{بعد ثلاثة أيام}
.
لقد حان وقت العودة إلى المدرسة.
أنا الآن طالب في الصف الأول الثانوي، في مدرسة جديدة لا أعرف عنها شيئًا سوى اسمها، وبين أشخاص لم ألتقِ بهم من قبل.
كل شيءٍ يبدو غريبًا... وكل شيءٍ يجعلني أشعر وكأنني أبدأ من الصفر، مرة أخرى.
خرجتُ من سريري ببطء.
توجهت إلى الحمّام، غسلت وجهي، نظّفت أسناني، ثم وقفت أمام المرآة للحظة.
تأملت انعكاسي بصمت. بدا لي وجهي مألوفًا... وغريبًا في آنٍ واحد.
وكأن شيئًا ما تغيّر، لكنني لا أعرف ما هو.
نزلتُ إلى الطابق السفلي. تناولت فطوري بصمت، دون أن أتذوقه حقًّا. كنت أفكّر، أو بالأحرى... كنت أهرب من التفكير.
عدت إلى غرفتي، التقطت حقيبتي، وقفت عند الباب.
ثم جاء السؤال.
هل آخذه معي؟
نظرتُ إلى الطاولة، حيث كان يرقد الكتاب... كتاب "شمس المعارف".
صامتًا كعادته، لكنه يملأ الغرفة بثقله.
ترددت.
كنت أعلم أنني لا أحتاجه في المدرسة.
وأعلم أن وجوده في الحقيبة قد يعني شيئًا… لا أفهمه بعد.
لكن… جزءًا مني لم يشأ أن أتركه وحيدًا.
مددت يدي، التقطت الكتاب، وضعته في حقيبتي.
وأخيرًا، خرجت من المنزل.
و توجهت الي المدرسة
كنت أمشي في طريق المدرسة، والهواء البارد يلفح وجهي، لكن في داخلي كان هناك بردٌ أعمق من برودة الصباح.
خلال خطواتي، بدأت تتدفق إلى ذهني ذكرياتٌ من الماضي، ذكرياتٌ كنت أُفضل نسيانها، لكنها اليوم كانت تتسلل بلا استئذان.
عدتُ بذاكرتي إلى أيام المدرسة الابتدائية، إلى الصف الثاني بالتحديد.
كنت صغيرًا، ضعيفًا في عيني زملائي، لا أدري لمَ كنت هدفًا سهلاً لهم.
أتذكرها بوضوح...
كانت هناك فتاة تقود ثلاثة أطفال، ويبدو أنهم كانوا يستمتعون بإذلالي.
بدأوا بضربي بلا رحمة.
لم أقم بأي مقاومة، لم أرفع صوتي، لم أؤذِ أحدًا.
كنت فقط أتوسل إليهم أن يتركوني، أكرر طلباتي بلا فائدة.
كانت ركلاتهم تصيب ساقي، وكنت أحاول كبت دموعي حتى لا يروني ضعيفًا.
نظرت إلى صديقي الذي كان معي وقتها،
كنت أترقب تدخله لإنقاذي، لكنه اكتفى بالنظر، كأنه غريب عن المشهد.
هربتُ في النهاية، أجرُّ قدميَّ وأتنفس بصعوبة، أهرب من الألم الجسدي، ومن الخزي الذي غمر قلبي.
منذ تلك اللحظة، أصبح لدي ذلك القلق الاجتماعي الذي يلازمني حتى اليوم،
ذلك الخوف الدائم من أن أكون وحيدًا وسط الناس،
القلق من أن أكون مرة أخرى ذلك الطفل الضعيف الذي لا حول له ولا قوة.
وقفت للحظة، استنشقت الهواء بعمق، ثم واصلت المشي،
أحاول أن أجمع نفسي، وأترك تلك الذكريات تدفنها خطواتي في الأرض.
"مازلت لحد الان أتذكر اسم تلك الفتاة"
في نفس الوقت
كان بابادوك يختبئ فوق أسطح المنازل، يتربص بليك كالصقر الذي يراقب فريسته.
عيناه الثاقبتان لا تفارقان كل حركة، كل خطوة يخطوها ذلك الطفل.
همس بغضب مكتوم، وكأن الكلمات تخرج من أعماقه المظلمة:
"ذاك الطفل الغبي... كيف يجرؤ على إهانتي في ذلك الوقت؟"
ضحك ضحكة متهكمة، قاتمة، مفعمة بالانتقام.
"سوف أنتقم منه...
وسآخذ الكتاب منه مهما كلفني الأمر."
قفز من سطح إلى آخر بخفة ورشاقة مخيفة، تتبع خطوات بليك بلا هوادة، كظل لا يفارقه.
وصلتُ إلى بوابة المدرسة الثانوية، ووقفت للحظة أتنفس بعمق، أحاول أن أهدئ من توتري.
المدرسة كبيرة، وجدرانها تحمل عبق سنوات طويلة من قصص لا أعرف منها شيئًا.
