الضباب الكثيف يغلف الغابة كستار أسود، والأشجار المتهالكة تمتد بفروعها الملتوية وكأنها أصابع تبحث عن شيء حي لتقبض عليه. كان بليك يسير بخطوات حذرة، كل صوت صغير يثير انتباهه، وكل حركة في الظلام ترفع إيقاع قلبه. رغم تدريبه الطويل، شعر أن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، وأن الغابة تتنفس حوله، تراقبه بصمت.
أمسك بليك سيفه بإحكام، وحركاته كانت متأنية، كأنه يراقب نفسه أكثر من مراقبة البيئة المحيطة. فجأة، شعرت الأرض تحت قدميه بالاهتزاز، اهتزاز خفيف في البداية، ثم تصاعد إلى رجفة اهتز معها كل شيء حوله. توقف بليك في مكانه، تنفس ببطء، محاولًا تهدئة أعصابه، لكنه شعر بشيء غريب يزحف في الضباب، شيء لا يمتلك شكلًا واضحًا بعد، لكنه ينبعث منه شعور بالتهديد الخالص.
ثم ظهر الظل. أول لمحة منه كانت مجرد دوامة سوداء، أشبه بسحابة دخان مظلمة تتلوى بين الأشجار، ولكنها كانت حية. بدأت الظلال تتشكل تدريجيًا إلى كيان طويل ومرن، أطرافه تمتد وتتلوى كالسوائل، ورأسه لا يحمل ملامح بشرية، مجرد كتل متغيرة من الظلام. وعندما اقترب، شعر بليك ببرودة تلتصق بجلده، وكأن الظل يمتص حرارة جسده ويزرع خوفًا غامضًا عميقًا في قلبه.
بليك رفع سيفه، وحاول استدعاء المانا، لكن الظل كان أسرع. قبل أن يتمكن من توجيه أي هجوم، اندفعت إحدى أطراف الظل مثل السوط، تصيب جذع شجرة قريبة وتجزئه إلى أشلاء، والرياح الناتجة من الضربة كادت تقذف ببليك أرضًا. شعر لأول مرة أن هذا الكيان ليس مجرد وحش عادي، بل قوة طبيعية متعمدة، واعية، وتهدف لاختباره.
وقف بليك في مكانه، محاولًا قراءة نية الظل. كلما ركز على حركته، كلما شعر بارتباطه بالغابة، وكأن الظل يمتد من قلب الغابة نفسه. أدرك بليك أن هذا القتال لن يكون مجرد مهارة أو قوة، بل اختبارًا لحكمته، رد فعله، وقدرته على التعامل مع خوفه الداخلي.
رفع سيفه ثانيةً، وأطلق موجة من النار الصغيرة تجاه الظل، التي لم تتأثر سوى بانحناء سريعة في الظلام، كأنها تهرب منه وتراقبه. أدرك بليك أن الهجوم المباشر لن يجدي. بدأ يتذكر تدريباته السابقة، دمج العناصر، تحكم المانا، فهم خصمه قبل أن يتحرك.
“الظل… لا يمكن هزيمته بالقوة فقط…” تمتم بليك لنفسه، وابتسم بسخرية مريرة، إدراكًا لحدود قوته. كان عليه أن يكون أكثر صبرًا، أكثر ذكاءً، وأكثر وعيًا بالبيئة المحيطة.
في تلك اللحظة، اقترب الظل أكثر، وامتدت إحدى ذراعيه السوداء لتلامس الأرض، فارتفعت أصوات همسات خافتة، أصوات أشباح تبدو وكأنها تنبع من الضباب نفسه. شعر بليك بقشعريرة تسري في جسده، لكن بدلًا من الرعب، استجمع شجاعته، وبدأ يركز على قلب الغابة، على الطبيعة المحيطة به، على كل شيء يمكن أن يستخدمه ضده.
ثم ألقى نظرة إلى الأعلى: الأشجار كانت تتمايل وكأنها تحذر، الضباب يتقلص ويترك فراغًا حوله، والظل يقترب ببطء، يراقبه بعقل مستقل، كأنه يعرف كل حركة سيف وكل نية.
