استيقظتُ مفزوعًا، صدري يعلو ويهبط كأن أحدهم كان جالسًا عليه.
نفس الكابوس. نفس العيون المتوهجة، نفس الزمجرة.
كل ليلة، يعود لي الكلب.
لكنني هذه المرة رأيت شيئًا لم أره في الواقع... لحظة موته.
كيف أن جسده بدأ يتبخر، يتحول إلى رماد أسود يتناثر مع الريح، كأن شيئًا أُخرج منه بالقوة.
ذاك الشيء لم يكن طبيعيًا... لا، لم يكن حيًا أصلًا.
كان ممسوسًا.
وما إن خطرت هذه الكلمة في رأسي حتى سألت نفسي:
"هل يموتون فعلًا؟"
قبل أن أذهب الي المدرسة، قررت أن أمرّ على أحد أشهر المترجمين في البلدة. لم أكن أعرف بالضبط ما أبحث عنه،
لكن كنت أريد معرفة المكتبة في الكتاب بالاسماتة
كان المتجر صغيرًا، محشورًا بين مقهى قديم ومتجر قطع أثرية. الباب الخشبي أصدر طقطقة خفيفة حين دفعته.
في الداخل، رنّ جرس صغير فوق الباب، ثم خرج رجل في منتصف الخمسينات من خلف رفوف مكدسة بكتب من كل لغات العالم. كان يرتدي قبعة بنية داكنة ونظارات سميكة تخفي عينيه، وقميصًا أبيضًا بأزرار مفتوحة عند العنق.
قال وهو يبتسم:
"أهلًا وسهلًا بك."
"مرحبًا... هل أنت المترجم ميتسو ؟" سألتُ مترددًا.
دفع نظارته قليلاً وقال بصوت هادئ:
"نعم، أنا هو. ما الذي تريده يا فتى؟"
أخرجت الكتاب من حقيبتي ببطء، كأنني أسحب شيئًا محرّمًا، ثم وضعته أمامه على الطاولة الخشبية.
"هل يمكنك ترجمة هذا الكتاب؟"
وضع يده على الغلاف بلطف، مرّر أصابعه عليه كما لو كان يتحسّس شيئًا حياً. قال:
"همممم... هذا الكتاب عتيق جدًا... وغريب."
بدأ يقلب الصفحات، واحدة تلو الأخرى، بعناية تامة. نظراته أصبحت أكثر جدية مع كل صفحة. كان الصمت يملأ الغرفة إلا من صوت الورق الثقيل وهو يُقلب. وعندما وصل إلى النهاية، نظر إليَّ بشك خفيف.
"من أين أتيت بهذا؟" سألني بنبرة غير مرتاحة.
تردّدت، ثم قلت:
"وجدته مرميًا في النفايات... فـأخذته."
هز رأسه ببطء.
"أستطيع القول إن هذا الكتاب فريد من نوعه... بالفعل."
قلت وأنا أراقب الرسومات:
"فعلاً... رسوماته مريبة جدًا، أليس كذلك؟"
"ليست الرسومات فقط..." قال بنبرة هامسة تقريبًا، "حتى الورق نفسه... لا أظنه ورقًا. قوامه غريب جدًا، لا يتأثر بالماء، ولا يتمزق بسهولة. والكتابة فيه محفورة وكأنها نُقشت... أما الغلاف، فمصنوع من مادة معدنية مجهولة، ومع ذلك، الكتاب خفيف الوزن. أمر لا يصدق."
نظرت إليه بترقّب.
"هل يمكنك ترجمته؟"
تنهّد وأغلق الكتاب برفق.
"للأسف، لا. اللغة تشبه بعض ملامح السومرية، فيها من الهيروغليفية شيء، وربما مسحة من السنسكريتية... لكنها مختلفة، ومركبة، وغامضة. ليست لغة معروفة."
صمت لحظة، ثم أردف:
"لكن يمكنني أن أقول شيئًا واحدًا: هذا الكتاب قديم جدًا... وربما يساوي ثروة في مزاد أثري أو متحف."
