لم أكن أتخيل أنني سأقف يومًا أمام مونو لأتعلم عنصرًا جديدًا تمامًا… شيئًا باردًا، صامتًا، لكنه يحمل في أعماقه قسوة تقطع كالسكاكين. سحر الجليد.
جلستُ على الأرض، ويدي ما زالت ملفوفة بالضمادات البيضاء من أثر الحروق الماضية، بينما كانت مونو تنظر إليّ بعينيها الجادتين، لكن فيهما لمعة حماس طفولي لا تخطئها عين. رفعت يدها برفق، ثم بدأت تشرح بصوتها الهادئ:
> "الجليد يا بليك… ليس عنصرًا مستقلاً بذاته، بل هو ابن الماء. لكي تتقنه، يجب أن تُظهر سيطرة مطلقة على درجة حرارة الماء الذي تُكوِّنه. اجعله يبرد شيئًا فشيئًا… ثم جمّده حتى يسكن تمامًا. حينها، ستصبح قادرًا على استعماله كسحر جليدي."
كلماتها انغرست في ذهني كقوانين صارمة. لم يكن الأمر كتعلم تعويذة هجومية جديدة أو نسج جدار من التراب. هذه المرة، الأمر أشبه بالتحكم في أنفاس الطبيعة نفسها: النقطة التي يفصل فيها الماء بين الحياة والحركة… والجمود الأبدي.
أخذت نفسًا عميقًا ومددت يدي إلى الأمام. حاولت أن أستدعي الماء بالطريقة المعتادة، فخرجت كرة صغيرة شفافة تلمع تحت ضوء القمر. نظرت إليها بتركيز شديد، وكأنني أحاول إرغامها على الطاعة.
– "برّد… برّد…" تمتمت، محاولًا أن أخفض حرارتها كما علمتني مونو.
لكن النتيجة كانت عكسية، إذ اهتزت الكرة وانفجرت لتتناثر قطرات الماء على وجهي. سمعت ضحكة مكتومة خلفي. التفت، فإذا بمونو تغطي فمها بكفها، عينيها تلمعان بمكر.
> "أتعرف، يبدو أنك بارع في الاستحمام أكثر من صنع الجليد."
أحسست بالدم يغلي في وجهي، ربما أكثر من تلك القطرة التي لسعت عيني.
– "تضحكين عليّ؟!"
> "قليلاً… لكن صدقني، الأمر أصعب بكثير مما تتخيل."
أعادت الجدية إلى نبرتها، واقتربت مني وهي تمد يدها، لتصنع بنفسها كرة ماء صافية. أغمضت عينيها للحظة، ثم بدأ الماء يبرد تدريجيًا. كنت أستطيع أن أشعر بذلك حتى من بعيد؛ الهواء حولنا أصبح أخف، أنفاسي خرجت متقطعة مع سحابة صغيرة من البخار الأبيض. ثم، شيئًا فشيئًا، بدأت كرة الماء تتجمد… وتتحول إلى كتلة جليدية صلبة، تتلألأ تحت الضوء.
أمسكت مونو بالجليد في يدها، ثم عرضته أمامي بابتسامة خفيفة.
> "هكذا… بهذه البساطة، لكن في الحقيقة… هذه أبعد ما تكون عن البساطة. الأمر يتطلب دقة صبر، وإرادة حديدية. الجليد لا يرضخ بسهولة، إنه بارد كالقلب الذي لا يعرف الرحمة. عليك أن تُخضعه."
نظرتُ إلى يدها، ثم إلى كتلتي الفاشلة من الماء التي تساقطت قبل قليل. شعرت بثقل يطبق على صدري، لكن في داخلي اشتعلت نار عناد لا تقل عن النيران التي أحرقتني سابقًا.
– "لن أستسلم… إذا كان هذا ما يتطلبه الأمر، فسوف أتعلمه مهما كلفني."
ابتسمت مونو برضا، ثم تراجعت خطوة للخلف وهي تقول:
> "هذا ما أردت سماعه. والآن… حاول مجددًا، لكن هذه المرة، لا تُجبر الماء. تخيله أولًا، ثم قُدْهُ برفق. كأنك تُدخل قلبك في سبات الشتاء."
أغمضت عينيّ مجددًا، واستدعيت كرة ماء أخرى. ركزت على برودتها، تخيلت الثلج وهو يتساقط في ليلة صامتة، الجداول وهي تتجمد في أعالي الجبال، والنهر حين يتوقف عن الجريان تحت قسوة الشتاء.
وبينما كنت أتنفس ببطء، بدأت أشعر بتغير طفيف. الماء لم يهتز هذه المرة. الهواء حولي صار بارداً على نحو مزعج. فتحت عيني نصف فتحة… ورأيت أول بلورات صغيرة من الثلج تتكون على سطح الكرة المائية.
