78 - اليوم 3 في غابة الضباب المخفية

لم أكن أشعر بجسدي…

كانت المانا قد نزفت من عروقي كالماء المنسكب، وتركتني ممددًا على الأرض الباردة وسط الغابة، أتنفس بصعوبة. لم أستطع حتى رفع أصابعي، لكن عيني كانت معلقة بذلك الشيء الذي يقف أمامي.

.

ذلك الوحش الهلامي الأخضر…

خرج منذ لحظات من جوهرتي اليمنى، من تلك العين التي تركتها لي ميساكي. جسمه بلا عظام، كتلته تتماوج كالبحر، وكلما تحرك انسكب منه ضوء أخضر شفاف، حتى إنني كنت أرى الغابة خلفه مشوهة من خلال جسده.

كان مخيفًا… مرعبًا أكثر من أي مخلوق واجهته.

كيف لا، وهو الذي قبل لحظة مزّق تنينًا ذا ستة رؤوس إربًا؟

شعرت برجفة تسري في قلبي، ليس فقط خوفًا منه… بل خوفًا مما يعنيه وجوده داخلي.

هل هذا أنا؟ هل هذا جزء مني؟ هل أنا مجرد وعاء لوحش مقزز قادر على قتل تنين؟

وفجأة…

اهتز جسده كبركة مضطربة، وخرج صوت غريب… صوت يشبه إنسانًا يتكلم من تحت الماء:

"مَرْحَبًا بليك… أنا تحت رعايتك."

تجمدت عيناي.

"…ماذا؟" تمتمت بصوت مرتجف، بينما قلبي يخبط في صدري كطبول الحرب.

انحنى الكيان قليلًا نحوي، وكل قطرة من جسده تتماوج كأنها تنصت لنبضي، ثم قال بنفس الصوت الغريب:

"أنا… هديّة ميساكي إليك. كنت موجودًا منذ البداية، منذ اللحظة التي سكنت فيها تلك الجوهرة الخضراء في عينك اليمنى. لم ترني… لكنني كنت هناك، أراقب… وأنتظر.

ابتلعت ريقي بصعوبة، الألم في عيني ازداد حدة حتى شعرت أنها ستنفجر.

"إذن… أنت… سلاحي؟"

اهتز جسده كالمرآة المائية:

"سلاحك… وظلك. سأخرج فقط حين تُسحق في زاوية لا مخرج منها. لكن عليك أن تتذكر…"

صوته انخفض حتى صار همسًا عميقًا:

"وجودي له ثمن… كل مرة أظهر فيها، ستشعر بألم في عينك، ألم يكاد يمزق رأسك. كلما طالت المعركة، كلما اقتربت من فقدان نفسك."

انكمشت معدتي، شعرت بالبرد يزحف على أطرافي رغم الحرارة التي ما زالت تتصاعد من أرض المعركة المحترقة.

هدية؟ أم لعنة؟

اقترب الوحش خطوة أخرى، جسده يلمع في الظلام كأنه ماء حي، ثم قال:

"لكن لا تخف… أنا لمصلحة نجاتك. فكما اختارتك ميساكي… فأنا اخترتك أيضًا."

لم أستطع الرد.

بقيت أحدق فيه، نصف مرعوب، نصف عاجز عن التصديق.

ثم فجأة… تماوج جسده، وبدأ يتقلص شيئًا فشيئًا، كقطرات المطر تعود إلى النبع، حتى صار كتلة صغيرة من الضوء الأخضر. ارتفعت الكتلة ببطء، تمايلت للحظة أمام وجهي، ثم…

دخلت بهدوء عيني اليمنى.

صرخت، يدي تمسك رأسي من الألم، شعور كأن إبرة نارية انغرست في عمقي. لكن بعد ثوانٍ، سكن الألم… وغاب الضوء.

لم يبقَ شيء… سوى قلبي الذي يخفق بجنون، وعيوني التي لم تعد ترى الغابة كما كانت.

الوحش عاد إلى الداخل.

وها أنا… لم أعد وحدي بعد الآن.

لم تمضِ لحظات على عودة الوحش إلى عيني حتى بدأ الألم ينهشني من الداخل.

شعورٌ لاذع، كأن آلاف الشفرات تنغرز في عيني اليمنى وتفتك بدماغي مع كل نبضة قلب.

