استيقظتُ ذلك الصباح قبل أن تشرق الشمس. كان الهواء باردًا حدّ القسوة، كأن الليل ما زال يرفض أن يتخلى عن مكانه. جسدي كان متعبًا من شهور التدريب السابقة، لكن داخلي… داخلي كان يشتعل بشيء جديد.
أمسكت صدري، أحسستُ بدقات قلبي تتسارع. لم تكن مجرد دقات… بل كانت كأنها طرقات مطرقة على جدار مظلم، تتهيأ لتشعل نورًا خلفه.
حين خرجت من كوخي الصغير، وجدتها بانتظاري. مونو، واقفة هناك، ساكنة كأنها شجرة قديمة لم تعرف معنى الانحناء للريح. شعرها الطويل الأسود كان يتمايل بخفة في النسيم، وعيناها تنعكس فيهما بقايا ضوء القمر.
ابتسمت قليلًا وهي تراني أقترب.
قالت:
– "ها قد جاء تلميذي النائم أخيرًا… أكنتَ تفكر أن النار ستأتيك إلى سريرك بنفسها؟"
رفعت حاجبيّ بابتسامة متعبة:
– "لقد استيقظتُ قبل الديك نفسه، ألا يكفي هذا؟"
ضحكت مونو، ضحكة قصيرة لكنها دافئة على غير عادتها:
– "أحيانًا أظن أنك لم تعد نفس الفتى الذي التقطته قبل أشهر. لكن… لا تستعجل يا بليك. النار لا تُحِب المتعجلين، هي تُحِب من يقترب منها برغبة، لا بخوف."
صمتُّ قليلًا، أنظر ليدي. هذه المرة لن يكون التراب ولا الصخور رفاقي… بل لهب حقيقي. نار… شيء حيّ، متقلب، لا يرحم.
قلتُ وأنا أحاول أن أبدو واثقًا:
– "سأتعلمها… مهما كان الثمن."
رفعت مونو إصبعها أمامي، وخلفها ظهر لهيب صغير، راقص، يضيء وجهها.
– "النار يا بليك، ليست مجرّد قوة. هي الغضب، هي الشغف، هي الحياة والموت في آن واحد. من يُخطئ في فهمها… يحترق."
ابتسمتُ بمرارة:
– "وماذا عني؟"
اقتربت بخطوات هادئة، حتى صارت أمامي مباشرة. وضعت أصابعها على صدري، فوق قلبي.
– "أنت… لست بحاجة أن تُشعلها من الخارج. قلبك نفسه يحمل ما يكفي ليحرق عالمًا بأكمله. عليّ فقط أن أريك الطريق."
تلعثمت قليلًا… كلماتها اخترقتني أكثر من أي تدريب. لكنني حاولت إخفاء ارتباكي بالرد بسخرية خفيفة:
– "أرجو فقط ألا أنتهي مثل دجاجة مشوية."
ضحكت بصوت أعلى هذه المرة:
– "لو تحولتَ لدجاجة… سأأكلك مع بعض الملح والبهارات. لا تقلق."
ضحكنا سويًا للحظة، لكن سرعان ما عاد وجهها للجدية.
أشارت إلى ساحة التدريب، حيث وضعت أوعية صغيرة من الزيت والحطب اليابس.
– "أول درس اليوم: لا تحاول إشعال نار ضخمة. النار تبدأ دائمًا بشرارة صغيرة. إن لم تتعلم كيف تحمي تلك الشرارة، فلن تفهم أبدًا كيف تكبر."
ابتلعت ريقي. الشرارة… مجرد شرارة، لكنها قد تحدد إن كنت أصلح لهذا أم لا.
جلستُ أرضًا، كما أمرتني. أغمضت عينيّ، وتذكرت كلماتها: النار هي الغضب… هي الشغف… هي الحياة والموت.
داخل ظلام عقلي، شعرتُ بالحرارة. ليست حرارة الشمس، بل حرارة داخلي أنا. الغضب من الماضي، الشغف بالنجاة، الحنين لمن فقدتهم.
