وأقطع كل تهديد بسيفي بدقة خارقة.
مع كل ضربة، شعرت أن جسدي أصبح أخف، وطاقتي أكبر، وأن القدرة على التحرك والانسياب مع الهجمات أصبحت طبيعة ثانية. كل حركة ليست مجرد هجوم، بل موسيقى متناغمة بين العقل والجسد، بين الماء والسيف، بين إرادتي وقدرتي على التحمل.
وفي لحظة واحدة، جمعت كل تقنيات تنفس الماء العشر، مع قوة جسدي المكتسبة، وأطلقت هجومًا مركبًا هائلًا، موجة من الماء والضوء تتحرك بسرعة الصاعقة، تصطدم بمونو، وتفرض سيطرة لم أشعر بها من قبل. لم يكن القتال مجرد اختبار قوة، بل تجسيدًا لكل تدريب مضى، وكل صبر، وكل إرادة صلبة.
مونو توقفت أخيرًا، ابتسمت ابتسامة خفيفة، وقالت:
"أخيرًا… لقد أصبحت قادرًا على التحكم ليس فقط بالقوة، بل بالعقل، والروح، والجسد… لقد تجاوزت كل حدودك السابقة."
ابتسمت أنا، وأحسست بحرارة النجاح، شعور لم أختبره من قبل، شعور التحرر، القوة، والسيطرة الكاملة على كل شيء حولي. هذه اللحظة لم تكن مجرد تدريب، بل كانت ولادة بليك جديد، مقاتل قادر على مواجهة أي تحدٍ، مهما كانت قوته أو غرابته.
بعد ساعات من القتال ضد مونو، والتنقل بين تقنيات تنفس الصوت وتنفس الماء، شعرت كل خلية في جسدي تتعب، لكن الإرادة بداخلي لم تهتز. كان الجسد يصرخ من الألم، والعضلات ترتجف من التعب، ولكن داخلي شعور جديد يدفن كل شك: القوة الحقيقية تكمن في الصبر، الإرادة، والتحمل لا في القوة الجسدية وحدها.
وصلنا إلى التدريب الأخير الذي اختبر تحملي للنيران. شعلة هائلة مشتعلة من حولي، حرارة تكاد تحرق كل شيء، والدخان يملأ الجو، يلتهم الهواء ويجعل التنفس صعبًا. على ظهري، لا تزال جذوع الأشجار العشر الضخمة المثقلة بيدي، كل واحدة منها ثقيلة كأنها جبل صغير، تتحرك مع كل خطوة، وتضغط على جسدي بكل قوتها.
بدأت المشي عبر النار، الإرهاق يتسلل إليّ كالثلج المتدفق البطيء، حارقًا، مخدرًا، ثقيلًا على كل عظم وعضلة. كل خطوة كانت معركة، كل نفس شاقًا، وكل حركة تتطلب تركيزًا عميقًا لأتجنب الاحتراق.
تذكرت كلمات مونو:
"لن تحترق إذا استطعت التحكم بأفكارك، إذا صدقت أن بإمكانك التحمل"
فركزت، أغلقت عيني، واستدعيت كل تدريب سابق، كل تقنية تعلمتها، كل تجربة مررت بها. بدأت أرى النار ليست عائقًا، بل موجة يمكن أن أندمج معها، جزء من جسدي وروحي. مع كل خطوة، كانت جذوع الأشجار تضغط أكثر، لكن جسدي أصبح أقوى، نفسي أصبح أكثر صلابة، وقلبي يصرخ: أنا لن أنكسر.
العرق يسكب من جبيني، ملابس جسدي محترقة جزئيًا، أصوات الانفجارات الصغيرة من الحرائق تحيط بي، وكل شعور بالألم يصبح قوة إضافية، دفعة لتحريك جذوع الأشجار خطوة أخرى. كنت أشعر بأن الأرض نفسها تتحدىني، وأن النار تحاول ابتلاع جسدي، لكني واصلت السير، خطوة بخطوة، تنفسًا بعد تنفس، مع كل نبضة قلب أشعر بأن قوتي تتضاعف.
عندما وصلت إلى منتصف الطريق، ساقاي بدأت تخذلانني، الذراعان ترتجفان تحت ثقل الجذوع، لكن عيني ظلت مركزة، عقلي صافٍ، كل شيء من حولي يختفي سوى التحدي، النار، والجذوع، وروحي التي تصر على النهوض.
وأخيرًا، بعد خطوة أخيرة، سقطت على الأرض، ساقاي لم تعد قادرة على حمل جسدي، ظهري متعب حتى لا أشعر بثقل الجذوع، والتنفس يأتي بصعوبة، لكن داخل قلبي شعور بالانتصار الذي لا يمكن لأي ألم أن يطمسه.
