كانت يدي ترتعش. ليست من الخوف، بل من الإثارة. لم أعد ذلك الفتى الضعيف الذي يرتجف عند أدنى همسة، بل أصبحت مقاتلاً يملك في عروقه قوة النار، وفي روحه حكمة الماء. بعد أن أتقنت سحر العناصر الأربعة، حان الوقت لأواجه تحديًا آخر، تعويذة جديدة من "شمس المعارف".
نظرت إلى مونو، التي كانت تقف أمامي بابتسامة غامضة. "هل أنت متأكد من أنك جاهز؟" سألت بصوتها الذي يشبه أجراسًا فضية. "هذه التعويذة مختلفة تمامًا عن أي شيء تعلمته من قبل."
رددت بثقة زائفة: "أنا جاهز يا مونو. لن أسمح لأي شيء بإخافتي بعد الآن."
مددت يدي، أمسكت بكتاب "شمس المعارف" الذي كان يبعث بضوء خافت وغامض. كانت أوراقه تبدو قديمة ومتهالكة، لكنها كانت تنبض بالطاقة. فتحت الكتاب على صفحة عشوائية، وتوقفت يدي على الفور.
نظرت إلى مونو، عيناي تسألانها بصمت. أغمضت عينيها، وظهرت هالة صفراء من جسدها، ثم تدفقت مباشرة إلى عيني. على الفور، تحولت الرموز الغريبة على الصفحة إلى لغة مفهومة.
"نداء البهوات"
همست بالاسم، فشعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري. الاسم نفسه كان ثقيلًا، يحمل في طياته هيبة وقوة لم أعهدها.
نظرت إلي مونو، وتلاشت الابتسامة من على وجهها. "هذه التعويذة... لم يكن عليّ أن أسمح لك باختيارها. إنها تعويذة خطيرة جدًا، يا بليك
أخذت نفسًا عميقًا. لم يكن لدي خيار. يجب أن أصبح أقوى، ليس من أجلي، بل من أجل من أحببتهم.
"ما هي الخطوة التالية؟" سألت، وقد اختفى التردد من صوتي.
"الكلمات. يجب أن تردد الكلمات كما هي مكتوبة. كل كلمة، كل حركة، كل نفس."
أمسكت بالكتاب بكلتا يدي، وبدأت في تلاوة التعويذة بصوت خفيض.
"أَيُّهَا الْفَرْدُ الْعَلِيُّ، الْقَادِرُ عَلَى الْقُلُوبِ الْبَشَرِيَّةِ، الْمُتَحَكِّمُ فِي الْأَحْدَاثِ الْخَفِيَّةِ، تَعَالَى وَأَصْغِ لِصَوْتِي الْضَعِيفِ..."
بدأت الأرض ترتجف، والأشجار تهتز. تشكلت هالة سوداء حول الكتاب، وسرعان ما غلفتني بالكامل. شعرت وكأن روحي تُنتزع من جسدي، وتُسحب إلى دوامة مظلمة، إلى عالم لم أره من قبل.
"نداء البهوات"
صوت همس.
لم يكن صوتًا عاديًا، بل كان أشبه بالزفير البارد الذي يأتي من أعماق الزمن. كان أقدم من الصخور، وأعمق من البحار. تمزق الفضاء أمامي، وظهر صدع أسود لامع، ليس كصدوع العالم التي رأيتها من قبل. كان هذا الصدع يشبه شرخًا في نسيج الواقع نفسه.
من داخل هذا الصدع، لم يظهر كيان مادي. بل خرج همس، صوت يتردد صداه في أعماق روحي.
"يا فتى... لا تدع اليأس يتملكك..."
الهمس كان قصيرًا، لكنه كان ثقيلًا كالجبال. كانت كلماته لا تحمل معنى واضحًا، لكنها كانت تخترق كياني، وتمنحني دفعة قوة غريبة.
