76 - اليوم 1 في غابة الضباب المخفية

المشي في الغابة بدا كأنه خطوة نحو عالم آخر، غريب ومهيب، محاط بضباب أبيض كثيف يتغلغل بين جذوع الأشجار العتيقة. كنت أغضب من مونو، لم أستطع كبح شعوري بالاستياء، كل خلية في جسدي تصرخ بالرفض. كيف يمكن لمعلمة واحدة، مهما كانت قوية، أن ترميني هكذا دون تحذير حقيقي؟ عشرة أيام كاملة، في هذه الغابة التي تبدو حيّة، تتنفس وتراقبني... كانت فكرة مجنونة!

“هل أنا فعلاً قادر على النجاة؟” سألت نفسي بصوت خافت، لكن رنين التفكير استمر كإيكو في داخلي. “لقد واجهت فشل النار والجليد والماء، حتى تعويذات شمس المعارف كانت اختبارًا لقوة عقلي… لكن عشرة أيام هنا؟ هل ستكفي قوة جسدي، ذكائي، حدسي، أو حتى إرادتي؟”

خطوتي الأولى على الأرض المبللة بأوراق متعفنة جعلت قلبي يخفق بقوة. كل ورقة تخرق تحت قدمي كأنها تحذرني: ”هنا، كل شيء حي، وكل شيء يراقبك.”

توقفت فجأة، أمعنت النظر في الأشجار المحيطة بي. كانت أعمدة خشبية ضخمة، جذوعها متشابكة كأنها نسج من زمان قديم، أوراقها بلون أخضر قاتم، تتخللها أشعة شمس متفرقة تكاد لا تصل الأرض. بعض الأشجار كانت تغطيها طحالب خضراء وسحب من الفطر البني، في حين كانت أعشاب طويلة تتمايل برفق مع نسيم خفيف، يرسل رائحة التراب الرطب والأوراق المتحللة، مزيج يذكرك بأنك لست وحدك.

“لا أستطيع السماح للخوف أن يسيطر عليّ…” همست لنفسي، بينما يزداد إحساسي بالمسؤولية، ليس فقط على حياتي، بل على كل ما أؤمن به. كنت أشعر بغضب يمتزج بالخوف، بخيبة الأمل، وبإصرار غريب ينبثق من عمق داخلي: “أنا بليك إيثر… لقد تجاوزت كل شيء حتى الآن، ولن أسمح لغابة أن تُخيفني.”

سرت أكثر في الغابة، كل خطوة كانت تقربني من المجهول، وكل نسيم يمر بين الأغصان يبدو وكأنه يهمس باسمي. كانت الرطوبة تلتصق ببشرتي، ونسيم الصباح البارد يلسع وجهي، يحرك شعري المتناثر، بينما أصوات الطيور المجهولة تعزف سيمفونية غامضة، كل نغمة فيها كأنها سؤال عن إرادتي وقوتي.

جلست على جذع شجرة متساقطة، أضغط على رأسي بكفيّ، محاولاً تهدئة قلبٍ يضطرب بين الغضب والخوف والعزيمة. “مونو، لقد أرسلتني هنا بلا خطة واضحة… لكن ربما… ربما هي طريقة أخرى لتعلّمي. طريقة لتعلّمي الاعتماد على نفسي، على كل قدراتي، على كل قوتي…”

رفعت رأسي، وبدأت أتأمل الأشجار الطويلة التي تمتد إلى السماء، وأغصانها تتشابك كأنها جدران حية، وكل ظل فيها يحكي قصص الغابة منذ قرون. شعرت بمزيج من الرهبة والاحترام، خوف يعانقه إعجاب بصمت الطبيعة وعظمتها، ثم عاد الغضب يلتهم داخلي: “لكنني لن أسمح لأي شيء هنا أن يسيطر عليّ. عشرة أيام، وهذا كل ما أحتاجه لأثبت لنفسي أنني أستطيع النجاة!”