مددت يدي، وترنمت بصوت خافت، ليس بكلمات مونو، بل بكلماتي أنا:
– "تعالي… تعالي إليّ."
وفجأة…
فوووش!
خرج خيط صغير من اللهب من بين أصابعي. ضعيف، مرتجف، لكنه حي.
فتحتُ عينيّ على اتساعها. كان هناك، أمامي، أول لهب أخلقه أنا.
مونو صفقَت ببطء، وهي تبتسم ابتسامة نادرة:
– "مبروك يا بليك… لقد وُلدتَ من جديد."
في البداية، كنت فخورًا بتلك الشرارة الصغيرة التي خرجت من يدي. لكنها سرعان ما انطفأت، كأنها تسخر مني. بقيتُ أحدّق في أصابعي وكأنها خانتني.
مونو ضحكت وقالت:
– "يا صغيري، النار مثل قطة متوحشة… تأتيك حين تريد هي، لا حين تأمرها أنت."
أطلقتُ تنهيدة طويلة:
– "هذا يعني… أن عليّ أن أتوسل لقطة مشتعلة كل يوم؟ رائع."
مرّت الأيام الأولى وأنا أجلس ساعات طويلة أحاول إشعال لهبٍ مستقر. أحيانًا يخرج لهب بحجم شمعة، وأحيانًا يخرج انفجار صغير يحرق حاجبيّ. مونو كانت تضحك في كل مرة أعود بوجهٍ مسوّد أو بملابس محترقة.
في أحد الأيام، صرختُ عليها غاضبًا:
– "هل أنا أتعلم سحر النار… أم أتعلم كيف أصبح رجل إطفاء؟!"
ابتسمت بهدوء:
– "كلاهما. الساحر الجيد هو من يعرف كيف يشعل النار… وكيف يطفئها أيضًا."
لم أستطع الرد. كلماتها دائمًا كانت تحمل طبقات أكثر مما تبدو.
---
الأسبوع الأول: نار المشاعر
بدأت أدرك أن النار تستجيب لمشاعري. في يوم كنت غاضبًا من ذكريات قديمة، فاشتعل لهب كبير دون أن أقصد، حتى أنني كدت أحرق نصف الغابة. ركضت مونو وأطفأته بحركة يد سريعة، ثم ضربتني على رأسي:
– "ألم أقل لك؟ النار مرآة قلبك. غضبك = انفجار. تردّدك = دخان. هدوؤك = لهب صافٍ."
في تلك الليلة لم أنم، ظللت أفكر: هل أستطيع حقًا أن أتحكم بناري إذا لم أتحكم بنفسي؟
---
الأسبوع الثاني: نار الإرادة
بدأت أتعلم كيف أركز على لهب صغير، أبقيه مستمرًا لدقائق دون أن ينطفئ. كانت أصابعي تحترق، يداي تمتلئ بالبثور. لكن مع كل جرح، كان داخلي يقوى أكثر.
مونو كانت تجلس بجانبي أحيانًا، تمد يدها وتضع مرهمًا على حروقي، وتقول بنبرة خفيفة:
– "أنت تتحمل أكثر مما ظننت، يا بليك. لكن لا تدع الألم يجعلك تنسى أن النار ليست عدوك."
سألتها يومها وأنا أنظر إليها:
– "هل مررتِ بهذا من قبل؟"
صمتت قليلًا، ثم ابتسمت ابتسامة حزينة:
– "أنا… كنتُ نارًا قبل أن أتعلم أن أكون إنسانة."
لم أفهم تمامًا، لكنني شعرت بشيء في صوتها… شيء أعمق من مجرد تدريب.
---
الأسبوع الثالث: نار الإبداع
هنا بدأت أكتشف أن النار ليست مجرد لهب للحرق. حاولت تشكيلها: كرة صغيرة مضيئة أستخدمها لإضاءة الليل، شرارات صغيرة ترقص في الهواء، حتى أنني صنعت طائرًا ناريًا صغيرًا حلق أمام وجهي قبل أن يتلاشى.