مونو وقفت أمامي، شعلة الضوء من حولها تتلألأ كالذهب، عيناها مليئتان بالإعجاب:
"ها هو بليك… لقد صمدت أمام كل شيء، النار، التعب، والثقل… أنت الآن لم تصبح منيعًا فقط، بل أصبحت روحًا لا تنكسر"
ابتسمت ابتسامة خافتة، عرفت أن كل تعب، كل سقوط، كل لحظة ألم كانت جزءًا من ولادة قوة جديدة، قوة يمكنها مواجهة أي تحدٍ في المستقبل.
فوق الأرض المتفحمة والدخان المتصاعد، شعرت أنن
ي لم أعد مجرد متدرب، بل مقاتل كامل، قادر على مواجهة النار، الماء، الهواء، وكل تحدٍ يفرضه العالم عليّ.
ومونو قالت بصوت هادئ، لكنه مليء بالقوة:
"التدريب انتهى… والاستعداد الحقيقي لمغامرتك القادمة يبدأ الآن"
كنت أعلم، بينما كنت مستلقيًا على الأرض، أن هذا ليس النهاية، بل البداية الحقيقية… بداية بليك الذي أصبح لا يُقهر في إرادته وروحه وقوته.
كنت مستلقيًا على الأرض، جسدي يئن من التعب، النار قد اختفت تدريجيًا، وكل شيء بدا ساكنًا، حتى الرياح توقفت عن التحرك حولي. مونو وقفت أمامي، نظرتها برودة مطلقة، كما لو كانت تقول بصمت: "هذا كل ما لديك؟"، وكنت أظن نفسي قد خسرت كل شيء.
لكن فجأة، شعرت بالدفعة المألوفة، الغريبة، التي منحني إياها ماكومو سابقًا. تلك العلامة الحمراء على جبهتي، ندبة السهلة، بدأت تتوهج بحرارة هائلة، تمددت كأنها شعلة داخل جسدي، وأحسست بطاقة لم أشعر بها منذ بداية التدريب. كانت تكبر، تتسرب عبر عروقي، كل نبضة فيها تضاعف قوتي وتغذي روحي، وكأن ماكومو تمنحني جزءًا من إرادتها، جزءًا من قوتها التي لا تموت.
نهضت فجأة، بدون ألم، بدون تردد، وكأن جسدي لم يعد ملكي، بل صار آلة إرادة خالصة. مونو رفعت حاجبها بدهشة، لم تكن تتوقع أن أستطيع النهوض بعد كل ما حدث. نظرتها لم تعد برودة فقط، بل خلطت الدهشة بالحذر الحقيقي.
سحبت سيفي بيد ثابتة رغم التعب، وبدأت أهاجمها بكل ما لدي، كل ضربة كانت امتدادًا لكل تدريب، لكل سقوط، لكل ألم، لكل خطوة عبر النار. كنت أتحرك بسرعة الصاعقة، لا شيء في جسدي قادر على التوقف، كل تنفس أصبح قوة محركة، كل حركة سيف تصبح موجة تهزم المقاومة.
مونو لم تقف مكتوفة اليدين، فتحت تنفس الشمس، أخطر وأقوى تقنية، حرارتها أشبه بالشمس نفسها، تهدد جسدي، تسبب تدميرًا داخليًا لأي شخص لا يمتلك تحكمًا مطلقًا. شعرت بالحرارة تعصف بي، عظامي تتألم، لحم جسدي يصرخ، لكن الهدية الحمراء كانت تحميني، تزيد من تحملي، تدفعني لتجاوز حدود جسدي البشري.
بدأت الطيران في الهواء، كل حركة كانت سريعة كالبرق، جسدي يحلق بين ألسنة النار والأشعة الذهبية لتقنية الشمس. مونو تدخلت، اختفت داخل الأشياء، ظهرت خلفي، دخلت من جسدي كإختبار لقدرتي، لكنني تحكمت في كل شيء، كل حركة كانت محسوبة، كل ضربة من سيفي كانت قوية لدرجة أن الريح من حولنا ارتجفت معها.
قوتي الجديدة، دمج تنفس الصوت وتنفس الماء مع قدرة التحمل الهائلة للنيران، جعلتني أضرب، أدور، أهاجم، وأتجنب في نفس الوقت أخطر هجوم في الكون، تنفس الشمس من مونو. شعرت بكل إصابة محتملة، كل اهتزاز، كل شظية نار، وكل تدفق طاقة. جسدي يكاد يتفجر، لكن روحي بقيت ثابتة، صلبة، مستعدة لعدم الاستسلام مهما حدث.
