كانت السماء صافية على غير العادة، والغيوم الصغيرة تتزحلق ببطء فوق الأفق مثل قطيع من الأغنام البيضاء الهائمة. جلستُ تحت ظل شجرة قديمة، أراقب أوراقها وهي تتمايل مع نسيم خفيف بدا وكأنه يتنفس بسلام. لحظة نادرة من الهدوء؛ لحظة جعلتني أنسى للحظات كل الألم والعرق والدم الذي مررت به في تدريباتي السابقة.

مددت يدي إلى العشب الرطب بجانبي، وأغمضت عيني للحظة قصيرة. كان الصوت الوحيد الذي يرافقني هو زقزقة عصفورٍ صغير اختار الغصن الأعلى ليغني من فوقه. في تلك الثواني تمنيت أن تتوقف الحياة هكذا، بلا صراخ ولا ظلام.

لكن صوت مونو، القاطع دومًا لأحلامي الصغيرة، وصلني وهو أكثر جدية من المعتاد:

> "بليك… لقد حان الوقت لتعلّم التعويذة الثانية."

توقفت ابتسامتي، كأن قلبي ضُرب بمطرقة ثقيلة. شعرتُ بتوتر يسري في أوصالي، وعرق بارد بدأ يتجمع على راحتي يدي. لم أكن متأكدًا إن كنت أريد ذلك الآن… لكن نظرتها الثاقبة لم تترك لي خيارًا.

التفتُ إلى جانبي حيث وضعنا الكتاب. كتاب جدي… كتاب اللعنة… "شمس المعارف". كم مرة فتحته بارتجاف؟ كم مرة خشيت أن تلتهمني الكلمات قبل أن أقرأها؟

اقتربتُ منه ببطء، وكأن يدي تمشي على جمرٍ مشتعل. أمسكت بالغلاف، وترددت قليلًا… ثم تنفست بعمق وفتحت صفحة عشوائية.

كانت الكلمات تنتظرني هناك، منقوشة بخط غريب يلمع تحت ضوء الشمس، كأنها لا تريد أن تُقرأ، بل أن تُسمع. ارتجفت شفتاي وأنا أتمتم الاسم لأول مرة:

"اللمس الحاسي."

ارتجفت الكلمات في ذهني كأنها تحاول أن تحفر نفسها في أعماقي. "اللمس الحاسي"… لم أسمع يومًا عن شيء بهذا الاسم. رفعت بصري نحو مونو، أبحث عن أي إجابة في عينيها، لكنها اكتفت بابتسامة قصيرة غامضة، ابتسامة من النوع الذي يسبق دائمًا تجربة قاسية.

قالت بصوتها الهادئ الذي يحمل دومًا شيئًا من السخرية الخفية:

> "هذه التعويذة… ليست سلاحًا يا بليك. لكنها أخطر من أي نصل."

قطبت حاجبيّ:

> "أخطر؟ لكنها مجرد لمس…"

هزّت رأسها ببطء، وتقدمت نحوي بخطوات واثقة حتى جلست مقابلي. مدّت إصبعها ولمست جبيني بخفة، عندها شعرت وكأن شرارة باردة اخترقت جسدي كله. صورة خاطفة مرت أمام عيني: صرخة بعيدة، وجه مجهول يبكي، ورائحة رمادٍ يحترق. اختفت بسرعة، لكنها تركت قلبي يخفق بعنف.

قالت مونو:

> "اللمس الحاسي يفتح لك بابًا… يسمح لك بلمس مشاعر الآخرين مباشرة، وحتى استشعار ذكريات الأماكن. عندما تضع يدك على إنسان أو جدار أو حتى سيف، قد ترى ما عاشه، ما شعر به، وما تركه الزمن فيه."

ابتلعت ريقي ببطء، محاولًا استيعاب ثِقل الفكرة.

> "يعني… يمكنني أن أرى الألم؟ أو الحب؟"

ابتسمت مونو ابتسامة صغيرة، لكن عينيها كانتا جادتين:

> "نعم. وستشعر به كما لو كان قلبك هو الذي انكسر أو اشتعل. هذه التعويذة ليست للضعفاء يا بليك. كثيرون انهاروا لأنهم لم يحتملوا ما رأوه."

سكتُّ، ووضعت يدي على الكتاب مجددًا. أصابعي ارتجفت، ليس من البرد، بل من الخوف. فكرة أن ألم الآخرين قد يصبح ألمي، أن الجدران قد تهمس لي بأسرارها، أن الدماء اليابسة على الأرض قد تصرخ في أذني… كانت كابوسًا بحد ذاتها.

