في قلب المملكة السحرية، حيث الأرض تتلألأ بألوان لم تعرفها العين البشرية، ظهرت الجنية الرشيقة. كانت جسدها ذهبيًا، تتحرك برشاقة فوق الأنهار المتدفقة والزهور المتفتحة، تحيط بها هالة من ضوء لطيف يحاكي أشعة الشمس.
الجنية لم تتحدث، لكنها امتدت بذراعيها، موجهة قوة سحرية لطيفة تعيد التوازن بين قوى النور والظلام في المملكة. من حولها، الأشجار تحركت برفق كما لو كانت تتنفس، والأنهار تدفقت بسرعة خفيفة تحمل ألوانًا متغيرة، كأنها تجري لتُظهر الطريق إلى مكانٍ مجهول.
على طول الطري،ق، واجهت الجنية مجموعة من الكائنات الغريبة: مخلوقات صغيرة نصف بشرية ونصف حشرية، كانت عدائية، لكنها تراجعت أمام الضوء الذي حملته. بعدها، ظهر مخلوق أكبر، أشبه بالوحش، جسمه يغطيه صخر متوهج من الداخل، لكنه لم يكن قادرًا على الاقتراب من قوة الجنية.
في لحظة ذروة السحر، وقفت الجنية أمام بحيرة صافية، مياهها تتلألأ بألوان فضية وذهبية. رفعت يديها، وأطلقت سحرًا ينساب فوق المياه، فيتداخل الضوء مع الظلال بانسجام تام. كل شيء حولها بدأ يتناغم: الغابة، الأنهار، الجبال في الخلفية، وحتى الكائنات التي كانت تهدد المملكة سابقًا، صارت تتحرك بسلام تحت تأثير توازنها السحري.
ثم اختفت الجنية ببطء في ضوء خافت، تاركة وراءها المملكة متوازنة، هادئة، مليئة بالسحر، وكأنها رسالة صامتة: التوازن بين النور والظلام يمكن تحقيقه فقط من خلال الانسجام.
ومع انحسار الضوء الأخير، تحولت مياه البحيرة أمام أعين الجميع إلى المشهد المألوف: مياه بحيرة الدموع الأبدية، الصافية والهادئة، شاهدة على كل ما وقع في المملكة، وكأن الرؤيا لم تكن سوى فصل من قصة أكبر تنتظر من يكتشفها.
في سماء عصر إيدو الملبدة بالغيوم، كانت الرياح تصفر بين المنازل الخشبية المتقاربة والأزقة الضيقة. فجأة، اهتزت الأرض تحت أقدام المارين، وارتجت الأشجار القديمة عند أطراف القرية. من الغابة الداكنة، ظهر مخلوق هائل، حشرة عملاقة بأرجل مفرطة الطول، تمتد كالعمود في كل اتجاه، وأنيابها تشبه المناجل الحادة، تتلوى في الهواء، وتصدر صوت طحن يشبه الرعد عند كل حركة.
صيادو الحشرات الذين انتشروا على أسطح المنازل وعلى طول الجسور الخشبية، نظروا إلى الوحش بدهشة وخوف. أيديهم تثقلها أدوات الصيد القديمة: شباك معدنية كبيرة، رمحات مشتعلة، وجرعات سحرية نادرة تحفظت على أجيال. كانوا يعلمون أن أي خطأ صغير قد يؤدي إلى دمار كامل للقرية، لكن الشجاعة كانت تنبع من إرادة الحفاظ على الأرض والبشرية.
الحشرة تقدمت ببطء، كل ساق منها تضرب الأرض بصوت يهز القلوب، وسمومها تتصاعد كغيوم سامة فوق الأزقة. صيادو الحشرات رفعوا شبكاتهم، وأطلقوا الرمحات المشتعلة، لكنها صدت بقوة الجلود الصلبة، وابتلع معظمها دون أي تأثير يُذكر. لم يكن مجرد معركة جسدية، بل كانت اختبارًا للحكمة والتكتيك، فهم لم يستطيعوا الاعتماد على القوة وحدها.
