81 - اليوم 6 في غابة الضباب المخفية

تقدمت في عمق الغابة أكثر فأكثر، كل خطوة أثقل من السابقة، والضباب الكثيف يلتف حولي كأحضان سوداء. الأشجار العتيقة كانت تبدو حية، أغصانها تمتد كأنها تحاول إمساكي أو إخراجي عن الطريق، وكنت أشعر بأن كل صرير ورقة وكل شلال من قطرات الندى يراقب حركتي.

تعبت فجأة، جلست على جذع شجرة متصدع، شعور بالإرهاق والارتباك يغمرني. الفضول بدأ يسيطر عليّ، شعرت بالحاجة لفهم الغابة بطريقة أعمق، لا بالعين، بل باللمس.

مددت يدي ببطء، وضعت راحة يدي على الأرض الرطبة.

همست بالكلمات الداخلية، وركزت كل وعيي: تعويذة اللمس الحسي.

أحسست بتدفق المانا من أعماقي، ينتقل إلى أصابعي، ينساب إلى التربة تحتها. الأرض لم تعد مجرد تربة؛ كل حبة رمل، كل جذر، كل قطرة ماء كانت تنبض بالحياة والذكريات. بدأت أشعر بماضي الغابة: خطوات مسافرين ضائعين، صوت الرياح التي جرفت أوراق الخريف، وحتى خيوط الطاقة التي تركتها المخلوقات هنا منذ قرون.

لكن التعويذة لم تكن بلا ثمن. فجأة خفت حواسي، وسمعي بدأ يضعف بشكل مؤقت، حتى صوت خطواتي أصبح بعيدًا، مكتومًا. كانت هذه هي ضريبة الغوص في ذكريات الأرض، شعور غريب ومربك، لكنه منحني رؤية داخلية أعمق من أي رؤية عادية.

كل خيط تحت يدي كان يحكي قصة: الغابة نفسها تحاول أن تقول لي شيئًا، أن تُرشدني، أن تمنحني مفتاح الطريق دون أن أراه بالعين المجردة. شعرت بالرهبة والإعجاب، وقلب ينبض ببطء، وأنا مغمور في هذه الهمسات القديمة، مدركًا أن المخرج لم يكن فقط في الحركة، بل في فهم المكان نفسه… وفهم نفسي داخله.

وضعت راحة يدي بقوة أكبر على الأرض، وأدخلت المانا في خيوط الحياة تحت أصابعي، مستعدًا لاكتشاف أسرار الغابة الخفية…

أغمضت عينيّ قليلاً، لكن لم أعد بحاجة لرؤيتي الطبيعية. الأرض تحت يدي كانت تتنفس معي، تتناغم معي، وبدأت الذكريات تتسرب إلى عقلي مثل شلالات من الضوء والظلال.

كان المكان هادئًا الآن، لكن ما شعرت به كان مغايرًا تمامًا. بدأت الأصوات تتشكل في ذهني: صرير الأحذية على الأغصان، خفقات القلوب المجهدة، همسات سريعة بالكاد تُفهم. وفجأة، تشكلت أمامي صورة الماضي، كأن الأرض نفسها تُعيد تمثيل أحداثها.

رأيت مجموعة من الأشخاص، ستة أو سبعة، جميعهم يرتدون أقمصة داكنة وأقنعة تغطي وجوههم. كانوا يحملون حقائب وأسلحة، تتحرك أيديهم بسرعة، كأنهم يسرقون شيئًا ثمينًا من مكان قريب. عيونهم كانت مليئة بالخوف والإثارة، والضباب الذي أحاط بهم قبل سنوات كان يشبه الضباب الذي يحيط بي الآن.

ركضوا عبر الغابة، خطواتهم ثقيلة ومتقطعة، كل شيء حولهم يتحرك وكأنه حيّ. ثم ظهرت الوحوش. لم تكن مجرد مخلوقات عادية، بل كانت كائنات مشوهة، هياكل غريبة متفرعة الأرجل، وجلودها متشققة وكأنها مصنوعة من صخور عضوية. عيونها كانت تتوهج باللون الأحمر القاني، وأسنانها الطويلة تلمع في ضوء خافت.

