كنا قد وصلنا.

أمامنا ارتفع المبنى، كتلة من الخرسانة الباردة تطلّ على الشارع كأنها تراقبه منذ قرون. لم يكن مبنى سكنيًا عاديًا—بل كان كأن الزمن توقف فيه فجأة، ثم نُسي. شرفاته محطمة، وستائره الممزقة ترفرف من نوافذ مفتوحة بلا حياة. جدرانه بلون رمادي متسخ، كأن المطر والغبار اتفقا على نسيانه. لا صوت هنا. لا حركة. حتى الهواء بدا مُعلّقًا، ثقيلًا كالرطوبة التي تعلق على الجلد ولا تتركه.

وقفنا عند المدخل الحديدي الصدئ، نصفه مفتوح والنصف الآخر مغلق كأنه يتردّد في أن يسمح لنا بالدخول.

دخلت أولًا. قدماي لامستا البلاط الداخلي البارد، وصوت الخطوة الواحدة تضاعف كأن ألف نسخة مني تتابعني في الظل. بابادوك تبعني... لكنه توقف فجأة عند الحافة. لم يخطُ خطوة واحدة إلى الداخل.

قال بصوته الأجشّ:

— هذا المكان...

استدرت إليه فورًا. عيناه كانتا تحدقان إلى الأعلى، كأنه يرى شيئًا لا أستطيع أنا رؤيته. لكنه لم يكن بحاجة لشرح أي شيء. شعرت به. الشعور ذاته الذي خنقني في منزلي منذ أيام... الحاجز. الطاقة التي لا تُرى، لكنّها تحجب كل شيء.

الكتاب هنا.

همس بابادوك دون أن ينظر لي:

— أيها الفتى... سأبحث عن طريقٍ آخر للدخول. إلى ذلك الحين، اذهب إلى المستودعات الخلفية. هناك طاقة تنبعث من إحداها.

أومأت برأسي:

— حسن.

استدرت لأركض نحو الجهة الخلفية، لكن صوته ناداني من جديد، بصوت خافت هذه المرة:

— يا فتى... احذر.

توقفت لحظة. نظرت إليه،

بابادوك؟ يحذرني؟ هذه جديدة.

ركضت دون أن أجيب، فقط ابتسمت ساخرًا:

— من الغريب أن أسمع هذا الكلام من بابادوك... يا رجل، الحياة دوّارة.

ركضت عبر الأزقة الخلفية، متفاديًا الحطام والأعشاب اليابسة التي نمت وسط التشققات الإسفلتية. الحي بأكمله كان ميتًا. لا نوافذ مضيئة، لا سيارات، لا كلاب تنبح. كأن العالم نفسه قرر تجاهل هذا المكان.

ركبت الموعد المؤدي الي المستودع

تقدّمت ببطء. الموعد في يدي بدأ ينبض بخفة، كأن شيئًا بداخله يحاول تحذيري أو تحفيزي، لا أدري. وضعت يدي على الباب المعدني ودفعته.

صرير المعدن كان عاليًا، مزعجًا، وكأنه يئن من الألم. وما إن خطوت إلى الداخل، حتى...

توقفت.

— ما... هذا؟

أمام عيني كان مشهد لا يمكن لعقل أن يبتلعه بسهولة.

المستودع من الداخل بدا وكأنه مسخٌ ولد من كابوس مهرّج مجنون. الأضواء كانت خافتة، تتلوّن بالوردي والأزرق الباهت من مصابيح نيون مهترئة تتدلّى من السقف. الجدران كانت مغطاة برسومات مهرجين، مبتسمين، ضاحكين، فاغري الأفواه... لكن ابتساماتهم لم تكن مريحة، بل مليئة بأسنان طويلة وغير طبيعية. وكأنهم يضحكون على مأساة تخصني وحدي.

في كل زاوية، كانت هناك دمى مهرجين بأحجام مختلفة، بعضها بالحجم الطبيعي، بعضها صغيرة، لكنها كلها كانت موجّهة نحوي. أعينها الزجاجية تتبعني بلا رمش. بعضها كان يحمل بالونات مهترئة، والبعض الآخر كان يلوّح بيدٍ جامدة، وكأنها تقول: "مرحبًا بك... في الجحيم."

أرضية المكان كانت مغطاة ببساط دائري يشبه حلبة سيرك قديمة، تتخلله بقع داكنة. حاولت إقناع نفسي أنها مجرد طلاء... لكنها لم تكن كذلك.

