منظور اكيهيكو]
الممر كان ضيقًا ورطبًا، رائحة الرطوبة والمعدن القديم ملأت المكان. كل خطوة نصدرها تخلق صدىً قصيرًا، وكأن الحيطان نفسها تراقبنا. شعرت بغرابة المكان، ليس بالخوف، لكن بشعور أن كل زاوية قد تخفي شيئًا لم نره من قبل.
بابادوك كان يسير أمامي بثقة واضحة، يلمس الحيطان بين الحين والآخر ويبتسم بلا سبب واضح. "يبدو أن المكان لطيف، أليس كذلك؟" قال، وكأن هذا المخبأ كله مجرد نزهة بالنسبة له.
ترددت. لم يكن قلقًا من المكان فقط، بل من شعور داخلي: كل خيار هنا له ثمنه.
بعد دقائق من المشي، وصلنا إلى مفترق غير متوقع. ثلاثة ممرات مظلمة، كل واحد منها مضاء بخط ضوء خافت من مصابيح قديمة، والظل يتحرك بشكل غريب على الحيطان، كأن المكان نفسه يتنفس.
توقف بابادوك وقال ببساطة: "حان وقت الاختيار."
قلت بصوت منخفض: "ماذا لو تفرقنا؟ لا نعرف ما ينتظرنا في كل طريق…"
ابتسم بابتسامة خفيفة وقال: "أكيهيكو، هذه ليست رحلة مريحة. سأذهب جهة، وأنت اذهب جهة. كل واحد منا يرى ما يستطيع مواجهته."
ترددت. شعور داخلي حذرني من التفرق، لكن شعرت أيضًا أن هذه الخطوة ضرورية.
بابادوك رفع كتفه وقال: "حظًا سعيدًا!"
قبل أن أرد، اختفى في الممر الأيمن، تاركًا صدى خطواته يتلاشى تدريجيًا.
وقفت وحدي للحظة، أتنفس ببطء، أحاول تهدئة قلبي. الممر الأيسر بدا هادئًا لكنه غريب، وكأن الظلال تتحرك بخفة حوله. شعرت بشيء غريب يدعوني للمضي قدمًا، شعور بأن ما ينتظرني هناك قد يكون أكثر من مجرد جنود أو وحوش… ربما اختبارًا للقدرات أو شيئًا لا يمكنني تخيله.
بدأت خطواتي الأولى بحذر، مستعدًا لاستخدام كل ما تعلمته، وكل مهاراتي… لأن أي خطأ هنا قد يكون مكلفًا.
الممر الضيق انتهى فجأة، ووجدت نفسي أمام مساحة واسعة غير متوقعة. بهو كبير، حديث، مصقول، مضاء بالكامل بألوان بيضاء صارخة تجعل كل شيء يبدو نظيفًا بشكل مبالغ فيه. الأرضية البلاستيكية تعكس الأضواء بشكل حاد، والحوائط المعدنية تلمع وكأنها جديدة.
في الخلفية، هناك شعار أحمر وأبيض كبير: "UMBRELLA CORPORATION"، مع رمز المظلة المألوف الذي تذكرت على الفور. شعور غريب انتابني؛ كنت أعرف هذا الشعار، لكن لا أستطيع تصديق أنني هنا، أمام بوابة شركة أدوية عملاقة مشهورة، والتي غالبًا ما ترتبط بقصص مشبوهة وتجارب سرية.
أمام البهو، كانت هناك موظفة استقبال تجلس خلف مكتب زجاجي، تكتب شيئًا على الكمبيوتر، دون أن ترفع رأسها. كل حركة منها كانت دقيقة ومرتبة، وكأنها جزء من آلية متقنة أكثر من كونها شخصًا حقيقيًا.
حركتي التالية كانت محسوبة؛ لا يمكن أن تراها. تنفست بهدوء، وحركت قدمي بخفة، مبتعدًا عن المنطقة التي يمكن أن تلاحظني. كل خطوة كانت تتطلب تركيزًا كاملًا، حتى أصغر صوت قد يفضح مكاني.
بينما كنت أتسلل، راودتني أفكار متسارعة: "لماذا أنا هنا؟ كيف يرتبط هذا بالشركة العملاقة التي أعرفها؟ وما علاقة هذا بالمخبأ أو كتاب 'شمس المعارف'؟"
سرت بخطوات حذرة، وأنا أراقب كل حركة للموظفة. لم تكن تنظر في أي اتجاه آخر، مما أعطاني فرصة للمرور بأمان. شعرت بشيء من التوتر يتصاعد داخلي، لكنني ركزت على هدفي: التوغل أكثر داخل المكان، ومعرفة ما يحدث هنا، قبل أن يكتشفني أحد.
البهو، بالرغم من تصميمه العصري والنظيف، كان له جو غريب، كأن كل شيء فيه مرتب ومصقول لأغراض محددة، وليس للراحة البشرية. كل شيء هنا يبدو رسميًا جدًا… وصارمًا جدًا، ولا يخلو من إحساس بالرقابة.
تقدمت خطوة أخرى، مبتعدًا عن مكتب الاستقبال، وبدأت أبحث عن ممرات أخرى أو أبواب مخفية قد تقودني إلى العمق. شعوري بالفضول والخطر معًا كان يتشابك؛ أعرف أن أي لحظة يمكن أن تتغير كل شيء، وأن المكان أكبر بكثير مما يبدو من الوهلة
تقدمت خطوة خطوة عبر البهو الواسع، تاركًا ضوء الاستقبال الأبيض خلف ظهري. كلما اقتربت من مركز البهو، شعرت بأن الجو يتغير؛ الألوان البيضاء تحولت تدريجيًا إلى ظلال داكنة، والضوء صار أخف، أكثر هدوءًا، وكأن المكان يضغط عليّ بصمت.
