الضباب كان يلتف حول الأشجار المعمرة كما لو كان حاجزًا طبيعيًا، يُخفي عوالمًا من الرعب لم تُكشف من قبل. بليك، منهك بعد المعارك الأخيرة، تقدم بحذر على الأرض المبتلة بالأمطار القديمة. أصابعه تلمس الأعشاب المبللة، تشعره برطوبة الغابة الخانقة، وبرد يزلزل عظامه. كل خطوة تصدر صريرًا مبللاً على أوراق الأشجار المتحللة، وكأن الأرض تحذره من مواصلة السير.
مع تقدم بليك، بدأ يشم رائحة غريبة، مزيج من التعفن والموت، تجتاح أنفه وتدفع قلبه للخفقان بسرعة. الروائح تزداد قوة مع كل خطوة، حتى بدأ يميز بين روائح متفرقة: جلود متحللة، دم متخثر، وأنسجة متفتتة. في البداية ظن أنها مجرد أشجار ميتة أو حيوانات متحللة، لكن الواقع كان أشد فظاعة.
وصل بليك إلى فجوة صغيرة بين الأشجار، تحولت الأرض فيها إلى لون داكن، متناثر فوقها جثث بشرية متحللة، بعضها مربوط، وبعضها مبتور الأطراف، وجلودهم متشققة وملطخة بالطين. الهواء كان مليئًا بالحشرات الطائرة والزاحفة، تجمع حول العظام واللحوم المتفسخة، تُصدر صوتًا مزعجًا كطنين مستمر، يملأ المكان برعب حقيقي.
بليك حاول إغلاق أنفه وشفتيه ليقاوم الرائحة، لكن شيئًا في داخله دفعه للتقدم، مدفوعًا بفضول قاتل وغريزة البقاء. الأقدام الممطرة تركت أثارًا على الأرض الموحلة، وبينما يمشي، لاحظ أن الجثث ليست مجرد بقايا قديمة؛ بعضها كان حديثًا، علامات الموت والتعفن متباينة، وبعضها يحمل آثار مرض غامض، فالأجساد كانت متورمة، مغطاة بقروح متسعة تخرج منها إفرازات صلبة وسائلة معًا، وكأن الغابة نفسها ابتلعتها الأمراض.
الضوء الخافت يتسرب عبر الأشجار، يضيء بعناية على بعض العيون الفارغة، الوجوه المتحللة ترفع رؤوسها وكأنها تحدق ببليك، رغم استحالة ذلك، إلا أن المشهد أعطاه شعورًا بأن المكان حي، يراقبه، يختبره.
مع كل خطوة، شعر بليك بأن الغابة تبتلعه، وكأنها تتنفس حوله، تتنفس من خلال رائحة الموت والفساد. كان الصمت الكامل، الممزق أحيانًا بصوت حفيف، أكثر رعبًا من أي صراخ، وكأن كل صوت في هذا المكان مُمسوخ إلى صمت الموت.
وبينما كان يقترب من مركز الوادي، لاحظ حركة خفيفة تحت طبقات الأوراق والدماء الجافة. كان شيئًا يتحرك، ربما حيوان مفترس، وربما ظل روح ميت، لكنه لم يُصدر أي صوت، فقط التفتت الظلال على الأرض وكأنها تراقب حركاته.
المكان بأكمله كان يهمس بذكريات العذاب الذي عاشه هؤلاء البشر، وكل جثة تحكي قصة موتها بطريقة مروعة، من المرض، الجوع، العنف، والتجارب التي لا تُحصى. الهواء نفسه كان مُثقلًا بالعدوى، أوبئة لا يستطيع بليك رؤيتها بعينه، لكنه شعر بها في أعماق جسده، مع تحذيرات من غرائزه الداخلية.
