استيقظت الشمس على الغابة برفق، أشعتها الذهبية تتسلل بين الأغصان، كأنها تدعو ليوم جديد من التحديات. جلست على صخرة، أنفاسي تتناغم مع هدوء الصباح، لكن داخلي كان يشتعل بتوقعات التدريب الجديد. أمامي كانت مونو، كما هي دائمًا، هادئة ومتوازنة، عيونها الثاقبة تراقبني كما لو كانت تعرف كل ما يدور في عقلي قبل أن أفكر فيه.
"اليوم سنبدأ بسحر الأرض،" قالت وهي تمشي ببطء حولي، خطواتها تترك أثرًا خفيفًا على العشب. "الماء يتدفق، الرياح تتحرك، لكن الأرض… الأرض ثابتة. صلبة. لا ترحم من لا يحترم قوانينها."
حاولت الابتسام، لكنني شعرت بثقل الكلمات يضغط على صدري. "هل… هل يعني هذا أنني سأستطيع تحريك الصخور؟ أو السيطرة على التراب؟" سألت، محاولة إخفاء توتري.
ابتسمت مونو بابتسامة خفيفة، تكاد لا تُرى. "ليس فقط تحريك الصخور أو التراب. سحر الأرض هو عن التحكم بالثبات والقوة من الداخل. كل حبة تراب، كل جذر شجرة، حتى أصغر حجر، له روحك الخاصة. لتسيطر عليها، يجب أن تستمع إليها، لا أن تجبرها."
جلست أمامي على الأرض، ومدت يديها لتلمس التراب البارد، وكأنها تستخرج منه سرًا قديمًا. "ابدأ بالتركيز. اشعر بالأرض تحت قدميك. حاول أن تجعل طاقتك تنساب في جذور الأشجار، في الصخور، في كل ما يحيط بك. لا تفكر بالقوة، بل بالإحساس. دع الأرض تختار أن تستجيب لك."
أغمضت عيني، وبدأت أتنفس ببطء، أستمع لكل نبضة صغيرة، لكل اهتزاز في التربة. حاولت توجيه المانا من خلال قدميّ، أشعر بها تتدفق إلى الأرض… لكن لم يحدث شيء. لم يتحرك حجر، لم يرتجف تراب.
تسمرت في مكانها، شعرت بالإحباط يتسرب في داخلي مثل الماء البارد في الليل. "لم… لم ينجح شيء!" قلت، صوتي يملؤه اليأس قليلاً.
مونو لم تحرك ساكنًا، لكنها جلست قبالتي بهدوء. "لن ينجح في اليوم الأول. ولا في اليوم الثاني. ولا حتى في اليوم العاشر إذا حاولت بالقوة. سحر الأرض صبر، ومراقبة، وتواضع. عليك أن تفهم أنك جزء من الأرض، لا أن تتحكم بها بالقوة."
مرت الأيام، وكل يوم كان شاقًا أكثر من اليوم السابق. كنت أستيقظ مع شعور بالثقل، وأجلس لساعات طويلة على الأرض، أحاول أن أسمع أنفاسها، أن أحس بحركتها، أن أندمج معها. كنت أشعر بالملل، بالإحباط، وأحيانًا بالغضب، لكنني كنت أرى مونو تراقبني بصمت، لمرة واحدة فقط تلمس كتفي بهدوء، وكأنها تقول: "أنت على الطريق الصحيح، حتى لو لا تراه."
في نهاية الأسبوع الأول، لم أتمكن من رفع حجر واحد، ولم أحرّك حتى حفنة من التراب. لكن شيئًا بداخلي بدأ يتغير؛ شعرت بوحدة جديدة، بانسجام غريب، وكأن الأرض بدأت تتحدث إليّ، لكنها بالكاد تُسمع.
وقفت أمامها في آخر يوم من الأسبوع، أمددت يدي نحو صخرة صغيرة. "مونو… أنا لا أشعر بأي شيء يتحرك."
ابتسمت بابتسامة هادئة، كما لو أنها كانت تتوقع ذلك. "الآن تعرف ما يجب أن تتعلمه. لا السحر هو ما يحرك الأشياء… بل الصبر، والانصهار، والانتباه. الأرض لا تُستعجل، وأنت كذلك."
جلست إلى جانبي، ووضعت يدها على الأرض، وبدأت تشرح لي كيف يمكن للمانا أن تتفاعل مع العناصر الطبيعية، وكيف أن كل شيء، حتى أبسط حجر، يحتوي على طاقته الخاصة. "الخطوة القادمة… هي أن تحاول أن تصبح الأرض نفسها، قبل أن تتحكم فيها."