في منتصف البهو، ظهر مكتب استقبال أكبر بكثير، لونه أسود قاتم مع لمسات رمادية غامقة. على جانبيه، كانت هناك أرائك منخفضة بنفس اللون، وطاولات جانبية نظيفة ومرتبة بشكل صارم، لا أثر لأي فوضى أو أثر شخصي. المكان بدا رسميًا، لكن فيه شيء غريب، كأن كل قطعة أثاث وضعت لتشعر الزائر بالسيطرة أو الحذر.
على يسار البهو، لاحظت أبواب مصاعد زجاجية، تتلألأ بضوء خافت يعكس ما حوله. شعرت أن هذه المصاعد قد تقود إلى أعماق المبنى، حيث كل شيء يصبح أكثر سرية وغموضًا.
لكن أكثر ما جذب انتباهي كان السقف. من فوق، كانت تتدلى أجسام غريبة، تشبه الكرات الشائكة أو الأغصان المعقدة، أخضر داكن مع لمسة قاتمة، تشبه النباتات، لكنها بلا حياة واضحة. شكلها أضاف إحساسًا غريبًا بالخطر، وكأن المكان نفسه يراقبني ويختبر خطواتي.
اقتربت من المصعد الزجاجي، وضغطت على الزر بحذر، حتى فتح الباب بصوت هادئ. استعديت لدخول المصعد، لكن فجأة ظهر شخص آخر بدا وكأنه خرج من العدم: فتى قصير أشقر، يبدو في حوالي الخامسة عشرة من عمره، يرتدي زي عامل نظافة بسيط ويحمل دلوًا وممسحة.
ابتسم لي بابتسامة عفوية، بلا أي تردد، ثم دخل المصعد معي. شعرت بارتباك غريب؛ لماذا يكون هنا؟ وكيف دخل المصعد في نفس اللحظة؟ حاولت أن أبدو طبيعيًا، لكن كل شيء بدا غير متوقع.
المصعد بدأ بالصعود ببطء، والزجاج يعكس البهو المظلم وراءنا، بينما أجسام النباتات الشائكة تتلألأ في الضوء الخافت. كل ثانية كانت تمر كأنها ترفع وتيرة التوتر بداخلي. وكنت أفكر بصوت خافت: "هذا المبنى… ليس مجرد شركة. هناك شيء أكبر، شيء أكثر سرية، وأنا على وشك اكتشافه."
[منظور بابادوك]
تحركت في الممر المظلم بلا أي تردد، كل خطوة كانت واثقة وكأنني أعرف كل زاوية مسبقًا، بينما شعور الإثارة يتصاعد بداخلي. لم يكن هناك خوف، لم يكن هناك توتر، فقط فضول غريب يدفعني للأمام.
وصلت إلى غرفة صغيرة، أشبه بغرفة دراسة داخل منزل خشبي محترم، مع خشب داكن على الجدران وسقف منخفض قليلًا. الضوء كان خافتًا، لكن كافٍ لأرى ما فيها بوضوح. كانت هناك رفوف ممتدة على طول الحائط، ممتلئة بالكتب. لم أتمالك نفسي عن التوقف للحظة لأتأمل المحتوى.
أغلب الكتب كانت روايات رعب أو خيال علمي، لكن كل شيء بدا منسجمًا ومترابطًا. وعلى عكس ما توقعت، جميعها من تأليف شخص واحد: فيرتشايلد. الاسم لفت انتباهي، وكأن هذا الكاتب وضع بصمته الخاصة على كل قصة، كل خيال مظلم، كل سرد غريب.
تجولت بين الرفوف، لمست أغلفة الكتب، شممت رائحة الورق القديم، وشعرت بالارتياح الغريب لهذا المكان الهادئ. كل شيء هنا بدا طبيعيًا، مألوفًا بشكل مريح، كأنني في منزل قديم كنت أعرفه منذ زمن بعيد.
ثم لاحظت شيئًا مختلفًا على الجهة اليمنى من الغرفة: باب قوي، متين، مصنوع من خشب صلب، مغلق بإحكام. كان يبدو وكأنه يؤدي إلى شيء مهم، شيء لم يُرَ من قبل. شعرت بفضول أكبر من أي وقت مضى، واقتربت بحذر، أستمع لأي صوت قد ينبعث من وراء الباب.
لم أستطع مقاومة الفضول، ففتحته ببطء. الداخل بدا غامضًا أكثر، لكن شيئًا صغيرًا جذب انتباهي فورًا: كتاب موضوع على الطاولة، عنوانه مكتوب بحروف غريبة وملفتة للنظر: "رجل الثلج البغيص". ابتسمت لنفسي، وأخذته بحذر بين يدي، أتعهد أن أقرأه لاحقًا، ربما يكون مفتاحًا لفهم بعض الأشياء، أو مجرد وسيلة لقتل الوقت.
أغلقت الباب خلفي، شعور غريب بالسرية والخصوصية يملأ المكان. لم يكن هناك تهديد مباشر، لكنه شعور يجعلك تعرف أن شيئًا ما يكمن في الداخل، شيء ربما يغير مجرى الأمور لاحقًا.
دخلت القبو بهدوء، نزلت على الدرجات الخشبية القديمة، وكل خطوة تصدر صريرًا خافتًا، وكأنها تحذر من أي حركة مفاجئة.
أمام عيني امتدت زنزانة سجن قديمة، أبوابها مصنوعة من قضبان حديدية سميكة، الجدران على اليمين خرسانية وعارية، والإضاءة ضعيفة، مصباح واحد يتدلى من السقف وسط الممر، يُلقي بظلاله القاسية على كل شيء. الأرضية خرسانية رمادية، باردة وقاسية تحت قدمي.
تقدمت بحذر، أمعن النظر، وفجأة لاحظت حركة داخل إحدى الزنازين. رجل في منتصف العمر، ذو شعر داكن قصير، يرتدي سترة داكنة وقميصًا تحته، وشاح منقوش، ونظارات كبيرة مستديرة على عينيه. نظر إلي مباشرة، ورفع صوته المتوتر:
"هاي… أنت… أنت!"