“حسنًا، دعنا نرى من الأقوى…” قال بليك بصوت منخفض، صامت عن خوفه، متحديًا الظل بعينيه، مع شعور بداخله أن هذه المعركة لن تكون مجرد قتال، بل بداية اختبار حقيقي لرحلته في الغابة الملعونة.
الظل لم ينتظر أكثر من لحظة. فجأة، اندفعت أطرافه السوداء كالسوائل نحو بليك، تتحرك بسرعة لا تصدق، محيطه يلتف حوله كما لو أن الغابة نفسها تتعاون مع الوحش. حاول بليك أن يبتعد، لكن الأرض الموحلة تحت قدميه أعاقت تحركاته، والرياح الباردة المنبعثة من الظل كادت تجمد دماءه.
رفع سيفه محاولًا صد الأطراف، فأطلق موجة من الجليد على الضربات المتلاحقة، لتتشكل حاجزًا مؤقتًا من الثلج البارد يصد الظل مؤقتًا. لكن الظل لم يتوقف، انسابت أطرافه حول الجليد، كأنها مياه تتغلغل بين الشقوق، وبسرعة مذهلة اخترقت الدفاع، ليصيب الأرض بالقرب من قدمي بليك، ويرميه إلى الوراء عدة أمتار.
أمسك بليك بالحجارة والأغصان، وحرك المانا في يده، محاولة خلق هجوم مزدوج من النار والماء، فتشكل له كرة من البخار الساخن تتجه نحو الظل، لكن الكيان الأسود انقسم فجأة إلى عدة شظايا متحركة، تهاجمه من زوايا مختلفة. أدرك بليك أن الظل لا يتصرف ككائن واحد، بل كشبكة واعية من الظلام تتكيف مع كل هجوم.
تنفس بليك بعمق، محاولًا تهدئة قلبه. أدرك فجأة أن المعركة لا يمكن أن تكون عنيفة فحسب، بل يجب أن تكون ذكية. بدأت عيناه تتحرك بسرعة، تلتقط حركات الظل المتكررة، ملاحظًا نمطًا صغيرًا في تحرك أطرافه: كل هجوم سريع يعقبه وقفة قصيرة قبل الهجوم التالي.
استغل بليك هذه الفجوة، وركز كل المانا في سيفه، ممزوجًا بالجليد والنار في آن واحد، ثم قفز نحو الظل، ضاربًاه من الأعلى. اصطدم الهجوم بالكيان الأسود، وارتفعت شرارات من النار والثلج في الهواء، ولكن الظل لم يتفكك بالكامل، بل ابتلع القوة، محدثًا موجة ارتداد أرسلته مرة أخرى إلى الوراء.
لكن هذه المرة، لم ينهزم بليك، بل استغل لحظة الارتداد. قام بسرعة، وركز على الأرض تحت قدميه، مستخدمًا عنصر الأرض لصنع منصة صلبة، وثبت قدميه. ثم جمع كل تركيزه، وأطلق هجومًا تكتيكيًا جديدًا، مزج فيه الماء لتقييد حركة الظل، النار لإضعافه، الجليد لتجميد أطرافه، والأرض لتثبيته.
الظل تصدى للهجوم، لكن حركته أصبحت أبطأ، وظهر تردد في تصرفاته لأول مرة. شعر بليك بزيادة ثقته، مدركًا أن الذكاء والملاحظة هما سلاحاه الأقوى هنا. بدأت يداه ترتجف من إجهاد المانا، لكنه أصر على متابعة الهجوم، مستفيدًا من كل معلومة حصل عليها عن خصمه.
فجأة، حاول الظل الهروب إلى عمق الغابة، كأن الأرض نفسها تريد أن تمتصه. لكن بليك لم يتركه يهرب، وقام بخلق دائرة صغيرة من العناصر الأربعة تحت قدمي الظل، حاصرته مؤقتًا، وأعد نفسه لضربة حاسمة.
وقف بليك، يتنفس بصعوبة، يراقب الظل الذي بدأ يظهر عليه التعب، وابتسم بسخرية. عرف في تلك اللحظة أن هذه المعركة ليست مجرد اختبار للقوة، بل اختبار لعقله وإرادته، وأن النصر لن يكون إلا لمن يفهم خصمه قبل أن يهاجمه.
ثم همس بليك بصوت منخفض:
“حسنًا… لننتهي من هذا.”
