في قلب وادي محاط بجبال تشتعل أشعتها عند الغروب، وقف ولد وحيدًا، شعره يرفرف مع الرياح التي تتحرك بقوة غير عادية. كان قادرًا على تحريك الهواء كما لو أنه امتداد لروحه، قوة خفية تولد مع كل نفس يقطعه، بينما تتلألأ أشعة الشمس على قمم الجبال وكأنها تحاول حرقه.

عائلته، ورثة النار، جاءوا من بعيد، وجوههم مغطاة بالغضب والفخر، أيديهم تتوهج بالنار التي تمثل إرثهم ومجدهم. لقد حاولوا منذ الطفولة تعليمه تقليدهم، السيطرة على النار، لكن قلبه كان يرفض، وكان جسده يرفض؛ الرياح كانت حاضرة فيه دائمًا، تعانقه، تهمس له بأسرار السماء.

بدأ الصراع. النار اشتعلت في السماء والهواء ارتجف تحت قوة الرياح. لم يكن مجرد قتال، بل كانت صرخة الإرث، صراعًا بين ما هو مفروض وما هو فطري. الرياح ارتفعت في دوامات، تقلب الغبار والأوراق، وتحرك كل شيء في الطريق، محاولةً صد ألسنة النار التي كانت تكاد تلتهم كل شيء.

في لحظة، وقف ولد بلا حركة، محاطًا بموجة من الحرارة والنار، لكنه لم يتراجع. الرياح التي يمتلكها، الرقيقة أحيانًا والعنيفة أحيانًا أخرى، أخذت تتجمع حوله، تتحد، تشكل موجة حقيقية من القوة، تحملها السماء نفسها. شعور بالتحرر اجتاحه، كأن كل شيء في العالم يتوقف للحظة ليستمع فقط إلى أنفاسه.

وعندما اختفت النيران، بقيت الرياح تهمس، تهدأ، وترتخي في حضنه، كأنها تقول له: “أنت حر، ولدت حرًا.”

بدأت الأرض من حوله تتوهج برفق، ضوء غريب يشبه دموعًا متألقة، ماءً ينساب من بين الصخور، حتى جمع كل الدموع في بركة صغيرة تتلألأ كالمرآة. كانت بحيرة الدموع الأبدية، مكان تُحفظ فيه كل الأحاسيس والنهايات والذكريات التي لم يجرؤ أحد على نسيانها. الرياح توقفت عند حافتها، والتلال المحيطة صمتت للحظة، وكأن الكون نفسه شهد على ولادة شيء جديد، شيء لا يمكن حرقه ولا كسر إرادته، شيء حي في قلب الرياح.

وفي هذا الصمت، بقي ولد وحده مع بحيرته، يعلم أن الرياح ستظل رفيقته، وأن كل دمعة فيها تحكي قصة ما كان يمكن لأي نار أن تمحوها.

في أرض بعيدة، حيث الغابات الكثيفة تمتد بلا نهاية، كان هناك ذئب فريد بين قومه، لم يكن ذئبًا عاديًا؛ كان محاربًا، جسده ممتلئ بالقوة، وروحه مفعمة بالحكمة والغضب معًا. عيناه تلمعان كنجمتين وسط الظلام، وتدب فيهما حرارة الماضي المملوء بالخسارات والأحلام الضائعة.

بدأ ولد رحلته بعد فرحه الأول، فرحة نادرة حين استطاع إنقاذ قبيلته من هجوم مفاجئ لعشيرة منافسة. شعر للحظة بالسلام، كأن الرياح نفسها تغني له نشيد الحرية. لكن سرعان ما تبدلت الفرحة إلى حزن. فقد فقد أعز صديق له أثناء المعركة، وانطفأت ضحكاته التي كانت تملأ الغابة. كل خطوة على الأرض كانت الآن ثقلًا، وكل زفير يحمل صدى الألم.

رحل في المغامرة وحيدًا، يواجه وحوش الغابة، ويتحرك بين التضاريس الوعرة، لكنه لم يجد سوى ذكرياته، تلاحقه في كل لحظة. الليل كان صاخبًا بالصرخات الخافتة للرياح، وكأنه يهمس له بذكريات فقده. وجد نفسه أمام قرية مهجورة، أبنية محترقة، أثر المعارك القديمة، وصرخات الماضي التي لم تتوقف.

ثم التقى بشيء لم يتوقعه: ظل صغير، روح طفل كان قد فقد عائلته منذ سنوات، تائه في الغابة. حمله ولد على ظهره، وأخذ يحميه كما يحمي نفسه، محاولًا إعادة بريق الأمل إلى قلبه الصغير. لكن الحزن لم يتركه، فقد أدرك أن لا شيء يبقى للأبد، وأن كل فرح سريع الزوال أمام حقيقة الخسارة.

أخيرًا، بعد أيام من التعب والسفر، وصل ولد إلى مكان هادئ، مياه صافية تتلألأ بضوء غامض، وكأنها مرآة السماء. كان الصمت يكسو المكان، الرياح تتلاعب برقة على السطح، وتحرك أوراق الأشجار برفق. توقف، وترك الطفل يقترب من الماء.

كانت بحيرة الدموع الأبدية، تجمّع كل الحزن والفرح، كل الضحكات التي اختفت، وكل اللحظات التي لم تُنسى. نظر ولد إلى انعكاس نفسه في الماء، شعر بثقل ذكرياته، وخساراته، ولكن في نفس الوقت شعر بالسلام. الدموع التي لم يُسمح له بها، الصرخات المكبوتة، كل شيء وجد مكانه هنا. الرياح هزت شعوره وكأنها تقول له: “كل ألم، وكل فرح، جزء منك الآن، ولن يُنسى.”