وبين كل هذا الجنون، وسط الكوابيس المجسدة، كان هناك شيء واحد فقط ثابت... ضوء أحمر خافت يصدر من صندوق موسيقى قديم في الزاوية.

كنت أعرف أن الكتاب في مكانٍ قريب. وشعرت فجأة أنني لست وحدي هنا.

اقتربت رويدًا رويدًا من صندوق الموسيقى في آخر المستودع. كان ينبعث منه لحن قديم، متقطع، كأن آلة الصندوق تصارع لتذكر كيف تعزف. حاولت تجاهل تلك الدمى المفزعة، نظراتها الزجاجية التي بدت وكأنها تتنفس، وابتساماتها الثابتة التي تتوسع كلما اقتربت.

لم أكن أتنفس. كنت فقط أمشي.

مددت يدي نحو الصندوق... لكن قبل أن تلامسه، انطفأ ضوء النيون خلفي فجأة.

"…"

تجمدت في مكاني.

ثم سمعت صوتًا... كأن شيئًا يُجرّ على الأرض.

نظرت ببطء نحو مصدر الصوت، وهناك، من الظلال التي كانت قبل لحظة لا تحوي شيئًا... خرج.

كان أطول مني، وأغرب من أن يُوصف. كومة من الدمى القديمة، مربوطة بخيوط وأربطة وأجزاء مفككة، متراكبة معًا لتُشكّل جسدًا عظميًا بشري الشكل. رأسه كان عبارة عن رأس دمية رضيع ذو عين بلاستكية واحدة أطرافه نحيلة، مشوهة، تتحرك كما لو كانت تُسحب بالقوة من الداخل.

رجف جسمي. لم أستطع حتى أن أصرخ.

— مااااااااااااااا هذااااااا؟!

فتح الوحش فمه... أو ما يُشبه فمه، لتخرج منه زمجرة خافتة في البداية، ثم تعالت، وارتفعت، واهتز لها جسدي. لم يكن صوتًا ميكانيكيًا... بل صوتًا حقيقيًا، مرعبًا. صوت شيطان ضخم، صوت رجل عملاق في الأربعينات... صدى قاتم كأنه يصدر من قاع جهنم.

ركضت.

ركضت بكل ما تبقى لدي من وعي.

توجهت نحو الموعد، اليد الوحيدة التي قد تخرجني من هذا المستودع الجحيمي.

لكن...

— لا، لن أستطيع الوصول في الوقت المناسب!

شعرت بشيء يمسك ظهري، مثل خطاطيف باردة تلتف حول كتفي وتشدني للخلف.

سقطت. اصطدمت بالأرض بكل قوتي. ظننت للحظة أنها النهاية... أني سأنتهي هنا، مأكولًا على يد دمية شيطانية، وينتهي اسمي كبليك إيثر في تقرير شرطة غامض لن يقرأه أحد.

لكن...

حين رفعت رأسي... الوحش لم يكن هناك.

كان قد اختفى.

لكن أمامي الآن، وعلى بعد سنتيمترات فقط من وجهي، كانت واقفة... هي.

الفتاة ذات الرقعة البيضاء على عينها.

وقبل أن أنطق أو ألتقط أنفاسي، انحنت فجأة نحوي، أمسكتني من مرفقي بقوة، ونظرتها كانت غاضبة، مرعبة أكثر من الوحش.

قالت بصوت حاد مليء بالتهديد:

— ما الذي تفعله هنا؟!

وقبل أن أتمكن من الرد على سؤالها أو حتى أن ألتقط أنفاسي...

سمعتها.

ضحكة.

ضحكة دمية صغيرة... تلك الضحكة المصنعة التي يُفترض أن تسعد الأطفال، لكنها الآن خرجت مشوهة، باردة، كأن شخصًا بالغًا صممها خصيصًا ليخيف طفله.

نظرت خلفي ببطء.

كانت هناك دمية مخصصة للفتيات—شعر صناعي وردي، فستان أزرق متّسخ، وابتسامة مرسومة بثبات.

تدحرجت على الأرض من تلقاء نفسها، أو كأن أحدهم دفعها بيده الخفية.

تدحرجت حتى وصلت إلى المصعد في زاوية المستودع. باب المصعد كان مفتوحًا، والداخل مظلم.

دخلت الدمية وحدها، وما زالت تضحك.