صرخت… أو حاولت أن أصرخ، لكن صوتي خرج متقطعًا، ضعيفًا كأن الحبال الصوتية لم تعد ملكي.

يدي ارتفعت تلقائيًا نحو عيني، أصابعي تضغط على محجرها بلا وعي، كأنني أريد اقتلاعها لأتخلص من النار المشتعلة بداخلها.

رأسي كان على وشك الانفجار.

كل شيء حولي بدأ يتشوه… الأشجار تلتف وتدور، الضباب يذوب ويعود ليتكاثف، الأرض ترتجف وكأنها قلب ينبض.

"هذا… ثمنه…"

ترددت كلمات الوحش في أذني، تكرارًا بطيئًا كجرس كنيسة بعيد.

لم أعد أملك طاقة للحركة.

المانا قد جفت في جسدي، كما لو أن كل قطرة قد سُحبت مني في معركة التنين. أطرافي ثقيلة مثل الحديد، صدري يعلو ويهبط بصعوبة، أنفاسي تتقطع وكأن الهواء نفسه رفض الدخول.

عقلي يغرق في العتمة.

الظلام يتقدم ببطء من أطراف بصري، يأكل الضوء الأخضر المتبقي شيئًا فشيئًا.

"ميساكي…"

اسمها انبثق من داخلي كآخر خيط أمان.

هل هذه هي هديتك حقًا؟ أم أنكِ تركتِ في داخلي لعنةً ستقودني إلى الجنون؟

الوجع في عيني بلغ ذروته، حتى لم أعد أرى شيئًا.

عندها، لم أقاوم أكثر.

سقط رأسي على الأرض العشبية، باردة وصلبة كالحجر، وجسدي استسلم بالكامل.

وفي آخر ثانية قبل أن تبتلعني العتمة، رأيت بوضوح…

أن عين الجوهرة الخضراء لم تعد مجرد عين.

كانت نافذة، خلفها يترصدني ذلك الوحش… يبتسم لي بابتسامة لا يفهمها بشر.

ثم انطفأ كل شيء.

وغرق بليك إيثر في اللاوعي.

بعد أن ابتلعني السواد، انطفأ الألم فجأة كمن يُطفئ شمعة بزفيرٍ بارد.

دخل الهواء البارد صدري؛ كان نقياً، حادّاً كشفرة، يوقظ عظامي التي شعرت وكأنها رُصِفت حديثاً من قبل زلزلة. انشقّ الظلام أمامي كستارة تُسدل، ومن خلفها انبثق عالم لا يُشبه ما عرفته — انعكاسٌ مشوَّه للواقع، أرضٌ فضية تمتد بلا نهاية، أشجارٌ سوداء كأنها مصنوعة من زجاجٍ لامع، وسماءٌ تموج بألوانٍ مقلوبة: لا نهار ولا ليل، بل ضوءٌ مبهمُ يُسيل كحبرٍ معدني.

فهمتُ على الفور. لم أَحطُمْ في الغابة فحسب، بل عبَرتُ إلى حيث تُختبر النفوس. هذا هو — حديقة الظلال.

وقفتُ مُتثاقلاً، أحاول فهم كمّ المسافة بين أنفاسي وما حولي. ثم رأيته: قريني. ليس ظلّاً بل شخص، نسخةٌ منّي، لكن وجهه قطع منه الصقيع. عيناه كانت سوداء كمرآةٍ لا تعكس الضوء بل تبتلعه.

ابتسم، ابتسامة تُحفَر بأسنانٍ لا تُخشى إلا من الداخل. قال بصوتٍ مريحٍ بارد، كأن الماء يتكلّم من عمق بئر:

— مرحباً بليك، كيف حالك؟

أجاب الفم على سؤاله قبل عقلي:

— لماذا أنا هنا، كليب؟

ضحك، ضحكٌ خفيف لكنه حاملٌ لوعيدٍ قديم.

— إن جسدك متضرر جداً بسبب فقدان المانا، لذا سأأخذ مكانك لكي أرتاح منام.

تجمّدتُ. معناه واضح: ليس مجرد منافس في حديقة ذهنية، بل لصُّ جسدي ومالكِ حياتي مؤقتاً.

قلتُ بغضبٍ حاد:

— مستحيل… تريد سرقة جسدي.