ابتسمتُ لأول مرة منذ أيام، شعرت بتحدٍ جديد ينبض في صدري، رغم الإحباط، رغم الفشل. لقد فهمت أن الطريق طويل، وأن هذا الفشل ليس نهاية، بل البداية الحقيقية.
الأيام التالية كانت أشبه بمحاكاة للصبر المطلق، كل صباح أستيقظ فيه وأنا أعلم أنني سأجلس على الأرض لساعات، أستمع لكل جذر، لكل صخرة، لكل نملة تزحف على التراب. مونو كانت دائمًا هناك، صامتة لكنها حاضرة، عيونها تتفحص كل حركة، كل خفقة قلب، وكأنها تراقب نبض الأرض عبر جسدي.
في اليوم الثالث، جلست أمام صخرة كبيرة، أغمضت عيني، وتركت المانا تتدفق من داخلي. شعرت بها تتدفق في قدميّ، تتغلغل في الأرض تحتها، تحاول أن تصل إلى الجذور، إلى الصخور الصغيرة المحيطة. حاولت أن أضغطها، أن أوجهها، لكن الأرض بقيت صامتة، لا تتحرك، لا تظهر أي استجابة. شعرت بالإحباط يتسلل إلى صدري، وتملكني شعور بأنني لن أنجح أبدًا.
"أنت تحاول أن تتحكم،" قالت مونو بصوتها الهادئ كما لو كانت تصل إلى داخلي مباشرة، "لكن الأرض لا تُخضع. الأرض تشارك. يجب أن تصبح جزءًا منها، ليس أن تفرض إرادتك عليها."
جلست متأملًا كلامها، أغمضت عينيّ مجددًا، وتركت كل شعور بالغضب والضغط يتلاشى، محاولة أن أكون مجرد رؤية في الأرض نفسها. شعرت بالحرارة تنتقل من قدميّ إلى جسدي، شعرت بالتراب يهمس، بالحصى الصغيرة تتردد في داخلي، حتى الهواء بين الأغصان بدأ يبدو مختلفًا، خفيفًا، وكأنه يحمل طاقة الأرض نفسها.
لكن، رغم كل محاولاتي، لم يتحرك حجر واحد.
الأسابيع مرت، وكل يوم كان اختبارًا جديدًا للصبر، للتحمل، وللإحساس العميق بالترابط. كنت أحفر بأظافري في التراب، أجرب توجيه المانا نحو الصخور الصغيرة، أحاول رفع جذع شجرة خفيف، لكن كل محاولة كانت تفشل. شعرت مرات عديدة بالرغبة في الصراخ، في الانسحاب، لكنني كنت أتذكر كلمات مونو: "الأرض لا تُستعجل، وأنت كذلك."
في اليوم العاشر، جلست أمام صخرة متوسطة الحجم، شعرت بأن جسدي كُلي متصل بالأرض. أغمضت عيني، وبدأت أركز على المانا داخل قدميّ، أحاول أن أستمع لكل نبضة صغيرة، لكل اهتزاز، لكل حركة ميكروسكوبية في التربة.
بدأت الأرض تهتز برفق. في البداية كان مجرد رعشة صغيرة، ثم شعرت بقطرات تراب تتحرك، ثم حجرة صغيرة ترتفع قليلًا عن الأرض. فتحت عينيّ بسرعة، لكنني أخفت ابتسامتي أمام مونو، لم أرد أن أظهر ضعف فرحتي، رغم أن قلبي كان يطير.
"هل… هل… هذا طبيعي؟" همست، لم أستطع كتم الدهشة.
ابتسمت مونو، هادئة كما لو أن كل شيء كان متوقعًا. "نعم… هذا جزء من البداية. لقد شعرت بالأرض تتجاوب معك. لا تزال السيطرة محدودة، لكنها بداية."
جلست أمام الصخرة، أغمضت عيني مجددًا، هذه المرة ببطء، وأعدت توجيه المانا. شعرت بالصخرة تتحرك قليلاً، أبطأ من الريح، أثقل من الماء، لكنها استجابت. دفعت المانا أكثر، شعرت بالقوة تتدفق من قدميّ إلى يدي، من يدي إلى الصخرة، ومن الصخرة إلى الأرض نفسها، وكأننا جميعًا تنفس واحد.
لم أستطع رفعها بالكامل، لكنها ارتفعت عدة سنتيمترات، كتحية صغيرة، كإشارة من الأرض نفسها تقول: "لقد بدأت تفهم."