قائد الصيادين، رجل مسن ذو عين واحدة محروقة من الشمس، صرخ مشيرًا إلى أن الهجوم المباشر لن ينفع، وأن الوحش يتعلم بسرعة من كل محاولة. بدأوا بتقسيم الهجمات، مراوغة الأرجل المفرطة الطول، استغلال زوايا المباني الضيقة، وحتى استدعاء روح الحشرات الصغيرة لتشتيت انتباه الوحش العملاق. كانت كل خطوة محسوبة، وكل حركة مليئة بالخطر، ولكنها مليئة بالتركيز والصبر.
مع مرور ساعات من المواجهة العنيفة، بدأت الحشرة تتعب. أصوات أقدامها الثقيلة كانت أقل انتظامًا، وأنيابها الطويلة بدأت تتصدأ من السحر القديم للصيادين. في لحظة ذروة، قرر القائد تنفيذ خطة نهائية: إشعال خمسة رمحات ضخمة في آن واحد، مزجها مع شبكات سحرية محكمة، لصيد الحشرة في دائرة محكمة من الطاقة المترابطة بين الأرض والهواء.
د
الحشرة صرخت صرخة أخيرة، صوتها يدوّي في السماء ويزلزل الجبال البعيدة، ثم سقطت على الأرض بعد انفجار هائل من الضوء والظلال المتشابكة، تاركة فجوة عميقة في الغابة وكأن الزمن نفسه توقف للحظة. صيادو الحشرات تنفسوا الصعداء، وعرفوا أنهم نجحوا، لكنهم شعروا بثقل الخسارة: الغابة تبدو حزينة، والأرض متعبة، وكأنها تودع وحشها الأخير.
بينما كان المشهد يهدأ، تجلت فجأة مياه براقة تتلألأ في الأفق، انعكاس الشمس على السطح يخلق ألوانًا فضية وذهبية، ومع كل تموج، بدا وكأن أحداث المعركة القديمة قد تم تسجيلها في كل قطرة ماء. وببطء، تحول المشهد من عصر إيدو المليء بالصراعات إلى هدوء بحيرة الدموع الأبدية، المياه الصافية تعكس كل الخطر والبطولة التي مرت، وكأنها سجلت كل ما وقع في المملكة السحرية وفي العصور الماضية، لتبقى شاهدة أبدية على التوازن بين الفوضى والنظام، بين الضوء والظلام، بين الشجاعة والخوف، بدون أي تدخل مباشر من أي مراقب، مجرد انعكاس حي للتاريخ والسحر في آن واحد
في أقصى شمال المملكة السحرية، على حافة غابة كثيفة ضبابية، ارتفعت أبنية أكاديمية ضخمة، جدرانها مصنوعة من حجر أسود لامع يلتقط الضوء ويبعث بظلال متحركة على الأرض. في ساعات الفجر، بدت الأكاديمية صامتة، لكن الداخل كان مليئًا بالهمسات، أصوات الأقدام السريعة، وبريق أعين الطالبات اللواتي تحاولن التسلل بين الصفوف.
كانت الأكاديمية تحت سيطرة ساحرة قوية تُعرف باسم "المديرة الفاتنة"، امرأة ترتدي عباءة تتخللها خيوط من الفضة، عينان حادتان كالسكاكين، وشعرها الأسود الطويل يتحرك كما لو كان له حياة مستقلة. تهدد كل طالبة تدخل الأكاديمية بالموت الغامض إذا لم تلتزم بالقوانين الصارمة، قوانين لا يعرفها سوى من مرّوا من قبل.
في صباح مظلم، اجتمعت الطالبات في ساحة التدريب الكبرى، حيث الأرض مزروعة برموز سحرية غريبة تشع بضوء أزرق قاتم. كل طالبة كانت ملزمة بالمرور باختبارات خفية، تُظهر قوة إرادتها وحجم استعدادها للانضباط. أي خطأ بسيط يعني اختفاء الطالب، ونقل روحه إلى مكان لا رجعة منه، كما لو أنه تم امتصاصها في شبكات خفية للطاقة.
في إحدى الزوايا المظلمة من المكتبة، اكتشفت طالبة صغيرة صفحة قديمة مغطاة بالرموز الغريبة. عند لمسها، ارتجفت الأرض حولها، وظهرت أمامها رؤية لمخلوق معلق في الهواء، جسده داكن وعين حمراء نابضة، محاط بحلقات من الضوء الذهبي. كان المشهد يذكّر بما حدث في "المدخل السماوي" من الأسطورة القديمة، كيان قوي يُدعى الخالق المعلق، الذي يراقب كل توازن القوة بين الظلام والنور.