ضحكتُ يومها من قلبي لأول مرة منذ زمن طويل.
مونو ابتسمت أيضًا، وقالت وهي ترفع حاجبها:
– "ها هو الطفل يعود ليلعب… لكن لا تنسَ يا بليك، اللهب يمكن أن يكون جميلًا… وقاتلًا في اللحظة نفسها."
---
الأسبوع الرابع: نار الإرادة الخالصة
وصلت لمرحلة أنني لم أعد بحاجة لا لترنيمة ولا ليدين ثابتتين. كنت فقط أتنفس… والهواء يشتعل حولي.
أحيانًا أفتح راحتي فتظهر نار حمراء مستقرة، تنبض مثل قلبٍ صغير.
مونو نظرت إليها وقالت بجدية:
– "لقد تغيرت، بليك. نواة ماناك الحمراء الآن تحمل روح النار. لكن تذكر… السيطرة لا تعني الكمال. النار ستختبرك دائمًا، وستحاول الهروب من قفصك متى غفلت عنها."
رفعت اللهب أمام عينيّ، وشعرت كأنه يبتسم لي.
قلتُ لنفسي:
"أنا لم أعد مجرد ناجٍ… أنا أُصبح شيئًا آخر. شيئًا قادرًا على إشعال الطريق حتى وسط أحلك الظلمات."
---
هكذا مرّت الأيام، وكل يوم كنت أقترب خطوة من أن أصبح ساحرًا حقيقيًا. لكني لم أكن أعرف أن الشرارة التي تعلمتها… ستصبح قريبًا وقودًا لمعركة لم أتخيلها أبدًا.
الأيام تمضي ببطء قاتل، وكأن الزمن نفسه يختبئ في زوايا الغابة ليضحك عليّ كلما حاولت إشعال نار مستقرة.
في صباح أحد الأيام، كنت أحاول التركيز على لهب صغير في راحة يدي، لكن النتيجة كانت انفجارًا صغيرًا أرسل رمادًا في شعري. تنهدت، وقلت بصوت مليء بالإحباط:
– "لماذا كل شيء يبدو سهلاً عند الآخرين… وصعبًا هكذا بالنسبة لي؟"
مونو نظرت إليَّ ببرودتها المعتادة، لكن هناك ابتسامة صغيرة في زاوية فمها:
– "لأنك لا تراهن على الوقت، بليك. النار تحتاج إلى صبر، أكثر من القوة. إنها ترفض العجلة."
أخذت نفسًا عميقًا، وقلت:
– "صبر؟ لقد كنت صبورًا طوال أسابيعي في التدريب على الأرض والماء… وهذا صعب أكثر!"
ضحكت مونو، ثم أمسكت بيدي، ودفعتها نحو جذع صغير:
– "جرب التركيز على الجذع، لا على النار. دع النار تأتي إليك عندما تكون مستعدة، وليس عندما تريدها أنت."
---
أسبوع جديد: صراع الجسد والعقل
لم يكن الأمر مجرد إرادة. كل يوم كنت أشعر بالإرهاق الجسدي: أصابعي تحترق، يداي تتقرح، جسدي يتعرق من الحرارة والضغط. لكن التحدي الحقيقي كان نفسيًا. كل مرة أفشل فيها، كنت أرى شكلي في المرآة المائية: شاب متعب، عينيه مليئتان بالغضب والإحباط.
كنت أصرخ أحيانًا:
– "كفى! لماذا لا تتبعوني يا لعنة النار؟!"
مونو كانت تجلس بجانبي، تأخذ رشفة من شايها، وترد بهدوء:
– "لأنك لم تمنحها سببًا لتتباعك بعد. النار ليست مجرد قوة… إنها امتداد لمشاعرك. غضبك، خوفك، أملك… كل ذلك يوجهها."