ثم همست بصوتٍ أكثر ثقة، متحدثًا مع نفسي كما لو كنت قائدًا لفريق غير مرئي: “كل خطوة، كل تنفس، كل إحساس هنا… هو تدريب. كل لحظة ألم، كل صوت غريب، كل ظل يراقبني… سيقويّني. سأجعل هذه الغابة شاهدة على قوتي. سأخرج منها مختلفًا، أقوى، أذكى، وأشد استعدادًا لأي شيء سيأتي بعد ذلك.”

وقفت، شددت على حزامي، ونظرت حولي مرة أخرى. الأوراق المتساقطة، الفطر المعلق على الجذوع، الأعشاب الطويلة، ضباب الصباح… كل شيء بدا وكأنه يختبرني. ابتسمت ابتسامة خفية، شعرت بانطلاق طاقة جديدة في صدري، مزيج من الغضب والتحفيز. “ابدأ، بليك… اليوم هو اليوم الأول. البداية الحقيقية

كنت أمشي في الغابة، أتنقل بين الأشجار العملاقة، وأراقب ضباب الصباح يتدفق مثل شريط فضي بين الأغصان. لكن بعد ساعات من السير دون طعام، بدأ شعور الجوع يثقل معدتي، يضغط على جسدي كحجر ثقيل، يبعث بالخمول والتهديد المبطن لطاقتي.

“لا يمكن أن أستمر هكذا… أحتاج لطعام…” همست لنفسي، وأنا أنظر حولي محاولًا العثور على أي شيء صالح للأكل. عيون الغابة تحيط بي، أوراقها الخضراء المظلمة وكأنها تحدق بي، والفطر الذي ينمو على جذوع الأشجار يبدو جميلاً لكنه يبعث بالريبة.

عثرت على شجرة صغيرة تحمل فاكهة غير مألوفة، حمراء اللون، تتلألأ في الضوء الخافت، وكأنها تقول لي: ”كُلْ، لتستعيد قوتك.”

ترددت لوهلة، أحسست بقلبي يخفق بسرعة، كل عقلانيتي تحذرني: “الفطرة تعلمك ألا تأكل شيئًا مجهولًا… لكن الجوع سيقتلني أسرع من السم!”

أخذت نفسًا عميقًا، وقلت لنفسي: “حسناً… سأكون حذرًا. سنرى ما سيحدث.”

التقطت الفاكهة، شعرت بقشرتها الحريرية بين أصابعي، ثم قضمتها على عجل. لحظة اللذة الأولى سرعان ما تحولت إلى حريق داخلي غريب، معدتي تشد، رأسى يدور، وكل شيء من حولي بدأ ينهار في دوامة من اللون والظل.

“ماذا يحدث…؟!” صرخت في داخلي، وبدأ جسدي يهتز من الضعف، عرق بارد ينساب على ظهري، رائحة التراب المبلل والنباتات بدأت تختلط بغثيان لا يُطاق.

فهمت على الفور… الفاكهة مسمومة.

شعرت بأن السم يتغلغل في دمي، كل خلية تتألم، كل شعور طبيعي أصبح قاسيًا، كأن الغابة نفسها تعاقبني على طمعي أو سذاجتي. كنت على وشك الانهيار، وكنت أعرف أن هذا قد يكون اليوم الذي سأفشل فيه قبل أن تبدأ الرحلة حقًا.

لكن شيئًا في داخلي تحرك… حدسي، شيء تعلمته من كل فشلي السابق: السيطرة على جسدي وعقلي ليست مجرد مهارة سحرية، بل إرادة. شعرت بطاقة غريبة تتجمع في صدري، كما لو أن جسدي نفسه بدأ في مقاومة السم. امتصه تدريجيًا، حامياً على نفسي من الانهيار.

“هذا… هذا شعور غريب… جسدي… يتفاعل… يمتص السم… ربما قوة الكتاب، أو ربما مجرد إرادتي… لا أعرف… لكني سأنجو…”

مع كل ثانية، بدأ الغثيان يتلاشى تدريجيًا، جسدي يستعيد قوته، عقلي يعود إلى صفائه، وكان ذلك الإحساس بالنجاة شعورًا لم أشعر به منذ وقت طويل. كنت منهكًا، جسدي مرتعش، لكن هناك شعور غريب بالفخر، كما لو أن الطبيعة نفسها قد منحتني تصفيقًا صامتًا: “لقد نجوت، بليك، لم تستسلم.”