توقفت للحظة، محاولة قراءة نبرة صوته، قبل أن أرد بهدوء:
"ماذا؟"
"اخرجني من هنا… أرجوك!"
ابتسمت ابتسامة خفيفة، متحفظًا، وقلت:
"ولماذا قد أفعل هذا؟ لابد أنهم سجنوك لسبب."
الرجل تراجع خطوة للخلف، عينيه تلمعان باليأس:
"أرجوك… من مظهرك يبدو أنك لست من الحراس، لذا أرجوك، أخرجني. أنا بريء."
لم أستطع إلا أن أرفع حاجبًا واحدًا، أشعر بامتزاج بين الفضول والسخرية.
"لن أفعل." قلتها ببرود، لكن لم أنفك أن أراقبه.
"أرجوك، لدي ابنة تنتظرني… لقد سجنوني ظلماً."
وفجأة، لاحظ الرجل الكتاب الذي أحمله، وارتعدت عيناه:
"أيها الفتى… هل هذه رواية رجل الثلج البغيص؟"
"نعم… كيف عرفت؟"
صاح بنبرة خافتة ومتوترة:
"اياك… ثم اياك فتحها."
ارتسمت على وجهي ابتسامة صغيرة من الاستغراب، شعرت برغبة غريبة في اختبار تحذيره.
"من كلامك هذا جعلني أريد فتحها أكثر."
"أرجوك… لا تفتح… إذا فتحتها، ستخاطر بحياتنا جميعًا… إنها خطر كبير."
ضحكت بصوت ساخر:
"يا لك من مهرج، يا صاحب النظرات… أنا دووك العظيم، سوف أخاف من فتح كتاب؟ مستحيل!"
وفي تلك اللحظة، فتحت الكتاب. بدأ يهتز بعنف بين يديّ، والصراخ المذعور للرجل يتصاعد:
"أيها الأحمققققققق!"
رميت الكتاب من يدي على الأرض، وفجأة بدأ الضباب الأبيض الكثيف يخرج من صفحاته. الصمت اختفى، وارتفعت سحابة من الحبر والضباب، امتزجت مع بعضها، مكونة مخلوقًا هائلًا بحجم سقف الغرفة.
وقف أمامي، ضخماً ومرعباً، مغطى بطبقات من الثلج والجليد، وعيناه الصغيرة تلمع بالكراهية والغضب. كان… حرفيًا رجل الثلج البغيض.
ابتلعت نفسي الخوف لبرهة، ثم رفعت كتفي بسخرية:
"أه… حسنًا، لم أكن أتوقع هذا."
المخلوق أدار رأسه ببطء، يتأملني بعينين جامدتين، وكل حركة منه تصدر صوت صرير جليدي. كان واضحًا أن هذا ما أطلقته الرواية، وأن التحدي لم يعد خياليًا بعد
المخلوق وقف صامتًا في منتصف الزنزانة، جسده الهائل مغطى بفراء كثيف أبيض أو رمادي فاتح، يشبه الييتي أو البيغ فوت الأسطوري. كتفه العريض والجزء العلوي من جسمه ضخم، والفراء الطويل يتدلى بشكل كثيف، يعطيه مظهرًا أكثر ضخامة. وجهه مكشوف من الفراء، يظهر جلدًا مجعدًا حول العينين والجبهة، لونه بني فاتح مع لمسة رمادية وردية.
عيناه المخضرتان تتلألأ، تنظر حول المكان بحدة، كأنه يحاول استيعاب ما يحيط به. تعبير وجهه جاد ومركز، لكن هناك لمحة من الاستغراب في طريقة وقوفه، كأنه لم يتوقع هذا الهدوء، هذه الغرفة، أو وجودي أنا هنا.
تحركت خطوة صغيرة إلى الأمام، لم أكن أرغب في استفزازه، لكن الفضول دفعني قليلاً. وفجأة، بحركة خاطفة، هاج المخلوق، صرخ صرخة قوية، أدت إلى اهتزاز الأبواب الحديدية.
لم يكن هناك وقت للتفكير. رفعت مظلتي، تلك الأداة الغريبة التي لم تكن تبدو أكثر من غطاء بسيط، وقطعت بشكل سريع رجل الثلج إلى نصفين.
تدفق الدم، أسود كثيف أشبه بالحبر، متطايرًا في الهواء، يغطي الأرضية الخرسانية. المخلوق توقف فجأة، كأنه مصدوم، ثم أصدر زئيرًا منخفضًا، عيناه المخضرتان تتابعان كل حركة لي.
وقفت أنا، مزدوجًا بين الدهشة والإثارة، أدركت أن هذا ليس مجرد كائن أسطوري أو لعبة، بل حقيقة حية، ضخمة ومرعبة، وخطيرة. كل نفس كنت أتنفسه كان مصحوبًا برهبة، وكل حركة لي كانت محسوبة، لأن أي خطوة خاطئة قد تجعل من الغرفة مقبرة للجميع.
وقفت في منتصف القبو، المظلة ما زالت في يدي، شعور بالراحة يعتريني بعد أن شطرت المخلوق إلى نصفين. الظلام الخافت، والدم الأسود المتناثر على الأرض، كل شيء بدا وكأنه تحت السيطرة… لكن فجأة، صرخ الرجل في الزنزانة بصوت متقطع ومليء بالذعر:
"لا ترتاح… إنه لا يموت هكذا!"
تجمدت للحظة، قلبك يخفق بعنف. "ماذا!؟" صرخت، لم أصدق أن شيء بهذه الضخامة والقوة يمكن أن يعود للحياة بهذه السرعة.
في اللحظة التالية، بدأ الحبر الأسود المتدفق من دم المخلوق يتلألأ ويتجمع ببطء، كما لو كان يحمل حياة جديدة. تدفقه على الأرض، ثم ارتفع على شكل خيوط كثيفة، تتلوى في الهواء، حتى أعادت تكوين جسم المخلوق. كانت ملامح وجهه تتشكل مرة أخرى، عيناه المخضرتان تلمعان بالغضب، والفراء الأبيض يعود ليغطي جسده الضخم. كل حركة من الحبر أشبه بسحر حي يعيد للوحش الحياة.