ردّ كليب بنبرةٍ هادئةٍ تقطع كمنشر:

— ماذا ستفعل؟ أنت فاقد للوعي في مكانٍ يحيط به الوحوش في كل اتجاه، ويجب علينا أن ننتظر أيامًا كي تستعيد قوتك. موتك هنا سهل. أم تظنّ أنني سأدعك تمشي بسهولة في عالمٍ لا يرحم؟

انحشرت الكلمات في حلقي، لكن ثقتي لم تُطفأ بعد. تذكرتُ النقاش الأول... تذكرتُ كيف هزمت قريني بالكلمات، بكشف تناقضه، بجعل حججه تنهار أمام حقيقتي. ضحكتُ، ضحكةٌ فيها شيء من التحدّي والجنون:

— بهذا سأهزمك في نقاشٍ مثل المرة السابقة، ولن تستطيع السيطرة على جسدي للأبد.

ضحك كليب ضحكةً شريرةٍ جاءت من باطنٍ بارد:

— سنرى بشأن ذلك.

اقترب خطوات قليلة، وكل خطوة كانت تجعل الهواء حولي يزداد برودة، كأن وجوده يمتص دفء المكان. ملامحه كانت مثالية — نفس أنف، نفس ندبة صغيرة عند حاجبي الأيمن — لكن ابتسامته كانت غيري: بلا رحمة، بلا ضعف، مُسلّحة بعلمٍ داخلي بكل نقاط ضعفي.

ثم بدأ الحديث، ليس كلماتٍ فقط، بل أساليبٌ كالأسهم تخترق قلبي مباشرة:

— أنت تخاف أن تفقد من تُحب. تخاف أن تكون سبب موت من حولك. تتساءل دائماً إن كنت تستحقّ أن تكون حاملاً لكتابٍ يلتهم الأحياء… وأنا أعرف كل ذلك. سأستخدم شكوكك كسيفٍ لي. حين أشدّ قبضتي، سيظنّ عقلك أني أنا الحقيقة، وأنك مجرد وهم يُقاوم.

حاولت أن أستجمع حجري، فذكرياتي تدفقت كصورٍ متقطعة: ضحكة ميساكي، وجه نيمو بعد أن تحوّل إلى جرحٍ، صوت أكيهيكو حين قال "لن أتركك". اعتصمت بتلك الوجوه كأنها أحزمة ربط، واعتصرت صوتي في داخلي قائلاً: لا، ليس بعد.

أدركت شيئاً حاسماً: هذه المعركة لن تُحسم بضرباتٍ وإنما بعناءٍ داخلي. كليب يفهم كيف يهزّني لأنّه خلُق من ظلال خوفي. لذا بدأت أعدّ فتايل ذكرياتي — لحظاتٍ لا تقدر عليها الشكوك، لقطاتُ دفءٍ لا تستطيع الظلال تشويهها.

قال كليب وهو يقترب أكثر، وعيونه زوايا سوداء تلفح ذاكرتي:

— ابدأ إذاً. ناقِشني. أظهر لي أنك تستحقّ الجسد. لكن اعلم — كلما طالت المحاجّة، كلما ازدادت قوتي… وسأقحم في كلامك صوراً لا تريد تذكّرها.

أغمضتُ عينَيّ — رغم أنني في عالمٍ بلا ظلالٍ حقيقية — واستدعيتُ أول صورة؛ وجه ميساكي وهي تبتسم لي بأغنيةٍ صغيرة. أحسست بحرارةٍ صغيرة ترتفع من صدري نحو حلقي: مهرٌ صغير من الشجاعة. فتحتُ فمي، وبدأت الكلمات تتدفق هذه المرة بصوتٍ أقوى مما توقعت:

— قد تكون نسخةً مني، كليب. لكنك مجرد ركام من الأسئلة التي لم أُجب عليها بعد. أنا أتحمّل إخفاقاتي، أتعلم، وأتحمل ثمن قراراتي. أنت، بلا ذاكرة حقيقية، لا تعرف كيف يكون الحب… أنت تعرف الخوف فقط. وأنا سأثبت لك — وبكل شيء قُمتُ به — أن حبي وإن كان عيباً، فهو فعلٌ أقوى من كل مخاوفك.

تثاقل صمت. ثم ردّ، بصوتٍ بدا وكأن قطعة زجاج تُكسر ببطء:

— سنرى من يملك القدرة على جعل العقل يؤمن.