عند اقترابه من أكبر مجموعة من الجثث، شاهد ما بدا كهيكل نصف متحلل مقيد بسلاسل صدئة، علامات التعفن تغطي يديه ووجهه، وكل حركة بسيطة منه تُطلق غازًا أسود خفيف، مُشبّع بالرائحة الكريهة والملوثة. بليك أدرك أن هذه الغابة ليست مجرد مكان للموت، بل مختبر طبيعي للأوبئة، حيث تختلط الحياة بالموت في دائرة مميتة لا نهاية لها.
بليك تقدم بحذر أكبر، يداه ترتجفان من البرد والخوف، لكن فضوله دفعه للاستمرار. الهواء أصبح أكثر ثقلًا، وكأن كل نفس يلتقطه يحمل معه آثار الموت التي لا تُحصى. الأرض تحت قدميه بدأت تتحول إلى مستنقع موحل، مليء بمواد عضوية متحللة، وكل خطوة كانت تغوص فيها حذاؤه ببطء، تصدر صوت تمزق مريب بين الطين واللحوم القديمة.
أمامه، امتد ممر طويل من الجثث المتراكمة، بعضها ملفوف بأقمشة ممزقة، وبعضها الآخر مجرد هيكل عظم متحلل، يشوهه الزمن والتعفن. كان المشهد مقززًا إلى درجة لا يمكن وصفها: رؤوس مبتورة، أعين فارغة تحدق في الفراغ، أجساد متورمة بألوان متدرجة بين الأخضر الداكن، الأسود، والبني الداكن، مختلطة بروائح التعفن الغريبة.
مع كل خطوة، شعرت حواسه بالضيق، وكان صوته الداخلي يصرخ: "ابتعد! هذا المكان مسموم!"، لكنه تابع، مدفوعًا بشيء أعمق: إحساس بالواجب، ربما لمعرفة ما حدث، وربما اختبار حدوده.
بين الجثث، لاحظ حركة خفية: ذباب أسود كبير يرفرف، يهاجم كل أجزاء اللحم المكشوف، ويضع بيضه في شقوق الجلد المتعفن. بليك شعر بالاشمئزاز والغثيان في الوقت ذاته، لكن تعوده على مواجهة الوحوش السابقة منح جسده القدرة على التحمل.
المشهد أصبح أكثر رعبًا عندما لاحظ أن بعض الجثث تتحرك بطريقة خفيفة، ليست كأشباح، بل كأجساد ملوثة بالبكتيريا والطفيليات. أصوات طقطقة عظام متحللة وأمعاء مشدودة تتحرك على الأرض جعلت المكان حيًا بطريقة مروعة، وكأن الموت هنا ليس مجرد حدث، بل كيان نشط.
مرت بليك بجانب جثة لرجل يبدو أنه كان في العشرينات، جلده متقرح ومتقشر، عيونه مجوفة، ومع كل خطوة كان يطلق فقاعات سوداء من فمه المفسخ. فجأة، انحنى بليك بعيدًا عن رائحة قوية أشد مرارة من كل ما مر به، رائحة تشير إلى تحلل داخلي سريع، ربما نتيجة مرض قاتل أو جرثومة غريبة.
أثناء المشي، لاحظ آثار أقدام صغيرة، ربما لطفل، تقود بين الجثث. أثارت هذه العلامات إحساسًا غريبًا في قلبه: هل هناك من نجا من هذا الرعب؟ أم أن الروح التي كانت هنا لم تختفِ بعد؟ مع كل خطوة، أصبح وعيه بالعدوى أكثر حدة؛ أصابعه بدأت تخدر، وصداع خفيف بدأ ينبثق من خلف عينيه، تحذير صامت من أن الجو محمل بالبكتيريا المميتة.
ثم توقف بليك فجأة عند بقايا ما بدا أنها تجربة فاشلة: جثث مختلطة ببعضها، على شكل هرمي، الرأس فوق الرأس، مع أنابيب صدئة تدخل إلى أجسادها، مملوءة بسوائل غريبة خضراء وحمراء. كان واضحًا أن هذه الأجساد لم تمت طبيعيًا، بل كانت هدفًا لتجارب غامضة أدت إلى موت بطيء ومؤلم، ثم تحلل سريع، وإطلاق الأوبئة في هذا الوادي.