تقدمت خطوة للخلف، أدركت أن هذا لم يكن مجرد قتال عادي، بل مواجهة مع كائن خارق، مصمم للبقاء مهما حدث.
بدأت المعركة. رفعت المظلة، وبدأت بضربات سريعة، أقطع وأدفع، كل حركة محسوبة بعناية. المخلوق هاجم، أذرعه الهائلة تتحرك كالأشجار العملاقة، لكنني كنت أسرع، أتنقل بين الأعمدة الخرسانية والزنازين، مستخدمًا المظلة لصد ضرباته.
لم يكن الأمر سهلًا، لكنه في البداية بدا أنني أتحكم بالمعركة. كل ضربة من المظلة كانت دقيقة، كل خطوة محسوبة، وكل محاولة للمخلوق كانت تبوء بالفشل أمام ردودي السريعة. شعرت بأنني منتصر، وأن الغرفة ستظل تحت سيطرتي…
لكن فجأة، اندفع الوحش بخطوة هائلة نحو الباب الخلفي للقبو، كأن شيئًا ما أعاده للحياة بقوة أكبر. ارتجت الأرض تحت أقدامه، والأبواب الحديدية اهتزت، والزنازين بدأت تتداعى. الصرخات من الرجل المحبوس كانت تتداخل مع صرير الحديد والخرسانة المتكسرة.
خرج الوحش من الباب كالسيل، دماؤه السوداء والحبر المتطاير يطير في الهواء، محطّمًا كل شيء أمامه. الزنزانة التي كان الرجل محتجزًا فيها تحطمت تمامًا، قضبانها الحديدية انثنت، والأرضية اهتزت بعنف. الرجل نزل إلى الأرض، يصرخ بينما الحطام ينهار حوله، مغطى بالغبار الأسود الذي ارتفع من الخرسانة المكسورة.
المخلوق، الآن أكثر هياجًا، أصدر زئيرًا مدويًا جعل كل أركان القبو تتردد صداه. كان مستعدًا لتدمير أي شيء في طريقه، وأنا واقف في مواجهة هذا العملاق، المظلة في يدي، أدركت أنني لا أقاتل فقط من أجل نفسي، بل من أجل الرجل المحبوس، ولكل ما تبقى من هذا المكان.
بدأت أتحرك بسرعة، محاولًا استخدام كل جزء من المظلة للصد والهجوم معًا، أحاول السيطرة على الهجوم التالي للمخلوق، أتنقل بين الركام، أراقب كل حركة من حركاته. كانت المعركة شرسة، ولكن على الرغم من الغضب والضخامة، شعرت بشيء غريب… الوحش، رغم قوته، يبدو وكأنه يحاول الهروب أكثر من المواجهة.
مع كل ضربة، كل زوبعة من الحبر الأسود، كان يتحرك إلى الأمام، مدمّرًا كل شيء خلفه، من الزنازين، إلى الجدران الخرسانية، حتى الأرضية نفسها بدأت تتشقق تحت وزنه. كل هذا بينما أظل أنا واقفًا، أراقبه، أدرس حركته، أحاول إيجاد نقطة ضعفه قبل أن يختفي في الظلام أو يتسبب بكارثة أكبر.
كان واضحًا أنه لا يمكن قتله بالطرق العادية، وأنه مجرد تذكير حي بأن الكتب التي نحملها، حتى الأدوات البسيطة، يمكن أن تخلق أشياء أكبر بكثير مما نتوقع.
الوحش، بعد دقائق من الهجوم العنيف، بدأ يندفع نحو مخرج القبو، مدمرًا كل شيء في طريقه. تركني خلفه، وكأن حضوره مجرد تذكير بقوة الكتب، لكنه لم يكن هدفي الآن. لم أهتم للغضب أو الفوضى، ركضت سريعًا نحو الرجل الذي كان محاصرًا تحت الركام المتطاير.
سحبت الحطام بعناية، مستفيدًا من قوتي، حتى استطعت إخراجه من تحت الأنقاض. كان يبدو مذهولًا، ينظر حوله بعينين مليئتين بالخوف والدهشة، يتنفس بصعوبة. سألتُه على الفور:
"مالذي حصل بحق الجحيم؟"
وفجأة، قبل أن أتمالك نفسي، صفعني الرجل على وجهي. لم تؤذني الصفعة أبدًا، لكنها فجعتني.
قال بغضب، صوته مملوء بالتهديد والتحذير:
"أيها الولد، ألم أخبرك أن لا تفتح الكتاب؟ انظر ما الذي حصل الآن!"
ابتسمت بطريقة متوترة، حاولت تهدئة الجو:
"حسناً… اعتذر، كان يجب ألا أفتحه."
سكت الرجل قليلًا، ثم بدا وكأنه تذكر شيئًا مهمًا، صوته أصبح أكثر إلحاحًا:
"سريعًا… هناك شخص آخر في الزنزانة. أنقذها بسرعة!"
لم أتردد. توجهت نحو الزنزانة الأخرى، ووسط الحطام والظلام، رأيت فتاة، ممددة على الأرض، مقيدة بسلاسل ثقيلة حول معصميها، فاقدة للوعي. كانت تبدو ضعيفة، لكن يمكنني أن أشعر بوجود قوة كامنة داخلها، مجرد أن تتحرر.
رفعت الفتاة بحذر، حملتها على كتفي، وبدأت أزيل بقايا الركام أمامها حتى استطيع التحرك. الرجل وقف جانبًا، ينظر إلي بدهشة، صوته هادئ لكنه مليء بالإعجاب:
"أنت قوي فعلاً… ما أنت بالضبط؟"
ابتسمت بابتسامة نصف مزحة، نصف تحدٍ:
"إنه شيء لا يخصك. الآن أخبرني، مالذي حصل بحق الجحيم؟"
رد الرجل بطريقة غامضة، كأنه لا يريد كشف كل شيء:
"إنه شيء لا يخصك."