جلست على الأرض، أستند إلى جذع شجرة ضخم، أراقب الضباب الذي يتخلل الأشجار، الهواء الرطب الذي يلتصق ببشرتي، وأشعر بأن كل شيء حولي أصبح أكثر وضوحًا. الألم والخطر علمني درسًا لا يمكن أن أنساه: الغابة ليست مجرد اختبار جسدي، بل اختبار ذهني وروحي، كل خطوة فيها تتطلب الانتباه، كل نفس هو تحدٍ، وكل قرار… مسألة حياة أو موت.

ابتسمت لنفسي على الرغم من التعب، شعرت بحرارة صغيرة في صدري، كما لو أن القوة التي انتشلتني من السم أصبحت جزءًا مني، شيء يمكنني الاعتماد عليه في الأيام القادمة. “اليوم الأول… انتهى نصفه على الأقل… ونجوت… نعم… سأستمر… وسأخرج من هنا أقوى.”

لم يمضِ وقت طويل على استرخائي بجانب جذع الشجرة حتى بدأ صمت الغابة ينهار شيئًا فشيئًا… أصوات غريبة، كخربشات متواصلة على التربة، تقترب منّي ببطء. أول الأمر، ظننتها مجرد قوارض أو حيوانات ليلية تبحث عن طعام، لكن كل شيء داخلي كان يصرخ: “ليسوا طبيعيين… هذه الأصوات ليست من عالم بريء.”

رفعت رأسي، التوتر يشدّ عنقي، وإذا بالظلال بين الأعشاب الكثيفة تبدأ بالتحرك. ظهرت مخلوقات صغيرة، لا أطول من ركبتي، لكنها أبعد ما تكون عن الضعف أو البراءة.

كانت أجسادها أشبه بمزيج مشوّه بين حشرات وغربان: رؤوس مستطيلة بعينين واسعتين تتلألآن بلون أخضر مسموم، أفواهها مليئة بأسنان صغيرة وحادة، تصدر أصوات صرير كأنها تُطحن العظام قبل أكلها. جلودها لامعة، سوداء مائلة للزُرقة، تتقشر في أماكن، وكأنها مخلوقات خرجت من المستنقع بعد أن تعفنت داخله سنوات طويلة.

الأكثر رعبًا لم يكن شكلها فقط… بل أيديها الصغيرة. نعم، لديها أيادٍ بشرية دقيقة بحجم أطفالي، خمس أصابع رفيعة تنتهي بمخالب كالزجاج المكسور، تُصدر صوت خدش كلما ضربت الأرض.

بدأوا يحيطون بي في نصف دائرة، يتحركون بخفة، يفتحون أفواههم دفعة واحدة، يطلقون صرخات حادة أشبه بصوت صفير معدن يُكسر. جسدي كله ارتجف، لم يكن الخوف فقط، بل غرابة المشهد… مخلوقات بهذا الحجم الصغير، لكنها تنضح بالكراهية، وكأنها لا تسعى إلا لتمزيقي.

“مخلوقات مسخ… الغابة لا ترحمني أبداً…” تمتمت وأنا أرفع يدي بحذر.

اقترب أولهم بخطوات متشنجة، يركض ثم يتوقف فجأة، ثم يقفز بشكل غير متوقع نحوي، أظافره متجهة نحو وجهي. في تلك اللحظة، تحرك جسدي قبل عقلي—رُفعت يدي، وانطلقت شرارة نار صغيرة، تشتعل أمامي كوميض قصير. ارتد المخلوق للخلف وهو يصرخ بصوت قاطع، مثل زجاج يُكسر.