الطالبات اللواتي شاهدن الرؤية شعرن بالخوف والرهبة، لكن بعضهن قررن مواجهة اختبارات الأكاديمية بكل شجاعة. حاولت الساحرة السيطرة على الطاقات المكتشفة، استدعاء الأشباح والكيانات الظلامية لتضييق الخناق على الطالبات، لكنهن بدأن في استخدام مهارات خفية تعلمنها في الأيام الماضية، متحركات بحذر بين الأشباح، مستفيدات من ضعف الظلال الناتج عن الخالق المعلق، دون أن يشعرن مباشرة بمراقبته.
خلال ساعات الليل، تحولت الأكاديمية إلى مسرح صراع سحري معقد. الطاقات تتقاطع في الهواء، الرموز على الأرض تتوهج وتتحرك، والفتيات يتعلمن أن السحر ليس مجرد قوة بل اختبار للصبر والحكمة والانضباط. كل محاولة للهروب كانت تفشل، وكل اختبار ناجح كان يضيء شعاع أمل صغير في زوايا الأكاديمية المعتمة.
وفي لحظة من السكون بعد معركة طويلة، انحسر الضوء الأزرق من الرموز تدريجيًا، وانكفت الأكاديمية على نفسها، كأنها تتنفس ببطء، تاركة مشهدًا هادئًا غير مباشر: انعكاس لمكان أعلى، حيث الخالق المعلق يراقب التوازن بين الفوضى والنظام، دون تدخل مباشر، فقط يشهد على إرادة الفتيات وشجاعتهن في مواجهة الظلام.
مع بزوغ الفجر، ظهرت الضباب على أسطح الأبنية، والنسيم يحمل أصواتاً بعيدة من الرياح عبر الأشجار، تعكس أثر الرؤية في العالم الحقيقي. الأكاديمية لا تزال قائمة، لكن التغيير بدأ: الطالبات اللواتي نجين أصبحن أكثر وعيًا بالقوة، أكثر صبرًا، وأقل خوفًا من الظلام. كل شيء مرتبط بشكل خفي بمراقب قديم، الخالق المعلق، الذي لا يلمس أحدًا مباشرة، لكنه يترك أثره على كل من يتحدى الظلام، تمامًا كما لو أن بحيرة الدموع الأبدية كانت تسجل الأحداث في صمتها الأزلي، شاهدة على كل شجاعة واختبار حدث في العصور والممالك السحرية.
استيقظت وأنا ألهث، قلبّي يتسارع كما لو أنه يريد الفرار من صدري. العرق يغطي وجهي، والضباب الخفيف من أنفاسي يختلط بالظلام في الغرفة. ما رأيته… لم يكن مجرد حلم، بل سلسلة من الرؤى التي أحسست بأنها حقيقية أكثر من أي شيء شهدته في حياتي. الجنية الرشيقة، الوحش الهائل في عصر إيدو، والأكاديمية المظلمة… كلها ما زالت تتردد في ذهني، كل مشهد محمّل بالقوة والخطر والرهبة، كأنها تُغذي خوفي من الداخل.
مددت يدي إلى الأرض الباردة، شعرت بالبرودة تمر في أصابعي كما لو كانت تندفع إلى عمق روحي. حاولت التمييز بين الواقع والرؤية، لكن إحساسي لم يترك مجالًا للشك: هناك شيء قريب، شيء ضخم، حيوي، يراقب كل حركة من حوله. الأرض تحت يدي كانت تهتز بخفة، نبضات خفية تصلني عبرها، وتخبرني بأن هناك وحشًا بالقرب مني، ضخمًا بما يكفي ليحجب كل شيء آخر.
تنفسي أصبح أبطأ، حادًّا، كل حاسة من حواسي مشحونة باليقظة، أذني تستمعان لكل صرير، عيني تتفحصان الظلال المتحركة في الغرفة. شعور بالارتجاف امتدّ في جسدي، لكنه لم يكن خوفًا كاملًا… بل تنبيهًا، استدعاءً للبقاء يقظًا، للتركيز، للتحضير لما هو قادم.