حتى قبل أن أكمل أي اعتراض، بدأ يتحرك مبتعدًا بسرعة نحو مخرج القبو. كانت الفتاة لا تزال فاقدة للوعي، فمسكت بها على كتفي واتبعت الرجل.
خرجنا من القبو، وعيوننا تتفحص الفوضى. الغرفة الخشبية التي دخلناها قبل لحظات كانت الآن في حالة خراب كامل. كل أثاثها كان متحطمًا، رفوف الكتب انقلبت، صفحات متناثرة على الأرض، كما لو أن الوحش نفسه قرر محو كل شيء.
رعب الرجل كان واضحًا على وجهه، نظر حوله بعينين مليئتين بالذعر:
"الكتب… لا… أتمنى ألا يكون أحدها قد فُتح!"
تنفس الصعداء عندما رأى أن أحدًا لم يفتح أي كتاب، وكأنه شكر الله على نجاة ما يمكن أن يكون حدث كارثيًا.
وقفت هناك، أحمل الفتاة على كتفي، أراقب الرجل يحاول ترتيب أفكاره، وأدركت أن ما حدث للتو ليس مجرد فوضى عادية، بل تذكير حي بأن القوة التي تحملها الكتب، مهما كانت صغيرة، يمكن أن تخلق وحوشًا وتهديدات تتجاوز كل توقع.
المشهد خلفنا كان عبارة عن فوضى كاملة، صرير الحديد، أطراف الكتب الممزقة، غبار الخرسانة، لكن أمامنا كان طريق الخروج، ومعه فرصة جديدة لفهم ما حدث، وربما… فرصة لإنقاذ الفتاة واستعادة بعض السيطرة على الفوضى التي أحدثها "رجل الثلج البغيض".
فتحت الفتاة عينيها فجأة بعد لحظات من حملها على كتفي، وكأنها خرجت من عالم مظلم مباشرة إلى الواقع. كانت شابة، شعرها طويل أبيض ينساب على ظهرها، وعيناها الزرقاوان تشعان بلمحة من الصدمة والخوف. نظرتها ضعيفة ومليئة بالألم، وبقايا الدم والجروح على بطنها الأيمن وأسفل صدرها، إلى جانب خدوش وجروح واضحة على ذراعها اليسرى، جعلت من الواضح أنها عانت كثيرًا قبل أن تصل إلى هنا.
استلقت على الأرض الخشبية، تنهض بصعوبة، كل حركة تبدو مؤلمة. كانت ملابسها متسخة وممزقة جزئيًا: قميص وردي مكشكش بأزرار، بربطة عنق داكنة، وشورت أو تنورة قصيرة ممزقة الأطراف.
نظرت إليها وقلت، بصوت متماسك لكن مليء بالدهشة:
"يبدو أنك استيقظتِ… لا أصدق أن فتاة مثلك قد سجنت هكذا."
أجابتني بصوت متعب ورقيق:
"من أنت أيها السيد؟"
ابتسمت ابتسامة نصف مزحة، نصف جديّة:
"أنا دووك، من أنقذك. يجدر بك شكري لاحقا."
حاولت الفتاة التحرك، لكنها تراجعت بسرعة بسبب الألم، تنهدت بصعوبة، ثم سألت بفضول وخوف:
"كيف وصلتتب إلى هنا بحق الجحيم؟"
أجابت بهدوء:
"إنها قصة طويلة."
قال الرجل ، وكأنه تذكّر نفسه بما عايشه:
"كانت زميلتي في الزنزانة… كل يوم تتعامل معي بلطف، تعطني طعامها، تهتم بأن يكون لي نصيب، حتى أنني كنت أتساءل… لماذا فتاة مثلها وصلت إلى هذا السجن؟"
ابتسمت الفتاة، لكنها ابتسامة ضعيفة، مليئة بالحزن، قبل أن يسمع الجميع الرجل يواصل كلامه بصوت هادئ، لكنه يحمل غضبًا مكبوتًا:
"كان الحراس كل يومين يعودون عليها بالضرب والتحرش، وأخذوا دمها أحيانًا، وحتى أنهم مزقوا ملابسها… لكن لحسن الحظ لم يعتدوا عليها جنسيًا."
تنهدت الفتاة بصوت متقطع، محاولة استيعاب الكلمات، في حين تملكني شعور غريب بالغضب على من فعلوا هذا.
قلت للرجل بصوت حاد، أبحث عن إجابات:
"هؤلاء الملاعين… أخبرني من أنت، لماذا كنت في الزنزانة، وما الذي حصل؟ وما هذه الكتب؟"
نظر إلي بعيون مليئة بالحذر، وكأنه يحاول قياس مدى جهلي بالمخاطر:
"أفضل التكتم على الأمر حاليًا…"
قفنا جميعًا للحظة، الصمت يملأ المكان. الفتاة تتألم على الأرض، الرجل يقف أمامي، وعيوننا تراقب الفوضى التي خلفها الوحش، الكتب المرمية على الأرض، والزنزانة المحطمة… كل شيء يشير إلى أن هذا المكان يخفي أسرارًا أكثر مما يمكن لأي شخص أن يتحمل معرفته.
كنت أشعر بثقل المسؤولية على كتفيّ، أحمل الفتاة وأحاول استيعاب ما سمعته، وأدركت أن هذا القبو لم يكن مجرد مكان للسجن، بل ساحة قوى مظلمة قديمة، قوة الكتب… قوة الكتب التي يمكن أن تتحول إلى وحوش، وتهدد حياة كل من يقترب منها.
... كنت أشعر بثقل المسؤولية على كتفيّ، أحمل الفتاة وأحاول استيعاب ما سمعته، وأدركت أن هذا القبو لم يكن مجرد مكان للسجن، بل ساحة قوى مظلمة قديمة، قوة الكتب… قوة الكتب التي يمكن أن تتحول إلى وحوش، وتهدد حياة كل من يقترب منها.