جلست صامتًا لدقائق، أراقب الصخرة وهي تستقر برفق. شعرت بامتنان عميق للأرض، وللمانا، ولماكومو، ولحكمة مونو. كانت هذه اللحظة صغيرة، لكنها أثقل من أي انتصار جسدي شعرت به من قبل. لم أكن قد سيطرت على الأرض بعد، لكنني شعرت بأنني أصبحت جزءًا منها لأول مرة.
مونو اقتربت وجلست بجانبي. "الآن تعرف ما يجب أن تشعر به. هذه البداية فقط. سحر الأرض ليس عن القوة، بل عن الانصهار، عن الصبر، عن الإحساس بالثبات."
ابتسمت لأول مرة منذ أيام طويلة، شعرت بالإرهاق، لكن قلبي كان ينفجر بالحماس. "أعتقد أنني فهمت… نوعًا ما."
ضحكت مونو بخفة، صامتة كما هي عادةً، لكنها تركت ابتسامتها تقول كل شيء. "نوعًا ما… يكفي الآن لتبدأ الخطوة التالية. استمر، ولا تستعجل."
جلست هناك لساعات، أراقب الصخرة، أستمع للأرض، أحاول أن أندمج معها أكثر. لم أستطع تحريكها كثيرًا، لكن شعرت لأول مرة بأن المانا أصبحت جسدي الثاني، والأرض أصبحت صديقتي.
في تلك اللحظة، علمت أن رحلتي مع سحر الأرض لن تكون سهلة. لكنها، وبطريقة غريبة، شعرت بالطمأنينة. شعرت أنني على الطريق الصحيح، وأن كل يوم من التدريب، كل فشل، كل لحظة إحباط، كانت بناءً لشيء أعظم.
مرت الأيام ببطء، لكنها كانت غنية بكل لحظة. كنت أستيقظ قبل شروق الشمس، أتنفس ببطء، وأشعر بالرطوبة في التراب تحت قدميّ، وكأن الأرض نفسها تنتظرني. مع كل صباح، أصبح شعوري بالأرض أعمق، لم تعد مجرد مادة صلبة أقاومها، بل أصبحت نبضًا حيًا، لغة تحتاج لفهمها قبل فرض القوة عليها.
بدأت ألاحظ أن الطريقة التي أستخدم بها المانا تغيرت قليلاً. لم أعد أحاول فقط دفع الصخور أو رفع الجذوع، بل كنت أسمع صوت الأرض. همسات خفية، اهتزازات دقيقة، حركة صغيرة تحت التراب تشير إلى ما تريدني أن أفعل. مع مرور الوقت، بدأت أركز على جعل المانا تتناغم مع هذه الحركات، بدلًا من أن تفرضها بالقوة.
في اليوم الخامس عشر، جلست أمام صخرة متوسطة الحجم، أغمضت عيني، وبدأت أسمع هذه الأصوات بوضوح أكبر. فجأة تذكرت كلمات مونو: "الأرض تشارك، لا تُخضع."
همست لنفسي، محاولة تحويل شعور الأرض إلى ترنيمة صغيرة:
"تيلا... رونا... جورا... ساي... كالا..."
بدأت أكررها ببطء، أسمعها وكأنها تتردد داخل جسدي أولًا، قبل أن تتدفق إلى يدي وقدميّ. شعرت بشيء غريب: الصخرة اهتزت برفق، وكأنها تستجيب لإيقاع الترنيمة، لا فقط للمانا.
في البداية كان الاهتزاز خفيفًا جدًا، لكنه أعطاني شعورًا بالتحكم لأول مرة منذ أسابيع. مع كل مرة أكرر فيها الترنيمة، شعرت بأن الصخرة تتحرك ببطء أكثر، وتبدأ بالتجاوب مع إيقاع يديّ وقلبي.
مرت الأيام التالية بهذه الطريقة، الترنيمة أصبحت جزءًا من جسدي، جزءًا من تنفسي، جزءًا من كل حركة أحاول بها تحريك الأرض. لم أعد بحاجة للصراخ بالمانا أو دفعها بالقوة، بل الترنيمة كانت جسري بيني وبين الأرض.
في اليوم العشرين، حاولت أول تجربة كبيرة. جلست أمام جذع شجرة كبير، شعرت بصلابته وثقله، أخذت نفسًا عميقًا، وبدأت أردد ترنيمتي ببطء:
"تيلا… رونا… جورا… ساي… كالا…"
ترتجف الأرض قليلاً عند قدميّ، الجذع يبدأ بالاهتزاز، ثم يتحرك بضع سنتيمترات، كإشارة واضحة على أن المانا والطاقة والصوت أصبحوا واحدًا. لم أستطع رفعه بالكامل، لكنه كان تقدمًا هائلًا مقارنة بما كنت أستطيع فعله قبل أسبوعين فقط.