دخلتُ إلى الفصول، والوجوه غريبة عليّ، لا أعرف أحدًا بينها.
جلستُ في مكاني، وبدأ قلبي ينبض بسرعة، كل شيء حولي يبدو جديدًا وغير مألوف.
همستُ في نفسي:
"هذا منطقي، في النهاية أنا جديد في البلدة."
لكنني أضفت بمرارة:
"وكأن لدي أصدقاء أصلًا في بلدتي القديمة..."
فجأة، دخل المعلم إلى الصف.
كان رجلاً في أوائل الأربعينيات من عمره، طويل القامة، ذو نظرة صارمة ولكنها تحمل في طياتها لمحة من الحنان.
كان يرتدي قميصًا أزرق أنيقًا وربطة عنق داكنة. شعره الأسود بدأ يظهر عليه بعض الشيب، مما أعطاه مظهرًا محترمًا وخبرة كبيرة.
وقف أمام الصف، وقال بصوت واثق:
"صباح الخير يا طلاب، أنا السيد تاكاشي، مدرسكم في مادة اللغة الإنجليزية هذا العام. أرجو أن نتعاون جميعًا لتكون سنة دراسية ناجحة."
ثم بدأ الطلاب يتعريفون عن أنفسهم، واحدًا تلو الآخر.
كانت هناك فتاة تبتسم بخجل، تقول:
"أنا ايكو ، أحب الرسم والموسيقى."
وشاب يرتدي نظارات يقول بثقة: "أنا كانجي ، مولع بالتكنولوجيا والبرمجة."
.
ومن ثم آخر مرح يضحك كثيرًا ويتحدث عن هوايته في كرة القدم، قال: "أنا جايك، أحب كرة القدم."
.
وصل الدور إليّ، وارتفع صوت المعلم قائلاً:
"والآن، نود أن نسمع من زميلنا الجديد، Blake."
في نفس الوقت
كان "بابادوك" جاثمًا فوق أحد أعمدة الإضاءة القريبة من نافذة الفصل، متخذًا شكل ظلٍّ لا يُرى بالعين البشرية. عيناه المتوهجتان تتابعان بليك من اللحظة التي دخل فيها إلى المدرسة.
راقبه بصمت، ثم تمتم وهو يرفع حاجبه الأسود الحادّ:
"ظننت أنك شخص قوي الشخصية بسبب تهديدك لي... لكنك مجرد طفل."
تثاءب وهو يتابع المشهد أمامه.
كان الفصل هادئًا نسبيًا، حتى وقف بليك ليعرّف عن نفسه، وصوته يرتجف كأنه أرنب في مواجهة نمر.
"أنا بليك إيثر... عمري... أنا جديد في البلدة، ليس لدي هوايات محددة، لكني أحب متابعة الأنمي، شكرًا."
ثم جلس فجأة، ووضع رأسه على الطاولة وكأن الأرض ابتلعته من الإحراج.
تجمد وجه "بابادوك"، ثم فرك عينيه الكابوسيتين غير مصدق:
"هل هذا... فعلاً مالك كتاب شمس المعارف؟!"
بدأ يهز رأسه يمينًا ويسارًا، وهو يتمتم بسخرية:
"ماذا حدث بحق الجحيم للعالم؟"
ثم انفجر ضاحكًا بينه وبين نفسه، ضحكة خافتة مشوبة بالشرّ:
"يبدو أنني بالغت في تقديرك يا بليك إيثر... لو علمت أنك تخجل من التعريف بنفسك لما أرهقت نفسي بتتبعك عبر أسطح المباني!"
وفجأة سقط من على العمود بفعل ضحكة قوية أفقدته توازنه، لكنه تدحرج بهدوء في الهواء قبل أن يختفي في الظلال وهو يقول:
"على كل حال... سأنتظر. كل شيء في وقته."
في طريقي إلى المنزل، كانت قدماي تمشيان وحدهما، بينما عقلي في مكانٍ آخر تمامًا.
كنت أفكر بشأن الكتاب.
"ربما يجب عليّ أن آخذه إلى مترجم... شخصٍ يفهم اللغات القديمة، أو الرموز، أو... أي شيء قد يساعدني على فكّ شيفرته."
لكن أفكاري انقطعت فجأة.
سمعت صوتًا... غريبًا.
كان صوت حيوان، لكنه ليس طبيعيًا. شيءٌ بين زمجرة تنين ونباح كلب جائع. صدى الصوت خرج من أحد الأزقة الضيقة على جانب الطريق.
ترددت... ثم اقتربت.
رأيت كلبًا أسود اللون، نحيفًا، عينيه تلمعان في الظلام.
كان يبدو جائعًا جدًا، ومتألمًا.
وبما أنني لا أزال "أنا"... اقتربت، بحذر.
"هيه، صغيري... هل أنت بخير؟"
لكن قبل أن أتمكن من فعل شيء، تغيّر الكلب...