بليك شعر بدوار شديد، لكنه حاول السيطرة على نفسه، يستند إلى سيفه وإرادته. كل شيء هنا يُذكّره بأن الموت ليس مجرد نهاية، بل عالم مليء بالعدوى، بالعذاب، وبالدراما الحقيقية التي عاشها البشر في هذه الغابة.
وسط هذا الممر، وقف بليك لحظة طويلة، يحاول استيعاب ما يراه، يلمس إحدى الجثث بعصا خشبية بعناية، فيشعر بملمس الجلد الرطب المتعفن، والبرد المخيف الذي ينبعث من العظام، وكأن الجثث نفسها تتحدث بصمت عن عذابها الطويل.
وعندما رفع بليك نظره، رأى في نهاية الممر ظلالًا تتحرك ببطء، كأن شيئًا أكبر وأفظع ينتظره وراء الجثث، شيء ليس مجرد جسد متحلل، بل كائن حي أو طفيلي، يختبئ بين الموتى، يراقبه، مستعدًا لاختبار إرادته وقدرته على النجاة.
بعد دقائق من الصمت المطبق في الممر، بدأ بليك يشعر أن المكان لم يعد مجرد مجموعة من الجثث الصامتة، بل كيان حي يراقبه، يتنفس معه، يختبر صبره وإرادته. فجأة، اهتزت الأرض قليلاً تحت قدميه، كأن شيئًا ما يتحرك أسفل طبقات التحلل.
من بين الجثث، خرجت خيوط رفيعة ومائلة إلى الأخضر الداكن، متحركة بشكل متوحش، تتلوى في الهواء، وتدخل في أنابيب جسد الإنسان الميت، كأنها طفيليات ذكية تبحث عن ضحايا جدد. بدأت الخيوط تقترب من بليك ببطء، تحمل معها رائحة تعفن أقوى، مزيج من المواد العضوية المتحللة والسموم البيولوجية.
رفع بليك سيفه متأهبًا، لكنه أدرك بسرعة أن هذه الطفيليات لا تُقتل بسهولة. أي ضربة سريعة كانت تجعلها تتجزأ ثم تتجمع مجددًا، كما لو أن المكان نفسه يمنحها الحياة، ويختبر قوته الحقيقية. الهواء أصبح ثقيلاً، الرطوبة عالية، والضباب الأخضر الكثيف يمنع الرؤية أكثر من متر واحد.
بليك تذكر تدريباته السابقة مع النار والجليد والماء والأرض، وبدأ يركز على تنسيق العناصر. أطلق نفخة نار متوسطة لتجفيف بعض الطفيليات، لكنها انفجرت إلى ملايين الخيوط الصغيرة التي طارت في الهواء، ملوثة يديه وملابسه، مما جعله يسعل بقوة ويشعر بالدوار.
ثم استخدم الجليد لتجميد الأرضية تحت قدميه، مما أبطأ حركة الخيوط قليلاً، لكنه أدرك أنها لم تتوقف. الطفيليات بدأت بالتصاعد للأعلى، محاولة الوصول إلى يديه ووجهه، وحتى أنفاسه لم تعد آمنة؛ الهواء نفسه أصبح ناقلًا للبكتيريا والفيروسات.
بليك شعر بالخوف الحقيقي لأول مرة منذ دخوله هذا الممر. جسده بدأ يرتجف، عرقه يمتزج بالغبار العضوي المتحلل، لكنه رفض الاستسلام. بدأ يركز على الماء، يخلق كراتًا صغيرة من المانا لتطهير الطفيليات عند كل خطوة، لكنه شعر أن قدرته على التحكم بدأت تتراجع، وأن هذه الأجساد المتحللة تمنحه تحديًا أكبر من أي معركة سحرية خاضها من قبل.