شعرت بسعادة غامرة، لكنني لم أصرخ، لم أفرح بصخب. جلست صامتًا، أراقب الأرض وهي تتنفس معي، أتحسس كل نبضة وكل حركة، وأعيد نفس الترنيمة، أشعر بالتحسن في كل مرة.
مونو اقتربت بصمت، وجلست على صخرة قريبة، لم تقل شيئًا في البداية. ثم نظرت إلي بعينيها الحادتين، وقالت: "الترنيمة… إنها أكثر من مجرد كلمات، بليك. إنها إيقاعك، قلبك، طريقة جسدك ليتحدث إلى الأرض. لم تعد تحاول السيطرة بالقوة، بل أصبحت شريكًا معها. هذا ما يجعل سحر الأرض أفضل، ليس أقوى، بل أكثر انسجامًا وحياة."
ابتسمت، شعرت بامتنان عميق، وكأن شيئًا كبيرًا قد تغير بداخلي. كنت أعلم أن الطريق طويل، وأنني لم أصل بعد إلى مستوى الإتقان الكامل، لكنني شعرت لأول مرة بأنني على الطريق الصحيح.
مع مرور الأيام التالية، بدأت أستعمل الترنيمة بشكل طبيعي أثناء تدريباتي اليومية، أدمجها مع حركات يديّ، مع خطواتي، مع تنفسي. شعرت بأن المانا تتدفق بسلاسة، الصخور تتحرك بسلاسة، وحتى التراب يبدو وكأنه يبتسم معي. لم أعد أقاتل الأرض، بل أرقص معها، وكل يوم يصبح التدريب أقل عناءً وأكثر فهمًا وإحساسًا.
في نهاية اليوم، جلست أراقب الغروب، التراب تحت قدميّ دافئ، الصخرة أمامي صامتة لكنها حية، وأنا شعرت لأول مرة بالطمأنينة. شعرت أن التحكم الحقيقي ليس في القوة، بل في الانسجام.
"هذا… هذا شعور جيد،" همست لنفسي، وابتسمت. شعرت بأن كل شيء قد تغير قليلًا، وأن سحر الأرض أصبح صديقي، وبدأت أفهم لغته.
الرياح خفّت، والسماء كانت تتدرج بين اللون البرتقالي والرمادي، كأنها تراقبني. جلست على الأرض، أغمضت عينيّ، وأخذت نفسًا عميقًا، شعرت بكل جزيء من التراب تحت قدمي، بكل حجر صغير، بكل حصاة. لكن هذه المرة، لم أرغب في تحريك ما هو موجود فقط… أردت خلق التراب من العدم.
بدأت أردد ترنيمتي بصوت منخفض، ثم صار أكثر وضوحًا:
"تيلا… رونا… جورا… ساي… كالا…"
في البداية، لم يحدث شيء سوى نبض خفيف في يديّ، شعرت كأن الأرض تتسائل عن نيتي. أعدت التركيز، وحركت يديّ ببطء أمامي، أشبه بعازف يوجّه الريشة على وتر، أستشعر تدفق المانا كما لو كان نهرًا تحت جلدي.
ثم شعرت لأول مرة بشيء غريب: ذرات صغيرة بدأت تتجمع في الهواء، تتلألأ بضوء باهت، وكأنها تستجيب لترنيمتي. قلبت شعوري إلى داخلي، تركت المانا تنساب من جسدي عبر أصابعي، وركزت على الرغبة الصافية في أن أخلق التراب.
تدفق التراب ببطء، في البداية مجرد خيط رقيق، كأن الأرض نفسها تتردد في الثقة بي. لكن مع كل مرة أكرر فيها الترنيمة، يبدأ الخيط في التوسع، يتحول إلى رمال صغيرة تتجمع أمامي، تتشكل إلى كومة صغيرة متماسكة.
تسارعت ضربات قلبي، وبدأت أصوات الترنيمة تتردد داخلي وخارج جسدي في وقت واحد، أسمعها في كل خلية من جسدي، وأشعر وكأن كل جزيء من المانا أصبح واعيًا برغبتي. كنت أتحكم بالتراب ليس بالقوة، بل بالانسجام: حركة يدي، إيقاع أنفاسي، همس الترنيمة، كل شيء متزامن.
بعد دقائق طويلة شعرت أن التراب أصبح مستقرًا أمامي، لكنه ليس مجرد تراب… كان حيا بطريقة غريبة. إذا تحركت يدي، تحرك مع كل حبة، وإذا توقفت، استقر بهدوء. كان شعورًا أقوى من أي شيء شعرت به أثناء تحريك الصخور أو الأرض الطبيعية.