لكن الصرخة لم تكن مجرد ألم… بل نداء. فجأة، بدأت العشرات من هذه الكائنات تزحف من بين الجذور والضباب، تطوقني بالكامل، كأن الأرض نفسها لفظتهم دفعة واحدة.

شعرت بقلبي يتسارع، الدم يغلي، والخوف يتحول ببطء إلى تحدٍ: “لا… لن أُسقط نفسي في أول يوم. لن أكون طعامًا لهؤلاء الأقزام الشيطانية.”

أخذت نفسًا عميقًا، مددت يدي الاثنتين أمامي، واستدعيت النار التي تعلمتها بصعوبة مع مونو. في البداية لمعت شرارة واحدة، ثم ثانية، ثم كرة صغيرة بدأت تكبر، حرارتها تدغدغ وجهي وتذكرني بالحروق الماضية. لكنني لم أتوانَ.

صرخت بكل قوتي: “احترقوا!”

واندفعت كرة النار، ارتطمت بالأرض أمام أول مخلوق، فانفجرت شعلة حمراء برتقالية، تلتهم العشب اليابس والهواء المليء بالضباب. المخلوق لم يصرخ فقط، بل ذاب وكأنه مصنوع من شمع أسود، جسده يتفكك إلى رماد، عينيه تذوبان كحبات زجاج.

الغضب اجتاحني. لم أعد أنتظر اقترابهم. بدأت أُطلق كرات صغيرة متتالية، كل واحدة تصيب هدفًا وتحوّل جسده إلى دخان أسود وروائح كبريتية كريهة. كانوا يركضون نحوي، لكن النار كانت أسرع، تحصدهم كما يحصد الفجر الليل.

رغم ذلك، بعضهم كان أسرع وأكثر دهاءً. أحدهم قفز على كتفي من الخلف، مخالب يديه الصغيرة غرست في رقبتي. صرخت من الألم، التفت بجنون، وأطلقت شعلة قصيرة مباشرة على جسده. سمعت طقطقة كالخشب المحترق، وسقط جثة متفحمة.

الهواء امتلأ برائحة لحم محروق، وصوت صرخاتهم الجماعية كان أشبه بترنيمة جنائزية غريبة، خليط من الصفير والأنين. لكن شيئًا داخلي كان يستمتع… ليس بالقتل، بل بالانتصار على الخوف.

وقفت وسط الدخان، أنفاسي متقطعة، يداي ترتجفان من استهلاك المانا، لكن حولي لم يبقَ سوى بقايا أجساد محترقة، تتحول تدريجيًا إلى رماد يذروه الهواء.

أغمضت عيني للحظة، وابتسمت رغم التعب: “ربما هذه الغابة تريد ابتلاعي… لكنني لن أكون فريستها. النار… ستبقى درعي، حتى لو أحرقتني معها.”

ثم جلست أرضًا، يداي ما زالتا تشتعلان بحرارة خفيفة، أتنفس ببطء، أستمع إلى عودة الصمت التدريجي. كأن الغابة كانت تختبرني… وأنا نجحت في اختبارها الأول.

كنت ما أزال أترنّح بين ظلال الأشجار الملتفّة، والضباب يزحف حول ساقي مثل أفعى بيضاء. رائحة الرطوبة كانت خانقة، مزيج من الطين الرطب وعرق الأشجار القديمة. كنت أشعر أن هذه الغابة تخفي كل شيء… حتى تنفّسي صار مسموعًا بشكل مبالغ فيه، كأنها تتلصص عليّ.

بينما أتابع السير، لمحت من بعيد انعكاسًا متلألئًا بين الأغصان المتشابكة. عيناي اتسعتا قليلًا:

"ماء… أخيرًا!"

خطوت أسرع، كأن الأرض تناديني. وعندما اقتربت، رأيت جدولًا صغيرًا ينساب بين الصخور السوداء، صفاؤه أشبه بمرآة سماوية. جلست على ركبتي، غمست كفي فيه، ورفعت الماء إلى فمي. الطعم بارد منعش، لكنه كان أكثر من مجرد ماء… كان فيه حياة، كأنني أشرب طاقة خفية تتسرب إلى جسدي.