لكن مونو انحنت نحوي، همست وكأنها تدفعني دفعًا إلى القرار:

> "افتح قلبك… أو دعه يبقى مغلقًا إلى الأبد. اختر يا بليك."

ترددت لحظة قبل أن أمد يدي. أصابعي كانت ثقيلة وكأن الهواء نفسه يحاول أن يمنعني. لكن في النهاية، وضعتها على سطح الكتاب… وشعرت بالبرد يتسرب من الورق إلى جلدي. لم تكن برودة عادية، بل إحساس يشبه ملامسة حائطٍ باردٍ احتفظ بأسرار آلاف السنين.

تنفست ببطء، وأغمضت عيني. في اللحظة التي فعلت فيها ذلك، انفجر في ذهني سيل من الصور:

أصوات صراخ، خطوات راكضة، دماء تتساقط على الحجر، وأصابع ترتجف وهي تقلب صفحات هذا الكتاب بالذات. لم أرَ الوجوه بوضوح، لكنني شعرت بها. شعرت بالرهبة التي شلّت قلوبهم، وبالطمع الذي دفعهم للاستمرار رغم الخوف.

صرخة خرجت مني دون أن أعي:

> "آآآه…!"

سحبت يدي بسرعة، متراجعًا إلى الخلف. تنفسي كان متقطعًا، وعيني تغرغرتا بالدموع رغم أنني لم أبكِ.

مونو كانت تراقبني ببرود، وكأنها تنتظر هذه النتيجة. ثم قالت:

> "هذا هو اللمس الحاسي. كل ما تلمسه، قد يفتح لك أبواب مشاعره وذكرياته. لكن…"

سكتت قليلًا، حتى شعرتُ أن قلبي سيتوقف من القلق، قبل أن تكمل:

> "لكل باب ثمن. عندما تستعير حواس الآخرين، واحدة من حواسك أنت تضعف لفترة. قد يكون بصرك… أو سمعك… أو حتى توازنك. لا تعرف أيها حتى تجرب."

شعرت بارتجافة في عيني اليمنى، وأدركت أن العالم حولي صار ضبابيًا. لم أرَ بوضوح سوى نصف وجه مونو، أما النصف الآخر فكان مشوشًا كلوحة مبتلة.

شهقت:

> "رؤيتي…!"

اقتربت مونو، ووضعت يدها على كتفي بصلابة:

> "هذا طبيعي. ستعود تدريجيًا. كلما استخدمت التعويذة أكثر، زادت قدرتك على التحمل… لكن لا تنسَ، إن أفرطت في استخدامها، قد تخسر حاسة كاملة للأبد."

ابتسمتُ بمرارة رغم رعشة الخوف في داخلي. القوة دائمًا تحمل لعنة… حتى حين تبدو مجرد لمس.

رفعت يدي المرتجفة أمام عيني، ورغم الضباب الذي حجب نصف العالم، قلت بصوت خافت:

> "إذن… عليّ أن أتعلم كيف ألمس دون أن أتحطم."

لم أُرد أن أبدو ضعيفًا أمام مونو، حتى وإن كانت عيناي لا تزالان مشوشتين. أخذت نفسًا عميقًا، أجبرت قلبي على أن يهدأ، ثم مسحت العرق من جبيني.

رفعت نظري، وإذا بي أرى — ولو بشكل ضبابي — حجرًا غريبًا عند طرف ساحة التدريب. كان حجرًا مغطى ببقع داكنة، وكأن دمًا قديمًا التصق به منذ زمن طويل. لم يكن ضمن الأحجار التي اعتدنا عليها هنا… بدا دخيلًا، كأنه حمل معه عبق معركة لم يرد أن ينساها.

اقتربت منه بخطوات مترددة. كلما دنوت، شعرت أن الهواء حولي أثقل، كأن المكان نفسه يتنفس ببطء. ركعت أمامه، ومددت يدي بخوف.

لمست الحجر.

وفورًا…

اندفع العالم من حولي كدوامة!

لم تعد الأرض صلبة تحت ركبتيّ، بل شعرت أنني أسقط في فراغ أسود بلا نهاية. تلاشت أصوات الطيور، وحلّت محلها جلبة صاخبة: صرخات رجال، ارتطام معادن، أزيز غريب يشبه تمزق الهواء نفسه.

ثم فجأة… رأيت.