جلست لبعض الوقت، أراقب ما صنعته، وأدرك شيئًا جديدًا: إنه ليس مجرد خلق شيء من العدم، بل التحدث مع عناصر الأرض نفسها، إقناعها بأن تولّد لك. شعرت بأن التراب ينبض تحت يدي، وكأن الأرض تشارك في هذه التجربة، تتنفس، تتحرك، وتستجيب لكل حركة صغيرة من جسدي.
مع مرور الأيام التالية، بدأت أبتكر أشكالًا صغيرة: كومة تراب صغيرة تتحرك مثل موجة، ثم أخرى تتشكل كجدار رقيق، حتى بدأت أصنع جسيمات متفرقة من التراب يمكنني التحكم بها في الهواء، أن أسحبها، أدورها، وأعيد دمجها. لم أعد أحتاج إلى التراب الموجود بالفعل على الأرض؛ بل أصبحت أخلقه من الطاقة نفسها، من المانا، من الإرادة المرتبطة بالترنيمة.
كنت ألاحظ كل تقدم صغير:
اليوم الأول: مجرد خيط رقيق من التراب.
اليوم الثالث: كومة صغيرة ثابتة أمامي.
اليوم الخامس: عدة أكوام صغيرة يمكن تحريكها.
اليوم السابع: جسيمات تراب يمكن التحكم بها في الهواء.
اليوم العاشر: كتلة تراب متماسكة تتحرك كما أشاء، كأنها امتداد ليدي وجسدي.
وفي كل مرة، أردد ترنيمتي بصوت أكثر وضوحًا، أدمج الحركة مع التنفس، أسمع كل اهتزاز وكل صدى. شعرت لأول مرة بأن سحر الأرض أصبح جزءًا من داخلي، وليس مجرد قوة أتحكم بها.
جلست تحت شجرة، أنظر إلى الكتلة التي صنعتها، أشعر بالترابط بين التراب، المانا، جسدي، وروحي. ابتسمت بخفة، همست لنفسي: "لقد بدأنا… لقد بدأنا حقًا."
مونو وقفت خلفي بصمت، تراقب، ولم تبتسم كما تعودت، لكنها قالت أخيرًا: "هذا… ما أسميه التقدم الحقيقي. لم تعد تفرض إرادتك على الأرض، بل أصبحت صديقها ومرشدها."
كانت كلماتها كجرس صافٍ في ذهني، شعرت بالفخر والرضا، لكنني كنت أعلم أن الطريق طويل، وأن ما صنعته اليوم ليس إلا بداية رحلتي الحقيقية مع سحر الأرض.
جلست على الأرض، شعرت بيداي تغوصان في المانا التي تتدفق من جسدي، تلك الطاقة التي أصبحت تعرف طريقها إلى كل خلية مني، إلى أصابعي، إلى عقلي. التراب بدأ يستجيب، ليس كما في البداية، لكنه أصبح امتدادًا لإرادتي. كنت أريد شيئًا أبسط اليوم، شيئًا يمكنني السيطرة عليه بالكامل: تماثيل صغيرة من الصخور، مجرد قطع صلبة، واقعية، تتقاطع مع الواقع كما لو أنني جلبت جزءًا من الأرض إلى الحياة.
أغمضت عيني، تخيلت شكل الصخرة في ذهني: حجمها صغير، سطحها خشن قليلًا، لكنها متماسكة وصلبة. بدأت أردد الترنيمة بصوت منخفض، متدرج، كما لو كنت تهدهد الحجارة نفسها:
"تيرا… ساي… كالا… جورا…"
أصبحت الأصوات تتمايل مع كل نفس، مع كل حركة من يديّ، أشعر بالمانا تتكثف، تتحرك في شكل دوامة صغيرة، ثم تتجمع أمامي. شعرت لأول مرة بالسيطرة الحقيقية: يمكنني أن أمددها، أشكلها، وأعدل ملامحها بدقة.
ثم ظهر الشعور الغريب بالحنين. قلبت رأسي إلى الفراغ، وابتسمت بخفة: كم أفتقد بابادوك وأكيهيكو الآن. كان التدريب طويلًا وصعبًا، وكل يوم يمر دونهم يجعلني أشعر بوحدة غريبة، كأن المكان بأكمله صامت، ما عدا أنا وأصوات المانا. تخيلت ضحكة أكيهيكو الحادة، ونظرة بابادوك الهادئة لكنها مليئة بالمعنى. ابتسمت وأنا أستدعي ذكرياتنا المشتركة في المعارك، الضحكات، اللحظات الصعبة، حتى الغضب والصراخ. شعرت بطاقة جديدة تتدفق بداخلي، طاقة الحنين، وتحولت إلى حافز لصنع شيء أكثر إتقانًا.