قلبت مونو رأسها وهي تبتسم ابتسامة خفيفة مليئة بالدهشة.
> "جيد… جيد جداً، بليك."
لكن في اللحظة نفسها، انبعث من الماء صوت طقطقة حادة، ثم تحطمت الكرة فجأة لتنهمر قطع ثلجية صغيرة على الأرض. سقطت على ركبتي، أنفاسي ثقيلة، يدي مرتجفة.
نظرتُ إلى مونو بإنهاك، بينما هي تقترب وتضع يدها على كتفي.
> "هذا طبيعي. الخطوة الأولى دائمًا الأصعب… لكنك لامست الجليد، وهذا يعني أن الباب قد فُتح أمامك."
بين كل كلمة وأخرى، كنت أتنفس بصعوبة، لكن في داخلي، شعرت لأول مرة أنني حقًا بدأت أطرق باب قوة جديدة… قوة باردة، لكنها قد تصبح سلاحًا لا يقل خطورة عن النار نفسها.
لم أكن أتوقع… أن ما فشلت فيه مع الرياح والبرق، وما تعثرت فيه مع النار، سيصبح فجأة ميدانًا أتنفس فيه وكأنه وُلد من داخلي.
سحر الجليد.
أغمضت عينيّ مجددًا. استدعيت كرة ماء في راحتي، شعرت ببرودتها تتماوج مع نبضات قلبي. لكن هذه المرة، لم أقاومها، لم أحاول أن أجبرها على الانصياع… بل تركتها تهمس لي، وتركت نفسي أستمع. تخيلت الشتاء، الثلج يغطي الأسطح، الريح الباردة تعصف بالجبال، صمت الغابات عندما تتجمد أنهارها.
وفجأة، بدأ الماء يتجمد… ليس ببطء كما توقعت، بل بسرعة مدهشة. تشكلت كرة صلبة من الجليد بين يديّ، صافية ولامعة ككريستالة نادرة.
فتحت عينيّ على اتساعهما. لم أصدق ما حدث. نظرت إلى مونو، ورأيتها تنظر إليّ بدهشة خالصة، فمها مفتوح قليلًا وعيناها تتسعان كطفلة ترى سحرًا لأول مرة.
> "ب…بليك… هذا… غير طبيعي!"
ابتسمت رغم التعب الذي غمرني.
– "أتعنين أنني نجحت؟"
> "نجحت؟!" قفزت مونو بخفة إلى جانبي، تمسكت بيدي التي تحمل الكرة، وعيناها تلمعان بحماس. "لقد تجمد الماء أسرع مما أفعله أنا! وكأنك… ولدت من الثلج نفسه!"
شعرت بحرارة غريبة تغمر صدري، رغم برودة الجليد بين أصابعي. لأول مرة منذ وقت طويل، لم يكن الأمر صراعًا مع العنصر. لم يكن عليّ أن أصرخ أو أتحمل ألمًا أو أحارب طبيعتي… الجليد ببساطة استجاب.
تقدمت خطوة، وأطلقت الكرة إلى الأمام. ارتطمت بالصخرة القريبة وتحطمت إلى شظايا ثلجية حادة تناثرت في الهواء. لم يكن انفجارًا قويًا، لكنه بدا نظيفًا، منضبطًا… وكأن الجليد أراد أن يثبت لي أنه ليس بحاجة إلى القوة العمياء ليكون خطيرًا.
مونو وضعت يدها على خصرها، ما تزال عيناها لا تصدقان.
> "أنا لا أفهم… كيف لك أن تكون سيئًا تمامًا مع الرياح والبرق، وتُحرق نفسك مع النار… ثم تأتي إلى الجليد وتجعله يرقص في كفك؟"
ضحكتُ بخفة، رفعت يدي كأنني أعزف على آلة وترية وهمية.
– "ربما… الجليد يفهمني أكثر."
> "يفهمك؟"
– "أجل… إنه صامت، لكنه قوي. بارد، لكنه صادق. لا يبالغ، لا يصرخ… فقط يتجمد، ويمسك بكل ما حوله. أعتقد أنني… أشبهه أكثر مما ظننت."
سكتت مونو قليلًا، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، مزيج من السخرية والإعجاب.
> "هذا يفسر لماذا قلبك يبدو متجمدًا أحيانًا."
احمر وجهي فورًا.
– "أها! إذًا أنتِ تقولين أنني عديم المشاعر؟"
> "لا… بل إنك بارد من الخارج فقط. أما من الداخل… فربما تحترق أكثر من أي نار."
لم أعرف بماذا أرد. كلماتها دخلت قلبي كخنجر، لكنها خنجر مغطى بالثلج… يبرد لكنه يترك أثرًا ساخنًا.