انقضت الوحوش عليهم بلا رحمة. أحدهم تعثر وسقط على الأرض، وامتدت أصابع الكائنات إليه بسرعة البرق، تمزق اللحم والعضلات بلا هوادة. صرخ أحدهم، صرخة محمومة من الرعب، لكنها اختفت سريعًا في عواء الوحوش وصرير الأشجار.

رأيت آخر يحاول الاختباء خلف شجرة، لكن الأرض تحتها اهتزت وكأنها حية، جذور ضخمة التفتت حوله وسحبت جسده بقوة، وكأن الغابة نفسها تعاونت مع الوحوش. كان مشهدًا مخيفًا، دمٌ وأشلاء، ووجوه مقنعة مغطاة بالدماء، عيون مملوءة بالرعب، صرخات اختلطت مع أصوات الوحوش الملتهمة.

استطاع أحدهم اللحاق بالفرار لبضع خطوات، لكنه سقط في فخ صخري فجوي، حُفر قديم من الماضي لم يكن واضحًا في الوقت الحاضر. تحطم جسده عند الاصطدام، والدم يتخلل الصخور ويختلط بالتربة، لتصبح جزءًا من الذاكرة نفسها التي أستشعرها الآن.

الوحوش لم تتوقف، لم تُظهر رحمة. كل واحد من المجموعة وقع ضحية، بعضهم تحولت أجسادهم إلى ما يشبه المسخ، عظام مكشوفة وعضلات ممزقة، صرعاتهم الأخيرة ما زالت تتردد في أذني وكأنها جزء من الحاضر.

كان كل شيء صامتًا الآن، إلا من صدى تلك الأحداث في قلبي. شعرت ببرودة تسري في عروقي، رائحة الدم والوحشية وكأنها عالقة في الأرض، والهدوء الغريب بعد المذبحة جعل قلبي يخفق بشدة. الأرض نفسها كانت تحذرني، تعلم أني لا ألعب هنا… وأن الغابة تحمل ذكريات الموت والدم، لا تَنسى أبداً.

ابتعدت يدي عن الأرض فجأة، شعور بالدوار والصداع يجتاحني، فقدت سمعي مؤقتًا كما توقعت ثمن التعويذة. جلست على الأرض، أستعيد أنفاسي، والعالم من حولي أصبح هادئًا، لكن عيني العقلية ما زالت ترى الظلال، وكل شيء بدا وكأنه يهمس: هذه الغابة ليست مجرد طريق للخروج… إنها قبر الأسرار المظلمة، ودرس للبقاء.

وضعت يدي على الأرض مرة أخرى، لكن هذه المرة بعينين مفتوحتين وقلب يقظ. كل خطوة مقبلة، كل حركة، كل قرار… أصبح مرتبطًا بالوعي العميق بالماضي، وبأن الوحوش ليست الوحوش الوحيدة التي يجب أن أخافها.

الغابة كانت تتنفس معي، كل شجرة، كل ورقة، وكل جذع عتيق كأنه يراقب خطواتي. كلما توغلت أعمق، شعرت بأن الأرض نفسها تتحدث، تُخبرني أنني ضيفٌ في عالمٍ ليس لي، وأن كل خطوة تحمل وزن الماضي والحاضر معًا.

كانت السماء قد بدأت تتغلف بالظلام، والليل ينسكب فوق الأشجار مثل ستارة مخملية ثقيلة. تنهدت، محاولًا السيطرة على خوفي، وأنا أبحث عن أي مخرج من هذا المتاهة الطبيعية. جذوري وفضولي دفعاني إلى لمس الأرض بين قدميّ، أشعر بحرارة التربة، برطوبة الطحالب، وخشونة الحصى. لحظة واحدة، شعرت بالفضول القوي الذي لا يمكن كبحه، وأطلقت تعويذة اللمس الحسي.