خلال محاولة لتجاوز مجموعة كبيرة من الجثث، لاحظ حركة غير عادية: جثة امرأة ممزقة جزئيًا، تنبض بأعضاء متحركة بشكل غير طبيعي، وكأنها تتجدد لحظة بلحظة، محاولة الهجوم على بليك بأسنانها المتحللة وأصابعها الطويلة. تراجع بليك خطوة، ثم استخدم الهجوم المتعدد: النار والجليد والأرض لتدمير التهديد، لكنه شعر بالذنب؛ كل ضربة كانت تسبب مزيدًا من تحلل الجثة وإطلاق روائح وأوبئة جديدة.
بشكل مفاجئ، من داخل الظلام، خرجت كتلة من الطفيليات المجتمعة في شكل أشبه بالوحش الصغير، أسود لامع، عيون حمراء تتوهج، وأطراف متشابكة تبحث عن جسد بليك. لم يكن مجرد تهديد عضوي، بل كيان شبه حي، يستخدم الموت كقوة ودروع للتقليل من تأثير هجماته.
بليك شعر بأن الممر أصبح فخًا حيًا، كل خطوة فيه تزيد من نسبة التعفن والعدوى. كل جزء من جسده يصرخ للهرب، لكنه تذكر تدريباته مع مونو: التحكم، الانسجام، وإرادة البقاء. بدأ بليك باستخدام التعاويذ بطريقة ذكية: الجليد لتجميد الطفيليات في مناطق محددة، النار لحرق الأجزاء المتبقية، والأرض لمنعها من التقدم، بينما الماء يستخدم لابتعاد السموم عن جسده.
في لحظة، أدرك بليك أن هذا الممر ليس مجرد اختبار جسدي، بل اختبار نفسي: هل يمكنه مواجهة الموت والمرض والنزيف والعدوى دون فقدان السيطرة على أعصابه؟ هو لم يكن يقاتل وحشًا واحدًا، بل الطبيعة نفسها، كل شيء هنا متآمر ضده، لكنه شعر لأول مرة بحدة إرادته وقوة عزيمته الحقيقية.
بعد معركة طويلة مع الوحش الطفيلي المتجمع، وصل بليك إلى نقطة مؤقتة من الأمان: ممر شبه خالٍ من الجثث والأطراف المتحركة، لكنه كان مرهقًا للغاية، عرقه يقطر، أنفاسه متقطعة، وجسده مليء بالعدوى والخدوش. ومع كل هذا، شعر بالانتصار؛ لقد نجح في عبور الجزء الأصعب من الممر، مدركًا أن ما زال أمامه الكثير، لكن إرادته لم تُكسر.
دخل بليك إلى قلب الممر، حيث تحول المكان إلى مشهد لا يطاق: جثث ممددة على الأرض والحوائط، بعضها شبه متحلل، وبعضها الآخر يرفع أطرافه ببطء كأنها تحاول الإمساك به. الهواء هنا أثقل من أي وقت مضى، رائحة الموت والدم والتعفن تخنق الرئتين، وتجعل كل نفس مؤلمًا.
بدأت الطفيليات الصغيرة التي قاتلها سابقًا بالالتفاف حوله مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت أقوى وأكثر ذكاءً. استطاعت القفز على جسده والتمدد على يديه وساقيه، تغرس مخالبها الصغيرة في جلده، مسببة حرقة وألمًا حادًا. بليك حاول التخلص منها، لكنه شعر أن كل حركة تجعله يخرج جزءًا من طاقته الداخلية.
وفي لحظة، ارتفع ضباب أخضر كثيف من الأرض، مخفيًا كل شيء في دائرة نصف قطرها مترين حوله. من بين الضباب، بدأت جثث تتحرك بشكل شبه كامل، بعضها يمشي على أطرافه، وبعضها الآخر يزحف على بطونه، والفزع الأكبر كان في عيونها الفارغة: كانت وكأنها تنظر مباشرة إلى روح بليك، تلتهم إرادته.