حين قالها، بدأت حديقة الظلال تتلوّن حولنا؛ غبار لامع يلتف كدوائرٍ حولنا، والأشجار الزجاجية تعكس صدى كلماتنا بصدى مزدوج، كما لو أن المكان نفسه مصغٍ. المعركة بدأت — ليست بأجسادٍ تتحطم، بل بأرواحٍ تتصارع على شواهد الحقيقة.

لم تكن لدي إرادةٌ لأخسر. لقد علّمتني الخسارة دروساً، وجعلتني أقدّر الدم الذي ساقه الآخرون من أجلي. الآن، أخذت أول نفسٍ عميق في ذلك العالم العكسي، وأطلقت الجملة التالية كطعنةٍ حقيقية:

— ابدأ بالحجّة، كليب. سأردّ كلمةً كلمة.

وكانت حديقة الظلال، لسحرةٍ ولاجئين من الذكريات، شاهدةً على بداية مواجهةٍ ربما تحسم مصيري — أو تُسلم جسدي إلى الظلال إلى الأبد.

كنت واقفًا في قلب حديقة الظلال، محاطًا بأشجار الزجاج السوداء التي تعكس وجهي آلاف المرات، لكن كل انعكاس منها كان يحمل ابتسامة كليب المقيتة. شعرت بالاختناق، وكأن العالم نفسه يضغط على صدري. صوته كان ينساب حولي كما ينساب الدخان من نارٍ خفية:

— بليك… أنت ضعيف. كل من أحببتهم رحلوا أو سيموتون بسببك. جدك، نيمو، ميساكي… بل حتى من تبقى بجوارك الآن، عاجلًا أم آجلًا سيُلتهمون بفضل الكتاب الذي تحمله. أنت لعنة، ولست منقذًا.

ابتسم بخبث، اقترب مني حتى أصبحت المسافة بيننا كخطٍ واحدٍ هش. عيناه كانتا مرآتين تعكسان أسوأ مخاوفي.

حاولت أن أتمالك نفسي، لكن قلبي ضرب بقوة حتى شعرت أن صدري سينفجر. كان محقًا في جزءٍ من حديثه… أنا سبب كل هذا الخراب. لكن، توقفت. التقطت أنفاسي، وأجبرت نفسي على النظر مباشرة في عينيه:

— نعم… أنا السبب في الكثير من الألم. أنا لا أنكر ذلك. سقط أصدقائي بسببي، وضحّى آخرون بحياتهم حتى أبقى حيًا. لكن الفرق بيني وبينك، كليب… أنني لا أهرب من الحقيقة. أنا أتحملها.

ارتفع حاجباه بدهشة مصطنعة، ثم انفجر ضاحكًا ضحكةً عميقة تُدوّي بين الأشجار كصدى الحديد المكسور:

— تتحمل؟! ما فائدة تحمّلك؟ الحِمل يزداد ثقلًا كل يوم. عاجلًا أم آجلًا، سينهار كتفك تحت وطأته. أنا موجود لأريحك من هذا العذاب. سلمني جسدك، وسأحررنا معًا من هذه السلسلة البائسة.

أحسست بحرارة في صدري، كأن نارًا صغيرة اشتعلت داخلي، نار ذكرياتي. رأيت في ذهني ابتسامة نيمو الأخيرة، دمعة ميساكي وهي تتلاشى، قسم أكيهيكو حين قال "لن أتركك وحدك".

صرخت بصوتٍ ملأ الفراغ:

— لا!

— أنا أعيش لأجلهم. قد أكون ضعيفًا، قد أفشل، قد أسقط ألف مرة… لكنني أقف من جديد، ليس لأنني بطل، بل لأنهم آمنوا بي! أنت تقول إنني لعنة؟ ربما… لكن تلك اللعنة هي السبب الذي جعلني أتشبث بالحياة أكثر. أنا لا أهرب يا كليب. أنت من يهرب. أنت لست سوى صورة هاربة من خوفي!

تغير وجهه فجأة. ابتسامته تلاشت، وعيناه بدأتا تهتزّان كمرآة تتشقق. مدّ يده نحوي كمن يحاول التشبث، لكن أصابعه بدت شفافة، تتبخر مع الريح.

— لا… مستحيل… أنا الحقيقة! أنا القوة! بدونك أنا…

أجبته بصوتٍ ثابت، كأنني أنطق حكمًا نهائيًا:

— أنت مجرد ظل. وأنا اخترت أن أعيش في النور، حتى لو كان ذلك النور مكسورًا.