ابتسمت لنفسي رغم كل التعب. "ربما ليست كل الأشياء هنا ضدّي…" قلت في داخلي.

لكن سعادتي لم تدم سوى ثوانٍ. فجأة، شعرت بالأرض تحت قدمي تهتزّ، وكأنها تتنفس! جذور الأشجار ارتعشت، والصخور الصغيرة حول الجدول تقافزت في ارتباك. اتسعت عيناي، قلبي انقبض، ولم أملك سوى لحظة لأستوعب ما يحدث.

انشقّت الأرض فجأة أسفل جسدي، صرخة مفاجئة اخترقت حنجرتي، وسقطت في العتمة.

كان سقوطًا طويلًا… الهواء يصطدم بوجهي، والظلام يبتلعني بلا رحمة. أصوات الأرض من حولي بدت كصرير وحوش غير مرئية. حاولت أن أتمسّك بأي شيء، لكن الجدران كانت ناعمة، ملساء، كأنها مصنوعة من زجاج حجري.

ارتطمت أخيرًا بالأرض، صدري يعلو ويهبط في لهاث متقطع. الألم انتشر في ظهري وساقي، لكن الغريب… أنني ما زلت حيًا. أنين خافت خرج من فمي قبل أن أتمتم:

"اللعنة… مونو… هل هذا جزء من اختبارك أيضًا؟"

رفعت رأسي ببطء. الكهف مظلم، إلا من خيوط فسفورية تتدلى من السقف مثل نباتات متوهجة، تنير المكان بنور باهت أزرق. شعرت بالقشعريرة تزحف على جلدي. هذا لم يكن كهفًا عاديًا… بل بدا وكأنه بطن كائنٍ حيّ.

ارتجفت الأرض من جديد، لكن هذه المرة لم يكن السبب انهيارًا. رفعت رأسي، وإذا بظلّ بشري يقف على حافة الحفرة. عيناي اتسعتا… كان إنسانًا، أو على الأقل ما تبقّى من إنسان.

كان جسده شبه عاري، جلده مغطى بطبقة سميكة من الوحل والرماد، شعره طويل متشابك كعش غربان، عيناه غائرتان تلمعان بلون أصفر شاحب. أسنانه بارزة، طويلة، ملطخة ببقع بنية وسوداء، كأنها كسور متحجرة من عظام ضحاياه. أظافره لم تكن أظافر طبيعية، بل مخالب ملتوية، حادة، متسخة بالدم الجاف.

ابتسم ابتسامة ملتوية، وانحنى بجسده الهزيل لكن المرعب، ثم أخذ يهذي بصوت أجش:

> "ههه… وجبة… هه… وجبة سقطت من السماء…!

لحم طري، لحم بشري جديد… لم أتذوق شيئًا مثلك منذ سنين… الدم الساخن… الدم الساخن… أسمعه يغني في عروقك!

أنت لي… أنت لي… أنت لي!"

ارتعش صوته بين الضحك والنحيب، يتأرجح كمن فقد عقله منذ زمن بعيد. كان يضرب صدره بقبضته النحيلة ثم يلعق شفته السفلى ككلب جائع.

حاولت التماسك، لكن عرقًا باردًا انحدر من جبيني. قبضت يدي بقوة حتى شعرت بأظافري تخدش جلدي.

هذا ليس مجرد متوحش… هذا وحش في جسد إنسان.

قلت بيني وبين نفسي:

"إذا بقيت هنا بالأسفل، سأكون فريسة سهلة… يجب أن أخرج فورًا."

وضعت كفي على الأرض، همست بتعويذة من سحر الارض، وشعرت بالاهتزاز يتصاعد من تحت راحتي. الأرض تجاوبت، شكلت عمودًا صلبًا رفعني ببطء، حجارة تتراكم وتدفعني للأعلى.

عيناه اتسعتا، تراجعت قدماه للخلف وهو يصرخ كالأطفال:

> "سحر…! أنت… أنت ملعون!