تقدم بليك بحذر، مستعينًا بالنار لتطهير الجثث القريبة، لكنه سرعان ما أدرك أن النار وحدها لن تنفع: كل جثة متحللة تمتص النار بطريقة غريبة، وكأن الجثث نفسها مصدر قوة للطفيليات المنتشرة. لم يتبق أمامه سوى استخدام التعاويذ بطريقة مركبة، الجمع بين النار والجليد والماء والأرض في دائرة صغيرة حوله، لكنه كان مرهقًا جدًا، كل نفس يستهلك منه قوة كبيرة.
ثم وقع المشهد الأسوأ: جثة رجل، بالكاد تحتوي على لحمه، وقفت أمامه وبدأت تتحدث بصوت أزيز يشبه الهواء المتعفن:
“لن تستطيع النجاة… كل من يدخل هنا يصبح جزءًا منا.”
كانت الجثة تتحرك بطريقة غير طبيعية، تتلوى أطرافها وكأنها مزيج بين الإنسان والطفيليات نفسها، والفزع الذي سببه صوتها جعل بليك يتوقف لثوانٍ، لكنه سرعان ما تذكر تدريباته وإرادته القوية.
استعمل بليك الهجوم المركب: أطلق كرة نار لتسخين الجو وإجبار الطفيليات على التراجع، ثم فجأة خرجت من الأرض خيوط من الطين الممزوج بالدم تعقدت حول قدميه. رفع يديه بسرعة لتجميد الطين، لكن الخيوط كانت سريعة للغاية، وسحبته نحو أسفل، محاولًا ابتلاعه.
وسط هذا الفوضى، بدأ الهواء يمتلئ بالأوبئة: رذاذ غامض يخرج من جسد الجثث، يسبب سعالًا شديدًا، حرقة في الحلق، وحتى اضطراب الرؤية. بليك شعر بأن جسده أصبح كالإسفنجة، يمتص العدوى ويكافح للبقاء على قيد الحياة.
استخدم الماء لتخفيف التلوث حوله، لكنه لم يكن كافيًا. لحظات من الذعر والخوف سيطرت عليه، لكنه تذكر كل ما تعلّمه عن الصبر والتركيز. بدأ في مراقبة أنماط حركة الجثث الطفيلية، واستهدف نقاط ضعفها: الأرجل المكسورة، الأطراف المتحركة ببطء، والفراغ بين الطفيليات المتجمعة.
في معركة شبه يائسة، تمكن بليك من عبور مجموعة الجثث المتحركة، متجنبًا كل الطفيليات والخيالات المتحركة، لكن جسده بدأ ينهار داخليًا: عرق، دم، سموم الأوبئة، كلها مختلطة على جلده، ومع كل خطوة كان يشعر بثقل الموت يلاحقه.
وعند وصوله إلى نهاية المشهد، شعر أن قلبه ينبض بعنف، عينه تدمع من الدخان والأبخرة، لكنه كان حيًا، ناجيًا من قلب الأوبئة والوحوش المتحللة، مدركًا أن ما فعله لم يكن مجرد صراع جسدي، بل صراع الإرادة بين الحياة والموت.
بعد أن نجا بليك بصعوبة من قلب الأوبئة والجثث المتحللة، وصل إلى منطقة أكثر رعبًا وغرابة. هنا الأرض لم تعد مجرد أرض، بل كانت عبارة عن بحيرة من الدم المظلم المختلط بالقيح والمواد المتعفنة، تتلألأ في ضوء خافت أشبه بضوء القمر المكسور. كل خطوة كان يخطوها تغرق قدماه في مزيج لزج، تصدر أصوات اهتزازية وكأن الأرض نفسها تصرخ من الألم.
الجثث هنا لم تعد ساكنة، بل بدأت بالتحرك بشكل شبه واعٍ. بعضهم يرفع أذرعه بشكل بطيء نحو بليك، والآخر يتحرك على أربعة أطراف، ينزلق على سطح البحيرة المخيف كأنها سائل كثيف يسانده. أوبئة فظيعة تتصاعد من البحيرة، أعشاب متعفنة تحمل الطفيليات الصغيرة التي تنتقل بسرعة، والهواء مليء بالرذاذ الأحمر القاتل، الذي يلتصق بالجلد، يحرق العيون، ويجعل كل تنفس صعبًا.