وقف هناك، صامتًا، يدرك أن رحلته مستمرة، لكن أن ما مضى لن يُمحى. كل دمعة في البحيرة هي شهادة على قوته، على فقده، وعلى قلبه الذي لم يلين، رغم كل شيء.

في آسيا القديمة، حيث الأنهار والبحيرات تغطي كل مساحة، وكانت الأرواح المائية تحكم الأرض، كانت النار شيئًا أسطوريًا، يُذكر في الحكايات فقط، ولا يراه أحد إلا في الأحلام أو على لوحات القدماء. الرياح كانت تحمل رائحة الملح، والمطر لم يتوقف أبدًا، كأن السماء نفسها تبكي على زمن مضى.

كانت هناك فتاة، تحمل بيضة روح مائية صغيرة، تتلألأ كحبة لؤلؤ وسط يدها. كانت البيضة خافتة الضوء، لكنها تحمل قوة لا تُصدق، سرّ قدرة الأرواح المائية على السيطرة على الأرض بأكملها. لم يكن أحد يعلم ما الذي سيحدث إذا فقست البيضة، لكن كل القرى تعلمت ألا يقترب أحد منها.

نارينا كانت تعرف أن النار نادرة جدًا، تقريبًا منقرضة، وأن أي محاولة لإشعالها في هذا العالم ستكون حدثًا غير متوقع. ولكنها رغبت، لسبب غامض، أن تُظهر شعاعًا من الضوء، رغبة في مواجهة السكون المائي الذي يغلق القلوب.

في ليلة مظلمة، تحت ضوء القمر الخافت، حاولت نارينا إشعال شعلة صغيرة من عيدان جافة، شيئًا بسيطًا، لا يهدد الأرواح المائية، لكنه يرمز للحرية. الرياح تعالت فجأة، تحمل أصوات الأرواح من كل مكان، وكأنها تحذرها، أو ربما تضحك. ومع ذلك، نجحت الشعلة، لم تتجاوز بضع ثوان، لكنها كانت كافية لتضيء عينيها، وتجعل البيضة تتوهج مع الحرارة.

وهناك، عند ضفة النهر، بدأت قطرات من البيضة تتساقط على الأرض، تتحول إلى نهر صغير من الضوء المائي. كانت النار في حضرة الماء، ضعيفة لكنها حقيقية. شعرت نارينا بشيء يتغير في قلبها، كما لو أن الأرض نفسها كانت تعترف بالقوة القديمة، بالقوة التي لم تُرَ منذ قرون.

وفي لحظة صمت عميق، ظهرت مياه تتدفق من السماء والأنهار، تجمعت حولها على شكل بحيرة، متلألئة بلمعة غريبة. كانت بحيرة الدموع الأبدية، مكان كل الحزن والفرح، كل الضعف والقوة، كل الحلم المفقود والذكرى الباقية.

الفتاة وضعت البيضة على سطح البحيرة، وغاصت في الماء، وكأنها تعود إلى مصدرها، تاركة شعلة النار الصغيرة تتراقص على الماء، دليلًا على أن حتى في عالم يسيطر فيه الماء، يمكن للنار أن توجد لحظة واحدة، لحظة تكشف عن المعنى الحقيقي للشجاعة والتمرد على المستحيل.

البحيرة امتصت كل شعورها، كل خوفها، وكل فرحها، وتركها واقفة هناك، صامتة، لكن محملة بقوة لم تكن تعرف أنها تملكها، قوة تكمن في مواجهة المستحيل، في إدراك أن الأساطير ليست دائمًا مجرد قصص، وأن الدموع يمكن أن تصبح ضوءًا، إذا تمسك المرء بها بما يكفي.

استيقظت ببطء، والهواء حولي مليء برائحة الرطوبة والندى، صوت قطرات الماء يرن كهمسات سرية من البحيرة. فتحت عينيّ لأجد نفسي جالسًا على ضفة بحيرة الدموع الأبدية، لم أعد أدرك كيف انتهيت هنا، لكن شيء ما في قلبي أخبرني أن كل ما رأيته بالأمس كان أكثر من مجرد حلم.

الجلسة الطويلة بجانب البحيرة، مع انعكاس ضوء الشمس على الماء، جعلتني أدرك الحقيقة: الأحلام التي رأيتها – قصص ولد، الذئب، نارينا، وحتى البيضة المائية – لم تكن سوى انعكاسات لما حدث أثناء سقوطي بالخطأ في البحيرة أثناء التدريب مع مونو البارحة. الماء كان قد لمس جسدي، والبرد اللطيف حملني إلى عالم خفي من الذكريات والصور، عالم يحمل حكمته الخاصة في شكل رؤى متشابكة.

حركة خفيفة على الرمال أثارت انتباهي، فالتفت لأجد مونو تقف هناك، حيرتها واضحة على وجهها. "بليك؟! استيقظت مبكرًا على غير العادة… هل كل شيء على ما يرام؟" قالت بصوتها البارد المعتاد، لكنها كانت تحمل شيئًا من الفضول الخفي، كما لو أن عالم البحيرة لم يكن مألوفًا حتى لها.

ابتسمت لها وأنا أحاول أن أتماسك. "نعم… نعم، كل شيء على ما يرام. في الواقع… أنا… متحمس جدًا." كان قلبي ينبض بسرعة، وكأن رؤيتي لكل تلك الذكريات قد أشعلت شيئًا بداخلي. "متحمس لتعلم السحر… لأول مرة."