وضعت يدي على الأرض بقوة أكبر، أحسست بالأرض تحتها تتنفس، تستجيب لكل اهتزاز، كل حركة صغيرة. شعرت بقدرة خفية تتسلل عبر يدي، كأن الوحش، مهما كان قريبًا، يمكن استشعاره، ويمكن توقعه قبل أن يتحرك.
صمتٌ رهيب عمّ المكان، كل شيء حولي مشحون بالانتظار… وأنا هناك، على ركبتيّ، أترقب، أستشعر، وأدرك أن هذا الليل لن يكون مجرد ليلة عادية.
المشهد انتهى عند هذه اللحظة، قلبّي ما زال ينبض بعنف، ويدي على الأرض، مستعدة للشعور بأي شيء يتحرك حولي، بينما الظلام يبتلع كل شيء آخر.
لم يكن الانتظار مجرد صمت… فجأة، اهتزت الأرض تحت يدي بقوة أكبر، وظهر أمامي شيء لم أرَ له مثيلًا في حياتي. زهرة هائلة، أكبر من أي شجرة رأيتها، أوراقها تلمع بلون أخضر قاتم، لكنها لم تكن عادية؛ في قلبها، هناك وجه شرس، مغطى بظلال مرعبة. عيناها حمراوان، تتوهجان كما لو كانتا تنظران مباشرة إلى أعماق روحي، وابتسامة عريضة تكشف عن أسنان صفراء حادة تشبه شفرات السكاكين، ولسان طويل أحمر يتلوى كالثعبان، يخرج بين الزهور وكأنها تهدد أي جرأة تقترب منه.
تجمدت في مكاني، أعصابي مشدودة حتى أقصى حد، شعور بالصدمة اختلط بالخوف والذهول. لم أرَ قوة طبيعية أو وحشية بهذه الشراسة مطلقًا، وكأن هذه الزهرة ليست مجرد كائن حي، بل تجسيد مباشر للتهديد ذاته، أكبر من أي وحش رأيته في الرؤى الثلاث السابقة.
ثم بدأ يتحرك. جذوره ارتفعت عن الأرض، أوراقه تتمايل في الهواء وكأنها تتحرك بحرية، والوجه الشرير يقترب، ابتسامته تتوسع أكثر، ولسانه يلهث في كل اتجاه كما لو كان يختبر كل نقطة ضعفي.
رفعت يدي، حاولت أن أركز، أستشعر كل نبضة في الأرض تحت أصابعي، كل خيط طاقة من حولي، وأدركت أن المعركة لن تكون بالضربات العادية… هذه المرة، الوحش كان ذكياً، حياً، أكثر من مجرد قوة جسدية.
بدأت أولى الحركات، أصابعه الخفية في الهواء، أرسم دائرة سريعة من المانا تحت يدي، بينما الوحش يهاجمني بأوراقه القوية ولسانه الطويل، محاولًا الإمساك بي أو سحق أي جزء مني. الصدمة لم تترك لي وقتًا للوقوف على قدميّ، كل حاسة مشحونة، كل عضلة مستعدة للانقضاض أو الهجوم.
الهجوم الأول مني اصطدم بأوراقه القاسية، لكنها لم تتوقف. كل حركة له كانت محسوبة، كل ضربة يبدو أنها تحاول اختراق استراتيجيتي، وكأنها تعرف كيف أفكر قبل أن أفكر.
المشهد انتهى عند هذه اللحظة، الوحش واقف أمامي بتهديده الكامل، عينيه تتوهجان، وابتسامته الصفراء تلمع في الظلام، ولسانه الأحمر الطويل يلوح في الهواء، بينما أنا على الأرض، أستشعر قوته وأبحث عن أي فرصة للهجوم…
تنهدت ببطء، أحسست بالوحش يقترب أكثر، كل خطوة له تهز الأرض وتثير أوراق الغابة. لم يكن هناك مكان للاختباء، ولم يكن هناك مجال للتردد. رفعت يدي، وبدأت أستحضر المانا بداخلي، أولها الماء، تلك القوة التي تعلمتها في بحيرة الدموع الأبدية. تدفقت الأنهار الصغيرة من أصابعي، تشكل حواجز دائرية حول قدميّ، تحمي جسدي من ضربات الأوراق الحادة واللسان الطويل الذي يلوح في الهواء.