الظل حدق به، وكأنه يفهم أن النهاية قريبة، والضباب حولهما ارتفع قليلاً، كأنه يصف المشهد لصالح من سيظل واقفًا في النهاية.
بليك شعر بارتجاف جسده، لكن قلبه صار أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. أمامه، الظل لا يزال يترنح، أطرافه السوداء متكسرة جزئيًا، لكن عيناه الحمراء المتوهجة تحدق فيه بحدة لا تتلاشى. الهواء من حولهما اهتز، وكأن الغابة كلها تتنفس على وقع المعركة.
جمع بليك كل المانا المتبقي في جسده، ملمسها الساخن ينساب عبر يديه حتى يصل إلى سيفه. تذكر كل التدريب، كل مواجهة، كل درس من الوحوش السابقة: ليس القوي من يضرب بعنف، بل من يضرب بذكاء. ألقى نظرة خاطفة على الأرض، لاحظ التراب والرطوبة، موقع الأشجار، وزاوية الرياح… كلها عناصر يمكنه استغلالها.
ارتجف الظل، محاولًا الهروب مرة أخرى، لكن بليك كان أسرع هذه المرة. استخدم عنصر الماء لتكوين حواجز من بخار كثيف، مشوشة الرؤية حول الكيان، ثم دمج النار مع الجليد في سيفه لتشكيل نصل متوهج بلون أزرق محروق، مزيج من الحرارة والبرودة يثقب الظلام.
قفز بليك في الهواء، ووجه الضربة نحو قلب الظل، تلك النقطة التي لاحظها في كل تفاعل للكيان مع الهجمات السابقة. ارتطمت الضربة بالظل، وارتفع صوت احتكاك مزيج النار والجليد مع الظلام، ليتكون انفجار صغير من الطاقة. الجزئية السوداء من الظل بدأت تتفكك إلى دخان أسود متلألئ، لكنه لم ينهار بالكامل، فقط تراجع مؤقتًا.
لكن الظل، كما لو كان كيانًا واعيًا، ارتد بسرعة مذهلة. استخدم أطرافه التي لم تصد بالهجوم للالتفاف حول جذع شجرة عملاقة، وحاول التفافه على بليك من الجانب، كأنه يهاجمه بعقلية صياد خبيرة. بليك شعر بتيار قوي يسحبه للخلف، ووقع على الأرض، لكن لم يكن محبطًا.
استلقى على الأرض لثوانٍ قليلة، مركزًا كل حواسه على حركة الظل. عندها رأى النمط: كل مرة يحاول الظل الهجوم من الخلف، يتأخر في تثبيت مركزه، وكأن الخلايا السوداء بحاجة لحظة لإعادة ترتيب نفسها بعد الضربة. ابتسم بليك، وعرف أن الفرصة قد جاءت.
قفز مرة أخرى، وابتكر حركة جديدة: استغل عنصر الأرض لإنشاء منصة مرتفعة تحت قدميه، ثم أطلق هجومًا دائريًا باستخدام كل العناصر الأربعة، محاطًا بحاجز من البخار والنيران والثلوج، واضعًا الظل في دائرة ضغط لا مفر منها. الصوت كان مروعًا، أزيز الريح مع صرير النار والثلج المختلط، كأن الغابة كلها تصفق للطرفين.
الظل حاول الصمود، أطرافه تتفتت تدريجيًا، لكن لم يظهر أي استسلام. كانت عيناه الحمراء حادة أكثر من أي وقت مضى، تحدق ببليك وكأنها تقول: "لن تنجو بسهولة".
وفي لحظة حاسمة، أطلق بليك صرخة داخلية، وجمع كل تركيزه في نقطة واحدة على سيفه، موجّهًا ضربة نهائية مباشرة نحو مركز الظل، تلك النقطة التي حددها سابقًا. اصطدمت الضربة بالكيان، وارتفعت شرارات ملونة من الطاقة، ليختلط الأبيض بالأسود والرمادي والبرتقالي في انفجار بصري رهيب.
الظل ارتد إلى الخلف، وأخذ يتلاشى تدريجيًا، لكنه لم يختف بالكامل بعد. فقط شعر بليك بثقل كبير يزول من قلبه، وكأن جزءًا من الغابة استعاد توازنه. بينما كان يقف، جسده يرتجف من المجهود، أدرك أن هذه الضربة لم تكن مجرد انتصار جسدي، بل هي درس آخر في فهم الخصم والتفكير الاستراتيجي، وأن الظل، رغم قوته، ليس شيئًا لا يمكن مواجهته بالعقل والإرادة.
