تلاشت البوابة الذهبية خلفي، ساحبة معها الضباب الكوني وظلال التسعة أشهر التي قضيتها هناك. وقفت للحظات صامتًا، أشعر بالهواء النقي، لا ثقل المانا الخام ولا رطوبة الغابات. كنت أقف الآن أطول وأكثر نحتًا، لكن العضلات لم تعد مجرد تضخم؛ بل كانت أليافًا متناسقة ومرنة، تدربت على التنفس والانسجام، لا القوة الغاشمة.
في عيني، لم يعد هناك قلق المبتدئ أو خوف الضحية، بل بريق ثابت يشبه الجليد المحترق، يرى ما وراء السطح. كانت ملابسي الجديدة التي صنعتها لي مونو هي أول لمسة حقيقية لي بالعالم الخارجي: سروال أسود فضفاض مصنوع من نسيج خفيف ومقاوم، يمنحني حرية الحركة الكاملة. فوقه، رداء رمادي داكن يغطي جسدي، مزود بدرع خفيف مخفي عند الكتفين والصدر، يبدو بسيطًا لكنه مشبع بحواجز مانا خفية. على جبهتي، كانت "علامة ماكومو الحمراء" تتوهج بنبض خافت، تذكيرًا بالقوة التي اكتسبتها في الظلام.
هذا كله تلاشى حين رأيتهما.
على بعد خطوات قليلة، كنت أرى بابادوك، وبجانبه—يا إلهي، إنهما هنا!
شعرت بسيل من المشاعر يغمرني، أقوى من أي انفجار مانا أو ضربة وحش. كان مزيجًا من الفرح الساذج لطفل عائد لمنزله، مع الامتنان العميق لمقاتل وجد رفاقه أحياء. كل الانتصارات على الشياطين، وكل دمعة سُكبت في الغابة، وكل نوبة خوف من القرين، تجمعت في رغبة واحدة: أن أصرخ.
"أكيهيكو، دووك! لقد عدت!" صرخت بأعلى صوتي، راكضًا نحوهما بذراعي مفتوحتين، ملوحًا بيَدي بعنف.
لكن بينما كنت أقترب، لاحظت شيئًا غريبًا جدًا.
الشخص الذي يقف بجانب بابادوك ليس أكيهيكو. إنه شاب أشقر، غريب تمامًا، يحمل سيفًا في غمده ويبدو هادئًا بشكل يثير الشك. شعور غريب بالاستغراب زحف إلى ذهني. من هذا؟ هل أحضر بابادوك ضيفًا غريبًا في مثل هذه اللحظة؟
وقبل أن أفهم الموقف، حدث ما لم أتوقعه. اختفى بابادوك من مكانه تمامًا.
تجمدت قدماي فجأة. كنت أركض بكل سرعتي، لكن غياب بابادوك المفاجئ ووجود ذلك الغريب أطلق جرس إنذار مرعب. إحساس بالخطر الشديد، إحساس وحش كنت أعيشه في الغابة، انطلق في داخلي.
لم أحتج لأرى مصدر الخطر. سمعت فقط همسة من الريح فوق رأسي، وفي أقل من جزء من الثانية، كان بابادوك، بابتسامته الساحرة المعتادة التي تخفي براعة جن، قد قفز في الهواء بسرعة جنونية لا يمكن لبشري مجرد أن يمتلكها. كان يتقدم نحوي من الأعلى، مستعرضًا قفزة فائقة السرعة، ومظلته السوداء الشهيرة خرجت من كمه واستقرت في يده كأنها امتداد لذراعه.
"ها!" صرخ بابادوك وهو يهبط بقوته الكاملة، مُصوِّبًا المظلة المفتوحة نحو خدي. كان هذا هجومًا تكتيكيًا سريعًا وموجهًا لشل الحركة.
لكنني كنت قد تدربت على تنفس الصوت، واستشعار النوايا، والانسجام المطلق بين العقل والجسد. لم أتحرك شعرة. استقبلت مظلته بابتسامة أعرض، ومددت قبضتي اليمنى، وأمسكت بالمظلة بصلابة لا تُصدق، لتتوقف الحركة تمامًا. لم يتزحزح جسدي قيد أنملة.
"لقد أصبحتَ أقوى أيها الأحمق بابادوك!" قلتها بضحكة خشنة، أشعر بالمتعة في هذه المواجهة القصيرة.
تغيرت ابتسامة بابادوك إلى ابتسامة تحدٍ: "وأنت أصبحت قويًا أيضًا يا الغبي بليك!"
توقفت المظلة في قبضة يدي، متجمدة في الهواء. نظرت إلى بابادوك. هذه المرة، لم تكن عيناه تحملان تعالي الجن الذي يختبر بشريًا ضعيفًا، بل كان ينظر لي بابتسامة واسعة، ابتسامة تحمل تقديرًا عميقًا واحترامًا صامتًا. لقد تجاوزت الاختبار، اختبار اللحظة الأولى للعودة.