تسلل إحساس غريب عبر أصابعي، كأن الأرض نفسها بدأت تهمس بالأحداث القديمة. صور ومشاهد تتراكم أمامي في ذهنٍ حي: أشخاص مقنعون يركضون في خوف، وحوش مشوهة تقفز عليهم، الدم والصرخات تتلاشى في الضباب… كل ذلك قبل سنوات طويلة، ولكنها الآن حاضرة بشكل حي داخل يديّ وعقلي.

مع استغراقي في هذه الرؤية، كان الليل يتقدم، والبرد يلسع أطرافي. قررت أن الوقت قد حان لأخذ استراحة. اخترت مكانًا محميًا بين شجرتين ضخمتين، أرضيته مغطاة بطبقة من الأوراق المتساقطة. جلست، أشعلت نارًا هادئة باستخدام سحر النار، شعلة صغيرة تتراقص في الهواء البارد، تلقي بظلال خفيفة على الأشجار المحيطة، تمنحني دفئًا وراحة مؤقتة وسط الغابة المرعبة.

جلس بليك هناك، مستندًا على جذع شجرة، عينيّ تراقبان اللهيب الصغير، وأنا أسمح لعقلي بالانجراف بين الأفكار. كل شيء كان هادئًا… حتى غابت الأصوات، واختفت حفيف الأوراق. بدأت أعين الليل تُركز الظلام أكثر، لكنه شعور مريح قليلًا، شعور بالأمان النسبي بين يدي النار، حتى لو كان مجرد وهم.

استسلمت للنوم، أذناي ممتلئتان بصوت خفق قلبي، ويدي لا تزال ترتعش من البرد. شعرت بالدفء يملأ جسدي، ومع كل نفسٍ كان هدير الغابة يبتعد قليلاً… شعرت أني أستطيع الصمود حتى الفجر.

لكن فجأة، بدون أي إنذار، انطفأت النيران. لم يكن هناك صوت الريح، لم تكن هناك شرارة، مجرد صمتٍ تام… وظل الغابة أصبح أسود قاتم، يلتهم كل شيء حولي.

ظلام مطلق.

حاولت الحركة، لكن الأرض اختفت في عيني، والأشجار أصبحت مجرد هياكل سوداء غامضة تندمج مع الليل. شعرت بوحدة مطلقة، وارتجف قلبي مع كل خفقة، وكأن الظلام يهمس لي: “أنت الآن وحيد، وكل شيء ستراه سيختبر إرادتك…”

جلست ساكنًا، يدي ترتجف وأنا أحاول استدعاء شعلة صغيرة من النار، لكن سحر المانا بدا متعبًا بعد يوم طويل. شعرت بأن الظلام ليس مجرد غياب الضوء، بل كيان حي، يتسلل إلى عروقي، يختبر خوف قلبي قبل عينيّ.

كنت أعلم أنني لا أستطيع البقاء على هذا الحال، وأنه حتى البقاء حيًا بين الأشجار لن يكون ممكنًا إذا لم أستجمع قواي. مع كل خفقة قلب، بدأت أتنفس بعمق، أستعيد هدوئي، وأستعد لمواجهة هذه الليلة التي ستختبرني أكثر من أي وقت مضى.

يداي استندت على الأرض، ملامستها الباردة والمبللة بالرطوبة، وقررت أن أعيد تشغيل تعويذة اللمس الحسي، لأقرأ ذكريات الأرض نفسها وأستمد منها أي خيطٍ يقودني للخروج…

أغمضت عينيّ، وتركيزي كله موجّه للأرض تحت يديّ، أطلق تعويذة اللمس الحسي مرة أخرى. شعرت بوخزة باردة تمتد من أطراف أصابعي، وكأن الأرض نفسها تتنفس تحت راحتي. بدأت الصور تتشكل أمام عينيّ، مشاهد حية لماضٍ غامض لم أرَه من قبل.