بليك تنفس بعمق، متأملًا المكان: الغابة صامتة الآن، لكن الظل لا يزال يختبئ في الزوايا، يراقبه بصمت. ابتسم بليك لنفسه، مدركًا أن المعركة لم تنتهِ، لكنها انتهت بالشكل الذي يثبت قوته الحقيقية، والتي ليست في السيف أو المانا فقط، بل في قلبه وفكره.
الهدوء الذي شعر به بليك لم يدم طويلًا. بينما كان يتنفس بصعوبة ويحاول استعادة توازنه بعد الانفجار الأخير، لاحظ شيئًا غريبًا على أطراف الغابة. حركة خافتة، مثل انعكاس ضبابي، بدأت تتشكل تدريجيًا. لم يكن مجرد ظل واحد، بل ظلان!
الكيان الأول، الظل الذي هزمه مؤخرًا، بدأ يتجمع من جديد، لكنه هذه المرة لم يكن وحده. من عمق الظلام ظهر نسخة ثانية منه، أصغر قليلًا، لكنها أكثر مرونة وسرعة. كانت عيناهما الحمراء تتوهجان في تناسق مخيف، وكأنهما متصلان بروح واحدة، يتشاركان كل إدراك وكل حركة.
بليك شعر بقشعريرة تجتاح جسده، لكن هذه المرة لم يكن الخوف السبب. كان إدراكه لأهمية اللحظة يحركه: هذا ليس مجرد قتال قوة، بل اختبار لذكائه وقراراته تحت الضغط. جمع المانا بسرعة، واستعد لكل الاحتمالات.
حرك الظلان معًا، كأنهما يراقصان الهواء نفسه، كل حركة محسوبة بعناية. الظل الأصلي هجم من الأمام مستخدمًا أطرافه كالمقايضات الحادة، بينما النسخة الثانية التف من الجانبين، محاولًا الالتفاف على بليك وإحاطته.
ابتسم بليك بخفة، مدركًا أن الهجوم المزدوج يتطلب تفكيرًا مضاعفًا. استخدم عنصر الأرض لتثبيت قدميه وخلق حواجز قصيرة، في حين أطلق النار والجليد في حركات متبادلة لإحداث تشويش بين الظلين. الدخان والشرارات حوله خلقت وهمًا للظلال، جعله يختبر ردود أفعال الخصمين.
لكن الظلان لم يكونا بطيئين. تعلما من الهجمات السابقة، وتكيفا بسرعة مع تكتيكاته. كلما استخدم عنصرًا، اكتسبا نقاط ضعف جديدة لمواجهة الهجوم القادم. لحظة التردد كانت تكفي ليخسر بليك السيطرة.
في لحظة حاسمة، قرر بليك المخاطرة. جمع كل عناصره الأربعة في هجوم مركب على شكل دوامة متوهجة، سيفه يشع من الداخل، الهواء حوله مضغوط بفعل قوة المانا. ضربته لم تكن مجرد قوة بل كانت رسالة: "أنا أتحكم، وليس أنت."
الظل الأصلي والنسخة المزدوجة اصطدما بالهجوم، وارتجفا بشكل واضح. الدخان أطبق على الغابة، وكل ما كان حول بليك أصبح رماديًا مشوشًا. لكنه لم يفتح عينيه، مركزًا على الحركات، متوقعًا كل هجوم مضاد.
بعد لحظات، بدأ الظلان بالانحلال تدريجيًا، لكن النسخة الصغيرة لم تختفِ بالكامل، بل ابتعدت بسرعة، مثلما كانت تختبر الأرض وتدرس خصمها. بليك شعر بأن هذه المعركة لم تنته بعد، وأن الظل المزدوج كان مجرد بداية لمرحلة أكثر خطورة.
توقف بليك، جسده منهك، وعرقه يتصبب، لكنه ابتسم لنفسه. لقد أدرك شيئًا مهمًا: لا يكفي أن يكون قويًا، بل يجب أن يكون ذكيًا، متنبئًا، ومستعدًا للتكيف مع أي تكتيك.