الصمت المُطبِق الذي خيَّم على غرفة الدراسة الخشبية المُدَمَّرة كان أثقل من الركام المتناثر على الأرضية. كانت الفتاة، ذات الشعر الأبيض، بالكاد تستند إلى بقايا طاولة مكسورة، وجهها شاحب من الألم والإرهاق، بينما أنا والرجل ذو النظارات نتبادل النظرات المشحونة، متوقفين عند حافة كارثة المعرفة المغلقة.
لحظة الصمت لم تدم طويلاً. فجأة، التقط الرجل بنظراته شيئاً خلف ظهري. رأيته يَجْمُد في مكانه، يتصلب كل عصب في جسده، وقدماه ترفضان التحرك. كان الرعب هذه المرة صامتاً، لكنه أشد فتكاً من زئير الييتي.
استدرتُ ببطء، ظنًا مني أن "رجل الثلج البغيض" قد عاد من العدم. لكني لم أجد وحشًا جسديًا. وجدتُ شراً أكثر دهاءً يتجلى في قطعة من الورق.
أحد الكتب التي سقطت في خضم الفوضى العارمة، كتاب كان ملقًى على الأرض بالقرب من بقايا المدفأة الخشبية الممزقة، كان مفتوحًا على مصراعيه. عنوانه، المكتوب بحروف قوطية دموية على غلاف جلدي قديم، كان: "لَيْلَةُ الدُّميَا الحَيَّة".
وفي تلك اللحظة، تدفق شعور ملعون وغريب اجتاح المكان. لم يكن مجرد برودة الجليد أو حرارة النار، بل شعور بالازدواجية المَرَضِيَّة والزيف المتعمد. شعرتُ وكأن الهواء نفسه أصبح لزجًا وثقيلًا، وكأنني أقف داخل مسرح مظلم؛ كل ما هو حقيقي قد تراجع، ليحل محله إحساس بالإهانة، وكأننا جميعًا مجرد دمى في مسرحية سخيفة وقاسية.
الأضواء الخافتة المتبقية في الغرفة بدأت تتصرف بجنون مُفاجئ. صارت ترقص وتومض بشكل متقطع ومضطرب، وكأنها تضحك بسخرية على مصيرنا، وتُلقي ظلالًا مُشوَّهة وطويلة على الجدران الممزقة. في الوقت ذاته، انخفضت درجة الحرارة بشكل حاد ومفاجئ، حتى أن الهواء تحول إلى ضباب خفيف يتكثف مع كل نفس نأخذه.
تمتم الرجل، بصوت بالكاد مسموع، مُزمجرًا بالخوف المطلق:
"لقد خرج الأسوأ... اللعنة. إنه لم يكن يجب أن يرى ضوء الشمس أبدًا!"
وفجأة انبعث من خلفنا صوت يبعث على الرعب. صوت غريب، أشبه بصوت دمية بطن بشرية مُحاكة بعناية فائقة، لكنه يحمل نبرة رجل بالغ، صوت يرتفع بمرح مُزَيَّف وشرير:
"مرحبًا أبي، مر وقت طويل، أليس كذلك؟"
استدرتُ لأجده: دمية بطن ذكورية بحجم طفل في السادسة. كان يرتدي سترة فحمية كلاسيكية ذات صفين من الأزرار، وقميصًا أبيض، وربطة عنق حمراء على شكل فراشة، وزهرة حمراء صغيرة على صدر السترة. شعره البني الداكن مصفف للخلف بعناية، وعيناه تنظران للأعلى بنظرة ماكرة ومشاكسة، تعبير وجهه كان ضاحكًا بابتسامة واسعة تخفي وراءها حقداً دفيناً.
نظر الرجل إلى الدمية، ثم قال بغضب وحقد ممزوجين بذعر بارد: "سلابي."
قوس سلابي حاجبيه المرسومين بوقاحة، وتحدث بنبرة متهكمة وساخرة، مليئة بالفكاهة السوداوية والمهينة:
"لم أتوقع أن تخاطبني بهذه الطريقة الغاضبة يا 'أبي'. ألهذه الدرجة أنت مستاء؟ لكني أحب هذا الحماس! ماذا تريد أن أفعل بما أنك استدعيتني؟ لا بد أنك أخرجتني لشيء ممتع. هل انتهت إجازتي السخيفة في العالم الورقي؟ إرهاب السكان؟ تدمير المدينة؟ ربما نشتري الآيس كريم ونُشعل النار في الحي بأكمله؟ هيا بنا نتصرف بحماقة! أنا مشتاق للمسرح الدموي، يا أبي، وأنا أرى أن هذا الرجل يحمل فتاة مثيرة للاهتمام. هل هي هدية لي؟" يشير بعينه الساخرة إليّ.
الرجل بصوت يرتجف، يحاول مجاراته ببطء شديد لإخفاء هدفه: وهي التراجع خطوة بخطوة نحو الكتاب المفتوح: "أوه، سـ... سلابي! ابني الحبيب! دائمًا متحمس! لكن... مسرحيات الدم لم تعد كما كانت. أصبحت سخيفة بعض الشيء، ألا تظن؟ هذا العصر يتطلب لمسة فنية أرقى."
سلابي يضحك ضحكة قوية كصوت كسر الخشب، بينما عينيه الماكرتين تثبتان على حركات الرجل البطيئة: "سخيفة؟ أنا لا أوافقك الرأي يا 'أبي'. أليس الرعب هو الشكل الفني الأبدي؟ تذكر تلك الأيام الذهبية؟ كنا نُقشر وجوه الناس بالبطاطس، ونُبدل رؤوس أطفالهم باليقطين! كنا أسطورة يا أبي، أسطورة! لكن لا بأس، سأجاريك في 'التهذيب'. وبالمناسبة، يا أبي، ملابسك تبدو وكأنها خرجت من حاوية قمامة من عام ١٩٨٠! ألا تخجل؟ حتى أنا، دمية، ملابسي أفضل من ملابسك البائسة!" يتوقف سلابي قليلاً، يميل برأسه، يُضيف بتهكم لاذع: "أو ربما السبب هو أنك تقضي وقتك كله في قبو قذر؟ هذا ليس لائقاً بسمعتنا العائلية! على أي حال، العودة إلى 'التهذيب'. أنا أرى خططك المستقبلية تتجلى في حركاتك؛ أصابعك ترتعش على طرف الكتاب المفتوح. تحاول أن تجعلني أعود إلى زنزانتي الورقية! هذا جُبن يا أبي! جبن وقمة في الإهانة! بعد كل ما فعلناه معًا، تريد أن تتخلص مني لـ 'التهذيب'؟"
بابادوك لا أطيق الانتظار، أحاول تشتيته: "أيها الدمية! إذا كنت ستقوم بمسرحية، فلتفعلها بعيدًا عن الفتاة!"