رفعت يديّ مجددًا. بدأت أصنع المزيد من الأشكال: خناجر جليدية صغيرة، شظايا حادة تنطلق كالسهام، بلورات متلألئة تسقط حولي كأنها ثلوج منتصف الليل. كلما حاولت أكثر، كلما وجدت نفسي أتقن دون عناء كبير.
مع مرور ساعات الليل، كنت قد صنعت دائرة كاملة من شظايا الجليد تطفو حولي، تدور ببطء وكأنها أقمار صغيرة. كنت متعبًا، نعم، لكن ليس منهكًا كما اعتدت أن أكون مع العناصر الأخرى. شعرت أنني وجدت جزءًا من نفسي.
مونو وقفت بعيدًا، ويداها متشابكتان على صدرها، تحدق بي بابتسامة رقيقة، فيها دهشة وشيء آخر لم أفهمه تمامًا.
> "بليك… ربما الجليد لم يكن فرعًا من الماء بالنسبة لك. ربما… كان ينتظرك منذ البداية."
في تلك اللحظة، أدركت شيئًا.
أنا… لم أختر الجليد.
هو الذي اختارني.
لم يكن الجليد مجرد刃 يجرح، أو شظايا تتناثر… كان شيئًا أعمق. كان عنصرًا قادرًا على الحماية بقدر ما هو قادر على الهجوم.
في الليالي التالية، جلستُ على الأرضية الرطبة لحقل التدريب، أستمع لشرح مونو. كانت خطواتها هادئة، لكن كلماتها حادة:
> "بليك… الجليد ليس فقط لتجميد العدو. إنه أيضًا لصدّه. تذكر أن الصلابة في الجليد تأتي من انسجام جزيئاته، من تراكمه فوق نفسه حتى يصبح درعًا صامتًا. إذا أردت أن تدافع، عليك أن تفكر مثل الشتاء: يغطي كل شيء حتى يُخفيه، ويحمي الأرض تحت ثقل الثلج."
أغمضت عيني، استدعيت كرة ماء صغيرة في كفي. هذه المرة لم أكن أنوي تحويلها إلى سلاح هجومي، بل إلى جدار يصدّ. ركزت على الفكرة… أن أُجمده، لكن ليس في شكل حاد. أردته أن يتمدد، أن يتصلب كلوح زجاجي شفاف.
فشلت في البداية. تجمد الماء في كتل صغيرة متكسّرة، هشّة كزجاج رقيق. ضحكت مونو وهي تراقبني.
> "هكذا؟ سيكسرونها بمجرد رمية حجر. اجعلها تتماسك، اجعلها تنمو كأنها جزء من جسدك."
زفرت. كررت المحاولة. شعرت بالتعب يتسلل إلى أصابعي، لكنني لم أستسلم. وفي لحظة صافية، حين تركت قلبي يقود بدلاً من عقلي، رأيت الماء يتمدد فجأة ويتحول إلى لوح ثلجي نصف دائري أمامي. لم يكن عظيمًا، لكنه كان متماسكًا، قويًا كأنه قطعة من الشتاء.
لم أملك نفسي من الابتسام. رفعت يدي لألمس السطح البارد… لقد كان صلبًا حقًا.
لكن مونو لم تمنحني وقتًا للراحة. رفعت يدها فجأة، وأطلقت دفقة صغيرة من سحر النار نحو وجهي. ارتعبت لوهلة، لكن الغريزة جعلتني أرفع حاجزي الثلجي.
ارتطم اللهب بالدرع… وتطاير البخار في الهواء. قلبت نفسي فورًا أتأكد أنني لم أحترق. ثم نظرت إلى الدرع: صحيح أن نصفه ذاب، لكن النصف الآخر صمد!
مونو ابتسمت، عيناها تتلألأ بجدية ممزوجة بالدهشة.
> "رأيت؟ الجليد لا يحميك دائمًا إلى الأبد… لكنه يمنحك الوقت الكافي لتفكر، لترد، لتبقى حيًا."
ارتجف قلبي وأنا أتنفس بعمق. لأول مرة أشعر أنني… لست مجرد مهاجم أعمى، بل يمكنني أن أكون الدرع الذي يصدّ الموت.
مع مرور الأيام، جربت أكثر وأكثر. أحيانًا كنت أصنع قبة جليدية صغيرة حولي، تحميني من الصخور التي ترميها مونو كتجربة. وأحيانًا كنت أصنع جدارًا منخفضًا لأحتمي خلفه. تعلمت حتى أن أجعل الثلج يتجمد على شكل أوتاد طويلة تخرج من الأرض لتوقف اندفاع الخصم.
كل محاولة كانت تستنزفني، كانت تتطلب صبرًا عظيمًا، لكنها في المقابل كانت تمنحني شيئًا أثمن: شعور الأمان.