مونو كانت مذهولة، لم تصدق أنني استطعت الصمود أمام تنفسها، وأنني أستطيع المضي في الهجوم دون أن أُصاب بالشلل أو الانهيار. كل نظرة منها كانت احترامًا مبطنًا، تحذيرًا من قوة لم تتوقعها أبدًا.
وفي لحظة ذروة، ضربة تلو الأخرى، تحركت كأنني موجة من الطاقة الصافية، كل سيفي أصبح امتدادًا للروح، كل هجوم كان رسالة لكل ما مررت به، لكل ما تعلمته، لكل من آمن بي. مونو حاولت الرد، كل تقنياتها، كل سرعتها، كل قوتها، لكنها لم تعد قادرة على التصدي لي كما في البداية.
كنت أعلم أن جسدي لا يتحمل الكثير، عظامي كانت تتألم بشدة، لكن الندبة الحمراء على جبهتي كانت تدفعني للأمام، تعلمني أن الإرادة يمكن أن تتجاوز الألم، وأن القوة الحقيقية تبدأ حيث ينتهي التحمل البشري.
في تلك اللحظة، وسط النار، الرياح، والطاقة الذهبية المتفجرة، شعرت بأنني لم أعد بليك القديم، بل أصبحت كائنًا جديدًا، مزيجًا من إرادة ماكومو، تدريب مونو، وقدرتي على التحكم بجسدي وعقلي معًا.
هنا، وسط الفوضى الذهبية للنيران والرياح المتطايرة، شعرت بتراجع مفاجئ في قوتي. جسدي المرهق لم يعد يستجيب كما يجب، كل تنفس أصبح أثقل، كل ضربة تتطلب جهداً مضاعفاً. مونو وقفت أمامي بثبات، عينيها تلمعان بالاحترام، لكنها كانت أكثر قوة من أن أواجهها الآن.
انتهى الهجوم الأخير، وسقطت على ركبتي، عرق يتصبب من جبيني، جسدي يئن من كل حركة، وكنت أعلم أنني قد أخطأت بمحاولة مجابهة قوتها القصوى. مونو لم تهاجمني بعد، لكنها اقتربت ببطء، وكأنها تراقب نبضات قلبي وتتحسس كل طاقة متبقية بداخلي.
"بليك…" قالت بصوت هادئ لكنه حازم، "لقد فعلت أفضل ما تستطيع، لكن لا تنسى… تنفس الشمس ليس لأي شخص. هذه القوة محصورة لعائلة واحدة منذ قرون، وكل من حاول استخدامها دون أن يكون منهم، قد يدمر جسده بالكامل".
شعرت بوخز في داخلي، أدركت أن محاولتي لم تكن مجرد اختبار قوة، بل درس في الاحترام والحدود الطبيعية للطاقة. مونو لم تتوقف عند هذا الحد، بدأت تمرير يديها فوق جسدي، موجهة سحرها للشفاء. شعرت بحرارة خفية تتغلغل في عظامي، عضلاتي، حتى روحي. كل ألم، كل كسر داخلي، كل إحساس بالاحتراق بدأ يخف، وكأن جسدي يُعاد تشكيله من جديد.
"انظر إليك الآن…" قالت مونو، وهي تبتسم قليلاً لأول مرة، "لقد تحملت كل شيء، وتعلمت كيف تدفع جسدك وروحك إلى أقصى حد، ولكن أيضًا تعلمت الحدود. أنت لم تصبح منيعًا بعد، لكنك أصبحت قادرًا على التحكم والتكيف مع الألم والقوة. هذه المرحلة، بليك، انتهت."
أخذت نفسًا عميقًا، شعرت بالقوة تتجمع داخلي، لكن ليس كما قبل، بل قوة واعية، مدركة، ناضجة. مونو توقفت عن الشفاء، نظرت إليّ بعينيها الثاقبتين وقالت:
"المرحلة القادمة لن تكون مجرد استخدام السيف أو التنفس… الآن ستتعلم السحر. ستكون قادرًا على دمج كل ما تعلمته مع الطاقة الروحية لإطلاق قوة لم تعرفها من قبل."
ابتسمت ابتسامة صغيرة، شعرت بالحماس والرهبة في آن واحد. كل التدريب، كل سقوط، كل ألم، كان يهدف إلى هذه اللحظة. لم يعد الأمر مجرد قوة جسدية أو إرادة خالصة، بل الفهم العميق للطاقة، للعالم، ولقدرتك على التحمل والتكيف.
مونو نظرت حولها، كأنها تقول: "استعد… لأن ما سيأتي، لن يكون مجرد تدريب. ستكون مغامرتك الحقيقية قد بدأت للتو."