"إن القوة تكمن في أعماقك... ابحث عنها... لا تخف..."
في اللحظة التي سمعت فيها الكلمات، شعرت بطاقة هائلة تتدفق في عروقي. لم تكن طاقة سحرية، بل قوة بدائية، خام. شعرت وكأن كل خلايا جسدي قد استيقظت، وكل عضلة قد تضخمت.
"القوة تكمن في العقل... وليس في الجسد..."
لم يكن مجرد همس. كانت معلومة، دفعة عقلية. في جزء من الثانية، فهمت شيئًا عن طبيعة قتالي القادم. لم أكن بحاجة لجسد أقوى، بل لعقل أقوى. فهمت أن قوتي الحقيقية تكمن في فهمي للكون، وليس في قدرتي على حمل الأشياء الثقيلة.
لكن مع هذا الفهم، جاء شيء آخر. شعرت وكأن هناك خيطًا رفيعًا يلتف حول عقلي، ويحاول أن يشدني إلى الظلام. لم يكن ألمًا جسديًا، بل شعورًا ثقيلًا، وكأن جزءًا من روحي قد أصبح مقيدًا، مملوكًا.
الصدع الأسود أغلق فجأة، واختفى الهمس.
عدت إلى الواقع، أتنفس بصعوبة، ويدي ترتجف. لم تكن ترتجف من الخوف، بل من ثقل القيد الذي تركه الكيان في عقلي.
"ما الذي حدث؟" سألت مونو، وقد ظهر القلق في صوتها.
"لقد... سمعت همسًا." قلت، عيني تتسعان. "لقد قال لي شيئًا... عن القوة."
نظرت إلي مونو، عيناها مليئتان بالقلق. "ماذا قال؟"
"قال... أن القوة الحقيقية تكمن في العقل... وليس في الجسد."
نظرت مونو إلى وجهي، ثم إلى يدي التي كانت ترتجف، وارتسمت على وجهها تعابير لم أرها من قبل.
"ما الذي حدث يا بليك؟" سألت مرة أخرى، هذه المرة بصوت خفيض. "هل هذا هو الثمن؟"
لم أستطع الرد. شعرت وكأن عقلي قد أصبح ساحة معركة، وأن هناك قوة خفية قد تغلغلت فيه، تنتظر اللحظة المناسبة لتسيطر.
"نداء البهوات"
فجأة، انتابني شعور غريب لم أعرفه من قبل. وكأن جسدي قد أصبح ثقيلًا، ليس من التعب، بل وكأنني أحمل وزن كل صخور الأرض فوق كتفي. شعرت بالنعاس يداهمني بغتة، وكأنني لم أنم منذ أسابيع. دماء في رأسي كانت تشتعل، تضرب في جمجمتي كالمطرقة، بينما عيناي أصبحتا ضبابيتين، لا أستطيع الرؤية بهما جيدًا.
أنفي أغلق تمامًا من المخاط، وأصبح تنفسي أشبه بصرير عجلة قديمة. حاولت رفع يدي أمامي لأرى، لكنها بدت كغيمة بيضاء لا أستطيع أن أميز ملامحها. كل شيء كان يذوب في بياض ساطع، حتى وقعت على الأرض مغمى عليّ.
في تلك اللحظة الأخيرة، قبل أن يغمرني الظلام الكامل، سمعت صوت مونو يصرخ باسمي بذعر، صدى صوتها كان يتردد في أذني المغلقتين.
عندما استيقظت، كان المكان مختلفًا.
لم أحس بأي شيء من ذلك الثقل أو الإرهاق. جسدي كان خفيفًا بشكل غير متوقع، وكأنني أطفو. وقفت على قدمي، وكان كل شيء حولي ينبض بالهدوء. كانت السماء فوقي زرقاء عميقة، والأرض من تحتي كانت بيضاء ناعمة، تشبه السحاب.