بليك حاول استخدام سحر الماء لتطهير المنطقة من الأوبئة، لكنه اكتشف أن البحيرة نفسها تمتص الماء بسرعة، وكأنها مادة حية تحاول ابتلاعه بالكامل. استخدم النار لتطهير السطح، لكن الأدخنة اختلطت مع الرذاذ الأحمر، مما جعل الرؤية شبه معدومة، وحرقة النيران زادت من ألم جسده.
وسط هذا الكابوس، بدأت الجثث المتحركة تتجمع حوله بشكل دائري، مكونة ما يشبه حائطًا حيًا من الموت. أصوات الأنين والطنين المنبعث من البحيرة كانت تصم الآذان، وكأن الأرض نفسها تئن من كل الجثث التي تموت وتتحلل بلا توقف.
فجأة، ارتفع وسط البحيرة مخلوق ضخم، نصفه جثة بشرية، نصفه الآخر كتلة متحركة من القيح والطفيليات، عينيه ملتهبتان باللون الأصفر، وأسنان حادة كالمشارط. تحرك ببطء لكنه مهيب، وكل خطوة منه تجعل البحيرة تتأرجح ويطفو عليها جثث أخرى إلى السطح.
بليك أدرك أنه إذا لم يتحرك بسرعة، سيصبح جزءًا من هذه الكتلة الحية. بدأ في التركيز، مستخدمًا كل عناصره الأربعة بحذر:
الماء لتشكيل حاجز يبعد الطفيليات عنه.
الجليد لتجميد مسار المخلوق وخلق ممر مؤقت.
الأرض لدفع الجثث التي تحاول محاصرته.
النار لتطهير بعض المساحة وفتح منفذ للهروب.
كانت المعركة تكتيكية أكثر من كونها عنيفة، كل حركة تحتاج دقة متناهية، أي خطأ صغير قد يغرقه في البحيرة الحية. بليك شعر بأن كل جسد حوله لديه إرادة خاصة، وكأنه كل جثة تحاول أن تجذبه إلى الموت، لكن الإرادة الداخلية لبليك كانت أقوى، وكل خطوة يخطوها كانت انتصارًا على الخوف والاشمئزاز والأوبئة المتصاعدة.
بعد دقائق طويلة، بدا أنه وصل إلى حافة البحيرة، لكنه شعر بثقل على جسده وروحه، كأن كل الأوبئة اختزنت داخله، وكل جثة أخذت جزءًا من قوته. جلس على الأرض لبرهة، عيناه دامعتان من التعب والحرقة، لكنه كان حيًا. وكان يعلم أن ما واجهه حتى الآن لم يكن مجرد اختبار جسدي، بل اختبار إرادته الحقيقية: القدرة على البقاء على قيد الحياة وسط الموت والفوضى دون أن ينكسر.
بعد أن نجى بليك بصعوبة من بحيرة الدم الموبوءة، بدأ يشعر بأن الغابة نفسها تتنفس حوله. الهواء أصبح أثقل، يثقل صدره، ويملأ رئتيه برائحة التعفن والمواد الكيميائية القديمة التي اختلطت مع بقايا الجثث.
فجأة، ظهرت حركة في الظلال: وحش غريب، نصفه بشري ونصفه عبارة عن عدوى حية متحركة. جسده البشري مشوه، بشرته متنقطة باللون الرمادي، عظامه بارزة بشكل غير طبيعي، أما النصف الآخر فكان كتلة من القيح والعدوى التي تتحرك كأنها مخلوق مستقل، تتخلل كل فراغ حوله.
