جلست تحت شجرة ضخمة، أغصانها تتشابك في سماء الليل كما لو كانت حواجز طبيعية تمنع النجوم من التسلل. الهواء بارد، لكنه محمّل برائحة الغابة، رطوبة الأرض، وعطر الأعشاب الميتة. لم أستطع النوم، حتى لو حاولت. كل خفقة قلب شعرت بها كانت إشارة واضحة: أي مخلوق يمكن أن يهاجمني في هذه الغابة، في أي لحظة، دون سابق إنذار.
العينان مفتوحتان على مصراعيهما، أمعن النظر في الظلام. كانت الأشجار تتحرك مع الريح وكأنها تنبض بالحياة، وأحيانًا كنت أظن أن ظلًا بعيدًا يقترب مني بخطى حذرة. الغرائز، تلك الوحوش القديمة في داخلي، بدأت تهمس: احذر… كن مستعدًا… أنت هنا بلا حماية.
لم أكن أملك شيء آخر سوى كتابي. كتاب شمس المعارف… قلبت صفحاته ببطء، كأن كل صفحة كانت تنفسًا آخر في جسدي المتجمد من الخوف. لم أستعمله من قبل بهذه الطريقة، لم أجرؤ على استدعاء أي قوة عليا منذ حادثة “الخالق المعلّق”. تلك التجربة لم تنته بعد في ذهني؛ الرهبة التي شعرت بها حينها، شعور القوة الهائلة التي لا تُحتمل، والندم الذي تملكني بعد أن أدركت هشاشتي أمام كيان لا يُرى…
نظرت إلى صفحة جديدة، وفي الأعلى كان عنوان التعويذة مكتوبًا بحبر فضي يتوهج بصمت:
"روح في الضوء"
تسمرت أناملي فوق الكلمات، ولم أجرؤ على اللمس بعد. كنت أعرف أن هذه التعويذة ليست مجرد أداة، بل مخاطرة. كل تفكير فيها أعاد إلى ذهني المشهد الأخير مع تلك الكائنات العليا، الكيانات التي تجاوزت كل قوانين البشر، التي شعرت فيها بالدهشة، بالخوف، بالعجز.
هل أنا مستعد حقًا؟
نبض قلبي أصبح أعلى، كما لو أنه يحاول إقناعي بالهرب، لكن لا مكان للهرب. الجلوس هنا، في الغابة، في الظلام، مع احتمالية أن يظهر أي شيء مفاجئ، جعل كل لحظة تتحول إلى اختبار إرادة. كل شعور بالخوف، كل خفقة قلب، كانت تتراكم داخلي، تصقل جزءًا مني لم أعرف أنه موجود: شجاعة مشبوبة بالقلق، يقين بأن البقاء على قيد الحياة يعتمد على قدرتي على تجاوز حدّي.
أخذت نفسًا عميقًا، وبدأت أقرأ تعليمات التعويذة بصوت منخفض، يكاد لا يسمع:
"اجمع نواتك مع شعاع ضوء داخلي… أطلق الطاقة التي لا تراها العيون… دع الروح تهبط وتتنفس من خلالك…"
مع كل كلمة، شعرت بشيء يتغير داخلي. كان جسدي يتوتر، حواسي تتصاعد، وذهنى يسبح بين العقلانية والخوف المطلق. كل خطوة كانت كالمشي على حافة جرف، شعور بالانهيار إذا أخطأت.
لكن هنا، في هذا الصمت المخيف، أدركت الحقيقة:
لم يكن الأمر مجرد خوف من الوحوش، بل خوف من نفسي. من القوة التي تحملتها بداخلي، ومن القدرة التي قد تفلت مني إذا لم أكن حذرًا. كنت أشعر بروحي تتصارع مع جزء مني يصرخ: يمكنك، يجب أن تفعلها… بينما جزء آخر يحذر: توقف… لا تعرف ما يمكن أن يحدث…
رأيت الضوء يتكون أمامي، خافتًا، مجرد وميض صغير، لكنه مليء بالحياة. شعرت وكأن شيئًا حيًا يتنفس معي، يراقبني، يختبرني. في تلك اللحظة، كل الارتباك، كل الخوف، كل إحباط الليالي الماضية تلاشت، وحل محلها شعور غريب بالتركيز.