بدأت أصنع أول تمثال صغير: رجل واقف، حجم كفّ اليد تقريبًا، تفاصيل وجهه تقريبية لكنها واقعية، جسده مشدود، يبدو مستعدًا للقتال. استطعت أن أشعر بالفرق بين هذا التمثال والحجارة العادية، كأن المانا قد أعطت الحياة الساكنة شكلاً مؤقتًا، يذوب في الواقع عند لمسة خفيفة، لكنه ظل ثابتًا تحت إرادتي.
توقفت لحظة، نظرت إليه، ثم بدأت أعدل: أذناه، شعره، انحناءة ظهره… كل شيء أصبح ممكنًا. لم يعد التراب مجرد كتلة، بل وسيلة للتعبير عن ما في داخلي، عن ذكرياتي، عن شوقي لهم.
اليوم التالي، حاولت تشكيل مجموعة تماثيل صغيرة: خمسة رجال، كل واحد منهم في وضعية مختلفة، يحمل سلاحًا خياليًا، وجوههم تنبض بالحياة الواقعية. استخدمت كل ما تعلمته من التحكم بالمانا وترنيمتي، وكنت أكررها بصوت أكثر اتساعًا:
"تيرا… ساي… جورا… كالا… تيرا…"
بدأت التماثيل تتحرك ببطء، ليس كما لو كانت حية، بل كما لو كانت انعكاسًا لليد التي صنعتها، نسخة ثابتة من الإرادة نفسها. شعرت بفخر كبير، لكن الفخر اختلط بشوق عميق:
"كم كنت أتمنى لو كان بابادوك هنا ليشاهد… أو أكيهيكو ليضحك على محاولتي الغبية"، قلتها لنفسي، وضحكة صغيرة خرجت من بين شفتي. شعرت بأن ذكرياتهم تمنحني قوة مضاعفة للتركيز على التماثيل، وأن الشوق لهم أصبح جزءًا من سحري، جزءًا من إرادتي في تشكيل الأرض.
مع مرور الأيام، صرت قادرًا على:
تشكيل تماثيل صغيرة دقيقة الحجم بتفاصيل وجه دقيقة.
تحريك التماثيل قليلًا باستخدام حركات دقيقة من يديّ.
إنشاء أكثر من خمسة تماثيل في وقت واحد، دون أن ينهار أي منها.
كل يوم، قبل أن أغلق التدريب، كنت أضع أصابعي على التماثيل، أستشعر كل حبة رمل، كل زاوية، وأبتسم. شعرت وكأن التماثيل تحمل جزءًا من أصدقائي، من ذكرياتي معهم، ومن طاقتي المجمعة.
في أحد الأيام، جلست تحت شجرة كبيرة، وأنشأت تمثالًا صغيرًا يبدو كأكيهيكو: شعره مشوش قليلًا، ابتسامته الساخرة واضحة على وجهه الصغير، يده ممدودة كما لو كان يلوح لي. لم أستطع منع الدموع، لكن المانا استجابت بطريقة غريبة، كأن الأرض نفسها تعانق شوقي وذكرياتي، وتثبّت التمثال في مكانه رغم كونه مصنوعًا من العدم.
مونو وقفت خلفي، تراقب صمتي، لم تنطق بكلمة، لكنها لمحت ابتسامة خفيفة على شفتيها، وكأنها تقول: "التقدم الحقيقي لا يُقاس بالقوة فقط، بل بالقدرة على نقل شعورك إلى الأرض نفسها."
وهكذا استمررت، يومًا بعد يوم، أخلق تماثيل جديدة، أعدلها، أستحضر ذكريات أصدقائي لأضيفها إلى كل تمثال. شعرت لأول مرة بأن سحر الأرض ليس مجرد قوة، بل لغة يمكن أن أعبّر بها عن كل شيء بداخلي، حتى الاشتياق والحنين.
جلست تحت ظل الشجرة الكبيرة، يديّ مفرودة على الأرض، عيوني مركزة على حبات التراب الصغيرة. شعرت بتيار المانا يتدفق في داخلي كما لو كان ينبض معي، لكنه هذه المرة كان مختلفًا. لم أعد بحاجة للترنيمة، لم أعد بحاجة للصوت أو الكلمات؛ كل شيء كان يأتي من إرادتي، من إحساسي الداخلي، من الشوق الذي أحمله في قلبي لكل من بابادوك وأكيهيكو، ومن كل يوم قضيناه معًا في التدريب والمغامرات.