عندها، بدأت الأرض الفضيّة تتصدع تحت قدميه، والأشجار الزجاجية انعكست لتبتلع صورته. صرخ، لكن صرخته لم تكن مخيفة… كانت صرخة من يعلم أن وجوده يذوب.

انفجر المكان بضوءٍ باهر، ثم عاد كل شيء إلى صمتٍ مطبق. وجدت نفسي واقفًا وحيدًا في حديقة الظلال، جسدي متعب، لكن قلبي… قلبي كان ثابتًا أكثر من أي وقت مضى.

همست لنفسي:

— لقد فعلتها… هزمته. هذه المرة… كان النقاش هو سلاحي.

ثم رفعت بصري نحو السماء المشوهة، وأنا أدرك أن هذه لم تكن النهاية. بل بداية طريقٍ أصعب، طريق حيث الظلال لن تتوقف عن مطاردتي، لكنني تعلمت شيئًا مهمًا: مهما اشتدّت ظلالي… سأظلّ أملك الحق في أن أختار.

جلسُ هناك، وسط أرض فضية تمتد بلا نهاية، الأشجار الزجاجية السوداء تحيط بي بهدوء غريب، والسماء المتموجة فوقي تحمل ألوانًا خامدة، لا نور فيها ولا ظل. كل شيء ساكن، حتى الريح التي تتسلل عبر الأغصان كأنها لا تعرف حركتها.

أغمضت عيني للحظة، وأخذت نفسًا عميقًا. لم يكن هناك خوف، ولا صراع، ولا صوت للصرخات أو الوحوش… مجرد صمت. شعرت بوزن جسدي، بالضوء الباهت الذي يعكسه الزجاج تحت قدمي، بكل إحساساتي التي تعود إلى نفسي فقط.

عرفت أن كليب قد أخذ جسدي مؤقتًا، محاطًا بقواه الغريبة، لكنني لم أكن غاضبًا أو خائفًا. على العكس، كان الأمر كفرصة نادرة للتوقف، للتنفس، لمراجعة كل شيء حدث حتى الآن.

جلست على أحد جذوع الأشجار الزجاجية، ووضعت يدي على ركبتيّ، أراقب الأرض الفضية التي تتلألأ بخفة تحت قدمي، وأسمح لعقلي بالهدوء. لم يكن عليّ التفكير في استراتيجيات، أو في هجوم محتمل، أو في أي خطر. كل شيء كان هادئًا، بطيئًا، كما لو أن الزمن نفسه توقف.

أحسست بأمان لم أشعر به منذ فترة طويلة، شعور غريب بالاستقرار، حتى في هذا العالم الغريب والمقلوب. كل هدوء حولي كان يرد الصدى داخل روحي، ويجعلني أستوعب شيئًا مهمًا: القوة الحقيقية ليست في الانتصار على الوحوش، أو التغلب على الظلال… بل في القدرة على التوقف، التنفس، وإعادة ترتيب أفكاري وسط كل الفوضى.

جلست هناك، وحدي، أستمتع بالهدوء، أسمح لكل جزء من جسدي وروحي بالاسترخاء، بينما العالم الخارجي بقي على بعد خطوات، صامتًا ومراقبًا، تاركًا لي هذه اللحظة الوحيدة للنقاء.

[منظور كليب رثيأ ]

شعور لا يوصف اجتاحني فور دخولي جسد بليك.

كل إحساساته، كل نبضاته، كل الطاقة التي تدفق من المانا بدا لي وكأنها شريان حياتي الجديد. لم أكن مجرد ظل أو انعكاس؛ كنت الآن أنا، لكني أمتلك جسدًا حيًا، قوة لم أذقها منذ أن أصبحت قرينًا.

ابتسمت ابتسامة لا تشبه ابتسامة بليك، لم يكن فيها أي خوف، أي تردد، أو أي شعور بالمسؤولية. كانت ابتسامة كليب رثيأ، مليئة بالفرح الجنوني والسخرية. حرية كاملة. حرية مطلقة. كل حركة كانت متاحة لي؛ استطعت تحريك الرأس 380 درجة دون أي ألم، تحريك العظام كما لو كانت أوراقًا قابلة للطي، جسد بليك لم يعد قيدًا، بل أداة لإبداعي.