في الغابة، اختفت النسخة الصغيرة تدريجيًا بين الأشجار، تاركة وراءها صمتًا مريبًا، وكأنها تقول: "لن تنتهي الرحلة هنا."
بليك جلس على جذع شجرة متصدع، وأخذ نفسًا عميقًا، وهو يدرك أن الظل المزدوج ليس مجرد خصم، بل درس حي على أن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في القوة، بل في القدرة على التحكم بالاستراتيجية، بالصبر، وبقوة الإرادة.
الهدوء الذي أعقب مواجهة الظل المزدوج لم يدم طويلًا. بينما كان بليك يحاول استعادة أنفاسه، شعر بشيء غريب في الغابة حوله. الأشجار، العشب، وحتى الضباب بدأ يتحرك بطريقة غير طبيعية، وكأن الغابة نفسها تتنفس.
ثم رأى ما لم يكن يتوقعه: الظل المزدوج لم يظهر مجددًا أمامه، بل بدأ يتحرك بين الأشجار والأعشاب، يختفي ويعاود الظهور في أماكن متعددة، كأنه يراقب كل خطوة له. لم يهاجمه مباشرة هذه المرة، بل بدأ يلعب بعقله، يحرك المخلوقات الصغيرة والوحوش في الغابة، ويجعلها تتصرف بطريقة هجومية بدون سبب واضح.
بليك شعر بالتوتر يتصاعد، لكنه لم يترك الذعر يتسرب إليه. جمع كل المانا المتبقي لديه، وحرك حواسه، محاولًا فهم نمط الظل وكيف يسيطر على الغابة. كل حركة للمخلوقات كانت متزامنة، متقنة، كما لو أن الظل يعرف بالضبط رد فعله قبل أن يتحرك.
أدرك بليك شيئًا مهمًا: الظل لم يعد مجرد خصم جسدي، بل أصبح خصمًا استراتيجيًا، يستخدم البيئة والوحوش كأدوات لإرهاقه واختبار قدرته على السيطرة. كانت لعبة الظلال تبدأ الآن، والتحدي الحقيقي كان في ذهنه.
قرر بليك مواجهة الموقف بطريقة مختلفة. بدلاً من مهاجمة كل مخلوق يهاجمه، استخدم عنصر الأرض لخلق حواجز ذكية، توجيه المياه لإنشاء مجاري محددة، النار لتحديد مناطق الآمان، والجليد لتجميد الحركات الهجومية عند نقاط معينة. كل عنصر كان يتحرك وفق توقيت محسوب بدقة، محاولًا خلق شبكة دفاعية متكاملة تحميه وتجعله يسبق الظل بخطوة.
الظل لم يتركه يخطو خطوة دون اختبار. فجأة، ظهر من الظل نفسه، مضاعفًا الأوهام: نسخ صغيرة من الظل بدأت بالظهور أمامه، تحاكي حركاته وتحاول التضليل. بليك شعر بأن كل خطوة خاطئة يمكن أن تكون نهايته، لكنه تذكر الدروس السابقة: التركيز، الصبر، والقدرة على التنبؤ بحركات الخصم.
استخدم ذكاءه، وبدأ في تحويل اللعبة ضد الظل نفسه. بدأ بتوجيه الوحوش بطريقة محسوبة، جعل النسخ الصغيرة من الظل تتصادم مع بعضها البعض، وخلق فوضى منظمة حوله. كل خطوة كانت محسوبة، وكل هجوم كان استراتيجية مضادة.
بعد وقت طويل من المناورة والتحرك الذكي، شعر بليك لأول مرة أنه بدأ يتحكم باللعبة، وأن الظل بدأ يظهر علامات الانزعاج. لم يكن الانتصار في القوة هذه المرة، بل في السيطرة على الفوضى، وفي تحويل الخطر إلى أداة لصالحه.
المشهد انتهى ببليك جالس على صخرة مرتفعة، يراقب الغابة المتحركة، والمخلوقات تتوقف تدريجيًا عن الهجوم، وكأن الظل نفسه بدأ يعترف بقدراته. لكنه كان يعرف أن هذا مجرد بداية لمستوى أعلى من التحدي، وأن لعبة الظلال لم تنته بعد.