كل ما كنت أسمعه هو همسات بكلمات غير مفهومة، وكأنها ترنيمة عبادة قديمة، تتردد في الفضاء. ومن حين لآخر، في أجزاء من الثانية، كانت تظهر أشياء غريبة، كخربشات أو ما شابه ذلك.
كانت تظهر كخطوط سوداء عشوائية، أو أشكال هندسية مستحيلة، كأشياء رسمها طفل مهووس. كانت تظهر وتختفي في لمح البصر، كأنها مجرد وميض في رؤية عيني. كنت أعرف أنها ليست حقيقية، أنها مجرد خربشات في رأسي، لكنها كانت تثير قلقًا عميقًا في روحي.
تقدمتُ بضع خطوات في هذا الفضاء السحابي الخالي من أي أثر للحياة، وكم كانت خفيفًة، لا أشعر بثقل جسدي المعتاد. كان الهدوء يعم المكان، لكنه هدوءٌ لم يكن مريحًا. وبينما كنت أواصل سيري، دون أن أشعر بأي تغيير، تغير كل شيء من حولي.
لم أعد في الفضاء الأبيض الناعم، بل كنتُ واقفًا في خلفية داكنة، كأنها الفضاء الكوني المظلم. لكن في عمق هذا الظلام، كان هناك مشهد ينبض بالحياة، يجمع بين النور والظلمة.
تجسد أمامي عمود من الضوء الذهبي المتوهج، ينبع من الأسفل ويصعد إلى الأعلى، يخترق الفضاء المظلم. وفي قمته، تشكل كائن نوراني أبيض لامع، جسده ممدود وكأنه إنسان تجريدي أو ملاك، رأسه يطلق إشعاعًا من الضوء، وجسمه يذوب في خيوط متألقة.
في أسفل هذا العمود، كانت هناك هيئة أكثر غموضًا وظلامًا. كان شكلًا أقرب إلى ظل أو شخص، يقف ويداه مرفوعتان بتشابك نحو الأعلى، كأنه يتضرع أو يتصل بالكيان النوراني. ومن جسده، كانت تتدفق خيوط ذهبية وحمراء، تشبه جذورًا مضيئة أو طاقة تتسلق نحو الأعلى، تربطه بالضوء.
من منتصف العمود، تشعبت أذرع أو شبكات من الضوء، امتدت يمينًا ويسارًا بشكل أجنحة هائلة أو انفجار كوني، مكونةً أشكالًا متشابكة من الطاقة الملونة بالذهبي، والبرتقالي، وأحيانًا لمحات من الأزرق والأخضر. على جانبي الأسفل، كانت هناك سحب كثيفة من غبار كوني أو سدم مضيئة، ألوانها تتدرج بين الأزرق الفاتح والذهبي والبرتقالي.
لقد كان مشهدًا صامتًا، ولكنه كان يملأ روحي بالرهبة. كان التقاءً بين العتمة والنور، بين ما هو أرضي وما هو سماوي، كأنه صراعٌ أبدي أو اتحادٌ مقدس. شعرتُ بأن هذا المشهد لا يمثل مكانًا، بل يمثل فكرة، صراعًا، أو ربما كيانًا. وقفتُ مسمرًا في مكاني، أراقب هذا المشهد الذي يجسد معنى القوة المطلقة.
الدهشة غمرتني، ونسيت كل ما شعرت به سابقًا. عيناي لم تستطيعا استيعاب المشهد. كان مزيجًا من الجمال المطلق والرعب الكوني. كائن متسامي يتجسد من النور، وكيان آخر مظلم يتضرع له، في مشهد صامت ينبض بالمعنى. شعرت بأنني أرى سرًا عظيمًا من أسرار هذا الكون، شيئًا لم يكن من المفترض أن يراه بشر.