لقد شعرت بالقوة التي لم يعرفها بليك، بقدرة على التلاعب بكل شيء داخليًا وخارجيًا، دون أي قيود جسدية. الحركة أصبحت متعة، كل عظمة، كل مفصل، كل خلية في جسده، تحت إرادتي وحدي.

لكن فجأة، ظهر أمامي… مخلوق.

أخضر، ضخم، يشبه الحشرة العملاقة، مع هيكل صلب مجزأ. أذرع طويلة ورفيعة تنتهي بمخالب حادة، عدة أرجل تتحرك بثقة، وجزء علوي من جسده يشبه الرأس مع زوائد كقرون قوية. كان يشبه فرس نبي ضخم، مهيبًا ومخيفًا في الوقت ذاته، ينبعث منه إحساس بالقوة الخام والمفاجئة.

لم أكن بحاجة إلى تردد، شعرت بريق المغامرة يتسرب إلى عروقي. هذا المخلوق لم يكن مجرد تهديد، بل فرصة لإظهار ما يمكن أن يفعله جسد بليك تحت إرادتي المطلقة.

بدأت الحركة.

أدرت رأسي بشكل غير طبيعي، مراقبًا كل حركة للمخلوق، أتحرك بحرية غير ممكنة لأي إنسان، أنحني بشكل خاطف، أفلت من أي تهديد، أستخدم العظام الداخلية كعصا، كرمح، وحتى كدرع. كل حركة كانت توازنًا بين الهجوم والدفاع، بين الخفة والعنف، كل شيء تحت سيطرة مطلقة.

المخلوق لم يتراجع. اندفع نحوي بأذرعه الطويلة، محاولًا تمزيق جسدي، لكن كل ضربة يمكنني تفاديها بطريقة تتجاوز قدرة أي بشر. أمسك بإحدى أذرعه ولفيتها حول جسده، أستغل كل قوة جسدي بلا رحمة. شعرت بالجنون، بالفرح العميق، وبالقوة التي لم يذقها أحد.

بدأت المعركة تشتد، المخلوق يهاجم بلا توقف، لكن كل حركة منه كانت تُقرأ مني قبل أن تحدث. أدر رأسه، أحرك كتفيه، أوازن وزنه، أغير مركز ثقل جسدي بطريقة لا يمكن لأي شخص طبيعي القيام بها. كل ضربة منه تُقابل بتحريك عظامي كلوحة ميكانيكية معقدة، وكل حركة مني تحمل قوة لم يختبرها أي كائن آخر.

بدأت أطلق ضربات سريعة بلا توقف، أستعمل كل جزء من جسد بليك بطريقة لم يكن يتخيلها، الأذرع تتحرك بحرية، الركلات ملتوية بطريقة هندسية، وأحيانًا أنقلب بالكامل لتفادي هجوم ثم أعود بلا أي فقدان للطاقة، وكأن جسدي أصبح آلة متقنة تحت إرادتي.

المخلوق بدأ يتراجع، أستغل الفرصة لتوجيه هجوم مركز، أرفعه في الهواء وأدير جسده بطريقة تجعل كل حركة له تتقاطع مع خضوعه لقوتي. كنت أضحك من داخلي، فرحة كليب رثيأ تعلو قلبي، أشعر بالهيمنة الكاملة، بالقوة المطلقة.

لكن لم أنسى: كل هذا يحدث داخل جسد بليك، دون أن يتغير مظهره الخارجي. لا خدش، لا دم، لا أثر لأي عنف خارجي، مجرد سيطرة داخلية محضة.

لقد شعرت بالسيطرة المطلقة، وكأن جسد بليك أصبح امتدادًا لي وحدي، وكل حركة يمكنني التلاعب بها كما أشاء. لكن أمامي، المخلوق الأخضر العملاق لم يكن خصمًا عاديًا، لقد شعرت بوحشيته الخام، بعزيمته الفطرية على القتال والبقاء، كل عضلة منه تتناغم مع هجومه العنيف.

بدأت بالتحرك بسرعة تفوق حدود الجسد البشري. أدرّ رأس بليك 180 درجة لمراقبة كل زوايا الهجوم، ثم لف جسده كله بطريقة غير طبيعية لتجنب أحد الأذرع الطويلة، حتى بدا وكأنني أمتلك أكثر من جسم واحد. كنت أراقب كل خطوة، كل حركة، كل وميض للعيون المتوهجة للمخلوق، كل شيء كان واضحًا لي قبل أن يحدث.