تحوّل أمام عينيّ.
ظل على شكل كلب، لكن رأسه أصبح أكبر، فمه امتلأ بأنـياب طويلة حادة، مخالبه تضخّمت بشكل مرعب، وكل جزء منه صاحَ بخطرٍ قادم.
ثم... هاجمني.
قفزت إلى الوراء بسرعة، وركضت بأقصى ما لديّ خارج الزقاق، عائدًا إلى الشارع الرئيسي.
لكنه... كان خاليًا.
لا أحد هناك.
لا سيارات، لا بشر، لا أصوات.
كأن العالم تجمّد.
ركضت. وركضت.
لكن الكلب كان أسرع. يلهث خلفي، يكاد يلمسني بأنفاسه.
نظرت حولي بيأس، فرأيت غطاء صرف صحيّ معدني، دائري الشكل، عند حافة الرصيف.
دون تفكير، انتزعته بكلتا يديّ، رفعته بصعوبة، واستخدمته كدرع.
قفز الوحش عليّ، واصطدم بالغطاء المعدني، وأسنانه تنهش فيه بعنف.
لكن فجأة، رفع إحدى مخالبه...
وقصم الدرع إلى نصفين.
وقعتُ على الأرض.
الدرع المنكسر سقط بجانبي.
الرعب تسلّل إلى عينيّ...
لم أعد أملك شيئًا. لا سلاح، لا حماية، لا مهرب.
الوحش استعدّ للهجوم القاتل.
لكنه لم يصل إليّ.
فجأة، من السماء، سقطت مظلّة سوداء.
سقطت بسرعة رهيبة، واخترقت ظهر الوحش بثباتٍ ودقّة، حتى التصقت بالأرضية تحته.
انفجرت الأرض حوله بتشققٍ عنيف.
الوحش صرخ صرخةً خافتة... ثم تجمّد مكانه.
كانت المظلّة السوداء لا تزال مغروسة في الأرض... وفي جسد الكلب الوحش.
وفجأة...
انفردت المظلّة من تلقاء نفسها.
ببطء... وبصوتٍ خافت يشبه صوت الموت.
وفور انفراجها الكامل، انفجر الوحش نحو الأسفل، كأن الأرض ابتلعته، ولم يبقَ منه أي أثر.
حدّقت بالمشهد بذهول.
"من أين أتت هذه؟"
وسرعان ما هبط أمامي شخصٌ غريب... أو لا... ليس غريبًا تمامًا.
بابادوك.
تجمّدت.
"ماذااااااااااااااااااااا؟! أنت من رمى المظلّة؟!"
رمقني بنظرة ميتة، ثم قال ببرودٍ قاتل:
"ومن تظنّ حسب رأيك، أيها الأحمق... الخيول؟"
لم أجد ردًّا مناسبًا. فقط نظرت إليه، وأنا أحاول استيعاب أن من أنقذني هو... الكائن الذي هدّدني قبل أيام.
"لماذا أنقذتني؟" سألت، بشيء من التردد.
أخذ المظلّة من الأرض، أغلقها بحركة واحدة، ثم ضربني بها على وجهي بخفة.
قال بحدّة:
"اسمع يا فتى... أنت فريستي. وقد عاهدت نفسي أن أقتلك بعد تلك المحادثة المليئة بالإهانة، لذلك... لن أسمح لأي مخلوق آخر بقتلك."
ثم صرخ بفخر:
"فأنا من سيقتلك!"
أجبته وأنا أمسح أثر الضربة من وجهي:
"أنت مجنون فعلاً."
"هممممه." زمجر بصوت خافت.
وقفت ببطء، ونظرت إليه.
"على أيّ حال... شكرًا لمساعدتي. أنا أقدّر ذلك فعلاً."
نظر إليّ ببرودٍ قاتل.
"هممممه. أنت أحمق بالفعل، لأنك تشكر شخصًا يتعهد بقتلك."
ضحكتُ بخفّة، ثم تذكّرت شيئًا:
"بالمناسبة، لماذا لم يكن هناك أحد في الشارع؟ أليس الشارع كان مزدحمًا قبل دقائق؟"
أجاب وهو يدير المظلّة بيده:
"وضعت قُبّة سحرية، بحيث لا يستطيع أحد رؤية ما يجري داخل هذا النطاق... لا من قريب ولا من بعيد."
هززت رأسي بتفهّم:
"هممممم، حسنًا... لازلت لا أفهم لماذا
ساعدتني لهذه الدرجة، لكن... شكرًا."
ثم ابتسمت له، بصدق.
نظر إليّ طويلًا...
ثم تمعّر وجهه وقال وهو يصرخ:
"تبًّا لك!" (بصوت كوميدي فجائي)
ثم قفز من المكان، واختفى فوق أحد الأسطح في لمح البصر.
وقفتُ وحدي في منتصف الطريق، أنظر إلى السماء.
"تبًّا لي؟ أنا حتى لم أفعل شيئًا..."