أنا هنا… أنا أختبر نفسي… أنا أتحكم بما يمكن أن يقتلني أو ينقذني.
كان الأمر مخيفًا، لكنه أيضًا جميل بطريقة غريبة. شعرت بالقوة تتسلل عبر جسدي، تتشابك مع روحي، وكأن الغابة نفسها تتوقف للحظة لتراقب ما سأفعله. كل شيء حولي أصبح هادئًا، حتى الهواء بدا يتوقف.
وفي تلك اللحظة، أدركت شيئًا لم أستطع فهمه قبل الآن: ليس مجرد التعويذة، وليس مجرد كتاب… كان هذا اختبارًا لي، لروحي، لقدرتي على مواجهة ظلام داخلي وظلام الغابة معًا.
فتحت يدي، أطلقت الضوء، وشعرت بنسيم دافئ يمر عبر جسدي، وكأن الروح التي استدعيتها همست في أذني: أنت أقوى مما تعتقد، لكن الطريق لا يزال طويلًا…
جلست هناك، أراقب الضوء الصغير يتلاشى ببطء، وأنا أعيد تقييم نفسي، قوة مخاوفي، وإصراري. الليلة لم تنته بعد، لكنني لأول مرة شعرت بأنني مستعد، ليس فقط لمواجهة الغابة، بل لمواجهة نفسي أيضًا.
استيقظت مع بزوغ أول خيوط الشمس، بعد ليلة مضطربة لم يغمض لي فيها جفن إلا دقائق متقطعة. جلست متكئًا على جذع الشجرة، أحدق في الضباب الذي بدأ يتلاشى قليلًا مع النور، وكأن الغابة تنفست معي. كان قلبي لا يزال مثقلًا، لكن فكرة واحدة هيمنت على ذهني:
لا بد أن أجرب التعويذة.
نعم، لقد خفت البارحة، ترددت حتى كدت أدفن الفكرة إلى الأبد، لكن شيء ما في داخلي تغير. إن بقيت على هذا الحال، أعتمد فقط على سيفي ونفَسي، فلن أصمد عشرة أيام. أما هذه التعويذة… حتى لو جلبت الدمار، فقد تكون خيط النجاة الوحيد.
شجعت نفسي، تماسكت، وأخرجت الكتاب من حقيبتي المهترئة. لمست الغلاف القديم بأطراف أصابعي، وفتحت على الصفحة ذاتها. الكلمات "روح في الضوء" بدت وكأنها تزداد بريقًا مع نور الصباح، كأنها تستدعيني.
قرأت بتمعّن الخطوات الأولى، حيث كان هناك تحذير مكتوب بخط غامق:
"لا تبدأ العقد ما لم تكن واثقًا من نيتك، لأن النية هي المفتاح والباب والدرع."
زفرت بعمق. لم يعد هناك مجال للتردد.
بدأت في رسم الدائرة، ما يُسمّى في الكتاب بـ Contract Circles.
أخرجت من حقيبتي مسحوقًا أبيض حصلت عليه من أحد الطقوس السابقة، مزجته بقطرات ماء. بأطراف أصابعي غمست الخليط ورسمت على الأرض. لم تكن دائرة واحدة عادية، بل دوائر متداخلة:
الدائرة الخارجية: خط عريض مغطى بنقوش هندسية دقيقة، أشبه بالنجوم الصغيرة المتشابكة، تمثل حدود العقد.
الدائرة الوسطى: شعارات متكررة تشبه شمسًا بأشعة طويلة، متجهة إلى الخارج، كأنها تدفع الظلام بعيدًا.
الدائرة الداخلية: أصغر، لكنها محفورة بعناية على شكل وردة مكوّنة من ست بتلات، ترمز إلى الروح المراد استدعاؤها.
وبين هذه الدوائر، نقشت كلمات قديمة بلغة لا أفهمها تمامًا، لكن قلبي ترددها كما لو كانت محفورة في داخلي.
ما إن اكتملت الرسوم حتى بدأت الأرض تهتز بخفة. الخطوط ارتجفت، ثم توهجت بنور خافت. تراجعت خطوة للخلف، راقبًا بحذر. لم يكن ضوءًا عاديًا؛ كان ذهبيًا نقيًا، دافئًا، لكن مخيفًا أيضًا، وكأن شيئًا يتجاوز حدود العالم يُفرَض الآن على الغابة.