كنت واقفًا وسط ساحة شاسعة، السماء فوقها مشوهة وممزقة، وكأن أحدًا مزق قماش الكون وأعاد خياطته بخيوط خاطئة. الغيوم كانت تتحرك بسرعة غير طبيعية، أحيانًا تتباطأ حتى تكاد تتجمد، وأحيانًا تندفع كالبرق لتختفي فجأة.

كان هناك سحرة… لم أرَ مثلهم في حياتي. ستة أو سبعة أشخاص، يرتدون عباءات سوداء وأرجوانية، يطيرون في الهواء كما لو أن الجاذبية مجرد فكرة يمكنهم رفضها. حول أجسادهم دوامات من الطاقة، ألوانها لم أرَ مثلها من قبل: أزرق يشبه لهبًا باردًا، ذهبي كالشمس السائلة، وأرجواني يبتلع الضوء بدلًا من أن يعكسه.

أحدهم مد يده، فانحنى الزمن نفسه. رأيت السيوف التي كانت تتجه نحوه تتباطأ في الهواء كأنها غارقة في العسل، بينما هو يتحرك بينهم بخطوات بطيئة لكنها في الحقيقة أسرع من أي حركة بشرية. كان يتلاعب بالزمن، يمده، يطويه، يفتته كما يشاء.

آخر أدار عصاه، فتغيرت ملامح الفضاء حوله. الجبال في الأفق التوت وانحنت، السماء انشطرت إلى طبقات متداخلة، وكأن اللوحة الكونية نفسها لم تعد ثابتة. كان يشوه الفضاء، يمزجه ويعيد تشكيله مثل طين بين يديه.

ثم… جاء الانفجار.

دوائر سحرية بحجم القلاع اشتعلت تحت أقدامهم، ارتفعت أعمدة من الضوء اخترقت الغيوم، والهواء نفسه احترق من شدتها. شعرت كأنني سأتمزق إن بقيت أراقب أكثر.

صرخ أحد السحرة، وسمعت صدى كلماته يتردد عبر العصور:

> "من يسيطر على الزمن… يسيطر على النهاية!"

اندفع الآخر ضده، والفضاء ينكسر ويتفتت كزجاج هش.

تطايرت الأجساد، اختفت لحظات كاملة من المعركة ثم عادت فجأة، وكأن هناك فجوات زمنية تقفزني بينها. لم أعد أفهم أي لحظة حقيقية وأيها مجرد بقايا من ذكريات الحجر.

لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا:

هذه لم تكن مجرد معركة… كانت حربًا بين عقول قادرة على كسر قوانين الكون نفسه.

صرخة أخيرة دوّت، ومعها سقط جسد فوق الحجر الذي ألمسه الآن. دماءه تسربت، اختلطت بترابه، وحملت لي هذه الذكرى الملعونة.

فتحت عيني فجأة، ورأيت نفسي مجددًا في الساحة. كنت أتصبب عرقًا، وجسدي كله يرتجف. أنفاسي كانت متقطعة، ورأسي يدوي بالأصوات والصور.

لكن الأسوأ كان أن سمعي…

وضعت يدي على أذني. كل الأصوات صارت بعيدة، كأنني أستمع من تحت الماء. أصوات الطيور، حتى صوت مونو… أصبح مشوهًا وضعيفًا.

قالت وهي تراقبني ببرود لا يخلو من الاهتمام:

> "الآن فهمت، أليس كذلك؟ هذه التعويذة ليست مجرد وسيلة لمعرفة… إنها عبء. كل مرة تلمس فيها الماضي، سيفقد حاضرك شيئًا. هذه المرة كانت حاسة سمعك."

شعرت بالغضب والخوف في آنٍ واحد. أردت أن أصرخ لكن صوتي بالكاد سمعته.

إذا كانت هذه البداية فقط… فماذا سيحدث لي إن استخدمتها على إنسان؟

فجأة، اهتز شعور داخلي، وكأن ذاكرتي امتدت إلى عصور مضت. الأرض تحت يدي بدأت تنبض بالضوء، وظهرت أمامي مشاهد باهتة في البداية، ثم تبلورت تدريجيًا لتصبح حية، غنية بالألوان والحركة.