سحب مظلته بلطف من قبضتي، ثم مد يده نحوي.
"مرحبًا بعودتك يا سيد كتاب شمس المعارف." كان صوته يحمل نبرة رسمية لم أسمعها منه من قبل.
ابتسمت، شعرت بثقل هذا اللقب الجديد. لقد تغيرت الأمور بيننا. مددت يدي وصافحته، كانت مصافحة قوية وثابتة، تنهي مرحلة التلمذة وتبدأ مرحلة الشراكة.
"نعم، لقد عدت." قلتها وعيني تلمعان بالإصرار.
ولكن فجأة... انكسر الهدوء.
في اللحظة التي التقت فيها أيدينا، شعرت بـانفجار قوة هائلة يتدفق عبر الهواء. لم يكن مجرد سحر؛ كان موجة من شعاع أبيض صاعق وأضواء زرقاء متعرجة، تتبعها تأثيرات نجمية غريبة لم ترها عيني من قبل. كانت الضربة عبارة عن سهم برق مستقيم وفائق السرعة، يمزق الهواء نحوي مباشرةً، ونيته القاتلة لا تخطئها حواسي المدربة.
لم أفكر. ردة الفعل كانت غريزية، لقد أصبحت جزءًا من كياني.
"تنفس البرق!"
تطلب الأمر جزءًا من الثانية. دفعت الهواء المانع من رئتي بقوة، مسمحًا للتيار الهائل من المانا الساخن داخل جسدي بالتراكم عند قدمي. تحركت ساقي بزاوية مستحيلة، تاركًا خلفي رسمًا ضوئيًا خاطفًا في الهواء. لم يكن هذا تنفسًا للماء أو الصوت، بل تقنية تنفس مستمدة من سحر البرق النقي
مر شعاع البرق من أمامي ملامسًا طرف شعري، واصطدم بالشجرة خلفي بانفجار مدوٍ.
اختفى البريق، ووجدت نفسي متصلبًا في وضعية قتالية. نظرت إلى مصدر الهجوم. كان يقف هناك، الشاب الأشقر الغريب الذي ظننت أنه ضيف بابادوك.
موجة من الغضب العميق انطلقت في داخلي. كنت للتو أعود، أبحث عن لحظة سلام مع أصدقائي، فما كان من هذا الأحمق المبتسم إلا أن يهاجمني بنية القتل! قبضت على يدي بقوة، وشعرت بحرارة المانا تندفع عبر أوردتي السحرية. مهما كانت قوتك، سأريك ما تعلمته في الغابة!
كان يرتدي زيًا تقليديًا غريبًا: سترة برتقالية وزرقاء وزخارف صفراء مرسومة بأشكال مثلثة، مع بنطال داكن وحذاء تقليدي. كان شعره الأصفر كثيفًا، يحمل سيفًا في يده اليمنى مغمداً، لكنه كان يبتسم بـتعبير ودود، وكأنه للتو قدم لي كوبًا من الشاي، لا ضربة برق مميتة.
وقفت أمامه. سحبت سيفي من غمده بسرعة خاطفة، وشعرت بقوة التنفس تتجمع في أطرافه. استعديت للمعركة.
"من أنت؟" سألت بصوت خشن، عيني لا تتركان حركته.
توقف الشاب الأشقر عن الابتسام، وبدا مستغربًا حقًا. مال رأسه جانبًا.
"مهلاً بليك، ألم تعرفني؟"
"من حضرتك؟"
أطلق الشاب ضحكة قصيرة، ضحكة مألوفة جدًا، لكن عقلي كان يرفض الربط.
"إنه أنا... أكيهيكو."
توقفت الكلمات في حلقي. نظرت إلى الشاب الأشقر، ثم إلى بابادوك الذي كان يضحك بصوت عالٍ، كأنما نفذ مقلبًا عبقريًا. أكيهيكو؟ هل هذا حقًا أكيهيكو الذي أعرفه؟ تغيرت ملامحه، وتلك القوة البرقية التي كادت تقتلع رأسي...
"أ... بليك؟ هذا أنت حقًا؟"
سمعت صوته الدافئ، لكنه كان يرتجف. تلاشت كل ذكريات الغضب من رأسي. رأيت الدموع تتجمع في عينيه، وعلمت أن الحاسة السادسة لديه كانت تصرخ أمام الهالة المتقلبة والمجنونة لقوتي. لم يستطع عقله أن يوفق بين صورة بليك القديم وهذه الكتلة من المانا والخبرة القتالية التي أمامه.