بدأت الرموز تلمع واحدًا تلو الآخر، مثل قناديل تنبض بالحياة، حتى امتلأت الدائرة بطاقة لامعة كادت تعمي بصري. رفعت يدي لأحجب الضوء، لكنني لم أستطع إيقاف الشعور العميق الذي اخترقني: أن شيئًا سيولد الآن.
ثم فجأة…
من قلب الدائرة ارتفع عمود نور، هائل ومهيب، كأنه نافذة مفتوحة على سماء أخرى. ومن داخله ظهرت silhouette أنثوية، ملامحها أولًا غائمة كالسراب، ثم شيئًا فشيئًا تكوّنت أمامي.
كانت فتاة… لا، أقرب إلى كيان سماوي.
إيلفية شابة، شعرها أشقر ناعم يتدلى كالحرير حتى خصرها، تلتقطه أشعة النور فتعكس بريقًا ذهبيًا. عيناها بلون الذهب السائل، تحدق بهدوء لا بشري، كأنها تحمل آلاف السنين في نظرة واحدة. وجهها هادئ، لكنه مشوب بملامح مملّة، وكأنها استدعيت من سباتها دون رغبة حقيقية.
ملابسها بيضاء ناصعة، بسيطة وأنيقة في آنٍ واحد، يتخللها خيوط ذهبية عند الخصر والذراعين، تزيدها فخامة دون أن تبالغ. عند صدرها قلادة صغيرة، ربما دبوس، يتوهج بخفة كقلب ينبض بالنور.
أما الخلفية حولها، فكانت أعجوبة: النقوش الذهبية التي رسمتها على الأرض تحولت إلى نقوش سماوية تدور خلفها كلوحة مجردة من النجوم والأنماط، وكأن السماء رسمت نفسها خلفها لتعلن قدومها.
بقيتُ متسمّرًا في مكاني، بين الخوف والرهبة، بينما هبطت قدماها بخفة على الأرض داخل الدائرة، والنور يتلاشى تدريجيًا.
عندها فقط رفعت رأسها نحوي، ونطقت ببرود، بصوت هادئ لكنه عميق:
"مرحبًا يا سيدي بليك."
تجمدت أنفاسي…
شعرت أن شيئًا أكبر بكثير مما توقعت قد بدأ للتو.
رفعتُ يدي مترددًا، كأنني أخشى أن أي حركة خاطئة قد تُفقدني السيطرة على هذا الكائن المهيب. نظرت إلى ريمي، تلك الإيلفية الذهبية، وقلت بصوت متردد، لكنه محاولة لإظهار ثباتي:
"أنت… أنتِ… ما اسمك؟ وكيف تظهرين هنا؟"
رفعت ريمي رأسها، وعيناها الذهبيتان تحدقان بي بدون أدنى وميض عاطفي، كما لو كانت تقيمني منذ ولدت.
أجابت بصوتٍ رسمي وبارد، كما لو كانت تتلو إعلانًا مألوفًا:
"اسمي ريمي. أنا روح تم استعادي عبر تعويذة ‘روح في الضوء’ التي أطلقتها أنت، بليك إيثر."
حاولت استيعاب الكلمات. “تم استعادتك؟” فكرت في حجم القوة التي تطلبها مثل هذه التعويذة، وفي الوقت نفسه شعرت بالدهشة:
"استعيدتك؟ هل هذا يعني أن هناك ثمنًا؟ أريد أن أعرف… ما هي سلبيات استخدام هذه التعويذة؟"
ابتسمت ريمي ابتسامة صغيرة، لكنها لم تصل إلى عينيها، فقط انحسرت على زوايا شفتيها الذهبية، وقالت ببرود:
"سلبياتها؟ مسلية أكثر منها مؤذية. كل ما يحدث هو أن المانا تتسرب منك بشكل أسرع."
تجمدت قليلاً، أمعنت النظر فيها.
“تسرب المانا فقط؟ هذا… سلبية صغيرة جدًا بالنسبة لما كنت أتوقعه!” قلت وأنا أشعر بالدهشة، وكأنني أبحث عن زاوية مظلمة في كلامها، شيء مخفي، شيء لم تخبرني به.