بدأت أفهم شيئًا. السيطرة على النار لم تكن عن دفعها أو إجبارها. كانت عن الانسجام معها، وفهمها، وتركها جزءًا مني.
---
أيام من الصبر
تكررت المحاولات يومًا بعد يوم. في البداية، كنت أخلق شرارة واحدة صغيرة فقط، كطفل يحاول إشعال شمعة. بعد أسبوع، بدأت الشرارة تكبر، وتتحرك ككائن حي يتنفس معي.
كنت أراقب النار وكأنها مرايتي، وألاحظ كل اهتزاز، كل تغير في اللون أو الحرارة.
مونو قالت مرة:
– "لاحظتها؟ الآن النار تبدأ بإخبارك بما تريد. ليست مجرد أداة… بل رفيق."
ضحكت من الفكرة، ثم قلت:
– "رفيق؟ أحيانًا أشعر أنها تحاول حرقني، لا مصادقتي."
ابتسمت مونو، وقالت:
– "ستتعلم قريبًا الفرق بين الغضب الناري والنار الموجهة."
---
النجاحات الصغيرة
بعد أسبوعين من التدريب المكثف، نجحت في تشكيل لهب صغير على شكل حلقة مستديرة، ثابته في الهواء دقيقة كاملة. شعرت بالفخر، رغم أن حجم النار لا يزال صغيرًا جدًا.
مونو قالت:
– "جيد جدًا… لكنها مجرد البداية. النار الحقيقية لا تظهر إلا عندما تواجهك التحديات."
كانت كل كلمة منها تحفزني أكثر، رغم صرامتها، رغم مزاحها اللطيف أحيانًا.
---
الإحباط الكبير
لكن لم يكن كل شيء سهلاً. في يوم، حاولت خلق لهب كبير جدًا لأرى حدودي، وانفجرت النار فجأة، أرسلت شرارات في كل مكان، وحتى أني كدت أحرِق حافتي ملابسي. جلست على الأرض منهكًا، أتنفس بصعوبة، وقلت بصوت منخفض:
– "ربما أنا لست مستعدًا أبدًا…"
مونو جلست أمامي، نظرت في عيني، وقالت:
– "بليك… لست هنا لتكون جاهزًا منذ البداية. أنت هنا لتصبح، تدريجيًا. كل فشل يقربك أكثر، كل حرق صغير يعلمك شيئًا جديدًا."
ابتسمت رغم دموعي، وأدركت أنها على حق.
---
لحظات الانسجام
بعد أسابيع طويلة، وجدت نفسي قادرًا على إشعال نار صغيرة، تتحرك بسلاسة، تستجيب لحركتي، لتفكيري، وحتى لمشاعري. شعرت بأن يدي ليست مجرد أدوات، بل بوابة لنواة المانا الحمراء التي اكتسبتها في تدريب الأرض.
في إحدى الليالي، جلست أمام النار، أراقبها وهي تتراقص، وقلت لنفسي:
"أنا لم أعد خائفًا من النار… أنا أصبحت جزءًا منها. وكل يوم يمر، أتعلم أن القوة ليست في الحجم… بل في الانسجام."
في صباح مشمس بعد أسابيع من التدريب المكثف، شعرت بشيء غريب يتغيّر بداخلي. لم تعد النار مجرد شرارة صغيرة تتراقص في يدي، بل بدأت تشعرني بأنها تفهمني. كأنها تقول لي: "حسنًا، أخيرًا بدأت تستمع إلينا."
وقفت في وسط ساحة التدريب، وقلت لنفسي:
– "حسنًا يا بليك… اليوم سنرى ما إذا كنت جاهزًا لترك النار تتحرك بحرية."
مونو ظهرت كالعادة، تلك الملامح الجادة ممزوجة بابتسامة خفية، وقالت:
– "أتساءل… هل هذه المرة ستكون نارك مثل لهيب الشمس، أم مجرد شمعة خافتة؟"
ضحكت رغم الجدية، وقلت:
– "أراهن أنها ستكون… أقل فوضوية من ذي قبل على الأقل!"