اندفع نحوي، وترك السيف يرتطم بالأرض، واحتضنني بقوة كادت تكسر عظامي المجددة، لكنها كانت أفضل شعور في العالم. كانت دموعه الدافئة هي أول اعتراف حقيقي بأنني عدت. بعدها بلحظة، انضم إلينا بابادوك، الذي حاول التماسك أولًا، ثم استسلم ليحتضننا نحن الثلاثة.
أكيهيكو (الصوت مخنوق): "ظننت أنك لن تعود أبدًا. لقد... لقد كبرت يا بليك."
مسحت على ظهره. "هيا، لقد مرت شهران فقط، لماذا كل هذه الدراما؟"
بليك: "مرت تسعة أشهر في الغابة، أيها الأحمق. لم تكن مجرد رحلة استجمام. كان عليّ أن أجد نفسي. وأن أجد... القوة."
انسحبت من العناق، ثم لمست كتف أكيهيكو. أغمضت عيني للحظة، سمحت لتعويذة "اللمس الحاسي" أن تتدفق. شعرت بـقلقه العميق عليّ، ثم شعرت بـخوفه الخاص من قوته البرقية المتفجرة التي لا يستطيع كبتها. لكنني شعرت أيضًا بـبداية سيطرته؛ لم تعد القوة تسيطر عليه، بل بدأ هو بامتلاكها.
"أعلم أنك قلق، لكنك أصبحت أقوى أيضًا. والآن، أخبرني عن تحالف العصابات؛ هل أصبحت سيد البرق أخيرًا؟ ولماذا هذا الشكل الجديد؟" سألته مشيرًا إلى شعره الأشقر وملابسه الغريبة.
أطلق أكيهيكو ضحكة، هذه المرة كانت واثقة ومشرقة.
"لقد غيرت تسريحة شعري فحسب!" قالها بمزاح، ثم نظر إلى ملابسه. "أما بالنسبة لهذا اللباس، فهو يستطيع تحمل سرعتي عندما أستعمل تنفس البرق دون أن يتمزق. كان يجب أن أتطور مثلك."
"هذا رائع يا رجل." قلتها وأنا أشعر بفخر عميق له.
في تلك اللحظة، تدخل بابادوك في النقاش. نظر إليّ بذهول حقيقي، ليس مصطنعًا.
"اللعنة، هل عدت من الجحيم؟ اختفيت لأكثر من شهرين، يا فتى! تبدو... مختلفًا جدًا. كأنك وحش في هيئة إنسان."
ابتسمت ابتسامة هادئة ودافئة، مددت ذراعي مجددًا، لكن هذه المرة نحو بابادوك.
"وحش؟ ربما، لكنه وحشك يا بابادوك. اشتقت إليكما."
بعد أن انتهت نوبة الضحك، وابتسامة بابادوك تعكس ارتياحي العميق، لم يعد هناك مجال للتحدي أو القتال. أدركت أن لحظة العودة يجب أن تكون لحظة بشرية قبل كل شيء.
"هيا بنا، أيها الوحش العائد." قال بابادوك، وربت على كتفي بقوة. "لدينا حفل ترحيب صغير أعده لك الأستاذ أونيزوكا. صدقني، لن تحظى بفرصة لارتداء هذا الرداء الأنيق مرة أخرى."
لم يكن هناك وقت لتضييعه، لكننا لم نعد نتحرك بخطوات مقاتلين، بل كأصدقاء يتسابقون للوصول إلى الوجهة. تقدمنا في ضاحية المدينة. أكيهيكو، بملابسه البرقية الغريبة وشعره الأشقر الجديد، سار إلى جانبي، وهو يسرد لي بحماس كيف أمضى الشهرين الماضيين في التدرب على سيفه الجديد.
"لقد أصبح هذا السيف أفضل رفيق لي بعدك، بليك! إنه لا يصرخ في وجهي عندما أكون ضعيفًا." قالها وهو يضحك.
مونو سارت في الخلف، تحافظ على مسافة بينها وبيننا، وعيناها تراقبان كل شيء.
"حافظوا على هدوئكم، أيها الحمقى. هذه المدينة مملة بالفعل، لا تجعلوها أكثر إزعاجًا." قالتها بنبرة باردة كالثلج.
وصلنا إلى المنطقة الصناعية. قادنا بابادوك إلى مستودع مهجور كبير، كان يبدو مهملًا من الخارج، لكن من الداخل، كانت تنبعث منه أصوات صاخبة وضحكات.
"مقر قيادة العصابة الجديد." همس بابادوك وهو يفتح الباب بهدوء. "الآن يطلقون على أنفسهم اسم 'عصابة شيشتورين، لا تسألني لماذا."