لم أفكر، لم أقرر. جسدي فقط بدأ بالتحرك من تلقاء نفسه، وكأن هناك قوة داخلية تسحبني. بدأتُ بالجري نحو هذا المشهد المهيب، لا أشعر بأي إرهاق. لا عرق، لا لَهَث، فقط رغبة قوية لا تقاوم بالوصول إلى ذلك العمود الذهبي. كان يبدو بعيدًا جدًا في البداية، كأنه من عالم آخر، لكن مع كل خطوة، كان يقترب بسرعة. أدركتُ أنه لم يكن بعيدًا، بل كان في شقٍ عملاق أمامي، بوابة إلى هذا المشهد الأثيري.
دخلتُ هذا الشق، ووصلتُ إلى الكيان. لكن ما رأيته جعل قلبي يتجمد. لم يكن الكائن النوراني الذي رأيته من قبل، بل كان شيئًا آخر.
أمامي، كان كائن عملاق معلّق رأسًا على عقب في السماء، داخل مشهد مهيب مليء بالغيوم والدوائر الضوئية الذهبية. جسده كان أسود داكنًا ونحيلًا، أشبه بهيكل عظمي، وأذرعه ممدودة إلى الجانبين بشكل يشبه الصليب، وكأنه ضحية عذاب أبدي. من رسغيه، تدلت سلاسل حديدية مكسورة، وكأن قيوده قد تحطمت للتو. شعره الطويل والأسود تدلى بفوضوية للأسفل، وفي منتصف رأسه، توهجت عين أو جوهرة حمراء تنبض بالغموض والرعب.
كان متصلًا من الأعلى بشبكة من الحبال أو الجذور السوداء، التي امتدت نحو السماء كأنها تربطه أو تُنزله. حلقات ذهبية متوهجة، متداخلة ومتناسقة، كانت تحيط به، تتوزع كدوائر ضخمة في الجو. من منتصف جسده خرج شعاع ضوء مستقيم يتقاطع عموديًا مع الحلقات، مما أعطى شعورًا بالقدسية والطقوس الكونية. السماء كانت مغطاة بغيوم كثيفة مظلمة، لكنها كانت مضاءة بوهج ذهبي، كأنها بوابة سماوية عملاقة.
شعرت بالصدمة تسحقني. هذا الكائن، الذي يجمع بين الجلال والرهبة، كان مرعبًا بطريقة لا يمكن وصفها. كانت عيناه الحمراوان تنظران مباشرةً إلي، رغم أنه كان معلقًا رأسًا على عقب. شعرتُ وكأنه يرى ماضيّ ومستقبلي وكل ضعف في روحي. لم يكن مجرد مخلوق، بل كان تجسيدًا للخطيئة والقداسة في آن واحد.
لم أستطع الحركة. كل ما استطعت فعله هو الوقوف والنظر، بينما كان هذا المشهد ينطبع في ذاكرتي إلى الأبد. ما هذا الكائن؟ هل هذا هو البهوت؟ أم أنه مجرد حارس على بوابته؟ كل ما كنت أعرفه هو أنني دخلتُ عالمًا لم يكن من المفترض أن أدخله، وأن رحلتي قد أخذت منعطفًا خطيرًا ومرعبًا
كانت الصدمة قد شلّت جسدي تمامًا، لكن عيناي ظلتا مفتوحتين على مصراعيها، تحدقان في الكائن المعلّق. نظرتُ إلى رأسه، حيث كانت التفاصيل البارزة للعضلات تبرز بوضوح مدهش رغم الظلام المحيط. وفي أسفل منتصف جذعه، توهجت عين حمراء نابضة بالحياة، محاطة بهالة على شكل قطرة دم أو لهب أحمر، وكأنها قلب هذا الكيان، الجزء الأكثر بروزًا وجمالًا في هذا المشهد المرعب.
شعره أو خيوطه الداكنة تتدلى من أعلى رأسه، وتتماوج مع الحركة، مما يضيف طابعًا ديناميكيًا، كأن هذا الكيان يتنفس ويتألم في آن واحد. مشتعلًا بضوء ذهبي وبرتقالي قوي، يشبه النار أو وهجًا سماويًا، كان جسده المظلم يبرز بحدة أمام هذه الهالة المتوهجة.