أجابت ريمي دون أي تغيير في نغمة صوتها، رسمية جدًا:
"لا توجد سلبيات حقيقية أخرى. التعويذة تم تصميمها بحيث لا تضر مستخدمها. إن شعرت بفقدان المانا، فذلك طبيعي، كما لو كنت تستخدم سلاحًا يستنفد قوتك تدريجيًا. لا شيء أكثر من ذلك."
أخذت نفسًا عميقًا، محاولًا هضم حقيقة أن ما أمامي ليس مجرد استدعاء روح عادية، بل كيان كامل لم يُخلق من البداية للعب معي، بل تم استدعاؤه من الطاقة الكامنة للكتاب نفسه.
سألتها ببطء:
"هل… هل أنتِ مرتبطة بالكتاب بشكل دائم؟ أم أنك مجرد نسخة مؤقتة، ستختفين إذا أعدت إغلاق الكتاب؟"
نظرت إليّ بعينين باردتين، لم ترمش، وكأنها تزن كل كلمة في عقلي قبل أن تجيب:
"أنا مرتبطة بك وبالكتاب طالما الدائرة قائمة. إغلاق الكتاب لن يمحو وجودي فورًا، لكن علاقتنا ستضعف تدريجيًا إذا لم تُجدّد العقد. أنا هنا كوسيلة لدعمك، لا كهدف مستقل."
تململت في مكاني، شعور غير مألوف يتسلل إلى صدري: مزيج من القلق والفضول والخوف.
"وماذا لو… استخدمت التعويذة كثيرًا؟ هل يمكن أن تحدث مشاكل غير متوقعة؟"
ابتسمت ريمي مرة أخرى، تلك الابتسامة الباردة التي تشعرني بأنها لا تهتم لمشاعري، وقالت:
"مشاكل؟ لا شيء جوهري. ستفقد المانا أسرع، وربما شعورك بالإرهاق يزداد، لكنها ليست كارثية. أنا هنا لأتأكد أن لديك أداة للبقاء، لا لإيذائك."
أمعنت النظر فيها، وقلت بنبرة أكثر صراحة، أقرب إلى استفسار داخلي:
"أنت… رسميّة جدًا. لا تشعرين، لا تتفاعلين؟ كل شيء بالنسبة لك مجرد تنفيذ؟"
رفعت عينيها نحو السماء المرسومة خلفها من النقوش الذهبية، ثم عادت تنظر إليّ مباشرة:
"أنا روح استدعاء. طبيعة عملي أن أكون خالية من التفاعلات العاطفية البشرية. لا أختبر الخوف، الغضب، الحب، أو الرغبة. كل ما أقوم به هو تلبية العقد، وفق الشروط التي وضعتها التعويذة. هذا كل شيء."
شعرت بشيء يضرب في داخلي، جزء مني يندهش من برودة المخلوق، وجزء آخر يتساءل: هل ستظل هذه البرودة ثابتة مهما استدعيتها مرات عدة؟
قلت ببطء، متأملًا في تفاصيلها الذهبية:
"إذاً… أنا أستفيد منك فقط، ولا شيء أكثر؟"
"أنت تستفيد مني، نعم. ولست مضطرًا للقلق بشأن ردود فعل عاطفية مني. كل شيء محسوب ودقيق، وهذا ما يجعلني أداة موثوقة. حتى أن فقدان المانا، كما ذكرت، مسألة بسيطة ومسلية، مقارنة بالفوائد."
تساءلت في نفسي: مسلية؟ ماذا تعني بذلك؟ شعرت بشيء غريب يمر في جسدي، شعور بأن التعويذة ليست فقط أداة، بل اختبار، ربما حتى تحذير. لكن برودتها، ثباتها، رسميتها، كل ذلك جعلني أشعر أنها أكثر أمانًا من أي سحر آخر جربته من قبل.
قلت لها أخيرًا، بصوت أكثر ثقة، محاولة التحكّم في رهبة اللحظة:
"حسنًا… ريمي. يبدو أننا سنعمل معًا. لكن أريد منك أن تكوني صريحة دائمًا، أي تحذيرات، أي تغيير في العقد، أي شيء."