عندما دخلنا، شعرت بموجة من الدفء والضوضاء تضربني. لم تكن القاعة مليئة بالسحر أو المانا، بل كانت مليئة بالحياة. كان الجميع هناك:
توراكو الأخت الصغرى لكوغامي كانت جالسة على برميل، تتحدث بحدة لكن بضحكة خفيفة مع توباكينو ذو الشعر الأحمر والقرط الذهبي
هاروكا أخ كوغامي الذي كان سبب إيجاد هذا التحالف، كان يحاول إشعال شواية صدئة بينما يضحك عليه الأستاذ أونيزوكا الذي كان يشرح له بفخر كيف كان يشعل نيران المخيمات في شبابه.
بالإضافة إلى باقي أعضاء العصابة الأساسيين، تومياما، تايشي، إيندو، وتوغامي، كانوا يتجمعون حول طاولة مليئة بالوجبات السريعة.
بمجرد أن رأوني، تحولت الضوضاء إلى هتاف صاخب.
"بليك! يا للروعة، إنه هنا!" صاح الأستاذ أونيزوكا، واندفع نحوي، ورفعني من الأرض بقوة. "لقد عدت أيها الوحش الصغير! لقد ظننت أنك أكلت نفسك من الجوع في هذه الإجازة الطويلة!"
ضحكت بقوة، محررًا نفسي من قبضته الخانقة.
توراكو اقتربت مني ببطء، وابتسامتها كانت أكثر صدقًا هذه المرة. "حسنًا، بليك. لم تتغير كثيرًا، ما عدا أنك تبدو أكثر بلاهة." قالتها وهي تربت على كتفي.
"أهلا بك مجددًا." قال هاروكا بابتسامة خجولة، وقدم لي طبقًا مليئًا باللحم المشوي. "لقد كنا قلقين، لكن الآن لنحتفل."
جلسنا جميعًا، وكانت الأجواء عادية جدًا، كأننا مجموعة من الأصدقاء في حفلة شواء. كان الحديث عن أي شيء إلا القوة الخارقة: عن الأستاذ أونيزوكا ومحاولاته اليائسة لإيجاد حبيبة، وعن تايشي وتوغامي اللذين تحسنت درجاتهما في المدرسة، وعن صراع توراكو مع أشقائها.
"هذه الطفلة، مونو، هي من جعلتنا نستقيم!" صرخ إيندو، وهو يشير إليها بيده. "لقد وضعت خططًا أفضل من أي جنرال جيش."
"صحيح!" وافق الأستاذ أونيزوكا، وهو يضحك بصوت عالٍ. "أيها الرضيع! أنت قائدنا السري الآن! هل يجب أن أشتري لك زجاجة حليب؟"
توقف الضحك فجأة. التفتت مونو إليه، ووجهها تحول إلى اللون الأحمر الداكن. كانت عيناها تتوهجان بغضب صامت ومخيف، لكن هذه المرة، لم تكن هناك تعاويذ أو تهديدات سحرية. كان غضبًا نقيًا، غضب طفلة تحاول أن تكون قائدة عظيمة.
"لا تقل لي 'رضيع' مجددًا، أيها الأحمق ذو الأربعين عامًا!" صرخت مونو، وأخذت مقعدًا صغيرًا من الزاوية، وضربته بقدم الأستاذ أونيزوكا.
"آه! إنه مؤلم!" صرخ الأستاذ أونيزوكا، وهو يمسك قدمه ويضحك بصوت عالٍ، بينما ضحك الجميع.
استمر الحفل لساعة أخرى، كنت أستمتع بكل ثانية منه، أتنفس هواء الصداقة العادي الذي حرمت منه في الغابة. بعد أن هدأت الأمور، وأدركت أن اللحظة المناسبة قد حانت، وضعت طبقي جانباً.
نظرت إلى الجميع بجدية لم تعد تخفيها الابتسامات. كان الوقت قد حان لمواجهة ماضي كان لا يزال يؤرقني.
"حسنًا، لقد عدت، ورأيتكم، وكل شيء رائع. لكن لدي سؤال أخير، وهذا مهم."
صمت الجميع، ونظروا إليّ بانتظار.
"إذًا، أين هي المدعوة نيرو؟" سألتها بحدة.
ابتسم بابادوك، وتأكدت أن لديه الجواب الذي كنت أخشاه.
"إنها في منزلها." أجاب بهدوء، ثم أشار إليّ ببطء. "منزلك."
"إنها في منزلها. منزلك."
كان جواب بابادوك هادئًا، لكنه ضربني بعمق.
لم أنتظر. ودعت العصابة على عجل، وتعهدت لهم بأن اكمل معهم الحفلة لاحقا. لم يتبادل مونو أي كلمات، لكنها أومأت برأسها بعمق، تعرف أن هذه اللحظة أكثر أهمية من أي حفلة.