توقفت داخل المصعد، عادت لوضعية الجلوس بثبات مخيف، وما زالت تضحك.

ثم، ببطء...

أُغلق باب المصعد.

صوت الإغلاق كان كافياً ليعيد قلبي إلى الركض.

قفزت واقفًا، مبتعدًا، وعيناي لا تفارقان مكان المصعد، فيما كانت هي لا تزال تراقبني.

نظرتها؟

لم تكن خوفًا أو ذعرًا... بل شيء أبرد من ذلك.

غضبٌ هادئ... وكأنني أخطأت خطأ لا يُغتفر.

تقدمت منها، وأنا أصرخ بنبرة مضطربة:

— ما الذي أفعله هنا؟!

كررتها بسخرية:

— "ما الذي أفعله هنا؟!"

ثم حدقت بها:

— ما الذي تفعلينه أنت هنا؟!

ارتفعت حاجبها، وكأنها للتو لاحظت أمرًا غريبًا.

— لحظة… أنت تستطيع رؤيتي؟

أجبت باستغراب: — ماذا؟ طبعًا أستطيع رؤيتكِ. أنتي تقفين أمامي!

تراجعت خطوة للخلف، وضعت يدها على فمها، وكأنها تستوعب شيئًا خطيرًا:

— مستحيل… لا بد أنه يراني بسبب الكتاب… أو ربما… لا…

رفعت صوتي: — هيه، أنتِ... أرأيتِني من قبل؟

اقتربت فجأة، أكثر مما توقعت. وجهها لا يزال جامدًا، بعين واحدة مكشوفة، والنظرة فيها مثل الثلج.

— بالتأكيد رأيتك من قبل…

قالتها دون تردد.

— نحن نجلس وراء بعضنا في الفصل.

عقلي تراجع بسرعة إلى تلك اللحظة.

رأيتها من قبل… نعم، تذكرت.

في اليوم الأول... جلست خلفي.

لم تنطق بكلمة.

ولم يلتفت لها أحد.

ثم فجأة...

سقط السؤال من فمي كأن شخصًا آخر بداخلي طرحه:

— انتي... هل أنتِ تمتلكين كتابي... "شمس المعارف"؟

نظرت إليّ مباشرة، عيناها لا ترمش، صوتها هادئ، كأنها تخبرني أن اليوم هو الثلاثاء، وليس شيئًا يستحق الانفعال.

قالت:

— نعم.

ما إن نطقت بتلك الكلمة…

نعم

حتى قفزت بعيدًا عنها غريزيًا، كمن صُدم بالكهرباء.

اتخذت وضعية قتالية… أو بالأصح، وضعية دفاعية سخيفة، لأنني لم أتعلم في حياتي لا الكاراتيه، ولا الكونغ فو، ولا حتى كيف أُغلق يدي بشكل صحيح.

— أجبيني فورًا… لماذا أخذتِ الكتاب؟!

كانت لا تزال واقفة هناك… نفس الوقفة الثابتة، نفس النظرة الباردة التي كأنها تُحللني شريحة شريحة.

لم ترد.

— هل… هل أنتِ جن؟!

خرجت مني الجملة مرتبكة، لكن بصراحة؟

كنت شبه متيقن.

في المدرسة، لم يبدُ أن أحدًا يراها غيري… حتى المعلمة، حتى زملائي. لم تتكلم مع أحد، لم يقترب منها أحد… كأنها مجرد ظل.

ولمّا سرقت الكتاب، لم تتبخر.

تذكرت جيدًا ما قاله بابادوك… أي جن يلمس الكتاب يُحرق، يتفكك، يختفي.

لكنها… لم يحدث لها شيء.

"مستحيل… إذا كانت لم تختفِ، فهذا يعني أنها ليست مجرد جنية… بل شيء أقوى، شيء يشبه بابادوك أو أسوأ منه."

قلت في داخلي، وعيناي لا تفارقانها:

— هذه الفتاة… خطيرة جدًا.

حاولت أن أبدو واثقًا، رغم أن صوتي بدأ يختنق:

— أعيدي لي الكتاب… فورًا!

سأدعك تذهبين… فقط أعطيني إياه.

داخل رأسي كنت أصرخ:

"أرجوكي، بس… أعيديه. لا تقتليني. لا تمزقيني. ولا تحولي وجهي لقناع مهرج تافه."

تمنيت لو يظهر بابادوك الآن. حتى لو كان عديم الفائدة أمامها، على الأقل... يمكنه أن يشتت انتباهها قبل أن تسحقني.