الزهرة العملاقة لم تنتظر. اقتربت جذورها بسرعة مفاجئة، محاولة ضرب الأرض تحت قدمي، فدفعت بالمانا الأرضية، ورفعت حجارة صخرية عائمة لتكون جدارًا دفاعيًا. ارتطمت جذورها بالأرض، وتطايرت الصخور في كل اتجاه، لكن تكتيك الوحش كان سلسًا: لم يهاجم دائمًا من الأمام، بل استخدم أوراقه كذراع طويلة تضرب من زوايا مختلفة، ولسانه الطويل يحاول الإمساك بأي تهديد.
أدركت أن الدفاع وحده لن ينفع. ركزت، وحشدت كل طاقتي، أدمج الماء بالجليد، أبرّد جزءًا من الماء بسرعة فائقة، لتتشكل أعمدة جليدية حادة في اتجاهات متعددة، محاولة صد الأوراق الحادة ولسان الوحش في الوقت نفسه. انفجرت الأوراق على الجليد، لكنها لم تتوقف، فابتسمت ابتسامة صامتة للحظة، وبدأت أدمج سحر النار مع الجليد. حرارة النار تتصارع مع برودة الجليد، فتتشكل سحب بخارية كثيفة، تضيع فيها أعين الوحش، مؤقتًا، فتخففت الضغوط المباشرة على جسدي.
لكن الوحش لم يكن سهل الانقياد. بدأ يحرك ساقيه العديدة بطريقة متزامنة، يقفز، ينقض، ويكسر الحواجز الأرضية، يرسل أوراقه مثل المنجل، ولسانه الطويل يلتف حول أي جزء يظهر ضعفه. كل هجوم منه كان محسوبًا، وكأن الوحش يتعلم من كل محاولة مني. شعرت بالضغط يتصاعد، كل جزء من جسدي كان يصرخ من الجهد، المانا تتآكل بسرعة، لكنني تذكرت الرؤى الثلاثة، وتلك الدروس التي علمتني التحكم بالمعادن، العناصر، والروح.
فكرت سريعًا: الماء والجليد للحماية والهجوم السريع، النار للتغطية والسيطرة على الرؤية، الأرض لتحريك التضاريس، خلق العقبات والسيطرة على المساحة. ركزت، وحشّدت كل العناصر معًا في ضربة واحدة، سحبت المانا من جسدي، من الأرض، من الهواء المحيط، وانطلقت موجة متشابكة: أعمدة جليدية تتجه إلى الأعماق، انفجارات نارية تصاعدية، وطلقات صخرية تطير في الهواء لتضرب جذور الوحش.
الزهرة العملاقة لم تتوقع هذا الانسجام الكامل. حاولت التراجع، أوراقها تتطاير في كل اتجاه، ولسانها يلوح بشكل محموم، لكنها لم تجد أي فرصة للصد، كل هجوم مني كان محسوبًا بدقة، كل عنصر يكمل الآخر. ومع ذلك، لم أستطع إنهاء المعركة بضربة واحدة. كل خطوة أحتاج فيها للتحكم والتنقل، كل هجوم مضاد منها يختبر حد صبري وقوتي.
فجأة، رفع الوحش رأسه، وفتح فمه الكبير على مصراعيه، محاولة إطلاق صرخة قوية مدمرة، طاقة اهتزت معها الأشجار، وأوراق الغابة تتطاير كما لو كانت عاصفة حقيقية. استخدمت الأرض لتثبيت قدميّ، أطلقت أعمدة الجليد، أدمجت النار لتحويل الهواء المحيط إلى سحابة حرارية، وحصرت فمه بين الجليد والنيران، مؤقتًا، لأكسب لحظة استراحة، أستجمع فيها قواي.
ارتجفت الأرض مرة أخرى، لكنني شعرت بالانتصار الصغير؛ تكتيكات الوحش بدأت تكشف، فهمت نمط تحركاته، كيف يهاجم من زوايا غير متوقعة، وكيف يحاول استنزاف المانا. كل محاولة منه كانت درسًا، وكل ضربة مني كانت تحصيلًا لمهاراتي، وكل عنصر استخدمته كان انعكاسًا لتعلمي في الرؤى السابقة: الانسجام، الصبر، والانتباه لأدق التفاصيل.