كان المكان مظلمًا وضبابيًا، ولكن شيئًا واحدًا تميز بوضوح. بجانب شجرة قديمة ومتهالكة، جذعها متفحم وفروعها قليلة، ظهر مخلوق غريب لم أرَ مثله من قبل. جسمه أسطواني، أطرافه رفيعة وطويلة تشبه المخالب تتدلى بطريقة غير طبيعية، وعين واحدة كبيرة ومتوهجة تلمع بضوء خافت. كان يحدق بي، رغم أنني لم أكن موجودًا في هذا المشهد سوى كمتفرّج، شعرت ببرودة تتسلل إلى عروقي.

المخلوق ظل ساكنًا لوهلة، ثم بدأ يتحرك ببطء، تحريك أطرافه بطريقة تشبه الرقص المريب، وكأن الضوء الصادر من عينه يحاول مسح الظلال حوله. كل شيء في الخلفية كان ضبابيًا وخافتًا، كأن الغابة نفسها تخنق الحياة فيها، وتمنح المشهد جوًا غامضًا، كئيبًا، لا ينتمي للعالم الطبيعي.

راقبت كل تفاصيله، كل اهتزاز للمخالب، كل ومضة من الضوء في عينه الوحيدة. شعرت بشيء يشبه الرعب النفسي يتسلل إليّ، رغم أنني كنت بعيدًا عن الواقع، مجرد مراقب لصدى الماضي.

فجأة، عاد إحساسي بالواقع، وأدركت أنني استهلكت الكثير من طاقتي باستخدام التعويذة. شعرت بطنين في أذنيّ، حاولت الصراخ أو التنفس بصوت مرتفع، لكن لا شيء. لقد أصبت بالصمم المؤقت.

الظلام الداكن أصبح أكثر وضوحًا الآن، وكأن الغابة نفسها ابتلعت كل شيء من حولي. كنت عاجزًا عن السماع، كل الأصوات، حتى صوت قلبي، اختفت عني.

ثم شعرت بحركة باردة على الأرض خلفي… شيء يتحرك ببطء، يقترب مني. لا أستطيع سماعه، لكن حضوره مرئي في الظلال، ضبابية الشكل، يقترب خطوة خطوة، أطرافه تتخلل الضباب وكأنها تتلاعب بالظلام نفسه.

قلبي بدأ ينبض بسرعة، كل خفقة تعكس شعورًا بالخطر الداهم. كانت اليدان ترتجفان، والأصابع تبحث عن سيفي، لكن الظلام والصمم جعلا كل شيء صعبًا.

كنت وحدي، في قلب الغابة، في صمت مطلق، أمام مخلوق يقترب… ولم يبقَ أمامي سوى الاعتماد على حواسي البصرية وحدها، وكل غريزة للبقاء على قيد الحياة.

لم أستطع سماع أي شيء. الصمت كان مطبقًا حولي، ثقيلًا، يثقل صدري، يجعل كل حركة تبدو وكأنها صدى في فراغ لا نهائي. الظلام كان يلتهم كل شيء، النار التي أشعلتها سابقًا كانت مجرد رماد ضوء باهت الآن، حتى عينيّ تكاد تلتصق بالظلال من كثرة الظلام.

ثم رأيته.

شكل المخلوق كان يشبه الإنسان، لكن بطريقة لا تنتمي للطبيعة. نحيل للغاية، طويل القامة، جسده أسود كظل الليل، يندمج مع الظلام نفسه. رأس صغير، أطراف طويلة جدًا، خاصة ذراعيه وساقيه، وكأن كل شيء فيه مبالغ فيه، كل شيء يصرخ بالغرابة والخطر. لم أستطع رؤية عينيه أو فمه، لكنه كان هناك، يراقبني بصمت، يقترب خطوة بخطوة، وكل حركة له تجعل الظلال ترقص حوله.