"سأدعك تذهبين"؟

ياللسخرية… كأنني أستطيع فعل شيء إن قررت ألا تفعل.

نظرت إليّ بهدوء... لا، ببرود... لا، بما يشبه اللامبالاة المطلقة، وقالت:

— لو كان لديّ الكتاب… لأعطيتك إياه.

— مــاذا؟

— ماذا؟

قالتها وهي تحدق بي، ببرود كامل.

— ماذا؟ مـاذا؟ مـاذاااااااااا؟!!!

لم أتمالك نفسي، انفجرت:

— ألم تقولي أنكِ سرقتِ الكتاب؟!

أجابت ببساطة مرعبة:

— لقد أضعتُه.

— أضعتِه؟!

شعرت بأن أحدهم ضربني بمطرقة على جمجمتي.

— كيف تضيّعين شيئًا بهذه الأهمية؟! ما الأمر؟ هل أنتِ... غبية؟!

رفعت كتفها كمن لا يكترث بحياتي:

— ربما... لا أعرف. هل أنا غبية؟ ممكن.

صفنت لثانية قبل أن تضيف، بنبرة أكثر جدية هذه المرة:

— اسمعني، لا أدري ماذا تعني بـ"جن"، لكنك من القلائل الذين يستطيعون رؤيتي. وهذا وحده يجعلنا… نادرين.

ثم استدارت.

من دون أي أمر، من دون انتظار موافقتي، بدأت بالمشي.

— تبًا…

تمتمتها وأنا أركض خلفها.

كان عليّ أن أتبعها. لم أملك خيارًا آخر. الكتاب في خطر، وحياتي حرفيًا مرتبطة به.

لكن بين خطواتي المتسارعة، غاص رأسي في بحر من الأسئلة.

"ليست جن؟"

"إذًا، بشرية؟"

لكن لا يمكن! لا أحد في المدرسة يراها غيري. كيف يمكن لجن أن تسرق كتابًا خارقًا دون أن تتبخر؟

"أهي لصّة خارقة؟ ساحرة؟ شيء بين الاثنين؟"

ضغطت بأصابعي على صدغي.

— التفكير الزائد يرهق رأسي…

مشينا وسط المبنى. لم تنطق بكلمة واحدة طوال الطريق، وأنا فقط أراقب ظهرها ونعل حذائها الممزق قليلاً.

وصلنا إلى إحدى الشقق.

أوقفت خطواتها عند الباب، ثم طرقت.

في داخلي، كنت أظن أننا وحدنا هنا.

المكان يبدو مهجورًا، المصعد لا يُعقل أن يعمل، والكهرباء مقطوعة من الأساس.

كيف كان المستودع مضاءً؟

كيف كان نظيفًا نسبيًا؟

أسئلة تتكاثر كالفئران.

فتح الباب.

وبصراحة… تمنيت لو لم يُفتح.

خرج منه رجل في العشرينات، أو هكذا يبدو... لكن تعبه يجعله يبدو أكبر من عمره بعشر سنوات على الأقل.

شعره البرتقالي قصير، متبعثر، كأنه أمضى أيامًا دون مشط.

نحيف جدًا، كما لو أن الحياة نسيت أن تُطعمه.

رائحته… لا أريد أن أصفها.

تحت عينيه… ظلال سوداء كثيفة، كأن النوم اختفى من قاموسه.

قال بصوتٍ مبحوح:

— مرحبًا ميساكي.

ميساكي؟

— أهلًا نيمو.

لم أركَ منذ مدة.

ردّ بابتسامة باهتة وهو يحاول أن ينتصب واقفًا:

— وأنا أيضًا… ما رأيكِ بعناق بعد كل هذه المدة؟

— لا أريد، شكرًا.

قالتها بنفس برودها المعتاد، ثم دخلت الشقة من دون أن تنتظر دعوة.

ثم نظرت إليّ. بنفس اللامبالاة.

— تفضّل بالدخول.

ترددت لحظة، لكني دخلت... ووقفت قرب الحائط، كمن ينتظر المفاجآت السخيفة.

قال نيمو، بنبرة ساخرة وبعينين لا تثبتان على شيء:

— أرى أنكِ أحضرتِ صديقًا. رائع… هذا كثير من الاهتمام دفعة واحدة.

2025/06/14 · 18 مشاهدة · 1720 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025