اندفعت خارج المستودع. تبعني أكيهيكو وبابادوك، وكانت خطواتنا المسرعة تعكس شهرين من القلق بالنسبة لهم، وتسعة أشهر من العزلة بالنسبة لي.
كانت الرحلة في الليل ممزوجة بالشوق والتوتر. كل زاوية شارع، كل ضوء عمود إنارة، كان يذكرني بـعالم البشر العادي الذي تركته خلفي. وأخيرًا، وصلت إلى الشارع المألوف.
وقفنا أمام الباب الأمامي. كانت أضواء المدخل مضاءة، وكأن شخصًا ينتظر عودتي. تغلبت عليّ موجة من الحنين الخالص. تسعة أشهر لم ألمس فيها سريري، لم أشم فيها رائحة قديمة ومألوفة. كنت وحشًا في الغابة، لكنني هنا مجرد بليك.
"هل أنت مستعد يا بليك؟" سألني بابادوك، ونظرته كانت تحمل مزيجًا من الدعم والفضول.
تنفست بعمق. دفعت المانا في جسدي إلى أعمق زاوية في النواة الحمراء، وتخليت عن وضعية المقاتل. أردت أن أكون نفسي فقط.
فتحت الباب ببطء.
توقفت. المنزل لم يكن كما توقعت. بعد مغادرتي، كنت أتخيل فوضى أو غبارًا أو أثرًا للقتالات التي صارت فيه سابقًا. لكنه كان نظيفًا بشكل مبالغ فيه. الأرضيات كانت ممسوحة، وكل شيء في مكانه.
"يا إلهي..." تمتمت بدهشة.
"نعم، إنها مهووسة بالنظافة." قال أكيهيكو وهو يضحك بخفة.
ابتسمت، مشيت ببطء إلى الداخل، أشعر بوزني ينتقل من الأرضية الباردة إلى دفء الخشب المألوف. كانت هذه هي اللحظة. هذه هي العودة الحقيقية. شعرت بالسلام يغمرني، سلام لا يمكن أن يوفره سحر أو سيف.
أخذت خطواتي عبر الردهة، تبعني الصديقان بصمت. كان قلبي يدق بقوة الآن، ليس خوفًا من وحش، بل ترقبًا لوجه رأيته مرة واحدة في ظروف قاسية جدًا.
توقفت عند مدخل غرفة المعيشة.
كانت تجلس على الأريكة، هادئة تمامًا. نيرو.
كانت ترتدي ملابس بسيطة، وشعرها الأسود الداكن القصير ينسدل على كتفيها. كانت منشغلة بـقراءة كتاب؛ لا، لم تكن تقرأ، بل كانت تفرك أطراف صفحاته ببطء، في علامة تدل على قلق عميق.
في اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيها، توقفت حركتها. نظرت إليّ، وعلى وجهها ارتسمت صدمة، تلتها موجة من الراحة لم تستطع إخفاءها.
ابتسامة صغيرة، خجولة جدًا، ظهرت على شفتيها. كانت تنتظرني.
"و أخيرا التقيت بك يا بليك إيثر." همست نيرو، وعادت عينيها إلى الكتاب، تخفي وجهها عني وعن كل المشاعر التي رأيتها للتو.
وقفت أمام نيرو. على الرغم من سيل المشاعر الذي غمرني بلحظة العودة، إلا أن عقلي المدرب لم يستطع التوقف عن التحليل. كنت أتأملها حقًا لأول مرة، أرى تفاصيلها. إنها فتاة جميلة وهزيلة، تبدو شابة جدًا. لكن هذه الفتاة الهزيلة، هزمت بابادوك، الجن . كيف؟
"تعال واجلس."
قالتها بصوت بارد وهادئ، وأشارت إلى الأريكة المقابلة لها.
بقيت متصلبًا في مكاني. كانت كل حواسي تصرخ بـالخطر المجهول. ما هي دوافعها الحقيقية؟ هل تريد الكتاب الذي ختم اللعنة عني؟ هل تريد استغلالي لسبب لا أفهمه؟ كل القوة التي اكتسبتها في الغابة لم تمنعني من التوتر أمام هذا الكيان الغامض.
فجأة، شعرت بيد صغيرة تدفعني برفق على ظهري. كانت يد مونو.
التفت إليها، فوجدتها تبتسم ابتسامة بسيطة وواثقة، تحمل من الصدق ما يكفي لتبديد كل شكوكي.
"لا تقلق، إنه شخص طيب."
كان هذا كل ما أحتاجه. إذا كانت مونو، الروح الاصطناعية التي تعرفني أفضل من نفسي، تشعر بالأمان، فعليّ أن أثق بها. تدفق شعور بالاطمئنان الدافئ إلى أعماقي، وتهدأت نبضات قلبي المسرعة. لقد أصبحت هذه الفتاة الصغيرة هي مرساتي العاطفية في عالم مليء بالجنون.