قلبي بدأ ينبض بسرعة، وكل خفقة تشعرني وكأنها صدى في الظلام. لم أستطع سماع صوته، لم أستطع الاعتماد على السمع، لذلك ركّزت على بصري بالكامل، وعلى إحساسي بوجوده في الفراغ حولي.

حرّكت يدي ببطء، أشرت بسيفي في الهواء، لكن الظلام كان كثيفًا لدرجة أن النصل بالكاد يلمس الضوء. بدأت أفكر بسرعة: هذه مخلوقات الظل تعتمد على الصمت والاندماج في الظلام، كل ما أحتاجه هو التوقع، لا المواجهة المباشرة.

رصدت تحركاته عبر لمحات الضوء التي تنعكس على جذوع الأشجار وأوراق الغابة الرطبة. كل خطوة من أطرافه الطويلة تترك أثرًا طفيفًا، انعكاسات خافتة على الأرض الرطبة. كل شيء كان دقيقًا، كل لمحة كانت مفتاحًا لبقائي على قيد الحياة.

ثم قررت التحرك ببطء، خطوة خطوة، أراقب انعكاسات الظلال، وأحاول إبقاء نفسي بعيدًا عن خط سيره المباشر. حاولت استخدام النار المتبقية في موقدي الصغير، أطلق شعلة قصيرة، فقط لترى ما إذا كان يفضح مكانه. تفاعلت أطرافه الطويلة مع الضوء، كشفت عن انحناءات غريبة، تكشف عن طريقة سيره وموضعه بالنسبة لي.

تسارعت نبضات قلبي، لكنني ركزت على حساب كل حركة، كل انعكاس للظل، كل توهج طفيف يلوح في الظلام. لم يكن بالإمكان الصراخ، لم يكن بالإمكان الاستماع، كل شيء أصبح رقصة بصرية بيني وبين الظلام، بيني وبين هذا الكائن الذي يبدو وكأنه تجسيد كل مخاوفي.

كنت أعلم شيئًا واحدًا فقط: الصمت لا يمنحه القوة، وإنما يمنحني فرصة، فرصة لاستخدام عقلي وعيوني للبقاء على قيد الحياة…

ظللت واقفًا في الظلام، أراقب كل حركة من ذلك الكائن الأسود، أطرافه الطويلة تتحرك بخفة خادعة، وكأنها أشباح تحيط بي من كل جانب. لم أستطع سماع أي شيء، لكن عيني التقطت أدنى لمحة من انعكاسات الظلال على جذوع الأشجار، كل لمحة كانت تهمس بمكانه.

اتخذت قرارًا سريعًا: لا مواجهة مباشرة، بل تكتيك. لم أعد أعتمد على القوة وحدها، بل على المزيج الذي تعلمته من العناصر الثلاثة — الماء، النار، والجليد — وعلى السيف الذي أصبح امتدادًا لحركتي.

بدأت بتكوين كرة ماء صغيرة في يدي، حركتها ببطء نحو الأرض، محاولة استخدامها كحاسة إضافية، لترسم خريطة للفراغ حولي. الماء تحرك بانسيابية، يلمس الأرض، يرتد عن كل عقبة، ويكشف عن وجود أي حركة غريبة.

حين شعرت بالاقتراب الشديد للمخلوق، أطلقت شعلة نار صغيرة من راحتي، شعلة قصيرة تكفي لإلقاء ضوء محدود على محيطه. الظل انكسر، أطرافه الطويلة تنقبض، تظهر خطوط جسده النحيلة أكثر وضوحًا. لم أستطع سماعه، لكنني شعرت بالنبضات الخفية التي تصدره في الأرض عبر تحركاته الثقيلة على قدمين شبه غير مرئيتين.

ثم استخدمت الجليد، أسرعت بخلق رذاذ ثلجي متجمد في الهواء، غطيت الأرض بطبقة رقيقة تعكس أي حركة قادمة. كل خطوة منه أصبحت مكشوفة أمامي، وكل انزلاق صغير على الجليد أظهر لي خط سيره المحتمل.