ابتسمت مونو، وقالت بجدية:
– "احذر، عندما تشعر بالثقة… النار تختبرك أكثر."
---
التركيز الكامل
جلست على الأرض، أغلقت عيني، وتنفست ببطء. بدأت أشعر بكل نبضة في جسدي، كل تدفق للمانا في نواتي الحمراء. شعرت بالحرارة تكبر، لكن هذه المرة لم تكن خوفًا، بل حماسة وحيوية.
أشعلت النار لأول مرة بدون ترنيم أو تعويذة، وهبت شرارة كبيرة في الهواء، تشق طريقها نحو السماء. لم أكن أحاول السيطرة عليها بالقوة، بل كنت أراقبها كرفيق جديد.
مونو، من خلفي، قالت ببرودتها المعتادة:
– "ليس سيئًا… لكن يمكنها أن تكون أكثر استجابة، إذا فهمت أن مشاعرك هي مفتاحها."
---
مزيج القوة والصبر
مع مرور اليوم، كنت أجرب تحريك النار، تشكيلها، توجيهها حولي، وأحيانًا حول جذع شجرة أو صخرة صغيرة. كل مرة كنت أشعر بتحسن قليل، لكن التحدي الأكبر كان الحفاظ على الثبات النفسي.
مرة، حاولت توسيع دائرة النار لتغطي مساحة أكبر، وفجأة انطلقت لهب هائل نحو الغابة الصغيرة المحيطة بنا.
صرخت:
– "أوه لا… ليس مرة أخرى!"
مونو ظهرت بسرعة، تضع يدها على كتفي:
– "توقف عن القلق. هذا مجرد اختبار… النار تحاول أن تتعرف عليك، لا أن تدمرك."
ضحكت رغم الموقف:
– "أعتقد أنها تعرفني جيدًا أكثر من بعض أصدقائي!"
---
أول توافق حقيقي
بعد أيام من التدريب المكثف، جاء اليوم الذي شعرت فيه بأن النار أصبحت امتدادًا لي، جزءًا من جسدي وروحي.
أغلقت عيني، ركزت على إحساسي الداخلي، ثم فتحتها ببطء. النار أمامي لم تتحرك فقط حسب إرادتي، بل بدأت تتبع نبضات قلبي، وتستجيب لتقلبات شعوري، وتحميني بدلًا من تهديمي.
ابتسمت، وقلت بصوت منخفض:
– "أعتقد أننا أصبحنا أصدقاء حقيقيين، يا نار…"
مونو، التي كانت تراقبني بصمت، قالت بهدوء مع احترام واضح:
– "أخيرًا، بدأت تدرك أن القوة الحقيقية تأتي من الانسجام، لا من السيطرة العنيفة."
كانت تلك اللحظة تحولًا حقيقيًا بالنسبة لي. لم أعد أقاتل النار، لم أعد أحاول السيطرة عليها بالقوة، بل أصبحت شريكًا معها، جزءًا من دورة الطبيعة نفسها.
---
نهاية التدريب اليومي: شعور بالفخر والإنجاز
جلسنا على صخرة ضخمة بعد الانتهاء، وأنا أنظر إلى النار الصغيرة التي ترقص أمامي.
– "أعتقد أنني فهمت شيئًا اليوم… ليس عن النار فقط، بل عن نفسي أيضًا. القوة الحقيقية ليست في القتال أو في الانتصار، بل في القدرة على التوازن مع ما لديك."
مونو ابتسمت، للمرة الأولى بابتسامة أكثر وضوحًا، وقالت:
– "حسنًا، بليك… اليوم، شرارتك لم تعد مجرد بداية. إنها الشرارة الحقيقية."