الغابة هدأت قليلاً بعد لعبة الظلال، لكن بليك شعر ببرودة غريبة تتسلل إلى عظامه. لم يكن الظل بعيدًا، بل كان يراقبه من حوله، يختبئ بين الأشجار، ويعبث بالضباب، يرسل هالة سوداء تشبه يدًا تمتد نحوه.
فجأة، شعر بليك بوخزة في رأسه، وكأن شيئًا يحاول الدخول إلى عقله مباشرة. لم يكن مجرد هجوم جسدي هذه المرة، بل محاولة لاختراق وعيه، السيطرة على تفكيره، زرع الرهبة والارتباك في أعماقه. حاول تحريك جسده، لكنه شعر بأن جسده ثقيل، ذهنه مقيد، وكل فكرة تحاول المقاومة تتحطم قبل أن تنبثق.
الظل لم يظهر أمامه بالكامل بعد، بل كان مجرد ظلال متحركة تتخلل عقله، تهمس بأصوات غير مفهومة، تهز مشاعره: شكوك، خوف، ذكريات مؤلمة. بليك أدرك أنه إذا لم يقاوم الآن، فقد يفقد السيطرة على ذاته بأكملها.
جلس بليك على الأرض، أغمض عينيه، وحاول أن يركز على قلبه. بدأ يتذكر كل ما مر به: الوحوش، الرؤى، القندس الصديق، وكل مرة تغلب فيها على الظلام بذكائه وإرادته. شيئًا فشيئًا، بدأ شعور الثقة يعود إليه، وبدأ يميز بين الصوت الداخلي المزيف والواقع.
ثم استخدم تعويذته الخاصة بالتحكم بالعقل، مستعينًا بالمانا لخلق درع داخلي حول وعيه، حاجز يحمي ذاكرته ونفسه من اقتحام الظل. كانت أصوات الظل تتلاشى تدريجيًا، والضغط في رأسه يبدأ بالانخفاض، لكنه شعر بأن الظل لم يستسلم بعد، وأنه يراقبه من الداخل والخارج في الوقت نفسه.
بليك فتح عينيه، وتذكر القندس الصغير الذي علمه درسًا مهمًا: أحيانًا القوة الحقيقية ليست في الهجوم المباشر، بل في التكيف والصبر. بدأ بتحويل مقاومته إلى هجوم عكسي، أرسل وعيه كالوميض إلى الظل، يضغط عليه بطريقة تكشف نقاط ضعفه، يربكه، ويجعل النسخ التي يرسلها تتصارع مع بعضها البعض.
بعد دقائق من الصراع النفسي العميق، شعر بليك بأن الظل بدأ يتراجع، يختفي تدريجيًا من عقله، لكنه لم يختف تمامًا. ترك له رسالة صامتة: "هذه لم تنته بعد".
بعد دقائق من الصمت المريب، بدأت الغابة تهتز قليلاً، وكأن الأرض نفسها تتنفس ببطء. لم يعد الظل مختبئًا في زوايا الضباب، بل بدأ يتجمع في شكل غير محدد أمام بليك، كتلة هائلة من الظلام الأسود الداكن، تتلوّن بخطوط رمادية تتلألأ أحيانًا مثل شرر كهربائي.
بليك شعر بهيبة لم يختبرها من قبل؛ الظل لم يكن مجرد فكرة أو وهم، بل كائن حي يخرج إلى العالم الواقعي، يتحرك ببطء لكنه بتهديد ملموس. كل خطوة له تصنع صدى ثقيل، وكأن الغابة كلها تخضع لخطواته.
تقدم الظل فجأة، وتحوّل شكله إلى هيئة بشرية ضخمة، بلا ملامح واضحة سوى عيون حمراء متوهجة. شعور بالبرد والظلام الكلي غمر كل شيء حوله، حتى الهواء بدا أكثر كثافة، يضغط على صدر بليك، يجعله يتنفس بصعوبة.
بليك رفع سيفه وكتاب "شمس المعارف"، مستجمعًا كل المانا الذي تبقى لديه، لكنه شعر بالرهبة؛ كان يعلم أن المعركة القادمة لن تكون مجرد تبادل ضربات. هذه المرة، الظل يمكنه التلاعب بالعقل، إيهام الحواس، وإثارة كل خوف دفين في داخله.