قلت في نفسي دون أن أنطق:
لا أظن أن بيعه فكرة جيدة.
"آسف، هذا كل ما أستطيع مساعدتك به." قال بابتسامة معتذرة.
ابتسمت وأنا آخذ الكتاب من بين يديه.
"لا تقلق، المعلومات التي منحتني إياها... كانت مفيدة حقًا."
ثم غادرت المتجر، والكتاب في حقيبتي من جديد. شعرت أنه صار أثقل من قبل، او ربما كنت اتخيل ذالك
وصلتُ الثانوية وأنا أركض.
ثيابي نصف مرتّبة، أنفاسي مقطوعة، وكتفي يؤلمني من حقيبتي الثقيلة – ليس لأنها ممتلئة، بل لأنني لم أنم.
دخلت الفصل، فصاح المعلم من خلف مكتبه:
— "ساعة كاملة تأخير يا سيد إيثر، إنجاز جديد لك."
قهقه بعض التلاميذ، تلك الضحكات المزعجة التي تسبق أيامًا سيئة.
" اسف أستاذ لن اعيدها"
" الم تقل هذا الكلام البارحة"
جلستُ في مقعدي بصمت،
" يالي من غبي ، كان يجب أن أذهب الي مترجم بعد نهاية الحصص لكني اعرف نفسي اذا كنت في طريقي إلى المنزل لكي أرتاح لم اكن لاذهب إطلاقاً"
نظرتُ للأمام... ثم شعرت بنظرة تخترق عنقي من الخلف.
استدرتُ قليلًا، محاولة خاطفة...
ورأيتها.
طالبة ذات بشرة شاحبة كأن دمها جُفف، شعرها الأسود القصير يحيط بوجهها كستار قاتم.
لكن ما شدني حقًا لم يكن هذا.
كانت عينها اليسرى... مغطاة بضمادة بيضاء.
والأدهى من ذلك، أن تعابيرها لم تحمل شيئًا. لا فضول، لا ضيق، لا برود... لا شيء.
درتُ للأمام وفتحتُ حقيبتي بهدوء.
بينما كنت أبحث عن دفتري، تدفقت الكلمات في داخلي دون استئذان:
"هذا غريب… لم أرها من قبل في الفصل. أهي جديدة؟"
لا أذكر أن أحدًا تغيّب بالأمس. لا أحد ذكر طالبة جديدة.
أم أنني أنا من لا يلاحظ الأشياء؟
رفعتُ رأسي للحظة، فقط كي أتأكد من أنها ما زالت تنظر… لكنها لم تكن كذلك.
كانت عيناها، أو بالأحرى عينها الوحيدة الظاهرة، مركّزة على شيء آخر.
نظراتها كانت موجهة نحو حقيبتي.
نحو الجيب الجانبي بالتحديد… الجيب الذي احتوى على شمس المعارف.
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري.
هل هي تنظر إليه حقًا؟ أم أنا أتخيل؟
أم أنها تشعر بما فيه… مثلما شعرت الوحوش؟
بلعتُ ريقي بصمت، وحاولت ألا أبدو متوتّرًا.
أغلقت الحقيبة بلطف، كما لو كنت أحاول إخفاء شيء بداخلها.
أردت أن ألتفت وأتأكد، أن أسألها من تكون، أو على الأقل أن ألمح تعبيرًا واحدًا يتسلل إلى وجهها.
و اذا بالاستاذ يصرخ
"ايثر لا يكفيك انك وصلت متأخر و الان لا تتوقف علي التفات خلفك "
قلت بنبرة نادمة
" اسف يا أستاذ "
انتهت المدرسة أخيرًا.
حملت حقيبتي وغادرت، محاولًا أن أبدو طبيعيًا قدر الإمكان.
لكنني لم أكن كذلك.
كنت أشعر بشيء يراقبني… لكني لم اهتم
مررتُ من الشارع الخلفي كالعادة، أحاول الوصول إلى أقرب طريق للمنزل.
كان المكان هادئًا… أكثر من اللازم.
وفجأة…
ظهر.