مع كل هذا، بقيت أتحرك بخفة، أراقب انعكاسات الضوء، أستعد للسيف، وأتوقع كل هجوم. ثم أطلقت انفجارًا صغيرًا من النار والجليد معًا، هجوم تكتيكي لتقييد حركته، ليس لتدميره بعد، بل لإجباره على الكشف عن مركز ثقله، عن أي نقطة ضعف في طريقة سيره.

استجاب المخلوق ببطء، أطرافه الطويلة ترتعش، جسده الأسود يلمع قليلاً تحت ضوء النار المتفجر، لكنه لم يتوقف. كان ذكاؤه في الظلام مذهلًا، يراوغ كل شعلة وكل انعكاس.

ابتسمت لنفسي، هذه ليست مجرد مواجهة جسدية، بل لعبة استراتيجيات بيني وبين الظلام، بيني وبين عقل هذا الكائن. كل عنصر، كل شعلة، كل كرة ماء، كل ندفة جليد، كلها أدوات لتشكيل شبكة من الإحساس والتحكم.

كانت المعركة قد بدأت حقًا، ولكنني شعرت لأول مرة منذ دخولي الغابة أن لدي فرصة للبقاء على قيد الحياة… ليس بالقوة فقط، بل بالذكاء، بالإبداع، وبحواسي التي أصبحت أكثر حدة من أي وقت مضى.

وقفتُ للحظة، أتنفس بصعوبة في الظلام الدامس، أصابع يدي ترتجف قليلاً من التعب ومن صمت العالم المحيط بي. لم أعد أستطيع السمع، لكن كل حركة، كل انعكاس للضوء على الجليد أو الماء، أو لمعان لهب النار الصغير، أعطاني إشارات كافية عن موقع المخلوق وطريقة تحركه.

بدأت في تنفيذ خطتي النهائية، مزيج من العناصر الأربعة التي تدربت عليها، وكل حاسة استخدمتها كأداة، وكل فكرة وتحليل من ذكرياتي السابقة حول الظل والمخلوقات الغامضة أصبحت جزءًا من الهجوم:

أولًا، أطلقت موجة من الماء من يدي، تتحرك بانسيابية لتغطي الأرض حول المخلوق، تصنع أرضية زلقة تربكه وتحد من حركته. كل قطرة من الماء كانت كمرآة صغيرة، تعكس أجزاء من جسده النحيل، تكشف لي نقاط ضعفه.

ثم دمجت الجليد مع الماء، حولت جزءًا منه إلى حواجز قصيرة ومتقطعة، تشبه أشواك الجليد، تعيق حركة أطرافه الطويلة، وتجبره على الانحناء والكشف عن مركز ثقله.

مع ذلك، كنت أعلم أن هذا لن يكون كافيًا لوحده، لذلك أطلقت لهبًا صغيرًا من يدي الأخرى، شعلة مركزة على نقطة معينة في الظل المتحرك لجسده، ليس لحرقه، بل لإجباره على الارتداد، لإرهاقه، وإظهار أي ثغرة في تصرفاته.

ثم، بعد مراقبة دقيقة، رميت حزمة من التراب الممزوج بالماء والجليد على الأرض أمامه، كفخ سحري صغير، يجعل حركته أكثر صعوبة، ويخلق انكسارات ضوئية تساعدني على تحديد مكانه بدقة متناهية.

الآن، كان الوقت قد حان للهجوم النهائي. جمعت كل المانا المتبقية في جسدي، مزجت النار والجليد والماء والأرض في كرة متوهجة تشع ضوءًا خافتًا في الظلام، حجمها يكفي لتغطي مساحة صغيرة أمامي، لكنها مركزة بالقوة والذكاء.