كانت الساحة نفسها، لكن مختلفة عن اليوم. العشب أكثر كثافة، الأشجار أطول، والسماء أشد زرقة. في الوسط، رأيت شخصًا يقف بمفرده، وارتدى عباءة طويلة تخفق مع الرياح، يتحرك ببطء وهدوء، وكأن كل خطوة له موزونة بدقة. حوله، طافت كائنات الموشي، أرواح طبيعية صغيرة، شفافة، تلمع كاللؤلؤ، ترفرف في الهواء، تتنقل بين الأشجار، تلمس سطح الأرض برقة، وتترك وراءها ومضات من الطاقة الصافية.

لم أتمالك نفسي، عيناي تتسعان وأنا أراقب المشهد. لم يكن بإمكاني أن أسمعهم أو أتكلم معهم، لم يكن هناك أي تفاعل مباشر، لكن كل شيء كان ينبض بالحياة. كنت أشعر بقوة المكان، بعاطفته القديمة، كأنها تنقل إليّ كل ما جرى هنا منذ زمن بعيد.

الرجل وسط الساحة… كان يتحرك وكأن الساحة نفسها تتناغم مع خطواته. كل حركة له كانت تصنع موجات صغيرة في الهواء، تتفاعل مع كائنات الموشي، فيخلق نوعًا من الانسجام الغريب بين قوة الإنسان وصفاء الأرواح. كانت الموشي تتجمع أحيانًا حول قدميه، ثم تطير مبتعدة، مثل رقصة صغيرة بين الماضي والحاضر، دون أن يلتفت هو إليها، لكنه كان يشعر بوجودها، هذا كان واضحًا من طريقة تقديره للمكان، وكأن كل شيء هنا جزء من جسده ووعيه.

استغرقت في المشهد، وكل تفاصيله تدخل روحي. شعرت بحرارة الضوء على يديّ، وبرودة النسيم، وبصوت خافت للأرواح التي تحرك الهواء حولها. كل شيء كان حاضرًا أمامي، وكل شيء من الماضي ينبض في الوقت الحاضر.

لكن مع كل دقيقة تمر، شعرت بثقل غريب على حاستي البصرية، وكأن عقلي بدأ يستنزف قوته من أجل الاحتفاظ بالذكريات. أعلم أن مونو كانت محقة؛ التعويذة تتطلب ثمنًا. عيناي بدأت تُثقَل، وصوت داخلي يهمس بتحذير: "احذر، ستفقد شيئًا من حواسك إذا استمريت."

أغمضت عيني للحظة، لأتنفس بعمق، وأعيد تركيزي على ما أراه. الرجل وكائنات الموشي، رغم بعد الزمن، كانوا يعيشون أمامي، كأنني شاهد على فصل من التاريخ لم يُكتب في أي كتاب. لاحظت تفاصيل لم أكن لأنتبه لها: حركة يديه، وتردد خطواته، وطريقة مرور الضوء بين الموشي، وحتى شعور بالطمأنينة يبعثه المكان، رغم قوة السحر التي كان يستخدمها الرجل.

لقد تعلمت شيئًا مهمًا في تلك اللحظة: ليس مجرد رؤية الأحداث الماضية، بل الإحساس بالمكان نفسه، وبتأثير من عاشوا هنا قبلًا. كل حجر، كل سنبلة عشب، كل شعاع ضوء… يحمل ذكريات لا تُنسى، قادرة على تعليمك أكثر من أي معركة أو كتاب.

وأخيرًا، حين شعرت بأن استمراري سيؤثر على حواسي، تراجعت، أزلت يدي عن الأرض، وعادت الساحة لتستقر في شكلها الحالي. عيناي تنبضان بالتعب، لكن قلبي ممتلئ بالدهشة والفهم الجديد.

مونو وقفت بجانبي، مبتسمة، وقالت:

"أحسنت، بليك… هذه قوة عظيمة. ليس فقط لأنك ترى، بل لأنك تش

عر بالماضي. وتذكر، هذه التعويذة ستظل تحمل ثمنها، لذا يجب أن تحذر دومًا."

ابتسمت، وأنا أحس بالاحترام العميق للمكان ولذكرياته، وأدركت أن اللمس الحاسي لم يكن مجرد سحر، بل جسر بين الحاضر والماضي، بيني وبين كل من مروا على هذه الأرض قبل أن أصبح جزءًا منها.كان الهواء ثقيلاً في رئتيّ، وكأنني للتو عدت من عالم آخر. أغمضت عيني للحظات، أحاول أن أستعيد اتزاني. لم أعد أرى بوضوح، ولم أسمع سوى طنين خافت في أذني، لكن قلبي كان ينبض بقوة، محملاً بصدى صرخات ومعارك لم تكن من زمني.