مونو رفعت حاجبها، لمعت عيناها بتلك الشرارة المعتادة من البرود والدهشة المختلطة. "السحر، ها؟ منذ متى أصبح الحماس يسبقك؟ عادة، تستغرق نصف النهار لتقرر حتى أي يد تستخدم لتناول العصير."

ضحكت بصوت خفيف، متغلبًا على الحيرة. "قد يكون هذا استثناء… أو ربما البحيرة تجعلني أكثر استعدادًا مما اعتدت أن أكون."

مونو اقتربت مني، نظرتها تفحصني من رأس إلى أخمص القدمين، وكأنها تحاول التأكد من أنني لم أصبح مجنونًا بعد. ثم، بابتسامة خفية، قالت: "حسنًا… إذا كنت جادًا، فلتبدأ أول دروسك اليوم. لا مكان للكسل هنا، بليك."

أدركت حينها، وأنا أنظر إلى انعكاسي في مياه البحيرة، أن ما حدث بالأمس لم يكن مجرد حلم. بل كان وعدًا، بداية لرحلة جديدة، رحلة في عالم السحر الذي لم ألمسه قط من قبل، عالم يحمل كل التحديات والمفاجآت التي كنت أنتظرها دون أن أعرف.

وفي هدوء البحيرة، وبينما تنعكس أشعة الشمس على الماء، شعرت لأول مرة أن قلبي مستعد، تمامًا كما كان قلبي مستعدًا لكل ما رأيته بالأمس، ولكل ما سيأتي بعد ذلك.

وصلت أنا ومونو إلى ساحة وسط غابة الضباب المخفية. كانت الأرض تحت قدميّ خضراء يابسة، عشبها جاف ويصدر صوتًا مقرمشًا مع كل خطوة. تناثرت بعض الصخور الرمادية في أرجاء المكان، وبعضها مغطى بطبقة خفيفة من الطحالب الخضراء. أشجار الغابة العالية كانت تحيط بالساحة من كل الجهات، جذوعها سميكة وأوراقها كثيفة، تحجب معظم الضوء باستثناء بضع بقع مشمسة.

سمعت صوت خرير ماء بعيد، ربما من بحيرة الدموع الأبدية. المكان كان مثاليًا للتدريب: مفتوح ومسطح، لكنه محمي بالأشجار، يعطي إحساسًا بالعزلة والتركيز.وقفت مونو أمامي، معطفها الأصفر يتحرك قليلاً مع الهواء. عيناها الذهبيتان كانتا مثبتتين عليّ، هادئتين لكن فيهما جدية واضحة.

"حسنًا، بليك،" قالت بنبرة واضحة بالعربية الفصحى، "فلنراجع ما أنجزناه في تدريبك البدني حتى الآن. أولاً، طوّرنا قواك الجسدية خلال شهر كامل من التدريب الشاق. أصبحت سريعًا بحق، وقبضتك قوية، وقدرتك على التحمل استثنائية. صرتَ مضادًا للسموم بفضل عين الجوهرة الخضراء، التي منحتك أيضًا تصلبًا سامًا يمكن أن يكون سلاحًا. تحملتَ الغرق في بحيرة الدموع الأبدية، وبركة استعمال الأسلحة تجعلك قادرًا على التعامل مع أي سلاح بسهولة. أتقنتَ تنفس الصوت وتنفس الماء، وهناك تنفس الشمس، هدية ماكومو لك، لكن استخدامه خطر جدًا على جسدك."كلامها جعلني أشعر بالفخر. كل الألم والتعب الذي مررت به كان يستحق.

"إذن، أصبحتُ قويًا جدًا، أليس كذلك؟" قلت وأنا أبتسم، متوقعًا أن توافقني.لكن مونو نظرت إليّ بنظرة جادة، وقالت: "لا، بليك، لستَ قويًا جدًا بعد. لا تستطيع استخدام هذه التقنيات متتالية دون أن ينهار جسدك. القوة الحقيقية ليست في امتلاك المهارات فحسب، بل في التحكم بها.

"كلامها كان مثل ضربة قوية. حسيت إن كل اللي عملته – المعارك، التدريبات، الانتصارات – كأنه ما كفى. قبضت على مقبض سيفي بقوة، ونظرت للأرض، حاسس إن قلبي ثقيل. عيني اليمنى، اللي فيها الجوهرة الخضراء، حسيتها بتنبض، كأنها تقول لي إني لسة بعيد عن إيش أبغى أصير. "لكنني تغلبتُ على المجس الذهبي، والأفعى البيضاء، والرجل الأخضر... وحتى شيطان حقيقي!" قلت بنبرة فيها إحباط وغضب، "أليس هذا يعني شيئًا؟"مونو لم تتحرك، لكن عينيها كانتا هادئتين. "

إنه يعني أنك بدأتَ، بليك، لكن الطريق لا يزال طويلاً،" قالت بهدوء، ثم أضافت بنبرة أخف: "لا تقلق، سأريك الطريق." توقفت لحظة، ثم قالت: "الآن، سأعلّمك أساسيات عالم السحر."نظرت إليها، وقلبي بدأ يدق بسرعة. الإحباط اللي كان فيّ بدأ يتحول لحماس. السحر؟ كنت جاهز أعرف إيش يعني، وإيش ممكن يسوي فيني في الرحلة دي. "حسنًا، فلنبدأ،" قلت، وأنا أقف أمامها، مستعد لأي تحدي جديد.