سلابي يتجاهلني تمامًا، يوجه حديثه للرجل فقط بابتسامة واسعة، يزداد تهكمه: "أوه، اسمع يا أبي! حتى هذا المخلوق القذر يتحدث! هذا مضحك جدًا! أنت لا تعرفني جيداً يا أبي. أنا لا أعود إلا إذا أردتُ أنا ذلك!"
وفجأة انقطع الضوء تمامًا في المنطقة المحيطة بـسلابي. أصبح ظلامًا كثيفًا دامسًا لثوانٍ معدودة، وشعرت برياح باردة تهب.
وإذ فجأة عاد الضوء المتقطع لنجد أن سلابي قد اختفى من مكانه الأول.
ارتفعت أنفاس الرجل إلى أعلى مستوياتها، وقبل أن يصدر أي رد فعل، ظهر سلابي وراء الرجل مباشرة، وهو ممسك بكتاب "ليلة الدميا الحية" المفتوح في يديه الصغيرة. كانت ملامحه المبتسمة قد اختفت تمامًا، وحلت محلها نظرة غضب شيطاني بارد وحقد أصيل.
"أبي! هل فعلاً تريد إعادتي مجددًا إلى الكتاب؟"
انقض عليه الرجل في رد فعل غريزي ويائس. دفع بجسده للأمام بكل قوته، مستخدمًا كلتا يديه للسيطرة على جسد سلابي الصغير والكتاب معًا، محاولاً دفعه إلى عالم الحبر المفتوح وإغلاق البوابة. كان هجومًا يائسًا ووحشيًا، مدفوعًا بالذعر المطلق على وشك أن ينجح.
لكن سلابي لم يكن هناك. تبخر في جزء من الثانية، ورجع إلى مكانه الأول، واقفًا على الأنقاض. وجهه يحمل الآن مزيجًا من الغضب الخالص والإهانة.
"إذًا أنت فعلاً تريد إرجاعي؟ لا أصدق هذا! أبي! بعد كل المسرح وبث الرعب في جميع السكان التي فعلناها في أيام العز! أنت الآن ضدي؟ سوف أُريك. سوف أُري من يتحدى سلابي! وسوف تُغرَق هذه المدينة كاملة في رعبٍ لن تنساه!"
الرجل يستجمع قواه، يصرخ بمرارة: "سلابي! توقف! يمكننا مناقشة هذا!"
سلابي يُصدر صوتًا مزعجًا أشبه بالضحك المتقطع المُدمِّر: "وداعًا أيها الحمار! استمتع بلحظاتك الأخيرة من الهدوء المزعوم!"
وفجأة اختفى سلابي من الغرفة كاملة. لكن هذه المرة اختفت معه كل الكتب التي كانت في الرفوف السليمة والممزقة، وتلك الساقطة على الأرض أيضًا. لم يبقَ خلفه سوى الدمار والأخشاب المتكسرة.
شعر الرجل بصدمة مدمرة. لم يعد يهمه هروب سلابي بقدر اختفاء الكتب. ارتجف جسده، واندفع نحو الرفوف الفارغة، يصرخ بذعر جنوني وكأنه فقد أغلى ما يملك، صوته يعلو فوق صرير الركام: "الكتب! لا! لقد أخذها معه! لقد أطلق العنان لكل شيء! يا إلهي، لقد فتح بوابة جهنم على هذه المدينة!"
وقفتُ أنا، بابادوك، أحمل الفتاة التي بدأت تتألم، أنظر إلى الفوضى والدمار والمكان الخاوي من الكتب، أدركنا أن الفوضى التي أحدثها وحش الجليد كانت مجرد مقدمة ساذجة. لقد أطلق سلابي للتو العنان لـمكتبة كاملة من العفاريت، والوحوش، والدمى الملعونة على مدينة شنغهاي بأكملها. التحدي الحقيقي قد بدأ للتو، وكأنني أملك تذكرة VIP للجحيم.
الرجل، فيرتشايلد، كان في حالة جنون كامل. يده ترتجف فوق بقايا الرفوف، وعيناه تلمعان بدموع يائسة ممزوجة بالصدمة. كان يصرخ بهستيريا على العدم، على المكان الذي اختفت منه مئات الكتب الملعونة: "لقد أخذها معه! لقد أطلق العنان لكل شيء! يا إلهي، لقد فتح بوابة جهنم على هذه المدينة!"
لم يكن هذا وقتًا للمشاهد الدرامية. لقد خرج وحش، ثم خرجت دمية، والآن لدينا مكتبة كاملة من الرعب تسبح حرة في الأفق.
تركت الفتاة الجريحة بلطف على الأرض الخشبية، واندفعت نحو فيرتشايلد. كان يدهش، يتراجع، لكنني كنت أسرع. أطلقت لكمة سريعة وقوية، لكنها محسوبة، صفعت وجهه الجاحظ بضربة خفيفة ومحددة، مثل ركلة توقف سريعة.
جسد الرجل ذي النظارات ارتجف للحظة. لم تؤذِهِ اللكمة جسدياً بقدر ما صدمته عقلياً. توقف عن الصراخ، ونظرت عيناه المليئتان بالذعر إليّ في ارتباك مطلق، كأنه لم يستوعب كيف تجرأت على ضربه. للحظة، نسي سلابي والوحوش، وركز فقط على وجهي.