وبشكل غريب، عندما نظرتُ إلى تلك العين الحمراء، لم أستطع إبعاد نظري. كان هناك شيء يجذبني إليها بقوة لا تقاوم، كأنها مغناطيس يجذب كل ذرة في وجودي. بدأ همس خافت يتردد في رأسي، ليس بصوت مسموع، بل كفكرة أو رغبة تنبع من أعماق روحي.
"آذِ نفسك... لأجل الخالق المعلق..."
كان الهمس مرعبًا، لكنه كان مغريًا في الوقت نفسه. كانت تتخلله همسات أخرى متعددة، لكنها جميعًا كانت تقول نفس الشيء في نهاية المطاف: "الخالق المعلق... الخالق المعلق".
فجأة، انتابني شعور غريب، رغبة جامحة في البقاء في هذا المكان إلى الأبد. رغبة في أن أصبح جزءًا من هذا المشهد، جزءًا من هذا الكيان المهيب. كان الجمال المخيف الذي أمامي يغويني، يمنحني شعورًا بالقدسية والهدف.
ظهرت سكين حادة في يدي فجأة. لم أعرف من أين أتت، لكنها كانت هناك. بتلك العيون اللانهائية التي تسيطر على عقلي، كانت تقول لي أن أطعن عروق يدي، أن أُقدم دمي قربانًا لهذا الخالق المعلّق.
رفعتُ السكين، وكانت يدي تستجيب لأمر لم يصدر مني. كنتُ على وشك أن أفعلها، على وشك أن أغرس النصل في جسدي، في لحظة من الجنون المطلق.
لكن فجأة، شعرتُ بيد صغيرة تمسك رقبتي بقوة وتشدني. لم تكن يدًا عادية، بل كانت باردة كالثلج، وفي جزء من الثانية، عدت إلى الواقع. اختفى المشهد المرعب، واختفت الهمسات، واختفى كل شيء.
كانت مونو أمامي. عيناها اللامعتان كانتا تتسعان من القلق، وشعرها الأسود يتطاير حول وجهها كأنها قد ركضت مسافة طويلة. كانت تمسكني بذعر، وتحدق في وجهي كأنها تحاول أن ترى ما الذي حدث لي. شعرتُ بيدها على رقبتي، ورغم برودتها، إلا أنها كانت دافئة، دافئة بشكل مريح، دافئة كالحياة نفسها.
"بليك! هل أنت بخير؟" كان صوتها يرتجف، وقد امتلأت عيناها بالدموع. "هل أنت بخير؟"
لم أستطع الرد. كل ما استطعت فعله هو النظر إليها، إلى وجهها القلق، إلى عينيها اللتين تعبران عن خوف حقيقي. كان هذا الخوف أغلى عندي من أي قوة أو أي جنون.
"نداء البهوات"
أدركتُ أن يدي ما زالت ممسكةً بالسكين. أسقطتها على الفور، سقطت على الأرض بصوت خافت لم أُعره اهتمامًا. كانت عيناي تحدقان في مونو، في وجهها الذي كان يعكس قلقًا لم أره من قبل. شعرتُ بشيء ما ينقطع في داخلي، شيء يشبه جدارًا كان يحبس كل الرعب الذي شعرتُ به. فجأة، انتابتني نوبة هلع.
بدأت أرتجف بشكل لا إرادي، وشهقات خافتة تخرج من حلقي. أُغمضتُ عيني، لكن صورة "الخالق المعلق" كانت محفورة في ذهني، العين الحمراء المتوهجة، السلاسل المكسورة، والهمسات التي كانت تصرخ باسمه. كان كل شيء حقيقيًا، حقيقيًا بشكل مرعب.
لكن مونو لم تتركني.