عيونه كانتا متوهجتين باللون الأخضر الفسفوري، يحدق ببليك بعقل متوحش، وكأن الوحش يدرك كل نية وكل حركة قبل أن تحدث. صوت تكسير العظام والمواد المتعفنة يتردد مع كل خطوة له، يصنع وقعًا على الأرض كنبض حياة للموت نفسه.
بليك شعر بالذعر، لكنه تذكر تدريباته المكثفة: التحكم في العناصر، الانسجام مع المانا، ومواجهة الأخطار بلا تردد. بدأ باستخدام العناصر الأربعة بحذر شديد:
الماء لمحاولة إبعاد العدوى عن جسده، لكنه اكتشف أن الوحش يمتص الماء، مما يجعل كل محاولة شبه عديمة الجدوى.
الجليد لتثبيت النصف المتحرك من الوحش، لكنه وجد أن العدوى تتكيف مع التجمد بسرعة، فتتحرك أطرافه بشكل بطيء لكنه ثابت.
الأرض لخلق حاجز دفاعي، لكنه أدرك أن الوحش قادر على اختراقه بمزيج العدوى والطاقة الحيوية البشرية.
النار لتطهير العدوى، لكن النار وحدها لم تكن كافية؛ كل مرة يشتعل فيها جزء من الوحش، ينتشر الدخان المسموم، مما يزيد من خطورة الوضع.
مع مرور الوقت، بدأ الوحش يهاجم مباشرة، يركض بسرعة تفوق البشر، ويستخدم أطرافه المصابة لالتقاط بليك ومحاولة جرّه إلى العدوى، كل هجوم يكاد يقترب منه بحذر من أن يُبتلع بالكامل.
خلال المعركة، شعر بليك بالضغط النفسي، الألم الجسدي، والرعب الذي يختلط بالإحباط. لكنه تذكر كل ما تعلمه من مواجهة الجثث والأوبئة: لا يمكن الهروب من الخوف، يجب مواجهته. فبدأ باستخدام استراتيجية الانسجام الكامل: الجمع بين الماء، الجليد، الأرض، والنار معًا في هجوم تكتيكي محكم، يخلق فجوة صغيرة تسمح له بالتحرك بحرية.
لحظة الذروة، شعر الوحش أن قوته تتلاشى، لكنه لم يستسلم، وبدأ يصرخ بصوت بشري مشوه، صوت مختلط بين الألم والغضب، يجعل الغابة كلها تتردد وكأنها تبكي.
بليك، مستجمعًا كل قوته الداخلية، قرر ضرب القلب الحقيقي للوحش: الجزء البشري المتصل بالعدوى. دمج عناصره في هجوم مركز، أصاب قلب الوحش بدقة، واندلعت انفجارات من الماء، النار، الجليد، والأرض معًا، مطهرة العدوى وممزقة الكائن إلى نصفين.
بعد الانفجار، ساد هدوء مخيف، والوحش لم يعد موجودًا، لكن أثر العدوى والجثث المحيطة لا يزال يملأ الغابة، ليذكر بليك أن هذا المكان ليس مجرد اختبار، بل درس قاسي عن الرعب، القوة، والسيطرة على النفس في مواجهة الكوارث الحقيقية.
بليك جلس على الأرض، يتنفس بصعوبة، جسده مغطى بالجروح والحروق، لكنه حياً. وعقله بدأ يستوعب الدرس الكبير: القوة الحقيقية ليست فقط في المهارة أو السحر، بل في الشجاعة لمواجهة أسوأ المخلوقات، حتى لو كانت نصف بشر ونصف موت حي.
الغابة كانت صامتة بعد انفجار الوحش نصف العدوى، لكن الصمت لم يكن راحة. رائحة الموت والعدوى الممتدة بين الأشجار جعلت الهواء ثقيلاً كالمعدن المحترق. الأرض كانت مغطاة بجثث بشرية متحللة، بعضها متعفن بالكامل، والبعض الآخر لا يزال يشبه الإنسان لكنه مشوه، يتلوى كما لو أن الألم نفسه يمتد بعد وفاته.