رفعت يدي عن الأرض، وشعرت بالتراب يتحرك من تلقاء نفسه، يتجمع أمامي في كتلة صغيرة، تتشكل شيئًا فشيئًا إلى تمثال صغير لرجل واقف، ملامحه دقيقة جدًا، ملمس جلده الحجري واقعي، كل شيء كما لو أن الأرض نفسها استجابت لرغبتي دون أي مساعدة خارجية.
ابتسمت بخفة، شعور غريب اجتاحني: التحكم أصبح طبيعيًا، مثل التنفس. كنت أستطيع أن أشعر بكل حبة تراب، أستطيع أن أحركها، أن أضغطها، أن أنحتها كما أشاء، دون أن أردد أي كلمة، دون أن أغمض عيني. المانا كانت تطيع كل فكرة تمر بعقلي، كل إحساس بداخلي.
حاولت أن أصنع أكثر من تمثال واحد. رفعت يدي الأخرى، وبدأت الأرض تتجمع في أشكال متعددة: خمسة تماثيل، ثم عشرة، ثم عشرون، كل واحدة مستقلة، متحركة قليلًا وكأنها تتنفس، وكأن كل تمثال يملك شخصيته الخاصة. شعرت بالقوة، شعرت بالإنجاز، لكن أكثر من ذلك، شعرت بالحرية.
الحرية كانت تأتي مع كل حركة، مع كل تشكل، مع كل تفصيل دقيق أضيفه إلى التماثيل. لم أعد محصورًا بقوة جسدية أو كلمات، بل أصبحت جزءًا من الأرض نفسها. شعرت برغبة عميقة في أن أجعل التماثيل تعكس ذكرياتي وأصدقائي. صنعت تمثالًا صغيرًا لأكيهيكو: شعره مشوش، ابتسامته الساخرة واضحة، عينيه مليئتان بالحياة. ثم بابادوك، بجسده المتيقظ، ونظرة هادئة مليئة بالقوة.
كل حركة، كل تغيير، كل تمثال كان ينقل شعورًا، شعورًا بالحنين، بالاشتياق، بالفخر بما أصبحنا عليه. شعرت بأن الأرض نفسها تستجيب لمشاعري، وأن المانا أصبحت جزءًا من قلبي.
لم أعد أحتاج للترنيمة، لم أعد أحتاج لأي وسيلة خارجية. كل ما أحتاجه كان الإرادة، والشوق، والانتباه الكامل لكل تفاصيل المكان حولي. شعرت وكأن كل حبة تراب، كل صخرة صغيرة، كل شجرة من حولي تتنفس معي، وتشاركني التدريب، وتسمعني كما لو كانت صديقًا قديمًا.
رفعت يدي مرة أخرى، وحركت الأرض كلها دفعة واحدة. تحولت ساحة التدريب الصغيرة إلى مشهد مذهل: حقل من التماثيل الواقعية، بعضها يتحرك قليلًا، بعضها واقف صامتًا، كلها تحت إرادتي. شعرت بسعادة غامرة، شعور لا يوصف بالكلمات، شعور بأنني أخيرًا أصبحت ساحر أرض حقيقي، قادر على تشكيل الواقع من لا شيء، دون أن أحتاج لأي تعويذة.
ابتسمت، وقلت لنفسي بصوت منخفض، لكن مليء بالثقة:
"لقد أصبحت أستطيع… لقد أصبح هذا جزءًا مني… كل شيء بداخلي يتحرك معي، الأرض معي، المانا معي… وأنا… أنا مستعد لأي شيء الآن."
ثم جلست على الأرض، أنظر إلى التماثيل حولي، شعور بالاشتياق لأصدقائي يزداد. كنت أتمنى لو كانوا هنا، ليشاهدوا هذا الإنجاز، ليشاركوا معي شعور القوة والسيطرة والفخر، ليضحك أكيهيكو على محاولاتي السابقة، ولينظر بابادوك بعينيه الثاقبتين المليئتين بالاحترام الصامت. شعرت بارتباط أعمق بكل شيء: الأرض، المانا، أصدقائي، نفسي، وكل يوم قضيناه في التدريب والمغامرات.
وفي ذلك اليوم، أدركت أنني لم أعد مجرد متدرب على سحر الأرض، بل أصبحت جزءًا من كل شيء من حولي، وأن الإرادة والحنين والذاكرة يمكن أن تتحول إلى قوة حقيقية، حقيقية جدًا… أكثر من أي وقت مضى.
جلست على صخرة صغيرة وسط ساحة التدريب، يدي متشابكة وأفكاري تتماوج بين ما أنجزته وما ينتظرني بعد. أمامي، مونو وقفت، برقتها الفائقة وهدوئها الذي يحيط بها كغيمة ذهبية، عينيها الثاقبتان تنظران إليّ دون أي عناء، وكأنها تستطيع أن ترى كل شيء بداخلي قبل أن أتكلم.