لا… لا… أنت لست وجبة عادية… لا، لا، لا… أنت خطأ!

جئت بالسماء… السماء أعطتني وحشًا… هه… لا! لا أستطيع… لكن… لكن دمك… دمك يغني لي… أريده… أريده…"

كان يتحدث بسرعة، يتلعثم بين الكلمات، كأنه في صراع داخلي بين رغبته الجائعة ورعبه من قوتي.

وقفت أخيرًا على حافة الحفرة، مواجهًا إياه مباشرة. تبادلت نظراتنا. قلبي يدق بعنف، يدي ترتجف قليلاً، لكني حاولت إخفاء ارتباكي خلف ملامح صارمة.

قلت بصوت متحكم رغم توتره:

"ابتعد… لن أكون وجبتك. إن اقتربت، سأحرقك حيًا."

ابتسم مرة أخرى، لكن هذه المرة ابتسامة مترددة، ممزوجة بالخوف:

> "نار… نار السماء… نار الأرض… أنت ليس لحمًا… أنت ليس لحمًا…

لكن جوعي… جوعي يقتلني… أنت لا تفهم…

اللحم يتكلم… اللحم ينادي…! كل شيء هنا ميت… ميت… إلا أنت… أنت حي… دمك يرقص!"

بدأ يضحك، ثم فجأة يبكي، ثم يعود للضحك. كان صوته يتردّد بين جنبات الغابة كأغنية مجنونة لا نهاية لها.

أنا… لم أستطع منع قشعريرة ظهري. لم أشعر بالخوف فقط، بل بالاشمئزاز العميق، كأنني أنظر إلى النهاية التي قد يصل إليها أي إنسان إذا تخلى عن إنسانيته.

لكن رغم ذلك… جزء مني شعر بالشفقة.

هل كان يومًا إنسانًا عاديًا؟ هل جعله هذا المكان مسخًا؟ أم هو اختار أن يصبح كذلك؟

شددت قبضتي أكثر. "لا يهم… إن حاول لمسي، سيندم."

كان يتأرجح أمامي مثل دمية ممزقة الخيوط، يخطو خطوة للأمام ثم يتراجع خطوتين للوراء، عينيه الصفراوان تهتزان كعيني حيوان محاصر بين الجوع والرعب.

صرخ فجأة بصوت غليظ، كأنه تمزّق من حنجرته:

> "كفى… كفى! لن أتركك… لن تهرب… أنت لست روحًا، أنت لست حجرًا… أنت لحم! لحم! لحم!"

جسده اندفع نحوي كذئب هزيل، لكن سرعته لم تكن عادية، بل كالمجنون الذي تحركه غريزة الموت الأخيرة. أظافره الطويلة امتدت نحو وجهي، أسنانه تصطكّ كالمطارق الصغيرة، وصريره اخترق أذني حتى شعرت بجمجمتي تهتز.

في تلك اللحظة، لم أكن بحاجة للتفكير. غريزتي سبقتني.

رفعت يدي للأمام، وكلماتي خرجت من فمي كزئير مكتوم:

من كفي اشتعل لهيب أحمر، كرة من النار تكوّرت وانفجرت نحو صدره. لثانية واحدة رأيت ملامحه تتجمد، عيناه تتسعان في رعب خالص، كأنه أخيرًا أدرك أن فريسته لم تكن ضعيفة… بل صيادًا.

النار التهمته في لحظة. صرخاته ملأت الغابة، خليط من الألم والنحيب والجنون:

> "لاااااا… اللحم… اللحم يحترق… دمي… دمي يغني… يتبخر…!"

جسده كان يتلوى، جلده يتشقق مثل الورق اليابس، الدخان الأسود يتصاعد منه ويخنق الهواء. الرائحة كانت فظيعة، مزيج من اللحم المشوي والفساد، جعل معدتي تنقبض بعنف حتى شعرت أنني سأستفرغ.

وقفت بلا حركة، عيناي تتابعان المشهد وكأن الزمن تباطأ. شعرت بوجهي يتجمد، كأن ملامحي لم تعد تعرف إن كانت صارمة، أم مذعورة، أم مشمئزة.