الوحش العملاق، بتلك الابتسامة الشرسة، بقي واقفًا أمامي، لكني شعرت لأول مرة أنني لست مجرد متلقي، بل مشارك في رقصة قاتلة، صراع بين طبيعة البرية وقوة الإرادة، وكل عنصر في يدي أصبح امتدادًا لروحي، كل حاسة مشحونة، كل قلب ينبض بالمعركة، وكل تفكير يركز على النقطة الضعيفة بين الزهرة العملاقة، بين الأوراق، والساقين، واللسان الطويل، وعينين حمراوين تتوهجان بالشر
أدركت أن اللحظة الحاسمة قد حانت، كل شيء أصبح مرتبطًا بالإرادة والتركيز. جمعت كل العناصر التي تعلمتها، الماء، الجليد، النار، الأرض، وكل ضربة وكل حركة من الرؤى السابقة كانت تتدفق داخلي في تناغم مثالي. استنشقت الهواء بعمق، شعرت بالمانا تتدفق كتيار في كل جسدي، وركزت على قلب الوحش، على تلك الابتسامة الشريرة، وعلى عينيه الحمراوين التي كانت تتابع كل تحركاتي.
بدأت أولاً بالماء، أسحبت جداول صغيرة من الأرض، حوّلتها إلى أعمدة جليدية شديدة الحدة، تحيط بالزهرة العملاقة من كل جانب. ثم أطلقت النار في طبقات متوازية، حرارة متصاعدة تغمر الأعمدة الجليدية، فتتشكل سحب بخارية كثيفة، تضغط على الأوراق والساقين الطويلة للزهرة. بعد ذلك، رفعت الأرض، وخلقت صدوعًا تحت جذورها، محاولة تحطيم توازنها، بينما تضغط النار والجليد من كل اتجاه، تحاصر كل حركة محتملة.
في قلب هذا الانسجام، شعرت بالتركيز الكامل، كل العناصر تعمل كواحدة، وكل حركة محسوبة. دفعت كل طاقتي في هجوم واحد: انفجار من المانا تجمّعت في كريات متشابكة، نار جليدية، أرضية مشققة، أعمدة من الماء المتجمد، تتحرك بسرعة فائقة نحو قلب الزهرة. صرخة الوحش امتدت في الغابة، أوراقها تتطاير، جسدها يترنح، وابتسامتها الواسعة تتحول إلى صرخة من الألم.
الاصطدام كان هائلًا، انفجار ضخم من الطاقة يضيء الغابة، يهز الأرض، تتطاير الصخور والأوراق والنيران والجليد في كل الاتجاهات، كأن الغابة نفسها تصرخ مع قوة هذا الهجوم. انفجرت الزهرة العملاقة في ومضة متفجرة من العناصر، أشعة من الضوء تتخلل الغيوم، وشرارات النار تتقاطع مع قطع الجليد المتطاير، والأرضية تهتز وتتفكك حول المكان.
وفي وسط الدخان المتصاعد، وبين الحطام المتناثر، اختفت الزهرة العملاقة، تاركة خلفها صمتًا غامضًا، كما لو أن الغابة نفسها استردت توازنها بعد تلك المعركة المدمرة. كل شيء بدا ساكنًا، الهواء بارد، الرائحة المحترقة تتلاشى، والأشجار المتهالكة تبدأ بالتمايل بلطف مع النسيم.
وفي تلك اللحظة، شعرت بأن كل شيء مرتبط بالرحلة السابقة، بالبحيرة، بالرؤى، وبالرؤى الثلاثة التي شاهدتها: كل درس، كل عنصر، وكل مواجهة كانت جزءًا من سلسلة تجارب أكبر. وانعكس هذا الانتصار في شعور هادئ، مؤكدًا أن القوة الحقيقية تكمن في الانسجام بين العناصر، بين الإرادة والمعرفة، وبين النور والظلام.
ومع ختام هذا الانفجار، شعرت بنسيم بارد يداعب وجهي، وعيني تلتقط انعكاسًا بعيدًا، لم يكن سوى سطح بحيرة هادئة… بحيرة الدموع الأبدية، حيث كل شيء يبدأ ويختتم، وتبقى هناك ذكريات الرؤى، الدروس، والقوى التي تتدفق بلا نهاية.