نظرت إلى مونو وهي تبدأ بالشرح، ووضعت كل حواسي لفهم ما تقوله. كنت أركز على كل كلمة، كأنها مفتاح لباب جديد في هذا العالم الغريب الذي أجبرتني الأيام على استكشافه. عيناها الذهبيتان كانتا ثابتتين، وصوتها واضح ومباشر، كأنها تقودني إلى شيء أكبر من كل التدريبات التي مررت بها.قالت مونو بنبرة فصيحة: "أولاً، يجب أن تعلم أن نظام السحر ليس نظام القوى الوحيد في هذا العالم. فهناك مئات أنظمة القوى المختلفة في هذا العالم، لكنني الآن سأركز على تعليمك السحر فحسب، لأنه الأنسب لك."توقفت لحظة، وشعرت بفضولي يشتعل.

"مهلاً، مهلاً،" قلت، مقاطعًا، "ماذا تعنين بأنظمة القوى الأخرى؟ ألا يجب أن يكون هناك شيء واحد يتركز حوله العالم، مثل كتاب شمس المعارف؟"نظرت إلي مونو بنظرة تجمع بين الجدية والسخرية الخفيفة، وقالت: "هذا كلام لا يقوله إلا الأغبياء. لا يوجد شيء مثل هذا إلا في المسلسلات الخيالية. العالم لا يتمحور حول شيء واحد. كل شيء جزء من هذا العالم، ولا يوجد شيء يرتكز عليه كل شيء.

"شعرت وكأن عقلي يتوسع. كل الروايات التي قرأتها، كل الأفلام التي شاهدتها، كانت تجعل الأمور تبدو بسيطة: قوة واحدة، عدو واحد، هدف واحد. لكن كلام مونو جعلني أشعر بصغري أمام هذا العالم الضخم. "حسنًا، فهمت،" قلت بنبرة فيها دهشة، "يبدو أن هذا العالم أعقد من أي رواية قرأتها."ابتسمت مونو ابتسامة خفيفة، وقالت: "بالضبط. والآن، دعنا نبدأ بأساسيات السحر.

بدأت مونو في الشرح، وتغيرت نبرة صوتها من البرود المعتاد إلى شيء يشبه نبرة المعلم الذي يرى في تلميذه فرصة. جلست على صخرة، وأومأت لي بيديها لأجلس أمامها، فنفذت طلبها بينما كنت أضع سيفي بجانبي.

"بليك،" قالت بنبرة واضحة ومباشرة. "السحر في هذا العالم لا يأتي من مصدر واحد، بل من ثلاثة مصادر رئيسية. الأول هو المانا الطبيعية، وهي طاقة الحياة التي تملأ كل شيء حولنا، الهواء، الماء، حتى الأرض التي تجلس عليها الآن."

نظرت حولي، وفجأة، بدا لي كل شيء مختلفًا. لم أعد أرى مجرد أشجار وصخور، بل طاقة خفية تتراقص في الهواء. شعرت بشيء يشبه النبض الخافت قادم من الأرض تحت قدمي. كان الأمر غريبًا، كأنني لم أكن أرى العالم حقيقةً قبل هذه اللحظة.

أكملت مونو، ويديها تتحركان في الهواء وكأنها ترسم ما تقوله. "المصدر الثاني هو الأرواح، وهي كائنات تمنح السحرة القوة من خلال عقد. والمصدر الأخير هو الرموز والطقوس، والتي تعتمد على الكتب والدوائر والتعاويذ."

"إذن، كل ما لدي من قوة، مثل 'بركة استعمال الأسلحة' أو 'تنفس الصوت'، هو سحر من نوع ما؟" سألت، محاولًا ربط ما تعلمته بالماضي.

"ليس بالضبط." قالت مونو، ونظرتها تثبت عليّ. "بركاتك هي هبة سماوية فطرية، شيء تولد به. أما السحر، على النقيض، فهو شيء يُدرس ويُمارس، ويُستمد من مصادر خارجية. أنت لم تولد لتستخدم السحر، بل لتستخدم قوة فطرية."

كلماتها كانت بمثابة صدمة أخرى. كنت دائمًا أظن أن كل ما أمتلكه هو سحر، لكنها وضعت خطًا فاصلًا واضحًا. شعرت بالفضول يتزايد في داخلي.

طرق استخدام السحر وتصنيف السحرة

"للسحر عدة طرق للاستخدام،" تابعت مونو، ورفعت إصبعها ببطء. "أولًا، هناك السحر التعويذي، الذي يعتمد على الكلمات والرموز. كل كلمة لها معنى، والاسم الحقيقي للشيء يمنحك سيطرة عليه. ثانيًا، السحر العنصري، الذي يستخدم قوى الطبيعة مثل النار، الماء، الهواء، والضوء. يمكن تقويته بالتعاقد مع الأرواح. أما ثالثًا، السحر الطقوسي، الذي يتطلب دائرة سحرية وقرابين ووقتًا طويلًا، ويستخدم في الاستدعاءات والأختام والتحولات. وهناك أيضًا السحر التعاقدي، حيث يربط الساحر نفسه بروح أو كيان، لكن هذا العقد يتطلب تضحية كبيرة قد تكون جزءًا من قوتك، ذكرياتك، أو حتى سنوات من عمرك."

شعرت بقشعريرة تسري في ظهري عند ذكر التضحية. تذكرت "ويش" التي ضحت بأمنيتها من أجلي.