جلست على الأريكة مقابل نيرو. عيناها الحمراوان كانتا جميلتين، لكنهما كانتا تحملان أيضًا تعبيرًا مرعبًا عن معرفة كونية قديمة ومخيفة.
سألتها مباشرة: "حسنًا، أنا هنا. ماذا تريدين مني؟"
"لنبدأ بالتعريف بأنفسنا أولًا." قالت نيرو، وبدأت تتحدث وكأنها تلقي محاضرة. "أنا نيرو. كنت تعرفني كمجرد طائر صغير تطعمه أحيانًا في الشارع. لكنني كنت متنكرة بهيئة ذلك الطائر، وأراقبك."
تجمدت عضلات وجهي. الطائر الصغير! كنت أتذكر كيف كنت أطعمه بقايا طعامي، وتلك العين التي كانت تنظر إليّ بذكاء غريب. هل كان كل هذا الوقت تحت مراقبتها؟ كان الأمر صادمًا ومحرجًا في آن واحد.
أكملت نيرو، وعيناها مثبتتان على الكتاب: "وأنت، أنت بليك إيثر. في السادسة عشرة من عمرك. أنت الصاحب الجديد لـكتاب شمس المعارف، و... حفيد ثيودور إيثر."
"نعم، هذا أنا." قلتها وأنا أحاول استيعاب صدمة الطائر. "والآن، ما الذي تريدينه، ولماذا كنتِ تراقبينني؟"
تحولت نظرتها إلى الجدية، وتلاشى كل أثر للهدوء المصطنع. "في الواقع، كان يجب أن أراقبك. أنت تعتبر خطرًا قوميًا، يا بليك، بما أنك تحمل كتاب شمس المعارف الذي يمزق الأبعاد. وأيضًا، أنت حفيد ثيودور إيثر."
"ما دخل جدي في الموضوع؟" سألتها، بدأت أشعر بالربط الخفي بين ماضي عائلتي وهذا العالم المليء بالقوى.
"إذًا أنت لا تعرف."
"ماذا؟"
فجأة، نظرت نيرو إلى مونو، نظرة تحمل أمرًا صريحًا.
"مونو، أرجوكِ افتحي البوابة."
"حسنًا." أجابت مونو بهدوء غريب.
كنت مستغربًا، فنظرت خلفي إلى بابادوك وأكيهيكو، اللذان كانا يقفان على مسافة قريبة. كانت نظراتهما تعكس ارتباكًا مماثلًا.
وفي وسط غرفة المعيشة النظيفة، فتحت مونو بوابة أخرى. لم تكن بوابة ذهبية، بل كانت سحر تنقل مكاني نقي وبسيط، يفتح على فراغ مظلم لا نهاية له.
وقفت نيرو. وضعت الكتاب على الطاولة، ثم نظرت إليّ.
"تعال معي."
لم أسألها إلى أين. لقد أصبحت عودتي، ووجودها، مجرد بداية لمرحلة جديدة. نهضت وتبعتها نحو البوابة المظلمة.
لم أتردد. تبِعت نيرو بخطوات ثابتة نحو بوابة النقل المكاني المظلمة التي خلقتها مونو. كانت البوابة تومض وتتذبذب، كأنها تمزق نسيج الواقع ذاته. خلفي، سمعت خطوات أصدقائي. مونو تبعتنا على الفور، ثم بابادوك وأكيهيكو، يتبعون بصمت، يتفهمون أن هذا المسار لا مفر منه.
خرجنا من البوابة إلى... الليل.
لم يكن مكانًا سحريًا أو كونيًا. كانت مجرد مقبرة البلدة.
كان الهواء ثقيلاً وباردًا، يخلو من رطوبة الغابة ولكنه مشبع ببرودة القبور القديمة. كانت الأضواء الوحيدة تأتي من عمود إنارة وحيد عند المدخل، يرمي ظلالًا طويلة ومشوهة على شواهد القبور الحجرية. صمت المكان لم يكن صمتًا طبيعيًا، بل صمتًا يخيم على الأماكن المنسية، وكأن الأرض نفسها تحبس أنفاسها. كنا محاطين بصفوف من الأحجار الباردة، وشعر أكيهيكو أن الحاسة السادسة لديه تعمل بكامل طاقتها، يشعر بأطياف الأرواح التي تهمس في الأركان.
شعرت بالاستغراب يتملكني. لماذا هنا؟
"لماذا نحن في مقبرة البلدة؟" سألت نيرو، وصوتي يتردد خفيفًا في هذا الصمت المخيف.
"لكي أُريك شيئًا ما." قالت نيرو بملامح لا تُقرأ، وبدأت تسير بين القبور، وخطواتها لا تكاد تُسمع.