طرحت الكرة أمام المخلوق، واتخذت خطوة جانبية، متزامنة مع كل ارتداد له، حركته المحدودة كانت كافية ليتمكن السحر من ضربه بدقة. انفجرت الكرة عند اقتراب المخلوق، مزيج من الحرارة والبرودة والاندفاع المائي والضغط الأرضي، يصيبه مباشرة في مركز جسده.

تجمدت أطرافه لفترة قصيرة تحت تأثير الجليد، واحترقت أطراف أخرى من أثر النار، وانكسر توازنه على الأرض المبتلة. استغللت الفرصة، ودفعت كرة ماء أخرى مختلطة بالثلج لتغطي جسده بالكامل، ثم أطلقت لهبًا آخر مركّزًا على الجزء المفتوح، تاركًا كل عنصر ليعمل بتوافق وانسجام مع الآخر، متحكمًا بكل تفصيل.

صرخ المخلوق، أو على الأقل كان صوت الصراخ في داخلي، لأنه لم يكن بإمكاني السمع، لكن رؤية جسده يتهالك في الضوء والظلال كانت كافية. ثم تلاشى تدريجيًا، كأنه لم يكن موجودًا سوى كظل في ظلام الغابة.

وقفتُ ألتقط أنفاسي، أنظر حولي، الظلام عاد ليخيم، لكن شعوري بالانتصار كان واضحًا، أكثر من أي ضوء، أكثر من أي صوت. لم أعد أستمع إلى العالم من حولي، بل شعرت به، رأيته، فهمته… وهنا أدركت أن قوة الإنسان الحقيقية ليست في جسده وحده، بل في قدرته على الرؤية، على التفكير، وعلى استخدام كل ما تعلمه بشكل متقن ومبدع.

استلقيت على الأرض، جسدي لا يزال يرتجف من التعب، ويدي ملطخة بالرطوبة والثلج. الغابة صامتة من جديد، لكن شيئًا بدا مختلفًا—الظلام لم يعد خانقًا كما كان قبل قليل. شعرت بتدفق المانا في جسدي يتلاشى ببطء، ومعه عاد الإحساس بالعالم من حولي.

بدأت أسمع أول الأصوات، خافتة في البداية، ثم أوضح وأوضح: حفيف أوراق الشجر تحت وقع الريح، قطرات ماء تتساقط من فروع مبتلة، خرير الجدول القريب، حتى دوي بعوضة صغيرة يمر بالقرب مني. كل شيء عاد إلى مكانه، كل تردد وصمت مصطنع اختفى.

رفعت يدي لأمسك جسدي، للتأكد أنني أستطيع أن أتحرك بحرية. شعرت بكل شيء: برودة الأرض تحت كفيّ، حرارة جسدي بعد المعركة، وحتى نبض قلبي المتسارع. صوتي عاد، ونفسي العميق أكمل دورة الحياة بداخلي.

نظرت حولي، الغابة هادئة لكنها لم تفقد شعورها بالغموض. كل ظل أصبح واضحًا، كل حركة دقيقة يمكن رصدها. أدركت أنني لم أهزم فقط المخلوق الغامض، بل واجهت ظلام نفسي داخلي، اكتشفت حدود قدراتي، وتعلمت كيف أوازن بين الحواس، الذكاء، والقوة.

أخذت نفسًا عميقًا، شعرت بالطمأنينة مع مزيج من الحذر. لقد عرفت الآن أن الغابة لا تنتهي عند ما نراه أو نسمعه فقط، وأن قوتي الحقيقية تكمن في اليقظة الكاملة لكل شعور وكل إحساس، حتى عندما تبدو الحواس عاجزة.

أشعلت شمعة صغيرة من النار على الأرض أمامي، لمجرد ضوء هادئ يذكّرني أنني ما زلت حيًا، وأن الطريق أمامي لا يزال مليئًا بالتحديات. الغابة أمامي، الظلال تتحرك بين الأشجار، وأنا… مستعد لمواجهة كل ما سيأتي

2025/10/02 · 5 مشاهدة · 2762 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025