ابتسمت لي، ببطء، ووضعت يديها خلف ظهري وقالت بصوت منخفض ولكنه ملء القوة والفخامة:
"بليك… لقد كنت أشاهد كل تحركاتك، كل تمرين، كل فشل… وكل انتصار. ما فعلته اليوم… ليس مجرد تحكم في سحر الأرض، بل بداية فهمك للمانا بنفسك، دون أي مساعدة خارجية."
شعرت بحرارة في صدري، شيئًا لم أشعر به من قبل. قلب يرفرف بسرعة، وعي كامل بقوة ما حدث. تنفست ببطء، حاولت السيطرة على مشاعري، ثم سألتها:
"مونو… هل تعنين أنني… تحسنت حقًا؟"
ابتسمت، لكن هذه المرة كان ابتسامها يحمل ثقة نادرة وفخامة ملكية.
"أكثر من مجرد تحسن… بليك. لقد تجاوزت مرحلة المبتدئ. لقد أدركت أن الإرادة، والانتباه، والارتباط العاطفي بما حولك يمكن أن يتحول إلى قوة حقيقية. وأنا أرى ذلك فيك."
شعرت بيدين غير مرئية، بتيار من الطاقة يسري داخلي. كانت المانا تتأرجح، مثل نهر يتدفق بوعي خاص به، يدركني ويدرك مكانه في داخلي.
ثم اقتربت مني مونو، نظرت إلى عينيّ بعمق وقالت:
"هناك شيء آخر يجب أن تعرفه… نواتك… لقد تطورت، بليك. من اللون الأسود… إلى الأحمر."
توقف الزمن بالنسبة لي للحظة.
"الأحمر…؟" همست، وكأن مجرد كلمة تحمل كل معنى العالم.
"نعم…" قالت مونو، بهدوء، لكنها كل كلمة كانت كضربة مطرقة على قلبي:
"هذا هو المستوى الأول الحقيقي للوعي بالمانا. اللون الأحمر يعني أن المانا أصبحت أكثر من مجرد طاقة خام. إنها أصبحت وعيك، متصلة بكل شيء بداخلك، بداية التحكم الواعي والقدرة على تحويل ما تشعر به وما تفكر فيه إلى قوة فعلية."
شعرت بصدمة وفرح يختلطان في آنواحد. وقف قلبي لحظة، ثم انفجر شعور غامر بالفخر والإنجاز. لقد فعلتها… لقد وصلت إلى ما لم أكن أحلم به من قبل.
ابتسمت ابتسامة عريضة، شعور بالحرية والقوة في عروقي. "مونو… حقًا؟ هذا… أنا… استطعت؟"
مونو رفعت حاجبها، ثم ابتسمت بخفة، تلك الابتسامة التي تجمع بين الفخامة والاعتراف الصامت بالقوة:
"نعم، بليك. لقد بدأت رحلتك الحقيقية، ولأول مرة، أنت المسؤول عن المانا داخلك بالكامل. لا حاجة للترنيمات، لا حاجة للتوجيه المستمر… هذا أنت، بكل ما تملك من إرادة ووعي."
شعرت بدفء يغمرني من الداخل، ابتسامة لم أتمالكها. "أنا… سأستمر… سأصبح أقوى… سأتحكم في كل شيء من داخلي…"
مونو اقتربت خطوة، ولمست كتفي بخفة، كأنها تمنحني تصديقها على ما أصبحت عليه. "أنا أعلم، بليك… وأنا فخورة بما أصبحت عليه. هذه القوة ليست فقط في يدك، بل في قلبك، وفي إدراكك، وفي كل شيء تعلمته… وكل شيء ستتعلمه بعد."
وقفت، ورفعت رأسي، عيني مليئة بالثقة والفخر، لأول مرة أشعر أنني ساحر حقيقي، متحكم بالمانا، قادر على مواجهة أي تحدٍ. "شكرًا، مونو… لن أخذلك… لن أوقف رحلتي هنا… سأتعلم كل شيء… وسأصبح أفضل."
مونو ابتسمت ابتسامة خفية، ثم تراجعت خطوة إلى الوراء، ووضعت يدها على قلبها بهدوء:
"أعلم ذلك، بليك… أنت الآن بدأت… وهذا مجرد البداية."
وقفت هناك، بين الأرض والسماء، شعور بالطمأنينة والفخر يملأني بالكامل، أعلم أنني قد تحولت، بوعي ومهارة، من مجرد متدرب إلى ساحر حقيقي يبدأ رحلته بعقل وقلب متقدّين.