جلست هناك، أتنفس بعمق، وأنا أشعر بأن كل تدريب سابق، كل معركة، كل فشل… كل شيء كان يقودني إلى هذه اللحظة.
نواة المانا الحمراء بداخلي لم تعد مجرد رمز للتقدم، بل أصبحت مصدر الثقة والانسجام الداخلي.
جلست في وسط ساحة التدريب، الشمس تتسلل عبر الغيوم، والهواء مليء برائحة التراب والدخان الخفيف. كنت أنظر إلى يدي، التي لم تعد ترتجف عند استدعاء النار، بل أصبحت واثقة، وكأنها تعرف كل حركة قبل أن أفكر بها.
أغمضت عيني، واستحضرت الطاقة التي شعرت بها خلال الأيام الماضية. فجأة، اندفعت النار من يدي مثل شلال من اللهب الأحمر والذهبي، تشق الهواء بسلاسة ودقة مذهلة. لم يكن مجرد وهج أو شرارة، بل رقصة متناغمة، متقنة، وكأن كل شعلة تعرف مكانها تمامًا.
قلت لنفسي:
– "أعتقد أنني… بدأت أفهمها. كل شرارة، كل لهب، جزء مني."
مونو ظهرت من بعيد، تراقبني بابتسامة نصف خفية، نصف جادة:
– "أخيرًا، لم تعد مجرد نار… أصبحت تُجيد اللعب معك، وليس ضدك."
ضحكت بخفة:
– "أراهن أنها كانت تنتظر هذا اليوم أيضًا!"
---
تجارب النار العملية
قررت أن أجرب تحريك النار في أشكال أكثر تعقيدًا. بدأت بأشكال بسيطة: دوائر صغيرة، قوسين متداخلين، ثم شرارات تتقاطع، وكل مرة ألاحظ أن النار تتكيف مع سرعة وحركات جسدي.
لاحقًا، حاولت محاكاة تقنيات الدفاع والهجوم مع النار:
1. درع النار: شكلت حاجزًا من اللهب حولي، شعرت بأن كل موجة حرارة صغيرة تصرف الطاقة السلبية بعيدًا عن جسدي.
2. سهم النار: أطلقت شعلة مركزة على هدف صغير، فصدمتني دقة الهجوم، وكأن النار نفسها اختارت نقطة الاصطدام الأنسب.
3. رقصة اللهب: حرّكت النار بين يديّ بسرعة، مكونًا نمطًا متقنًا يشبه رقصات الجنود في تدريبهم، فابتسمت وقالت مونو من بعيد:
– "يبدو أنك بدأت تتحرك بتوقيت قلبك، وليس بقوتك فقط. هذا التوافق هو ما يميز الساحر الحقيقي."
---
تحكم عاطفي ونفسي
أدركت شيئًا مهمًا: سحر النار ليس مجرد قوة خارقة، بل انعكاس لعواطفي وحالتي النفسية. في لحظات الغضب، كانت النار تتفجر بلا تحكم؛ في لحظات الخوف، كانت تتباطأ أو تتلاشى.
اليوم، مع شعور الفخر والانسجام الداخلي، النار لم تعد تتصرف وفقًا لمشاعري السطحية، بل وفقًا لإرادتي المركزة. شعرت بالقوة، نعم، لكنها قوة متزنة، ليست عشوائية ولا مدمرة.
قلت بصوت منخفض:
– "أعتقد أنني… لم أعد أقاتل النار، بل أصبحت أتناغم معها."
مونو، التي كانت تراقبني بهدوء، قالت:
– "هذا هو الاختبار الحقيقي. أن تعرف كيف تتحكم بدون السيطرة بالقوة، وأن تدرك أن الشجاعة ليست مجرد اندفاع، بل انسجام."
--
بينما كنت أمارس التمرين الأخير، فجأة خرجت شرارة كبيرة أكثر من اللازم، وأحرقت شعرة من شعري!
صرخت:
– "آه! شعري!"