لقد هاجمني… حاول أن يمزقني… كنت محقًا في قتله… أليس كذلك؟

لكن رغم ذلك، وأنا أراه ينهار على الأرض، كومة متفحمة، لم أستطع أن أمنع الإحساس الثقيل الذي خنق صدري. لم يكن مجرد وحش بلا اسم… لقد كان إنسانًا، يومًا ما.

أخفضت يدي ببطء، والنار في كفي تلاشت مع آخر أنينه. ساد الصمت فجأة، سوى صوت أنفاسي المتسارعة، وصوت الريح التي حملت بقايا الرماد بعيدًا.

همست لنفسي بصوت مرتجف:

"إذا كان هذا واحدًا فقط… فكم عددهم هنا؟ وكم من الوقت سأصمد قبل أن أتحول لشيء يشبهه؟"

شعرت بالبرد يزحف على عمودي الفقري رغم النيران التي أشعلتها.

لم يكد رماد آكل لحوم البشر يتلاشى حتى اهتزت الغابة من جديد. أوراق الأشجار ارتجفت، الطيور السوداء التي كانت مختبئة بين الأغصان طارت مذعورة، والهواء صار أثقل، كأن الأرض نفسها تحبس أنفاسها.

شعرت بشيء يتحرك في أعماق الغابة، خطوات ثقيلة جعلت التربة ترتجف تحت قدمي. الرائحة… خليط من الرماد واللحم الفاسد والحديد الصدئ. لم يكن عليّ الانتظار طويلًا حتى رأيته.

خرج من بين الجذوع العملاقة، جسده يملأ المكان كأنه وحش من كوابيس طفولتي.

فكّان مفتوحان على مصراعيهما، أسنان لا تُحصى تصطف كصفوف من المناجل الملتوية، تتلألأ بلعاب كثيف يتقطر منها. عينيه لم تكونا على وجهه… بل في أعماق فمه! وهما تتوهجان بلون برتقالي مائل للأحمر، كجمرٍ مشتعل داخل حفرة جحيمية.

جلده… لا، لم يكن جلدًا. كان طبقة قاسية، متشققة، مزيج بين مادة عضوية سوداء وصخور بركانية، تتوهج من شقوقها خطوط حمراء كأن حممًا داخلية تجري فيه. حجمه مهول، يكاد يوازي طول فرس نهر ضخم، وربما أكبر.

توقفت أنفاسي للحظة. صدري ارتفع وانخفض بسرعة، وقلبي ضرب أضلعي كطبول حرب.

اللعنة… هل جذبته النار؟ أم أن هذه الغابة تسخر مني فعلًا؟

فتح فكيه أكثر، صوته كان أشبه بزئير يخرج من كهف مليء بالحديد:

> "غغغغغغغغغــرررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررر

لم أكن قد التقطت أنفاسي بعد من صرخة آكل لحوم البشر الأخيرة، حتى ارتجّت الأرض من تحت قدمي.

خطوات ثقيلة، أعمق من أي خطى بشر، تهز التربة كطبول حرب.

بين ظلال الأشجار، انشقت العتمة، وظهر الكابوس.

فكّان هائلان، مفتوحان على مصراعيهما، كأن الأرض نفسها انقسمت لابتلاع كل شيء. صفوف من الأسنان الحادة، ليست صفًا واحدًا ولا اثنين، بل طبقات متداخلة مثل منشار جهنمي لا يعرف الشبع.

ومن داخل فمه، وسط الظلام، تلألأت عيون برتقالية حمراء، تشتعل كالجمر العميق. لم يكن له وجه بحق… فقط فم عملاق بعينين تتوهجان من داخله، جسده كتلة عضوية مغطاة بقشور صخرية متصدعة، بحجم يتجاوز فرس نهر… أو ربما أكبر.

رائحة الحريق هي ما جلبته… لقد اجتذبه احتراق ذلك الإنسان البائس.