سحبتني إلى صدرها، واحتضنتني بقوة. لم تكن مجرد عناق، بل كانت تحاول أن تمنعني من الانهيار. كانت يديها تمسكان رأسي، وتضعه على صدرها، بينما كانت تهمس بكلمات هادئة.
"أنت بخير يا بليك... أنت بخير... أنا هنا... لا شيء يمكن أن يؤذيك."
كان صوتها كالموسيقى، يهدئ كل ذرة من جنون الهلع الذي كنت فيه. كانت رائحتها، رائحة الخشب المحروق والأعشاب، تملأ رئتي، وتذكرني بأنني ما زلت على قيد الحياة. شعرتُ بأن طاقة دافئة تتدفق من جسدها إلى جسدي، كأنها تحاول أن ترمم كل الكسور التي سببتها تلك التجربة المرعبة.
كنتُ أسمع دقات قلبها. دقات قلب سريعة وقوية، تعكس قلقها الحقيقي عليّ. في تلك اللحظة، لم تكن معلمتي القاسية، بل كانت ملجئي الوحيد. كان كل ما أريده هو أن أبقى في هذا العناق، بعيدًا عن الظلام، بعيدًا عن الهمسات، بعيدًا عن "الخالق المعلق".
لم أعد أهتم بالقوة، ولا بالسحر، ولا بالكون. كل ما أردته هو هذا الشعور بالأمان، الذي منحته لي مونو. أغمضت عيني، وسمحتُ لنفسي بالانهيار أخيرًا، مدفونًا في حضنها، بينما كانت كلماتها الهادئة تمحو كل آثار الرعب من روحي.
استسلمت لدموعي، تاركًا كل مخاوفي تتدفق معها. لم أكن أستطيع التفكير في أي شيء سوى دفء حضن مونو، وصوتها الهادئ الذي يمحو آثار الرعب من روحي. بعد فترة، هدأت، واستعدتُ أنفاسي. ابتعدتُ قليلًا عنها، لأجدها تمسك بي من كتفيّ، وعيناها تحدقان فيّ باهتمام بالغ.
"أنت بخير الآن؟" سألت بهدوء.
أومأتُ برأسي. "نعم... أنا بخير."
تنهدت مونو براحة، ثم بدأت تتكلم بصوت خفيض، وكأنها تكشف سرًا عظيمًا.
"ما رأيته الآن لم يكن مجرد خيال، بل هو نتيجة تعويذة نداء البهوات."
توسعت عيناي من الصدمة. "التعويذة؟ ولكن..."
"لقد التقيتَ بـ الخالق المعلق، الكائن الذي سيعطيك معلومة أو قوة في مقابل شيء ما، في كل مرة تستخدم فيها التعويذة."
"الخالق المعلق... هل هو إله؟" سألتُ بصوت خافت.
"نعم. هناك الآلاف من الآلهة في هذا العالم، وهذا واحد منهم. لا أملك الكثير من المعلومات عنه، لكن ما أعرفه هو أنه كائن شرير وخطير. يجب أن تكون حذرًا جدًا في التعامل معه، ولا يجب أن تستخدم هذه التعويذة إلا في الحالات الطارئة فقط."
شعرتُ بالصدمة تضربني مرة أخرى. إله؟ هل كنتُ على وشك أن أطعن نفسي من أجل إله شرير؟ كل شعور بالقدسية الذي انتابني في ذلك العالم قد تحول إلى رعب مطلق. تذكرتُ الهمسات التي أغوتني، والسكين التي ظهرت في يدي، ورغبتي المجنونة في أن أؤذي نفسي من أجله. كان هذا الكيان ليس مجرد قوة، بل كان سمًا يغزو العقل والروح.
شعرتُ بالضعف والهشاشة. كل التدريب الذي مررت به، وكل القوة التي اكتسبتها، بدت بلا قيمة أمام هذا الكائن الذي يستطيع أن يتلاعب بعقلي بتلك السهولة.