تبعناها جميعًا، مرت بضع دقائق في الصمت الثقيل، حتى توقفت نيرو أمام قبر معين. نظرت إلى الشاهد الحجري البسيط، ثم قرأت الاسم المحفور عليه.
وفي تلك اللحظة، عرفته تمامًا.
لم يكن قبر أي شخص. كان قبر جدي، ثيودور إيثر.
"لماذا نحن هنا نيرو؟" سألتها، بدأت أشعر بنوع من الغضب الصامت يتجمع في داخلي. كنت أرى صورة جدي كشخص عجوز ولطيف مات وحيدًا.
"لكي أخبرك بـالحقيقة."
"حقيقة ماذا؟" ارتفعت نبرة صوتي قليلًا، تعبت من الألغاز والأسرار حول عائلتي. كان يجب أن تُكشف هذه الأمور منذ زمن طويل. "حقيقة ماذا بحق الجحيم؟!"
"حقيقة جدك ثيودور إيثر."
صدمة قاسية ضربتني. لم تكن صدمة البرق أو المانا؛ بل صدمة هوية. نظرت إليها، ثم إلى القبر، وبدأ عقلي يستمع بكل انتباه، وكذلك الأصدقاء من ورائي.
بدأت نيرو تتحدث، وصوتها الرخيم الهادئ كسر هدوء الليل: "أن جدك، ثيودور إيثر، كان الحامل السابق لكتاب شمس المعارف. كان ملكًا عظيمًا لأحد الممالك الجبارة، مملكة يخاف العوالم منها. كان محاربًا قويًا للغاية ومليئًا بـالغموض."
شعرت بالصدمة تشتت كل ما تعلمته في الغابة. ملك؟ محارب عظيم؟ هذا الرجل الذي كان يروي لي قصصًا قبل النوم؟ تذكرت كيف وجدت الكتاب لأول مرة في منزله، وكيف كنت أتساءل دائمًا لماذا كان يمتلك هذا الكنز المرعب. الآن فهمت.
أكملت نيرو: "لكنه اختفى فجأة من العرش قبل ثلاثة وثلاثين عامًا. البعض يقول إنه مات، والبعض الآخر يقول إنه قُتل، والآخرون يقولون إنه ذهب إلى بُعد آخر. ولا أحد كان يعرف مكانه، إلى أن وجدتك أنت بالصدفة يا بليك إيثر، وعرفت عندها الحقيقة. أن ثيودور إيثر عاش بقية حياته كشخص طبيعي، في هذا المنزل العادي، إلى أن مات."
"إذًا هل اكتشفتِ لماذا هرب من المملكة؟" سأل بابادوك، وتوقفت نبرة السخرية المعتادة في صوته؛ حتى هو تأثر بعظمة هذا الكشف.
"أقرب تفسير ممكن أنه هرب مع زوجته لكي يعيشا حياة هادئة، بعيدًا عن الحروب والاغتيالات السياسية... والتي هي جدتك."
شعر بوخز في قلبي. جدتي. "جدتي... ما أتذكره من جدتي أنني عندما كنت في عمر السابعة كانت تعد أشهى الطعام، لكن فجأة اختفت. لكني لم أهتم كثيرًا، نظرًا لأنني كنت مجرد طفل."
"هكذا إذًا." قالت نيرو، وتنهدت بصوت بالكاد يُسمع. "ولكن لدي معلومة أخرى يجب عليّ إخبارك بها، يا بليك."
"ماذا؟"
نظرت نيرو إلى القبر، ثم نظرت إليّ، وعيناها تحملان القرار النهائي.
"أن جثة ثيودور إيثر ليست في هذا القبر."
توقفت الكلمات في حلقي. نظرت إلى الشاهد الحجري البارد، ثم عدت بنظري إلى نيرو.
"مالذي تقصدين بحق الجحيم؟ لقد رأيت بنفسي جثة جدي تُدفن هنا! كيف هذا؟!" صرخت، وشعرت بالغضب والإحباط ممزوجين بالصدمة. كيف يمكن أن يكون كل ما رأيته مجرد كذبة؟
كانت نيرو هادئة بشكل مخيف. "هناك تفسيرات عديدة. من الممكن أن تكون الجثة قد سُرقت، ربما لأن العالم عرف أن ثيودور إيثر كان عظيمًا جدًا. أو من الممكن، وهذا هو الاحتمال الذي أضعه في الاعتبار... أنه حي."
ساد صمت مطلق. صدمة مريرة ضربت بابادوك وأكيهيكو أيضًا. أمكنني رؤية أكيهيكو يتراجع خطوة.
"بالتأكيد هذا ليس مؤكدًا مئة بالمئة." أكدت نيرو. "لكنه لا يزال احتمالًا."