كنت دائمًا من يقفز أولًا إلى الخطر، من يواجه قبل أن يفكر… لكن الآن، مع الجليد، تعلمت أن أُبطئ، أن أصدّ، أن أكون صخرة صامتة في وجه العاصفة.
في إحدى الليالي، حين جلست أختبر حاجزًا جليديًا بيدي، سمعت مونو تقول بصوت منخفض، أقرب للهمس:
> "أتعلم، بليك… أعتقد أن هذا العنصر هو قدرك الحقيقي. ليس لأنه الأقوى، بل لأنه يعرف كيف يحميك… حتى من نفسك."
رفعت رأسي إليها، لكنني لم أجد سوى ابتسامة صغيرة، مختبئة كأنها لا تريد أن أعلم أنها قالت ما قالت.
ابتسمت بدوري. لوهلة، شعرت أن برودة الجليد من حولي… تدفئني من الداخل.
كنت أظن أنّ تعلم سحر الجليد سيكون تحديًا قاسيًا آخر، مثل النار التي كادت أن تلتهمني، لكن المفاجأة أنّ الأمر بدا طبيعيًا بالنسبة لي… كأن شيئًا في داخلي يعرف هذا العنصر مسبقًا. ربما لأنني لم أعد أحاول فرض قوتي بالقوة، بل أسمح لها أن تتنفس من خلالي.
بدأتُ أولًا بصنع جدار صغير من الجليد؛ نصف شفاف، تتخلله تشققات دقيقة. لم يكن قويًا كفاية ليصد ضربة كاملة، لكنه منحني شعورًا جديدًا: الأمان. شعرت وكأن هذا السحر لا يريد الهجوم فقط، بل العناق… الحماية.
رفعتُ كفيّ، والبرد ينساب منهما، فتشكلت طبقة جليدية حولي مثل قوقعة ضعيفة لكنها متماسكة. مونو كانت تراقبني من بعيد، وابتسامتها الهادئة كانت أكثر دفئًا من أي نار.
— "بليك، لا تحاول صنع قلاع ثلجية ضخمة، ليس بعد. تذكّر… الدفاع يبدأ بالبساطة."
— "أعرف، أعرف…" قلت وأنا أضحك قليلًا، بينما أنفاسي تتجمد أمام وجهي.
مع كل محاولة، كنت أتعلم كيف أوازن بين الماء والبرودة. أحيانًا أكتفي بغطاء جليدي صغير أمام ذراعي، وأحيانًا أرفع لوحًا مائلًا يصُد الرياح أو ضربة وهمية. وفي كل مرة أشعر أنّ هذا السحر أقرب إلى درع حيّ يتشكل معي، لا سلاح جامد.
الغريب أنّني، على عكس النار، لم أواجه صعوبة كبيرة في السيطرة. ربما لأنني كنت أبحث عن شيء يحميني… أو ربما لأن أعماقي، بعد كل ما مررت به، لم تعد تحتمل المزيد من الحروق.
لكن مونو لم تتركني أنغمس تمامًا في نجاحي السريع. في اللحظة التي بدأت أشعر بالفخر، قالت بنبرة شبه جادة:
— "إياك أن تظن أن الجليد مجرد لعب أطفال… الماء حين يتجمد يمكن أن يصبح أقسى من الفولاذ. الدفاع ليس دائمًا بلا ثمن."
ابتسمتُ بخفة وأنا أنظر إلى القوقعة الصغيرة التي صنعتها:
— "حسنًا، إذا كان الدفاع بهذا الجمال، فأنا مستعد لأدفع الثمن."
كنت أتنفس بصعوبة من الإرهاق، لكن شعور الانتصار كان يدفئني، رغم أنّي كنت محاطًا بالبرد.
وهنا، نظرتُ إلى السماء، وبدأت فكرة جديدة تراودني. مونو لمحتها فورًا، ورفعت حاجبيها بتوجس.
— "لا تقل لي أنك بدأت تفكر في النجوم…"
— "أ… مجرد فضول صغير."
رفعت يدي ببطء، محاولًا رسم نقطة مضيئة صغيرة بين أصابعي. لم تكن سوى ومضة باهتة، كأنها حليب مسكوب في الظلام، لكنها أبهرتني. ليست قوة عظيمة، ليست انفجارًا… فقط بداية.
ضحكت مونو قليلًا:
— "الآن فهمت… تريد أن تمشي قبل أن تزحف."
— "بل أريد أن أتلمس الضوء، ولو بخطوة واحدة."
وأنا أحدق في تلك الومضة البيضاء الصغيرة، شعرت بشيء غريب… ربما للمرة الأولى، لم يكن السحر مجرد وسيلة للقتال. بل صار لغة جديدة أتعلمها ببطء، بين الدفاع والبرودة، وبين الضوء والنجوم.