"وأخيرًا، هناك السحر الأسود،" قالت مونو، ونبرتها أصبحت أكثر جدية. "هو نوع محظور يستخدم الحياة أو الدم كمصدر للقوة. ممنوع في معظم الطوائف، لكنه مرغوب عند الطوائف المظلمة. هو سحر خطير جدًا، وغالبًا ما يقود مستخدمه إلى الجنون أو الموت."

"إذن، كيف يتم تصنيف السحرة؟" سألت، وقد أصبحت أتابع حديثها بشغف.

"هناك تصنيفات رئيسية،" أجابت مونو. "ساحر مانا، يعتمد على طاقته الداخلية والمانا الطبيعية. مستدعي، متخصص في العقود مع الأرواح. طقوسي، عالم في الرموز والتعاويذ. وأخيرًا، ساحر أسود، يستخدم القوى الممنوعة. ولكل ساحر قوانينه الخاصة. أهمها هو قانون التوازن بين المانا والروح. إذا زاد استخدام المانا بدون عقد روح، فإن الجسد يتآكل، فيما يُعرف باسم 'مرض المانا'."

لاحظت أن مونو تتحدث عن هذه القواعد كحقائق لا يمكن تجاوزها، كما لو كانت قوانين الفيزياء في عالمي القديم. لم يكن هذا مجرد تدريب على القتال، بل كان درسًا في كيفية عمل الكون.

"ولتنظيم هذا العالم،" تابعت مونو، "قسمت الفروع الكبرى السحر إلى ألوان: السحر الأبيض للشفاء والحماية، السحر الأسود للعنات والتحكم بالموتى، والسحر الرمادي الذي يجمع بين السحر العنصري والطقوسي، ويركز على التوازن في الطبيعة."

الأدوات السحرية والقوانين الأساسية

بعد ذلك، بدأت مونو في وصف الأدوات التي يستخدمها السحرة، من سبائك المانا، إلى الكتب واللفائف، وحتى الأختام الجسدية المؤلمة.

"الأدوات لا تخلق المانا،" قالت بوضوح، "بل تحسّن الكفاءة وتقلل الفشل. لكن الاعتماد عليها يضعف من قدرة الساحر على استخدام السحر الصامت."

توقفت مونو، وشرحت لي عن الغريموار، الكتاب السحري الذي يختار صاحبه، وأنواعه المختلفة، من برسيم الأوراق الثلاث إلى النادر رباعي الأوراق، والأخطر خماسي الأوراق الذي يحتوي على شيطان.

"هناك أيضًا سحر مضاد،" أضافت مونو، "وهي قوة نادرة جدًا، تُمكن صاحبها من إلغاء السحر بدلًا من استخدامه. كما أن كمية المانا عند الشخص مرتبطة أحيانًا بجيناته، مثل العائلات النبيلة، لكن هذه ليست القاعدة. المانا تتدفق في الجسم عبر ما يُسمى بـ'الأوردة السحرية'، تمامًا مثل الدورة الدموية."

أخذت مونو نفسًا عميقًا، وتابعت: "الآن، نصل إلى لب الموضوع. بوابة المانا. كل إنسان يولد بمدخل للمانا في جسده، لكن الاستخدام المفرط يسبب ما يُعرف بـ'مرض البوابة'، والذي قد يؤدي إلى انهيار الجسد أو حتى تدمير البوابة."

"هل لدي بوابة؟" سألتها بفضول شديد.

"نعم،" أجابت. "كل إنسان لديه بوابة، لكنها تختلف من شخص لآخر. هناك أيضًا حدود للعناصر؛ كل شخص يميل إلى عنصر رئيسي أو اثنين على الأكثر."

شرحت لي العناصر الستة: النار، الماء، الرياح، الأرض، اليين (الظلام)، واليانغ (الضوء). ثم بدأت في الحديث عن التعاويذ ومراتب قوتها، من المبتدئ وصولاً إلى الأسطوري "إله".

"القواعد العملية للتحكم بسيطة،" قالت، "الخيال هو قلب السحر. عليك أن تتخيل كل شيء قبل أن تطلق التعويذة. والاعتماد على الأسلوب الصامت هو الأفضل، لأنه يوفر سرعة ومرونة عالية، لكنه يتطلب موهبة وتركيزًا شديدين."

توقفت مونو عن الكلام فجأة، ونظرت إليّ بجدية.

"آخر شيء، بليك، هو النواة،" قالت، ورفعت يدها إلى صدرها. "كل شخص يولد بنواة مانا في داخله، وهي التي تحدد قدرته السحرية. تبدأ النواة سوداء، ثم تتحول إلى حمراء، ثم برتقالية، وتستمر في التطور إلى أن تصل إلى النواة البيضاء، وهي ذروة البشر العاديين. ثم هناك مراحل أعلى، مثل 'Silver Stage' و 'Sovereign Realm'."

أنهت مونو حديثها، بينما كنت أنظر إليها بدهشة. لقد قدمت لي عالمًا جديدًا بالكامل في دقائق. كان رأسي يغلي من كل هذه المعلومات.

"هذا هو الجزء النظري من الدرس،" قالت مونو، ونظرت إلى سيفي الموضوع على الأرض. "حان الوقت لتبدأ رحلتك في هذا العالم."

نظرت إليها بدهشة، ثم إلى يدي الفارغتين، وإلى سيفي. هل كان هذا كل شيء؟ أليست هناك مقدمات أخرى؟

"أنا أسمعك،" قلت، "أنا مستعد،" مع شعور كبير بالحماس يغمرني، وكنت جاهزًا لأي تحدٍ جديد.