استخدمت إحدى ركبتيّ كدرع داخلي، فالتواء العظام بطريقة مرنة سمح لي بامتصاص صدمة ضربة أذرع المخلوق دون أن يشعر أي مراقب خارجي بذلك. ثم رفعت يديّ وفتحت أصابعي بطريقة غريبة، فتصنع كل مفصل قوة نابضة صغيرة لدفع الأذرع بعيدًا عن جسدي.

في داخلي، شعرت بالفرح، لم أكن مجرد قرين، كنت الآن متعة السيطرة المطلقة. كل خطوة، كل حركة، كل ضربة كانت لوحة ميكانيكية تتحرك تحت إرادتي. ومع ذلك، لم أستهن بالمخلوق؛ كنت أعلم أن قوته في الهجوم الخام، وأن أي خطأ قد يكلفني الكثير.

المخلوق بدأ يغير تكتيكه فجأة، أطلق ساقيه الأماميتين للهجوم بسرعة هائلة، يحاول تقطيع جسدي إلى نصفين، لكني استغل ميزة جسد بليك الفريدة، أدرت الرأس 380 درجة ورفعت الأذرع الخلفية لتصنع حواجز داخلية تمنع أي أذى. كل تحرك بدا متقنًا وكأنه رقصة قاتلة، وأنا أضحك داخليًا من شدة المتعة والسيطرة.

بدأت أطلق سلسلة ضربات متتالية، أستعمل كفوف اليد كمدافع ثم كأدوات للهجوم، أدرّ جسد بليك بطريقة دوران كامل 360 درجة، فأصبح كل هجوم مني مفاجأة لا يمكن للمخلوق توقعها. شعرت بكل جزء من جسد بليك ينبض بالطاقة، وكل حركة محسوبة بدقة لا تصدق.

المخلوق بدأ يتراجع، أرى الخوف والارتباك يختلطان في حركته، لكنه لم يستسلم بعد. أطلقت ضربة مركزة بعظم الكتف، ثم التفت بسرعة، أستخدم الساق الأخرى كرمح لتوجيه ضربات للأجزاء العلوية من جسده، أستغل طول أذرعه ومرونته الداخلية لخلق تأثيرات نابضة داخلية تحرك المخلوق بلا سيطرة.

كنت أضحك بصوت عميق، كليب رثيأ مستمتع بكل لحظة، كل حركة، كل تفصيل صغير من المعركة. شعوري بالسيطرة كان أقوى من أي شيء شعرت به من قبل، لم أكن مجرد انعكاس لبليك، بل أنا الحاضر والمتحكم، قوة العقل والجسد في انسجام كامل.

المخلوق الأخضر، رغم حجمه المهيب، بدأ يتهاوى أمام أسلوب غير طبيعي لا يملك أي بشر القدرة عليه. كل هجوم مني يبتعد عنه بلا ضرر، كل حركة داخله تجعله يفقد التوازن، كل خطوة تتسبب في دفعه للخلف. استخدمت حركات الالتواء والدوران والغرز العظمية الداخلية لتوجيهه، وأخيرًا، أمسكته من أحد الأطراف الطويلة، قلبت جسده في الهواء، ثم دحرجته بشكل محكم على الأرض.

هنا، بدا المخلوق عاجزًا تمامًا، كل تحركاته توقفت، عيونه تومض بارتباك، وأنا أبتسم ابتسامة كليب رثيأ الخبيثة، مستمتع بالسيطرة المطلقة.

ثم، دون أي عنف خارجي، بلا أي خدوش أو أضرار في جسد بليك، أعدت كل شيء إلى وضعه الطبيعي. المخلوق توقف تمامًا، يبدو مهزومًا بلا شك، وأنا أعود إلى وضعية وقوف عادية، متكئًا قليلًا، مستمتعًا بهدوء النصر.

شعوري الداخلي كان مذهلًا: لا فوضى، لا ألم، لا فقدان للسيطرة. كل شيء كان تحت إرادتي، كل شيء محسوب، وكل شيء تم بسهولة مطلقة. النصر لم يكن مجرد هزيمة للمخلوق، بل إثباتًا لقدرتي على التحكم المطلق في جسد بليك، على استغلال كل ميزة فريدة، وعلى استخدام العقل والجسد بأقصى طاقاتهما.