من العدم، كأن الظلال تجمّعت وشكّلت جسدًا.
قفز خلفي دون صوت، وهاجمني.
بابادوك.
صرخة الرياح سبقت صدمته.
ضربني من ظهري بالطرف الحاد من مظلته السوداء، وكنت متأكدًا أنها ستخترقني.
لكن...
تششششششخ!
ومضة ذهبية.
حاجز دائري انبثق من حولي، صد الضربة بقوة جعلت الهواء يهتز.
ارتد بابادوك بعنف إلى الخلف، تطاير كدمية قماشية نحو الجدار الحجري خلفه.
اصطدم به بقوة وارتجّت الحجارة، قبل أن ينهض ببطء وهو يلهث من الغضب والذهول.
— "ما هذا بحق الجحيم؟!"
— "لماذا أنت منيع حتى وأنت لست داخل المنزل؟!"
نظرتُ إليه، بعينين جامدتين، ببرودة لم أعرف أنني أملكها.
— "توقعت إنك راح تهاجمني وأنا خارج البيت."
— "فكرت إني بخطر برا بعد اللي صار مع الكلب."
— "لذلك قررت المخاطرة… و رسمت على معصمي النقش."
رفعت يدي قليلاً، لكي أرميه النقش، لونه مائل للبنفسجي، بنقوش دقيقة بالكاد تُرى.
— "هل أنا منيع ضدكم أيها الحمقى؟"
قلتُها بلا ابتسامة، بلا نبرة سخرية… بل كحقيقة.
صرخ بابادوك، كانت صرخته طويلة… ممزوجة بالغضب والحنق والإهانة.
— "تباااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا!!"
— "سوف أرفع قوتي قريبًا!"
— "حينها... سأحطم هذا الحاجز بيدي وأمزّقك، أيها الصرصور البشري!"
نظرتُ له مجددًا، نبرة صوتي لم تتغير.
— "حاول إن استطعت."
تراجع إلى الظلال، يجرّ غضبه معه، وذاب كما ظهر… فجأة.
---
وقفتُ وحدي، أسمع صوت دقات قلبي.
ما زالت يدي ترتجف، رغم أن ملامحي لم تُظهر ذلك.
أنا محمي…؟
ههههههههههههههههههههههههه
" ههههههههه انا محمي، أنا محميييييييي
نظرت إلى السوار.
لم يكن مجرد زينة.
كان هذا شيئًا... هو الحامي الوحيد لي
أكيد! راح أُكمل الفصل بصوت بليك، مع الحفاظ على تصاعد التوتر والغموض بعد مواجهة بابادوك:
---
عدتُ إلى المنزل وقلبي ما زال ينبض كطبول الحرب.
رميت الحقيبة على الأرض وجلست على السجادة، ظهري لا يزال يوجعني من قوة الضربة، رغم أن الحاجز حماني.
أخذت نفسًا عميقًا...
ثم بدأت أفكر.
"الحاجز الذهبي... النقش... ما الذي كان سيحدث لو لم أرسمه؟
نفضت رأسي، وفتحت الحقيبة لأتأكد من أن كل شيء لا يزال مكانه.
دفاتري... قلمي... علبة الغداء...
لكن…
الكتاب... لم يكن هناك.
تجمّدت.
شمس المعارف... اختفى.
أعدت البحث بجنون.
قلبت الحقيبة رأسًا على عقب، فتّشت كل الجيوب، رفعتها وهززتها، قلبت الغرفة كلها. لا أثر له.
"لا… مستحيل
. أنا متأكد أني وضعته هنا هذا الصباح. حتى الفتاة نظرت إليه! مستحيل أني أتخيل."
وقفت بسرعة وكأن الأرض تحتي لم تعد آمنة.
أخذت أتنفس بصعوبة.
هذا ليس كتابًا عاديًا، لا يمكن أن يختفي هكذا…
إلا إذا…
"هل… سُرق؟
هل هو الذي اختار أن يختفي؟"
و اذا بفجأة يطرق أحد الباب
ارتعبت
" من الذي يطرق بحق الجحيم"