مونو ظهرت بجانب الضحك نصف الجدي، نصف المرح:
– "ربما حان الوقت لقص شعرك، بليك. النار ليست مزحة!"
ضحكت رغم الألم الطفيف، وقلت:
– "أعتقد أنها تريد مني أن أتعلم الصبر… أو أن أستثمر في قبعة مقاومة للنار!"
جلسنا بعد انتهاء التدريب، النار الصغيرة ترقص بين يديّ بسلام، وأنا أشعر بأنني لم أصبح فقط أكثر قوة، بل أكثر وعيًا، وأكثر توافقًا مع نواتي الحمراء والمانا بداخلي.
الآن، ليس فقط جسدي أو مهاراتي هي ما تطورت، بل عقلي وروحي أصبحا جزءًا من التوازن مع النار.
مونو، بابتسامة نادرة، قالت أخيرًا:
– "بليك… اليوم، شرارتك لم تعد مجرد شرارة. إنها شعلة يمكن أن تشعل طريقك، وأنت تعرف كيف تحميها وتوجهها."
ابتسمت، وأغمضت عيني، وأنا أشعر لأول مرة بالانسجام الحقيقي مع سحر النار، متحمسًا لما سيأتي بعد ذلك، لأنني الآن أعرف أن كل عنصر يمكن أن يصبح جزءًا مني، إذا استمعت إليه وفهمته.
جلست على الأرض قليلاً، أتنفس بعمق، والنار الصغيرة ترقص حولي مثل خيوط ذهبية، تشبه شعلة حرة تحوم بلا قيود. شعرت بشعور غريب: التحكم الكامل بالعنصر لم يعد حلمًا بعيدًا، بل أصبح حقيقيًا.
قلت لنفسي:
– "حسنًا… حان الوقت لرؤية ما إذا كنت أستطيع أن أخرج كل الطاقة دفعة واحدة."
رفعت يدي، وبدأت أركز كل المانا والنواة الحمراء بداخلي. شعرت بالحرارة تتجمع في صدري، ثم تنتشر عبر ذراعيّ. النار بدأت تتوهج بشدة، كأنها تنصت لكل نبضة في قلبي، لكل فكرة في رأسي.
ابتسمت بحماس، وقلت:
– "لنرى مدى قوتك، أيتها الشرارة!"
ثم أطلقت هجمة نارية مركزة، طويلة، وحارقة، تتجمع في كرة لهيب ضخمة. شعرت بامتدادها، وسحرها كأنه يندمج مع إرادتي. توجهت الكرة نحو شجرة كبيرة قريبة من الساحة.
ارتجفت الشجرة تحت قوة الهجمة، ثم… سقطت بخشوع على الأرض، تصدح بأصوات كسر الأغصان والفروع. شعرت بارتياح وفرحة عارمة، رفعت يدي للأعلى، والنار الصغيرة استجابت وكأنها تحتفل معي.
صرخت وأنا أضحك:
– "لقد فعلتها! لم أعد مجرد مبتدئ، بل بدأت أشعر بقوة حقيقية!"
مونو وقفت على بعد خطوات، تراقبني بابتسامة نادرة، تقول بجدية ممزوجة بضحكة
– "أخيرًا… لم تعد النار مجرد شغف، بل أصبحت سلاحك. ولكن احذر، كل قوة تحتاج إلى عقل يوجهها."
أومأت، وأنا أستمر في النظر إلى شجرة السقوط، شعرت بكأن كل التدريب، كل لحظة صبر وإحباط، كانت تستحق ذلك الشعور الفريد بالإنجاز.
ثم جلست قليلاً، أطلق النار حولي بشكل خفيف، أشعر بحرارة القوة تتغلغل في جسدي وروحي. ابتسمت لنفسي، وقلت بصوت منخفض:
– "هذا فقط البداية… فقط البداية، بليك. أمامك عناصر كثيرة، وكل واحدة ستعلمني درسًا جديدًا… لكن اليوم، النار كانت معي، وأنا كنت معها."
.