ارتفعت قشعريرة في ظهري، ومع ذلك وجدت يدي تتحرك وحدها. رفعت كفي، فتكوّن سيفي فجأة من العدم، يلمع ببرودة مألوفة. لم يكن مجرد سيف… بل قطعة من روحي.

أغمضت عيني للحظة، همست:

"تجمّد…"

الجليد تدفق من راحتي ليكسو النصل بغطاء أزرق بلوري، خيوط جليدية تتشابك كأوردة مضيئة فوقه. صار السيف كقطعة من الشتاء نفسه، بارداً حد الألم.

فتح الوحش فمه، صوته كان مزيجًا من زئير الرياح وانفجار الصخور:

> "غغغغغغغغغـــــــرررررررررررررررررر!"

اندفع نحوي فجأة بسرعة غير متوقعة لحجمه. كل خطوة تهز الأرض حتى تناثر الغبار من حولي.

صرخت وأنا أرفع سيفي:

"تعال إذن!"

التقينا في المنتصف. رفعت النصل بكل قوتي، ضربت بين أسنانه المفتوحة. الشرر تطاير حين اصطدم الجليد بالصخور العضوية، صوت معدني أجوف ارتدّ في الغابة كأجراس موت.

الوحش حاول أن يطبق فكيه عليّ، لكني دفعت بسيفي داخله، والنصل المغطى بالجليد بدأ يتصدع قليلاً… لكنه صمد.

"ثقيل… ثقيل جدًا!"

شعرت بعضلاتي تتمزق، ساعداي يرتجفان من الضغط. أسنانه تكاد تصل إلى كتفي. الحرارة التي تخرج من فمه تحرق وجهي، ومع ذلك… الجليد يغطي نصل سيفي، يصدّ الحرارة ويحولها لبخار أبيض كثيف يغمرنا.

دفعته بجنون، ثم قفزت للخلف لألتقط أنفاسي.

الوحش لم يتوقف. ضرب الأرض بذيله الصخري، فانطلقت شظايا كحجارة مقذوفة. إحدى القطع أصابت كتفي، شعرت بالدم يدفئ قميصي.

زمجرت بأسناني:

"لن أُهزم… ليس بهذه السرعة."

رفعت سيفي للأعلى، مركزًا كل طاقتي في الجليد. الهواء حولي تجمّد فجأة، والندى تحوّل إلى كرات ثلجية صغيرة سقطت بيننا.

ركضت نحوه. لم أعد أسمع سوى دقات قلبي.

قفزت للأعلى، وأدرت جسدي مع النصل:

"قطع الشتاء!"

اخترق سيفي جانب فكه، الجليد انفجر في شظايا حادة، انتشرت داخل جسده كإبر. صرخ الوحش، صرخة جعلت الطيور تسقط من أعشاشها.

لكنه لم يسقط بعد. بل ازداد جنونًا. انقض عليّ مرة أخرى، فمه يفتح كهاوية سوداء، يريد ابتلاعي كله.

تجمدت للحظة… ثم ابتسمت.

"تمام… فلننهي هذا."

وضعت السيف أمامي، كلتا يديّ عليه. همست ببطء، بكل يقين:

"الجليد… والنار."

من النصل اندفع بخار كثيف، ثم شعلة لهب، مزيج من قوتين متناقضتين اندمجتا في لحظة. ضربت بها فمه المفتوح دفعة واحدة.

الانفجار كان هائلًا.

ثلج يتطاير، نار تلتهم، صرخة الوحش تمتزج بأزيز السيف.

وحين هدأ الغبار… كان يقف على ركبتيه، جسده مشقوق من الداخل، بخار يخرج من فمه المفتوح كمدخنة محترقة.

ثم سقط، يهوي كجبل محطم.

وقفت أمامه، أتنفس بصعوبة، سيفي يتفتت ويتلاشى.

شعرت أن يديّ ترتجفان، لكن قلبي كان هادئًا بشكل غريب.

"لقد صمدت… يوم واحد فقط… وما زال أمامي تسعة

2025/09/27 · 9 مشاهدة · 3164 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025