كان عقلي يغلي. كل معلومة ذكرتها مونو كانت كصاعقة كهربائية تضرب دماغي، لتضيء مناطق مظلمة لم أكن أدرك وجودها. لم أكن أستوعب كل هذا دفعة واحدة.

شعرت وكأنني أحاول أن أُدخل محيطًا بأكمله في كأس ماء. المانا الطبيعية، الأرواح، الطقوس، الغريموارات، الصدوع الروحية... كانت الكلمات تتراقص في ذهني، تشكل شبكة معقدة من الحقائق التي حطمت كل ما كنت أعرفه عن هذا العالم. كل ما كان يبدو لي سحريًا وغامضًا، أصبح الآن يخضع لقوانين صارمة.

نظرت إلى مونو التي كانت تقف أمامي بهدوء، كأنها ألقت عليّ قنبلة من المعرفة ثم قررت أن تشرب الشاي. كنت أحاول أن أجد كلمة واحدة لأقولها، لكن كل ما خرج مني كان مجرد همهمة ضعيفة. لم تكن صدمة من الخوف، بل كانت صدمة من الحجم الهائل للواقع. أدركت أن العالم الذي عشته، والذي ظننت أني أفهمه، لم يكن سوى صفحة واحدة في كتاب ضخم لم أُفتح بعد.

تذكرت كل معاركي السابقة، من قتالي ضد "ويش"، إلى الأفعى البيضاء، وحتى الشيطان. لم تكن مجرد معارك، بل كانت اختبارات لقوانين لم أكن أعرفها. الآن، بعد هذا الشرح، بدت الأمور منطقية بشكل مخيف. كنت أقاتل وأنا أعمى، أما الآن فقد أصبحت أرى بوضوح.

"هذا كثير جدًا..." تمتمت بصوت بالكاد يُسمع. "هل... هل هناك الكثير بعد؟"

نظرت مونو إليّ، وابتسمت ابتسامة خفيفة لم تصل إلى عينيها.

"يا بليك، هذا ليس سوى المقدمة."

كنت لا أزال أحاول استيعاب حجم المعلومات الهائل الذي قدمته لي مونو، حتى أنها كسرت حاجز الصمت وقفت أمامي. مدت يدها الصغيرة ووضعتها على صدري، كانت باردة كقطعة ثلج. أغلقت عينيها لعدة ثوانٍ، وفجأة، شعرتُ بحرارة شديدة تنبعث من كفها، كأنها شمس صغيرة تشتعل ببطء داخل صدري.

تصاعدت الحرارة بسرعة جنونية، وتحولت إلى ألم حارق اجتاح جسدي بالكامل. شعرتُ وكأن كل شبر في جسدي يُصهر، من صدري إلى أطراف أصابعي. ارتفعت صرخة مكتومة من أعماقي، كانت مزيجًا من الألم والغضب والذهول. دفعتُ يدها بعيدًا، وسقطتُ على الأرض وأنا أتلوى من شدة الألم.

"ما الذي فعلتِه؟!" صرختُ، والغضب يملأ صوتي. نظرتُ إليها بعينين تملؤهما الدموع، لا أصدق أنها فعلت هذا بي بعد كل ما مررنا به. كان الألم لا يطاق، وشعرتُ وكأنني سأتقيأ.

وقفت مونو تنظر إليّ، وابتسامتها الخفيفة اختفت. حلت محلها نظرة هادئة لكنها كانت تحمل لمسة من الندم. "لقد كنتُ أحلل قدراتك السحرية." قالت، وصوتها كان أكثر هدوءًا من أي وقت مضى. "آسفة إذا كان مؤلمًا قليلًا."

كانت نبرتها صادقة، وصوتها الذي يشبه همس الرياح الرقيقة بدا وكأنه يمسح الألم من داخلي. لم تكن اعتذارًا عاديًا، بل كان نابعًا من شيء عميق في داخلها. كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا الجانب منها، جانبًا يظهر لي أنها تهتم لأمري حقًا، وأن الألم الذي سبّبته لي لم يكن عن عمد. لطافتها غير المتوقعة كانت أقوى من أي سحر.

تلاشت كل ذرة غضب في داخلي. جلستُ على ركبتي، وأنا أستجمع أنفاسي. "لا بأس." تمتمتُ، وما قلته كان حقيقيًا.

عادت مونو إلى وضعها الهادئ، وواصلت كلامها كأن شيئًا لم يكن. "حسنًا، بعد تحليلي لقدراتك السحرية، هذا ما توصلت إليه. المانا لديك كثيفة للغاية، وهذا على الأغلب بسبب ارتباطك بـ**'شمس المعارف'**. لكن بوابة المانا عندك باردة، وهذا يعني أنها لا تزال في بداية الطريق. أما النواة فهي سوداء، لا زالت في بدايتها أيضًا."

"مما يعني أن تصنيفك مبتدئ."

الكلمة سقطت عليّ كصخرة ضخمة. "مبتدئ؟" تمتمتُ. كل ما مررت به، كل التدريبات والمعارك، كل الألم الذي تحمّلته، لم يكن كافيًا لأكون حتى مبتدئًا؟ شعرتُ وكأنني عدتُ إلى نقطة الصفر. حزن عميق تغلغل في قلبي، وعبستُ، ونظرت إلى الأرض. بدا كل شيء فارغًا فجأة.

"لا تقلق." قالت مونو، ووضعت يدها على رأسي. كانت حركة دافئة ومطمئنة، شيء لم أعتد عليه منها. "جميع السحرة يبدأون هكذا. لذا، سأدربك وسوف تتطور نواة المانا عندك وتترقى في المراتب. لا تقلق."