"أنا... أنا لا أستطيع..." همستُ، وقد بدأت أرتجف مرة أخرى. "لا أستطيع فعل هذا. هذه القوة خطيرة جدًا. أنا... أنا خائف."
نظرت مونو إليّ، ثم وضعت يدها على خدي. كانت عيناها الدافئتان تنظران إلى أعماق روحي، وكأنهما تقرآن كل مخاوفي.
"اسمعني يا بليك." قالت بصوت حازم. "القوة ليست في أن تكون قويًا دائمًا. القوة الحقيقية تكمن في أن تكون شجاعًا. الشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي أن تشعر بالخوف وتستمر رغم ذلك."
"لقد نجوتَ من هذه التجربة. لقد عدتَ، وهذا هو الأهم. الخالق المعلّق ليس قويًا لأن جسده قوي، بل لأنه يستطيع أن يلعب بعقول الآخرين. وأنت... لقد قاومته. لقد عدتَ. وهذا يعني أنك لست ضعيفًا."
نظرتُ إليها، وإلى صدق كلماتها. لم تكن هذه كلمات تشجيع عابرة، بل كانت حقيقة. لقد قاومتُ إغواءه. شعرتُ بذرة صغيرة من الأمل تتوهج في داخلي، وتنمو ببطء.
"أنا أثق بك يا بليك." قالت مونو، وابتسامة دافئة ارتسمت على شفتيها. "أنا أثق بقدرتك على التحكم في هذه القوة، واستخدامها في الوقت المناسب."
أومأتُ برأسي. شعرتُ بكتفيّ يستقيمان، وبقلبي يعود إلى مكانه. نعم، هذه القوة خطيرة، ولكنها ضرورية. يجب أن أتحكم بها. يجب أن أصبح أقوى من الخوف.
"سأفعلها." قلتُ بصوت حازم. "سأتحكم بها."
كانت هذه بداية رحلة جديدة، رحلة لا تقتصر على القوة الجسدية، بل على السيطرة على العقل والروح
مرت الأيام، ونسيتُ تدريجيًا الرعب الذي انتابني. استعدتُ قوتي، وعدتُ إلى التدريب، لكن هذه المرة كان التركيز مختلفًا. كانت مونو تعلمني كيف أتحكم في عقلي، كيف أقوم بالتأمل وأتخلص من الأفكار السلبية، وكيف أقاوم الإغواء. شعرتُ بأنني أصبحتُ أقوى من الداخل، ليس فقط من الخارج.
وفي أحد الأيام، بعد أن انتهيت من تدريبي اليومي، طلبت مني مونو أن أتبعها. سرنا معًا حتى وصلنا إلى حافة منحدر، يطل على مشهد لم أره من قبل. كانت غابة واسعة، مغطاة بالكامل بضباب كثيف لا يتحرك، وكأنها بحر من الغيوم.
"لماذا نحن هنا؟" سألتُ، وعيني تحدقان في المشهد الغامض.
التفتت مونو إليّ، وابتسامتها المعتادة عادت إلى وجهها. "كان وقت اختيارك الأخير."
لم أفهم ما كانت تقصده. نظرتُ إليها، وإلى الغابة الضبابية أمامي، ثم شعرت بدفعة قوية من الخلف. قبل أن أستوعب ما يحدث، كنتُ أسقط في الهواء.
"عليك أن تنجو في هذه الغابة لمدة عشرة أيام!" صرخت مونو، بينما كانت صورتها تصغر وتتلاشى. "إذا نجوت، ستكون قد نجحت في الاختبار، وأصبحت مؤهلاً!"
سقطت في الغابة، واختفى صوتها تمامًا. كل ما كنت أراه هو الضباب الكثيف من حولي، وكل ما كنت أشعر به هو الوحدة. لم أكن أعرف ما هو الاختبار، ولا ما الذي كان ينتظرني في هذه الغابة الغامضة.