نظرت إليه ببرود قاتل، وصوتي كان حادًا ومرتفعًا بما يكفي ليخترق الصدمة:
"لا وقت للذعر أيها اللعين! أخبرني الآن وحالًا مالذي يجري! من أنت؟ وما هذا الشر كله؟"
حتى الفتاة الجريحة، إليزابيث، رفعت رأسها رغم ألمها وقالت بصوت ضعيف لكنه يحمل فضولًا حادًا:
"حتى أنا أريد معرفة ما يحصل. يجب أن تتحدث."
استسلم فيرتشايلد. جلَسَ على الأرض الممزقة بهدوء مفاجئ، ويده تمسح مكان اللكمة التي لم تترك أثراً. رفع رأسه، وتنهد تنهيدة عميقة وثقيلة، وقال بصوت خافت:
"أنا... أنا هو من صنعت كل هذه الوحوش. أنا من كتبت كل تلك الروايات."
رمشتُ بعينيّ. "مستحيل!"
"نعم، فـاسمي هو فيرتشايلد، مؤلف هذه الروايات."
في تلك اللحظة، تدفقت موجة من الذكريات في ذهني. كل الكتب التي رأيتها في الرفوف هنا، روايات الرعب والخيال العلمي المظلمة التي ملأت هذه الغرفة... كان اسم المؤلف في جميعها هو فيرتشايلد. هذا الرجل القذر والمذعور الذي صفعني للتو هو الكاتب الأسطوري الذي أطلقت يداه هذا الرعب.
صرختُ عليه بغضب مكتوم: "لماذا!؟ لماذا كتبت هذه الوحوش!؟"
تنهد فيرتشايلد مرة أخرى، وبدأ قصته التي كانت حزينة بقدر ما هي مرعبة:
"قبل ثلاثين عامًا، كنت فتى لطالما تنمروا عليه في المدرسة. كنت أضحوكة الجميع، وتنامى الغل في قلبي للانتقام من الذين سخروا مني وتنمروا عليّ. وفي يوم من الأيام، اشتريت بمدخراتي آلة كتابة قديمة. بدأت أكتب روايات رعب وخيال علمي فيها وحوش ومخلوقات مرعبة. ومع الوقت، اكتشفتُ أن آلة الكتابة سحرية، وأن أي شيء يُكتب عليها يتحقق. فصنعتُ الوحوش لكي يصبحوا أصدقائي وينتقموا من الذين تنمروا عليّ."
تجمدتُ من الذهول. أصدقاء! وحوش!
أكمل الرجل: "خربنا البلدة وأرعبنا السكان. لم يكن هدفي قتل أي أحد، كان هدفي فقط الانتقام عن طريق إخافتهم. لكن عندما كبرتُ، بدأت هذه الوحوش تتمدى أكثر فأكثر. لذا قررتُ أن أُغلق كتبها وأختمها إلى الأبد في صفحاتهم. ومنذ ذلك الوقت، صرتُ كاتبًا مشهورًا بروايات الرعب الرائعة التي أكتبها... التي أصبحت مُجرّد قصص الآن."
"لكن في يوم من الأيام، أتت امرأة مليارديرة تُدعى سيليا هارت وطلبت مني أن أبيع لها جميع الكتب السحرية التي كتبتها مقابل مبلغ مالي ضخم. لكني رفضت لأن هذه الكتب خطيرة جدًا، وتسبب الكوارث. فقررت سجني هنا وأخذ الكتب غصبًا عني. وهذا ما أوصلني إلى هنا، سجينًا ومفصولًا عن إبداعاتي."
تراكمت كل قطع الأحجية في عقلي. "لقد فهمت. والآن تلك الدمية اللعينة، سلابي، أخذت كل الكتب السحرية... وسوف تخرج جميع الوحوش!"
"نعم، لذا أرجوك ساعدني يا فتى. إن لم نوقفه، فسوف يموت الكثيرون. سلابي هو أسوأهم. إنه يمتلك الآن قوة لم يكن يحلم بها."
"كيف يمكننا إيقاف تلك الوحوش من الأساس؟ فهي لا تموت!"
"يجب فقط إعادتها إلى كتبها وإغلاقها، لكن الأمر سيكون صعبًا. سلابي دمية سادية تستمتع بتعذيب البشر، وهي ذكية للغاية. لا أدري أين أو متى سوف يبدأ الهجوم، لكني أعلم أن هذا المخبأ لن يكون مكانه."
نظرتُ إلى إليزابيث، التي كانت تستمع بهدوء غريب، وعيناها الزرقاوان تلمعان بالريبة والقلق.
"وأنتِ؟ لماذا كنتِ في السجن؟"
"أنا؟"
"نعم أنتِ."
"حسنًا، أنا أصلاً لا أعرف لماذا أنا هنا. لقد اختطفوني ثم حبسوني هنا، وكل يومين كانوا يأتون لأخذ دمي. أظن أن هدفهم الأساسي مني هو دمي."
"دمك... لماذا؟"
"لا أدري. لم يخبرني أحد بشيء."
تنهدتُ وأنا أرى هؤلاء الضعفاء أمامي. أدركتُ أنني تورطت في شيء أكبر من مجرد مطاردة.
"حسنًا، سأساعدكم. عليّ فقط العثور على أصدقائي، وسوف يساعدوننا. بليك، مونو، نيرو... سنحتاج كل ما لدينا."
أشرق وجه فيرتشايلد بامتنان جارف، بينما ابتسمت إليزابيث ابتسامة ضعيفة لكنها صادقة.
قالت الفتاة بصوتها الرقيق:
"اسمي إليزابيث."
نظرتُ إليها، وابتسمت ابتسامتي المعتادة:
"اسمي دووك."
ثم قال الرجل وهو ينهض ببطء:
"اسمي فيرتشايلد."
هذا يكفي من البكاء والدراما! حان وقت العمل