رفعتُ رأسي ببطء، ونظرت إليها. كلماتها لم تكن مجرد مواساة، بل كانت وعدًا. لم تعد تنظر إليّ كشاب يائس، بل كوعاء فارغ يمكنها أن تملأه بالقوة. حزن قلبي تلاشى فجأة، وحل محله شعور غامر بالأمل.

أنا مبتدئ. وهذا يعني أن الطريق أمامي طويل، وأن القوة التي سأمتلكها لا حدود لها. ابتسمتُ لمونو، وبدأ قلبي يرقص من جديد. كنتُ جاهزًا لأي شيء

بعد أن استوعبتُ حقيقة كوني "مبتدئًا"، وسمعتُ كلمات مونو المطمئنة، شعرتُ بنار جديدة تشتعل في داخلي، لم يعد الأمر يتعلق بالقوة فقط، بل بالسيطرة. القوة الحقيقية تكمن في التحكم بما تملك، وليس في مجرد امتلاكها. كانت هذه أول حقيقة أتعلمها في عالم السحر.

قادتني مونو إلى بحيرة الدموع الأبدية. كانت المياه هادئة كالمرآة، تعكس السماء الزرقاء الصافية.

في وسط البحيرة، كانت هناك صخرة ضخمة، سطحها أملس وواسع. قفزت مونو برشاقة من ضفة البحيرة إلى الصخرة، ثم ألقت لي نظرة، إشارة لأتبعها.

قفزت بخفة، وهبطتُ بجانبها. كانت البحيرة تحتنا هادئة جدًا، والصمت يلف المكان.

"هنا،" قالت مونو، وأشارت إلى الماء. "درسك الأول هو التحكم في المانا في جسدك. لن تطلق أي تعويذة، ولن تستخدم أي قوة من قواك. كل ما عليك فعله هو أن تشعر بالمانا داخلك، تتحكم في تدفقها وتجعلها تخرج من جسدك بشكل سلس. إذا نجحت، ستلاحظ أن الماء تحتنا يهيج قليلًا."

أغلقت عينيّ، وحاولت أن أركز. "أين هي المانا؟" سألتها.

"في كل مكان،" أجابت. "في الهواء، في جسدك. تخيّل أن جسدك نهر، والمانا هي الماء الذي يتدفق فيه. الآن، حاول أن تفتح 'بوابة' صغيرة جدًا تسمح لهذا الماء بالخروج."

لم تكن الكلمات كافية. حاولتُ أن أتخيل ما قالته، لكن عقلي كان مليئًا بالمعلومات الجديدة. كان الأمر أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. شعرتُ بالضياع، وفقدت تركيزي.

مرت الأيام، كل يوم كنا نأتي إلى نفس الصخرة، وأحاول أن أفعل ما قالته مونو. لكن لا شيء يحدث. حاولتُ التخيل، والتركيز، والتأمل، لكن المانا كانت عنيدة، أو ربما كنت أنا من لا يعرف كيف يتحكم بها. في اليوم الأول، شعرتُ فقط بالإحباط. كان الأمر أصعب من أي تدريب بدني خضعتُ له.

"أنت تحاول أن تجبرها،" قالت مونو في اليوم الثالث. "المانا لا تُجبر، بل تُدعى. يجب أن تكون أنت والسحر شيئًا واحدًا."

جربتُ مرة أخرى. أغمضت عينيّ، وتخيلتُ أن جسدي يمتص المانا من الهواء. شعرتُ بنبض خفيف، لكنه اختفى بسرعة. كأنني حاولتُ الإمساك بظل.

مر الأسبوع الأول، وكل محاولاتي باءت بالفشل. أصبح الإحباط صديقي الدائم. في كل مرة أفشل، أتذكر كلمات مونو "أنت مبتدئ." كانت الكلمة تتردد في ذهني، وتزيد من يأس. كنتُ أظن أني قوي، لكنني اكتشفت أني لم أكن سوى طفل في عالم الكبار.

في بداية الأسبوع الثاني، تغيرت طريقة مونو في التدريب. لم تعد تعطيني أوامر مباشرة، بل كانت تصف لي ما يجب أن أشعر به.

"المانا مثل الموسيقى،" قالت ذات يوم. "كل شيء حولك له نغمته الخاصة. صوت الرياح، خرير الماء، حتى نبضات قلبك. عليك أن تجد إيقاع المانا في داخلك."

أغمضت عينيّ مرة أخرى. هذه المرة، لم أحاول أن أتحكم في المانا، بل أن أستمع إليها. سمعتُ صوت قلبي، ثم صوت الرياح وهي تداعب أذني. كان كل شيء في تناغم مثالي. لكنني لم أستطع أن أجد "نغمة" المانا.

في اليوم العاشر، حاولتُ أن أدمج كل حواسي. استخدمتُ "تنفس الصوت" الذي تعلمته من قبل. حولتُ كل صوت إلى صورة في ذهني، وحاولتُ أن أجد صورة المانا. كانت موجودة، لكنها كانت سريعة جدًا، مثل وميض لا يمكن الإمساك به.

أصبحتُ أتدرب من الصباح حتى المساء. جسدي كان منهكًا، لكن عقلي كان في حالة تأهب دائمة. فشل بعد فشل، الإحباط كان يكاد يقتلني. شعرتُ أني سأستسلم.