ابتسمت برودة خفية، وقالت:
"سيدي بليك، هذا ما ستجده. أنا صادقة، رسمية، وملتزمة. كل ما عليك هو تفعيل العقد، واتخاذ قراراتك. أنا أداة، وأنا هنا."
وقفت للحظة، شعور غريب يتغلغل في داخلي: مزيج من القوة، المسؤولية، والرهبة. لقد بدأت للتو مغامرة لم أتخيلها، ومعها، كيان رسمي وبارد سيقودني عبر الأيام القادمة.
وقفت ريمي ساكنة، عينيها الذهبيتان تتأملانني وكأنهما تفحصان ما بداخلي من قوة وخبرة:
"سيدي بليك، من المهم أن تعرف: نواتك الآن في المرحلة البرتقالية، أكثر استقرارًا وقوة من السابق. أنت في المستوى المتقدّم في السحر، لكن قدراتك الحالية لا تسمح لك بالاحتفاظ بي معك لفترة طويلة."
تسمرت قليلاً، أسأل في نفسي: ماذا تعني بذلك؟
"كل ما يحدث إذا حاولت إبقائي لفترة طويلة هو استنزاف شديد للمانا. نواتك، وسعة ماناك، ليست مستعدة بعد لاستخدامي المكثف. إذا أجبرت الأمور، فقد تتعرض للإرهاق، أو ما هو أسوأ…"
ابتلعت ريقي، أحسست بالمسؤولية الثقيلة، لكن شيئًا بداخلي لم يستطع منع الانبهار بجمالها: شعرها الأشقر يتلألأ كالذهب، وملابسها البيضاء الناعمة تنساب برشاقة حول جسدها، تفاصيلها الذهبية عند الخصر تضيف لمسة فنية.
حاولت أن أركز، لكن عيني لم تستطع منع نفسها من المرور بخفة على صدرها، ثم على مو…خرتها، شعور غير مقبول يحرجني.
رغم صرامتها الرسمية، لاحظت ريمي ذلك فورًا. لم تتأثر عاطفياً، لكنها قالت بصوت هادئ، بارد كما لو كانت تلقي تقريرًا عسكريًا:
"سيدي بليك، ألاحظ أن نظرتك تحيد أحيانًا. تذكّر أنني هنا لتنفيذ العقد، وليس لتكون مصدر تشويش. التركيز مطلوب، وإلا فإن المانا ستضيع بلا فائدة."
احمر وجهي على الفور، شعور بالخجل والحرج يتسلل إلى قلبي، وقلت متلعثمًا:
"آه… آسف… لم أقصد… كنت فقط… أركز على التعويذة…"
ابتسمت ابتسامة خفيفة، برودة عينيها لم تتغير:
"من الطبيعي أن يتشتت الانتباه، لكن تحكم بمشاعرك. عقدك معي يعتمد على استقرارك الذهني، وليس على انحرافك البصري."
شعرت كما لو كانت تمنحني تحذيرًا رسميًا، لكنه بطريقة ساخرة تجعل قلبي يتسارع أكثر من أي خصم واجهته. قلت وأنا أحاول إعادة تركيزي:
"حسنًا… حسنًا، سأحاول ألا أُلهى مرة أخرى. أعدك."
"جيد. الآن، دعنا نركز على ما تستطيع القيام به. استخدمني ضمن حدود قدراتك الحالية، وستجد أننا فريق فعال. تجاوز الحدود، وستجد نفسك مستنزفًا، وربما حتى مخاطر جسدية حقيقية."
ابتسمت لنفسي داخليًا، مزيج من الإحراج والفكاهة، شعرت بأن هذا الحوار مع كيان رسمي وجميل بنفس الوقت، سيصبح جزءًا من الحياة اليومية الغريبة التي سأعيشها منذ الآن
كنت أحاول أن أستجمع شجاعتي بعد محادثتنا، وأحاول أن أضبط أنفاسي. ريمي تقف أمامي، هادئة ورسمية، وكأنها تقول: "كل شيء تحت السيطرة".
لكن فجأة، اهتزت الأرض تحت قدمي، وسمعت زئيرًا مدويًا يملأ السماء. رفعت رأسي، وصُدمت بما رأته عيناي: تنين ضخم أخضر، سمين، يمتلك ستة رؤوس طويلة، كل رأس له عينان واسعتان وفم مفتوح يظهر أسنان حادة كالسكاكين.