الظل فتح فمه، وخرج منه صوت غامض، وكأنه صدى آلاف الأصوات في آن واحد، يهمس بكل مخاوف بليك، كل شكوكه، كل لحظة ضعف مر بها. الأرض حوله بدأت تتشقق، والغابة نفسها تصرخ بصمت، والأشجار تتحرك بطريقة غير طبيعية وكأنها تذعن لقوة الظل.
بليك أغلق عينيه للحظة، مستحضراً كل ما تعلمه: السيطرة على العقل، دمج العناصر الأربعة، القوة الداخلية التي اكتسبها من مواجهة المخلوقات والمواقف السابقة. بدأ يركز على مركز روحه، ليشكل درعًا طاقيًا حول جسده بالكامل، حاجزًا يحميه من التأثير العقلي للظل.
ثم هجم الظل فجأة، يندفع ككتلة مظلمة، يلتف حوله، يحاول التهامه بالظلام نفسه. بليك استخدم الماء لتقليل كثافة الظلام حوله، النار لتقويض طاقته، الأرض لتثبيت قدمه والجليد لخلق فواصل تمنع الظل من الاقتراب بسرعة.
كل حركة كانت دقيقة، كل لحظة فيها ترقب الموت أو الانتصار. الظل لم يهاجم بشكل مباشر فحسب، بل حاول الدخول في جسده وعقله في الوقت نفسه. بليك شعر بالحرارة والبرودة تتصارع في جسده، كل شيء من حوله يتشوه، والضوء يختفي تدريجيًا.
وفي لحظة حاسمة، دمج بليك كل العناصر معًا، مركّزًا طاقته الداخلية، وأطلق هجومًا مركزًا على قلب الظل، لم يكن مجرد ضربة جسدية، بل هجومًا على كيانه الروحي والعقلي. الظل صرخ، اهتز، وتفتت جزئيًا، تاركًا وراءه بقايا دخانية تتلاشى في الهواء.
لم يمر سوى لحظات قليلة بعد تراجع الظل، لكن الغابة لم تهدأ. الرياح كانت تحمل صرخات الأشجار وكأنها تحذر بليك من القادم. فجأة، ظهرت حركة سريعة من الضباب، وكأن الظل لا يحتاج للمشي. إنه يندفع كما لو كان كتلة من السواد المتراكم، يتحرك أسرع من العين البشرية.
بليك رفع سيفه، محاولًا التحرك إلى موقع آمن، لكن الظل وصل إليه قبل أن يتمكن من اتخاذ أي خطوة. اندفع بشكل خاطف، متجاوزًا كل عناصر الحماية التي وضعها بليك. الهواء حوله تجمد، والبرد القارس اجتاح جسده، لكن الأشد تأثيرًا كان شعور الاختناق النفسي؛ الظل لم يهاجمه فقط جسديًا، بل حاول ابتلاع إرادته.
بليك شعر بعالمه الداخلي يتفكك، كل ذكرياته المخيفة، كل هزائمه السابقة بدأت تتسلل إلى وعيه، محاولاً كسر تركيزه. استحضر صورة أصدقائه، وجوههم، صراحتهم، كل ذكرى تجمعه بهم، ليمنح قلبه قوة لا يمكن للظل المساس بها.
في تلك اللحظة، بدأ الظل في التغير؛ أجزاء من جسده تحولت إلى أشكال هلامية سوداء، تتفرع إلى مجسات صغيرة تحيط ببليك من كل اتجاه، تهدف لشل حركته. لكن بليك استعمل الأرض لإنشاء حواجز صلبة، الماء ليخلق حواجز مرنة، النار لتدمير المجسات، والجليد لشلّ حركتها.
المعركة كانت مذهلة، كل خطوة، كل حركة من الظل، كانت تفرض على بليك التفكير بشكل مبتكر. لم يكن مجرد مواجهة قوة بل مواجهة عقلية أيضًا، حيث يتعين عليه أن يقرأ نوايا الظل قبل أن يتحرك، وأن يتصرف قبل أن ينجح الظل في ابتلاع وعيه.
في لحظة حاسمة، جمع بليك كل العناصر في هجوم متزامن: الأرض تمد جذورًا صلبة، الماء يغمر المجسات، النار تحرق الظلال المتفرعة، والجليد يشل حركتها، وفي نفس الوقت يوجه ضربة سيفه مباشرة إلى قلب الظل.