لحظة النور

في اليوم الأخير من الاسبوع الثاني، كان الجو عاصفًا. كانت الرياح تهب بقوة، ومياه البحيرة كانت مضطربة. جلستُ على الصخرة، وحاولتُ مرة أخيرة. لم أعد أهتم بالنجاح أو الفشل. أغمضتُ عينيّ، وتوقفتُ عن المحاولة.

سمحتُ لنفسي أن أشعر بالرياح تضرب وجهي. شعرتُ بصوت الماء وهو يلطم الصخرة. أخرجتُ أنفاسًا بطيئة وعميقة، وتذكرتُ كل شيء علمتني إياه مونو. لم تعد الكلمات تهم، بل المعنى.

تخيلتُ أن جسدي فارغ، وأن الهواء يملأه ببطء. شعرتُ بالمانا وهي تتدفق من الأوردة السحرية في جسدي، كانت باردة، لكنها كانت موجودة. كانت مثل نهر صغير داخل جسدي.

ثم، ودون أن أفكر، قمتُ بتوجيه هذا النهر ببطء. لم أحاول أن أخرجه من جسدي بالقوة، بل سمحتُ له أن يتدفق ببطء شديد. شعرتُ وكأنني أفتح بابًا صغيرًا جدًا في صدري.

في تلك اللحظة، حدث شيء غير متوقع. شعرتُ وكأن التيار يندفع من صدري، وشعرتُ بالماء تحت الصخرة يرتجف. فتحتُ عينيّ ببطء، ووجدتُ أن مياه البحيرة الهادئة قد أصبحت مضطربة، تتدفق في دوامة صغيرة حول الصخرة.

نجحتُ. بعد أسبوعين من الفشل، نجحتُ أخيرًا. نظرتُ إلى مونو، ورأيتُ ابتسامة صغيرة على وجهها.

"أحسنت." قالت. "لقد بدأتَ للتو. الطريق طويل، لكنك الآن تعرف أين هو."

نظرتُ إلى الماء، وشعرتُ بالفرح يملأ قلبي. لم يكن الفرح بسبب النجاح فقط، بل بسبب إدراكي أنني أصبحتُ الآن جزءًا من هذا العالم

بعد أسبوعين من الإحباط واليأس، كان إحساسي بالنجاح لا يُوصف. لم يكن مجرد نجاح في مهمة، بل كان إثباتًا لنفسي بأنني أستطيع فعل المستحيل. نظرت إلى الدوامة الصغيرة في الماء، ثم إلى مونو، ورأيت ابتسامة نادرة على وجهها.

"أحسنت." قالت، وصوتها كان أكثر دفئًا من المعتاد.

لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات. أومأت برأسي، وشعرت بفخر هائل. كانت الشمس قد بدأت تغرب، وتلون السماء بألوان البرتقالي والأحمر. قادتني مونو إلى ضفة البحيرة، ووجدتُها قد أعدت حطبًا. أشعلته بضغطة زر واحدة، ثم أخرجت من معطفها قطعًا من اللحم الطازج.

كانت رائحة اللحم المشوي تملأ الهواء، وتُعطيني شعورًا بالراحة والهدوء. لم يكن الاحتفال صاخبًا أو فخمًا، بل كان بسيطًا ودافئًا. جلستُ بجانب النار، وأنا أنظر إلى مونو التي كانت تقلب اللحم على النار بمهارة.

قدمت لي قطعة كبيرة من اللحم، وبدأتُ في الأكل. كان طعمه رائعًا، أفضل من أي طعام تناولته في حياتي. بينما كنت آكل، تساءلت عن شيء كان يشغل بالي.

"يا مونو، هل أنتِ أيضًا مستعملة سحر؟" سألتها بينما كنتُ أمضغ قطعة اللحم.

أنهت مونو قطعة اللحم في فمها بسرعة، ونظرت إليّ. "لا، لست كذلك."

صُدمتُ. "ماذا إذن؟" قلت، وقد وضعتُ اللحم على الصخرة. "ماذا عن تلك الكرات المتفجرة؟ ظننتُ طوال الوقت أنه سحر!"

تنهدت مونو، ورفعت كتفيها. "ذاك ليس سحرًا. إنها قوة أخرى تُدعى 'الكي'."

"ما هو هذا؟ هل يشبه السحر؟"

"إنه مختلف تمامًا عن السحر، ويصعب شرحه بالكامل الآن،" قالت. "لكنه يمكن أن يُعرّف بأنه الطاقة الحيوية التي تتدفق في هذا العالم. جسدك يسحبها، وباستخدامها يمكنك فعل العديد من الأشياء، ومنها صنع كرات طاقة متفجرة."

"أوه، هكذا إذن." قلت، وما زلت أحاول أن أفهم. لم أكن أعلم أن هناك أنظمة قوى أخرى غير السحر.

لاحظتُ أن مونو كانت تأكل اللحم بسرعة خارقة. كانت تضع القطعة في فمها وتختفي في ثوانٍ. كان الأمر مضحكًا لدرجة أني كدتُ أختنق من الضحك.

"ما الذي تنظر إليه؟" قالت، بينما كانت تمسح فمها.

"لا شيء... لا شيء." قلت، وأنا أحاول كتم ضحكاتي.

أكملنا وجبتنا في صمت، لكنه لم يكن صمتًا محرجًا، بل كان صمتًا مريحًا. كانت النار تتراقص، والنجوم بدأت تظهر في السماء. شعرتُ بالسلام، ونسيتُ كل شيء عن التدريب القاسي والمعارك. في تلك اللحظة، كنتُ فقط بليك، آكل اللحم المشوي مع صديقتي.

2025/09/08 · 8 مشاهدة · 4540 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025