جسده المستدير يعكس الضوء القمر، وبطنه البيج الفاتح يبدو ناعمًا مقارنة بظهره المزخرف بأشواك بيضاء صغيرة. أربعة أطراف قصيرة تنتهي بمخالب حادة، وذيله الطويل الممدود ينتهي بطرف مدبب وكأنه سلاح طبيعي.
كان التنين يقترب مني بسرعة مخيفة، كل حركة منه تزلزل الأرض تحت قدمي. حاولت أن أتحرك، لكن قلبي خفق بشدة، شعرت بأن كل شيء حولي يصبح ثقيلًا ومربكًا.
رأيت ريمي تتقدم أمامي على الفور، وضعت يديها أمامي، وظهرت دائرة ضوء ذهبية تحيط بنا.
"ابقَ خلفي، سيدي بليك!" قالتها بصوتها البارد، وكأنها تتحدى الخطر دون أي خوف.
انطلقت ريمي إلى الهجوم، ولكن فجأة، اختفت من أمام عيني، وسقطت على الأرض بلا قدرة على التحرك.
حاولت النهوض، لكن جسدي أصبح ثقيلاً، وكأن كل حركة صغيرة تحتاج إلى قوة هائلة. حاولت نداء ريمي، لكنها لم تعد موجودة. شعرت بالفراغ يحيط بي، وأدركت فجأة: لقد استهلكت كل المانا الخاصة بها.
كل ما بقي لي هو جسد ضعيف ومانا غير مستعدة لأي استخدام كبير. شعرت بالوحدة والخطر يتسرب إلى عظامي: لا أستطيع القتال، لا أستطيع الاستدعاء، ولا أستطيع الاعتماد على أي شيء سوى نفسي.
التنين اقترب أكثر، ستة رؤوس تتابع كل تحرك لي، ومخالبها الحادة تلمس الأرض بالقرب مني، زئيره يملأ أذنيَّ ويهز قلبي. شعرت أن هذه النهاية المحتومة.
لكن عند لحظة اليأس القصوى، شعرت بشيء غريب يحدث في عيني اليمنى، الجوهرة الخضراء التي ورثتها منذ البداية بدأت تتوهج بضوء أخضر قوي، يزداد تدريجيًا حتى يملأ محيط عيني بالكامل.
وفجأة، خرج من الضوء وحش ضخم، أخضر اللون، يشبه تمامًا وحش لعنة ميساكي. ملامحه مزيج من الوحشية والطاقة المظلمة، عينيه تتوهجان بنفس اللون الأخضر الذي انطلق من جوهرة عيني.
الوحش وقف أمامي، ينظر إلى التنين بحدة، وكأن هناك تعهدًا ضمنيًا: من يهاجمني أولًا سيواجه قوته. أطلق الوحش زئيرًا مخيفًا، جسده الكبير ينبض بطاقة خالقة، والهواء حوله يهتز مع تحركاته.
شعرت بشيء داخلي يرتفع، مزيج من الخوف والإثارة، شعور بأن القوة التي لم أتمكن من استخدامها بعد بدأت تتكشف بطريقة غريبة وغير متوقعة.
التنين، الذي كان يظن أنني ضعيف، تراجع قليلاً أمام الوحش، وقد فهمت فجأة أن هذا مزيج غريب من طاقتي الخاصة، وحماية ريمي الغير مباشرة، ووحدة الموقف.
وقفت هناك، مدهوشًا، أفكر: هذه بداية شيء لم أفهمه بعد، ولكن ربما هذه هي الطريقة التي سأبدأ بها التعلم، والتطوير، والفهم الحقيقي لقدراتي.
الغابة المظلمة تتلألأ بضباب كثيف، والسماء مشحونة برقوق أسود يشع خوفًا. في وسطها، يقف التنين، جناحاه مترابطان، عيناه تتوهجان باللون الأحمر القاني، مستعدًا لإطلاق نيران غاضبة، بينما يخطو الوحش الأخضر بهدوء، كل عضلة في جسده مشدودة، وكل حركة محسوبة، كأنه يعرف بالضبط ما سيفعله التنين قبل أن يحرك جناحيه.