الظل صرخ بصوت مليء بالغضب والكراهية، اهتز حوله الضباب، وغابت الضوضاء فجأة، تاركًا الصمت يخيم على المكان. بليك يقف، متعب، جسده مغطى بالعرق، وعيناه تحدقان في كتلة الظل التي بدأت تتفكك تدريجيًا، لكنها لم تختفِ تمامًا.
بليك شعر بالارتياح، لكنه كان يعلم أن الهجوم الخاطف للظل كان مجرد بداية. الغابة، والظل، وكل ما يحيط به أصبحوا أكثر خطورة. العدو لم يُهزم بعد، واللحظة القادمة ستكون أكثر عنفًا وإبداعًا في القتال.
بعد دقائقٍ طويلة من الصراع، كان بليك يقف في صمت الغابة المهجورة، يتنفس بصعوبة، ويداه لا تزال ترتجفان من تأثير قوة الظل. لكن الظل لم يكن مجرد كتلة مظلمة على الأرض؛ كان كيانًا حيًا، ذكيًا، يلتهم الفراغ حوله ويستغل أي ضعف نفسي للسيطرة.
بليك شعر بشيء جديد يحدث بداخله. الألم، الخوف، كل تلك المشاعر التي حاول الظل استخدامها ضده، تحولت فجأة إلى طاقة نابضة. قلبه بدأ يخفق بشكل أسرع، ليس خوفًا، بل إصرارًا. الطاقة التي استهلكها في الدفاع عن نفسه بدأت تتجمع في جسده، تتحول إلى وهجٍ خافت حول سيفه ويديه.
الظل، مدركًا أن قوته بدأت تتلاشى أمام هذه الإرادة الصلبة، بدأ يهاجمه آخر مرة، مجساته السوداء تنساب بسرعة مذهلة، وكأنها سحابة قاتلة تحاول ابتلاع كل الضوء من حوله.
بليك أغلق عينيه للحظة، واستحضر كل ما مر به في الغابة: الوحوش، الجثث الموبوءة، القندس، الرؤى، وحتى كليب وظهور الوحش الهلامي الأخضر. كل هذه التجارب أصبحت وقودًا، كل لحظة ألم ومواجهة كانت بطاقة إضافية لقوته.
فتح عينيه فجأة، ورفع يده إلى السماء، حيث اجتمع الضوء الداخلي مع عناصره الأربعة: النار، الماء، الأرض، والجليد. اندمجت العناصر في هالة متوهجة من القوة، تتحرك حول جسده مثل دوامة هائلة، تصنع شكلًا شبيهًا بالظل ذاته، لكن متوهجًا ومسيطرًا، قوة بليك المتجسدة في هيئة قتالية.
الظل صرخ، محاولة المقاومة، لكنه شعر بالضغط. بليك لم يهاجمه بسيفه فقط، بل ضربه بإرادته، بوجوده، بكل ما تعلمه خلال الرحلة. تدريجيًا، بدأ الظل يتفتت، كل جزء مظلم يتحلل إلى غبار أسود يتلاشى في الهواء، حتى آخر مجس.
عندما توقف كل شيء، بقيت الغابة صامتة، الضباب أصبح أخف، وأشعة الشمس بدأت تتسرب بين الأشجار المبللة. بليك جلس على الأرض، يتنفس بعمق، متعبًا، لكنه مبتسم. كان يعلم أن الظل لم يختفِ بالكامل؛ ربما سيعود، وربما كانت هناك كائنات أكبر وأكثر خطورة، لكن الآن، شعر بأنه أقوى مما كان عليه، وأن أي تهديد يمكنه مواجهته بالعزيمة والقوة الداخلية.
وفي لحظة هدوء، ظهر بريق خفيف في عينه اليمنى، تذكير بالوحش الهلامي الأخضر، وبالقندس، وكل الأصدقاء والأعداء الذين علموه درس السيطرة على النفس والروح. بليك نهض ببطء، سيفه يتلألأ تحت ضوء الغابة، وعزم جديد يملأ قلبه: لن يهرب من أي تحدٍ قادم، مهما كانت الظلال عميقة، فهو قد واجه أعماق الظلام وخرج أقوى