بليك تقدم بحذر، كل خطوة تصدر صريرًا على العظام المكسورة والأحشاء الملتوية. يديه ترتجف، لكنه رفع سيفه، مستعدًا لأي تهديد مفاجئ. فجأة، تحركت إحدى الجثث بشكل مفاجئ: عينان صفراء تتوهجان من عمق الجمجمة المحطمة، وفم يفتح بصوت صرير كفريسة متعطشة.
كان واضحًا أن العدوى لم تموت، بل تكمن في كل جسد، تنتظر أي فرصة للتسرب، لتدمير ما تبقى من الحياة. بليك استخدم سحر الجليد لتجميد عدة جثث متحركة، لكنه أدرك أن كل مرة يجمد فيها، تنتشر العدوى في الهواء، وتبدأ الجثث الأخرى بالتحرك بشكل أسرع.
تقدم أكثر، وفي قلب الممر المحاط بالظلام، اكتشف ما يشبه ساحة الانفجار الكبرى للجثث: مئات الجثث الممزقة، بعضها عالق في جذوع الأشجار، وأخرى ملقاة في بحيرات صغيرة من الدم المتحلل والماء القذر. أصوات العظام المكسورة، والغازات المتصاعدة من الجثث، جعلت المكان يبدو وكأنه عالم بين الحياة والموت، حيث كل خطوة تهدد بابتلاع روحه.
بليك أغلق عينيه للحظة، واستجمع قوته الداخلية: دمج الماء لتخفيف السموم في الهواء، النار لتطهير العدوى، الجليد لتجميد التحركات المتسارعة، والأرض لإنشاء حواجز من الحجارة المتينة. الحركة كانت دقيقة، كل عنصر يتوازن مع الآخر، وكل هجوم محسوب لتقليل الضرر على نفسه ومنع انتشار العدوى أكثر من اللازم.
وفجأة، بدأ كل جسد يتحرك في موجة جماعية، كما لو أن الغابة نفسها أمرت بالأحياء. هالة سوداء ارتفعت من الأرض، تعكس العدوى المهيمنة على كل جثة، والهواء امتلأ بصيحات الموت الحية، صرخات بشريّة مختلطة بأزيز العضلات الميتة والمواد المتحللة.
بليك ركض وسط الساحة، مستخدمًا الهجوم النهائي المركب: دمج كل عناصره في دائرة مبهرة من الضوء والماء والنار والجليد، موجهًا كل طاقة صوب قلب هذا الوباء الجماعي. انفجار هائل انتشر، والحرارة، البرودة، والصوت اختلطوا بشكل مخيف، أدى إلى تبخر السموم، تجميد الحركات، وحرق العدوى، مع ترك الجثث بلا حياة، متحللة لكن بلا نشاط بعد الآن.
بعد لحظات، ساد صمت مرعب، الغابة تعود إلى سكونها المميت، والهواء الثقيل بدأ يخف تدريجيًا. بليك جلس على الأرض، جسده مغطى بالجروح، ملابسه ممزقة، يديه ترتجف، لكنه شعر لأول مرة بالانتصار الحقيقي: لم يتغلب على وحش واحد، بل على غابة كاملة ملوثة بالأوبئة والجثث المتحركة.
نظر حوله، والدمار يغطي كل زاوية، لكنه شعر بنشوة الانتصار التي لم تكن جسدية فقط، بل روحية: عرف أن قوته لم تعد محدودة فقط بالسحر والسيف، بل بالقدرة على مواجهة أسوأ كوابيسه، والنجاة من أي تهديد يلوح في الظلام.
مع هدوء الغابة بعد المعركة، رفع بليك رأسه، والعيون المتعبة تلمع بالعزم، مدركًا أن ما حدث هو اختبار لم ينجُ منه إلا أقوى نسخة من نفسه، وأن المرحلة القادمة ستكون أكثر شدة، وأنه مستعد لمواجهة أي تهديد جديد، مهما كان مرعبًا وموبوءًا