صمت مشحون بالحذر يسبق الانفجار. فجأة، يهاجم التنين، مطلقًا لهبًا متوهجًا من فمه، لكنه يُفاجأ برد فعل الوحش الأخضر. يتحرك الأخير بسرعة مذهلة، متجاوزًا النيران بخفة خارقة، ويصرخ بصوت عميق، مزيج من الغضب والسيطرة، موجهًا ضرباته بدقة قاتلة. كل مجس في جسده الأخضر ينفجر بطاقة، لكنه يتحاشى التنين بدقة، غير راغب في قتل مباشر، مجرد اختبار لقوة خصمه.
التنين يحاول استخدام ذيله لدهس الوحش، لكن الأخير يقفز، ويلتفت في الهواء، ممسكًا بذيل التنين ويديره بقوة. تصطدم الأجساد في انفجار من الغبار والطاقة، ويبدو أن الغابة كلها تهتز تحت وقع قوتهما.
الوحش الأخضر يبتعد بخطوات محسوبة، ينظر إلى التنين بعينين مضيئتين، ويبدأ في استخدام قدراته، مشابهة تمامًا لقدرات وحش ميساكي: يمكنه استدعاء خيوط مظللة من الظلام، تحيط بالتنين وتحاول تقليص حركته، لكنه يتحكم في تلك الخيوط بنفسه، يستخدمها دفاعًا لا هجومًا، في إظهار لسيطرته المطلقة.
التنين يزأر غاضبًا، يطلق نفثًا آخر من النار، لكن الوحش الأخضر يختفي في لحظة، يظهر خلفه بسرعة مذهلة، يلمس جناح التنين بحركة واحدة، ويعيده إلى الوراء، دون أن يُصاب أحد. كل حركة له محسوبة، دون اندفاع، دون خطأ، كأن كل جزء من جسده يتحدث بلغته الخاصة مع التنين.
مع مرور دقائق، يظهر شيء مذهل: التنين يبدأ في إدراك نمط هجمات الوحش الأخضر، ويتباطأ، بينما الوحش يبتعد خطوة خطوة، يراقب، يحلل، يظهر تحكمه الكامل في كل رد فعل، لا يغضب، لا يندفع، فقط يدرس خصمه.
يبتسم التنين أخيرًا بصوت مدوٍ، وكأنه يعترف بالقدرة المطلقة للوحش. يلتقيان مجددًا في هجوم متبادل، لكن هذه المرة، كلاهما يعرف قوة الآخر. تبادلا الصفعات واللكمات، النار والظلال، في رقصة قاتلة متقنة، يظهر فيها الوحش الأخضر على أنه سيد الموقف، لكن دون استعراض قوة مفرطة، كونه يحترم قوة التنين.
الغابة تهتز من رنين الصخب، والضباب يتلألأ بسبب وهج النار التي يطلقها التنين ذو الستة رؤوس. كل رأس من رؤوسه يتحرك باستقلالية، يطلق نفثًا من النار، يهاجم بالأسنان والمخالب، ويصعب على أي خصم اللحاق به. لكن الوحش الأخضر لا يختفي، يقف بثبات، عضلاته متوترة، كل حركة محسوبة، كل مجس من مجساته يهاجم الدفاعات، يتجنب الهجمات بطريقة مذهلة، ويبدو أنه يقرأ كل هجوم قبل أن يبدأ.
التنين يطلق نفثًا مزدوجًا من النار من رأسين في الوقت نفسه، محاولًا حرق الوحش الأخضر. لكن الأخير، بمهارة خارقة، يحرك مجساته في دوائر متقنة، ليحول النار إلى هالات من الظلال حوله، ثم يندفع بسرعة هائلة نحو أحد الرؤوس، يقطعها في ضربة خاطفة، لكن التنين لا يتوقف، الرؤوس الأخرى تنبعث بنيران أعنف، ويبدأ الطيران بأقصى سرعته، مع دوران ذيله الضخم الذي يسحق كل شيء أمامه.
الوحش الأخضر لا يغضب، بل يبتسم داخليًا، يضاعف هجماته بالمجسات، يهاجم كل رأس على حدة، مستفيدًا من قدرة التنين على التجدد، لكنه يعلم أن كل رأس يحتاج وقتًا للعودة، ويستغل ذلك بدقة تكتيكية رهيبة. كل هجوم من الوحش الأخضر يخلق انفجارات في الهواء، والغابة نفسها تتصدع تحت القوة الهائلة للطرفين.