"لا أصدق ما يحدث." همست، وشعرت بالدوار في هذا المكان المظلم. "جدي كان ملكًا، وجثته ليست في القبر. وجدتي... في مكان ما في هذا العالم."
نظرت إليّ نيرو، وفي عينيها كان هناك تحدٍ صريح. "هذا ما كنت أريد إخبارك به. إذًا، ما الذي سوف تفعله؟"
سكت الجميع. وقفت أنا وأصدقائي الأقوياء الآن أمام قبر جدي في ظلام الغسق. كنت أتنفس هواءً باردًا، تفكيري متوقف تمامًا. لم أكن أعرف ما أفعله. وبدا لي أن أصدقائي أيضًا ينتظرون مني قرارًا لا يملكون هم اتخاذه.
شروق العهد الجديد
وبعد ليل طويل، ظهر شيء مختلف.
فجأة، انبعث شعاع الشمس الأول من الأفق. كان ضوءًا برتقاليًا ذهبيًا جميلًا يمزق السواد، وتدفقت معه رياح باردة ولطيفة هزت شعري على جبهتي. كان منظرًا آسرًا. جمال مطلق يذكرني بأن الحياة تستمر، وأن العالم الذي كنت أقاتل من أجله لا يزال يستحق كل هذا العناء.
بقيت أشاهد الشروق، وأنا أستعرض في ذهني كل ما حدث لي حتى هذه اللحظة.
تذكرت موت جدي، وإيجادي للـكتاب المرعب. التقيت بـبابادوك العظيم وأكيهيكو الشجاع. عشت لعنة الـ13 يومًا، وواجهت وحشية سورا وكوغامي وميتسو. خضت معارك العصابات، ومعركتنا المستحيلة ضد لعنة الكهف. تذكرت خروج مونو من الكتاب، وتدريبها القاسي لي في الصين، وبحيرة الدموع الأبدية. صقلت قوة تنفس الصوت والماء والشمس. واجهت ماكومو وذاك الشيطان الذي تحداني. تعلمت السحر، وتعاويذ شمس المعارف. نجوت لعشرة أيام في غابة الضباب المخفية وعدت لأجد أصدقائي أقوى.
لقد نضجت كثيرًا في هذه الأشهر القليلة. كنت مجرد بائس يائس قبل أن أجد الكتاب. انظروا إليّ الآن!
سرقت الشمس. تنهدت، تنفست بعمق وبقوة، وشعرت بالمانا الحمراء تشتعل في صدري وأنا أنظر إلى الأفق المشتعل.
"لقد مررت بالكثير وتعمقت في هذا العالم، وصرت أقوى، لكني مازلت فقط في بداياتي." قلتها بصوت قوي، يخترق هدوء الصباح. "لم أكتشف سوى واحد بالمئة من أسرار هذا العالم، ومازلت ضعيفًا جدًا مقارنة بأشياء أخرى."
التفت إلى أصدقائي، وكانت عيناي تلمعان بنظرة جديدة.
"أنا لست مميزًا ولست محور الكون، ولكن أريد معرفة المزيد. أريد أن أصبح أقوى، أريد أن أكتشف غموض هذا العالم. أريد أن أعرف ماضي جدي ومن هي جدتي، ومن صنع كتاب شمس المعارف. أريد مساعدة أصدقائي وهزيمة أعدائي. أريد اكتشاف الأشرار ومقابلة الأبطال... ولن يوقفني شيء!"
أصبحت الكلمات تتدفق بقوة الإرادة الصافية: "في البداية ظننت أنني أريد حياة طبيعية مثل أي شخص، لكن من سأكون أنا إذا لم أحصل على الكتاب؟ مجرد شخصية في الخلفية؟ مستحيل! سوف أصنع اسمي وأحفره في التاريخ."
نظرت إلى بابادوك بابتسامة واسعة، ورفعت رأسي. "لذلك، بابادوك!"
أجابني على الفور، وابتسامته تعكس تحديًا متبادلًا: "نعم!"
"أكيهيكو!"
"نعم!"
"مونو!"
"نعم!"
"نيرو!"
نظرت إليّ، وعيناها الحمراوان كانتا تحملان وعدًا خفيًا. "نعم!"
رفعت صوتي، وكانت نبرتي تحمل قوة عهد مقدس. "هل أنتم معي؟"
أجابوا بصوت جماعي، مليء بالحماس الذي سيقودنا إلى الأرك القادم: "بالتأكيد!"
نظرت إلى الأفق مجددًا، وشعري يطير مع الرياح الباردة. كانت عيناي تلمعان بالأمل والوعد.
صرخت بكل قوتي، صوتي يتردد في المقبرة، معلنًا ميلاد بطل جديد:
"استعد أيها العالم... فقد بدأت قصتي!"
[نهاية المجلد الثالث]