نظرت إلى يدي المرتعشة، أدركت أن اللمس الحاسي ليس مجرد تعويذة. إنه لعنة وقوة في آن واحد. كل لمسة تضعها على الماضي، تسرق منك جزءًا من الحاضر.

بعد أن استعدت حواسي تدريجيًا، قررت أن أتدرب. لم أرد أن أبقى ضعيفاً أمام هذا التحدي. أصبحت ألمس كل شيء حولي بحذر: الشجر، الصخور، حتى العشب. في كل مرة، كنت أرى وميضاً سريعاً من المشاعر أو الذكريات. الشجر يهمس لي بأسرار نموه، والصخور تخبرني عن آلاف السنين التي مرت عليها. لم أعد أرى العالم كما كان، بل ككتاب مفتوح مليء بالقصص.

مع الوقت، بدأت أتقن التعويذة. لم أعد أخسر حواسي بشكل كامل، بل أصبحت أستطيع التحكم في مدى تأثيرها. أدركت أن كل ما في الكون له قصة، وأن الحجر الذي وطأته قدمي قد يكون شاهدًا على حدث تاريخي عظيم.

في يوم من الأيام، بينما كانت مونو جالسة على حافة النهر، غارقة في أفكارها، قررت أن أجرب شيئًا جديدًا. لمستها بخفة، بسرعة لم تكن لتلاحظها لو كانت أقل تركيزًا.

في تلك اللحظة، تدفق سيل من المشاعر إلى داخلي. كانت مشاعر معقدة، لا تشبه أي شيء شعرت به من قبل. شعرت بشعور الوحدة العميقة، وكأنها حملت العالم على كتفيها لقرون. رأيت صوراً سريعة، من ضمنها وجهها وهي ترتدي قلادة غريبة، ثم رأيت وجهها وأنا أحترق في تدريب النار، وهناك مشاعر قلق وخوف ممزوجة بالغضب.

لكن وسط كل هذه المشاعر، كان هناك شيء آخر… شيء دافئ، ومشرق، ومخيف في آن واحد. شعرت بحب كبير يغمرني، وشعور بالأمان، وكأنها كانت تحميني من كل شر في العالم. لم يكن هذا الحب حبًا عاديًا، بل كان حبًا أعمق وأقوى، مثل حب الأم لابنها، أو حب الصديق الذي يضحّي بنفسه من أجل صديقه.

فجأة، تذكرت كل مشاعرها تجاهي: حبها لي، رغبتها في حمايتي، وحنانها الذي تخفيه دائمًا خلف قسوتها المصطنعة.

ابتسمت ابتسامة عريضة، وارتفعت ضحكاتي المتقطعة. لم أستطع كتمان فرحتي، فهذه المشاعر كانت تأكيداً على أنها لم تكن تكرهني، بل كانت تحبني في كل مرة كانت تضربني.

سألتها بمزاح، وعيناي تلمعان من السعادة:

"مونو… هل كنتِ تخفين كل هذا الحب لي؟ لا تخافي… أعلم أنكِ تحبينني!"

تحولت ملامحها من الهدوء إلى الغضب. وجهها احمرّ خجلاً، وحاجباها عُقدا. رفعت يدها في الهواء، ووجهت إليّ ضربة قوية على رأسي.

صرخت وهي تحاول إخفاء ارتباكها:

"أصمت أيها الأحمق! التعويذة أفقدتك عقلك. من قال إنني أحبك؟!"

فركتُ رأسي، وأنا أبتسم بألم. لم أهتم بالضربة، بل اهتممت بالدفء الذي شعرت به في داخلي. لقد كان هذا الدفء هو الإجابة التي كنت أبحث عنها منذ فترة طويلة.

نظرت إليها مرة أخرى، وابتسمت ابتسامة هادئة، مليئة بالامتنان:

"لا تخافي يا مونو… سأظل هنا معك. سأبقى معك حتى النهاية. وأنا أعلم أنك تحبينني… وسأظل أذكرك بذلك كل يوم."

أجبتها بابتسامة، وضحكتي ترن في الأفق. لم تقل شيئًا، فقط نظرت إليّ بحاجبين معقودين، لكنني رأيت في عينيها لمعة خافتة، لمعة لم أرها من قبل. ربما كانت تلك هي المرة الأولى التي تفهم فيها أنني أرى ما وراء قناعها القوي، وربما كانت تلك هي المرة الأولى التي تشعر فيها بالراحة معي

2025/09/24 · 6 مشاهدة · 2277 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025