التنين يستخدم قواه الجسدية، يهاجم بالعضلات القوية، يحاول أن يمسك الوحش الأخضر بين مخالب جناحيه، لكن الوحش يختفي فجأة، يظهر خلفه بضربة مجس واحدة، تضربه في جناحه، تكاد تجعله يفقد توازنه، لكنه يتعافى بسرعة مذهلة. الطيران يصبح رقصة مميتة في السماء، كل رأس يحاول متابعة الوحش، كل مجس يحاول توقع حركة التنين، والسرعة لا تصدق.
كل لحظة تمر، يبدو أن التنين يستنزف قدراته تدريجيًا، بينما الوحش الأخضر، بفضل التحكم الكامل في نفسه وقدرته على التكيف، يحافظ على هدوئه، يهاجم بحذر ويستفيد من كل لحظة ضعف للتنين، لكنه لا يسعى للقضاء عليه بشكل مباشر، فقط يختبر قوته ويثبت تفوقه التكتيكي.
في لحظة مذهلة، الوحش الأخضر يندفع نحو التنين، يلمس جسده بالكامل بمجساته، وكأنها شبكة من القوة التي تمنعه من استخدام جميع الرؤوس في الوقت نفسه. ينطلق انفجار هائل من النار والظلال، الغابة تتفجر من الصدمة، والأرض تحتهما تتصدع.
التنين يزأر بكل رؤوسه الستة، يتجاوز الألم ويواصل القتال، لكنه بدأ يفهم شيئًا مهمًا: الوحش الأخضر ليس مجرد خصم، إنه كائن يفوق قوة أي شيء واجهه من قبل، وقادر على ردع كل هجوم، مهما كان عنيفًا أو خارقًا.
الغابة تهتز من صرخات التنين النارية، الستة رؤوس تتحرك بلا توقف، كل واحدة تطلق النار وتهاجم بقوة هائلة، محاولة سحق الوحش الهلامي الأخضر. لكنه يبتعد بخفة مذهلة، مجساته تتحرك في الهواء بسرعة لا تصدق، تصطاد كل نقطة ضعف، تراقب كل حركة، كما لو أن كل رأس من الرؤوس الستة محسوبة سلفًا.
في لحظة خاطفة، الوحش الهلامي يركز كل قوته في مجس واحد، يلمس أحد رؤوس التنين، فيتقطع فورًا. الرأس يسقط على الأرض، والنار التي كانت تنبعث منه تتلاشى. الوحش لا يتوقف، كل مجس يضرب رأسًا آخر، وهجومًا بعد آخر، حتى تبدأ الرؤوس بالاختفاء واحدة تلو الأخرى.
التنين يزأر بغضب، يركض ويطير ويطلق النار، لكن الوحش يتحرك بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، يلتف حوله، يهاجم كل رأس في وقتها المناسب، يقطعها واحدة تلو الأخرى، وكلما حاول التنين استخدام قوته الجسدية أو ذيله، الوحش يلتف حوله ويهرب من أي هجوم مباشر، حتى ينتهي كل شيء.
في اللحظة الأخيرة، يهاجم الوحش الهلامي الرأس الأخير، يلمسه بمجساته المضيئة، ويشعر التنين بأن جسده ينقسم إلى أجزاء، ثم يسقط بلا حياة على الأرض، النار تتلاشى، الغابة تهدأ فجأة، وكأن الكون نفسه توقف للحظة.
الوحش الأخضر يقف ثابتًا وسط الدخان والحرائق المندلعة، مجساته تتأرجح بهدوء، عيناه تتوهجان باللون الأخضر الزمردي، دون أي خدش على جسده. لقد انتصر، ليس فقط بالقوة، بل بالتحكم الكامل في نفسه، بالذكاء الاستراتيجي، والصبر المميت الذي أرهق أقوى مخلوق عرفته الغابة.
الغابة تتنفس مرة أخرى، الصمت يخيم، والوحش الأخضر ينظر إلى الأفق، كأن هذه المعركة لم تكن سوى اختبار لقوته الحقيقية.