[منظور بليك إيثر ]

شعرت فجأة بعودة وعيي إلى جسدي، كما لو أنني أعود من رحلة طويلة عبر العتمة. الألم الذي كان يثقل عيني وتلك اللحظات المظلمة اختفى تمامًا، تاركًا جسدي ممتلئًا بطاقة جديدة، تنبض في عروقي كما لو أن كل جزء مني قد تم إعادة شحنه. الهواء البارد اخترق صدري، وأدركت أنني ما زلت في حديقة الظلال، مكان الصفاء الذي منحني الفرصة للتفكير، بعيدًا عن الفوضى والمعارك.

أغمضت عيني للحظة، مستشعرًا كل خلية في جسدي، كل نفس، وكل دفق للمانا الذي عاد بالكامل. شعرت بالارتياح، شعور غريب ولكنه حقيقي: لا خوف، لا ألم، فقط صفاء داخلي ونقاء بعد العاصفة.

في تلك اللحظة، شعرت بغياب كليب رثيأ. لم يعد هناك أي شعور بالسيطرة الغريبة، لم يعد هناك أي اندفاع للقيام بحركات غير طبيعية، فقط أنا، بليك، متوازن بالكامل. لكن شعورًا آخر صاحبي: إحساس بوجوده، غاضبًا ومتوترًا في مكان آخر، في عالم الظلال.

داخل عوالم الظلال، كليب وقف هناك، جسده مختفي وراء الأفق الفضّي الملتوي، عيونه متوهجة بالغضب، وابتسامته الملتوية لا تخفي الإحباط. كان يصرخ بصمت داخلي، محاولًا فهم سبب انتهاء فترة سيطرته، شعوره بالحرمان، والغضب من العودة إلى الفراغ. لكن الغضب نفسه كان مشوبًا بشيء آخر… ربما شعور بعدم قدرته على الإبقاء على السيطرة المطلقة، وهو أمر يثير انتباهه وغضبه في نفس الوقت.

بينما أنا أجلس في هدوء، أتأمل جسدي المستعاد، أدركت قيمة ما حدث. كليب، رغم كونه نسخة شريرة مني، كان أداة قوية جدًا. لو لم يكن موجودًا، لما تمكنت من استعادة كل مانا التي فقدتها، لما كنت قد اختبرت إمكانيات جسدي الحقيقية، ولا حتى فهمت القدرة الكامنة في السيطرة المطلقة على تحركاتي.

ابتسمت ابتسامة هادئة، وقلت لنفسي بصوت خافت:

"كليب… ربما أنت مفيد أكثر مما أكرهك."

جلست تحت الشجرة، أستشعر النسيم البارد يلامس وجهي، أستمع لصوت الغابة الملتوية، وأشعر بالسكينة لأول مرة منذ أيام. كل ضربة، كل هجوم، كل لحظة تحكم مطلق… كلها أصبحت ذكرى، ومعها دروس لا تقدر بثمن.

في عالم الظلال، كليب لم يختف تمامًا، كان هناك، يغلي غضبًا، يصرخ بكلمات لا يسمعها أحد، ويعرف أن دوره قد انتهى مؤقتًا، لكنه أيضًا يعرف أنه يمكنه العودة عند الضرورة. أما أنا، بليك، فشعرت بأن كل ما فقدته من مانا قد عاد، وبأن جسدي مستعد لمواجهة أي تحدٍ جديد، وأن هذه القوة الجديدة، المدمجة مع فهمي للقرين، تجعلني أقوى من أي وقت مضى.

الهدوء كان مطبقًا عليّ كستارة ناعمة بعد العاصفة. لم أكن بحاجة للكلمات، فقط جلست هناك، متأملًا، مستشعرًا كل جزء من قوتي، مدركًا أنني لم أعد وحيدًا في هذه الرحلة… أن كليب، رغم طبيعته الشريرة، قد أصبح جزءًا من استراتيجيتي.

وبينما كانت الأشجار الملتوية تتمايل في الهواء الفضّي، وأنا أغرق في هدوئي الداخلي، فهمت أن النصر الحقيقي لم يكن مجرد هزيمة للمخلوق الأخضر، أو السيطرة على جسدي، بل في إدراك قيمة كل جزء من قوتي، حتى تلك المظلمة منها، وكيف يمكن تحويلها إلى أداة للنجاة والبقاء.

2025/09/30 · 8 مشاهدة · 3486 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025