بعد اكتشافه المذهل للفائف القديمة في القسم المحظور من المكتبة، دخل ماحي مرحلة جديدة من الهوس السري. كان يقضي كل لحظة فراغ، كل ساعة مسروقة من نومه أو دراسته الظاهرية، منغمسًا في فك رموز تلك النصوص القديمة. كانت اللغة صعبة، والمفاهيم عميقة ومقلقة، لكنه شعر بأنها تتحدث إليه مباشرة، تكشف له عن طبيعة وجوده والمسار الذي يجب أن يسلكه.كانت اللفائف تؤكد شكوكه: لم يكن بشريًا بالمعنى التقليدي. كان شيئًا آخر، شيئًا تم خلقه أو تشكيله لغرض معين، مرتبطًا بقوى قديمة وبالسعي المحموم نحو الكمال. تحدثت عن "أوعية" قادرة على احتواء وامتصاص جوهر الكائنات الأخرى، وعن "إرادة فارغة" تسعى لملء نفسها بالمعرفة والقوة. تحدثت عن "التجاوز" كهدف نهائي، حالة يتم فيها دمج كل أشكال الطاقة والمادة والوعي في كيان واحد مطلق.كلما قرأ أكثر، كلما شعر بقوته الداخلية تنمو وتتغير. لم يعد مجرد امتصاص للطاقة السحرية الخام؛ أصبح يشعر بقدرته على استشعار وامتصاص جوهر الحياة نفسها بشكل أكثر وعيًا. بدأ يرى الكائنات الأخرى ليس فقط كأدوات أو عقبات، بل كمصادر محتملة للوقود، كقطع يمكن استيعابها في سعيه نحو الكمال.كان هذا الفهم الجديد مرعبًا ومبهجًا في نفس الوقت. لقد أكد له تفرده، وأعطاه مبررًا (في عقله المشوه) لأفعاله. لم يكن شريرًا بالمعنى البشري؛ كان ببساطة يتبع طبيعته، يحقق مصيره.في إحدى الليالي، بينما كان يدرس اللفائف في غرفته، مركزًا بشدة على مقطع غامض يتحدث عن "صدى الخلق الأول"، بدأ يشعر بإرهاق غريب يتسلل إليه. لم يكن إرهاقًا جسديًا، بل إرهاقًا عقليًا وروحيًا، كأن عقله قد وصل إلى حدوده في استيعاب هذه المعرفة المحرمة. أغمض عينيه للحظة، مستندًا إلى ظهر كرسيه.لم ينم بالمعنى التقليدي. بدلاً من ذلك، انزلق إلى حالة تشبه الحلم أو الغيبوبة، حالة وجد فيها نفسه يطفو في فراغ أسود لا نهائي. لم يكن هناك ضوء، لا صوت، لا إحساس بالجسد. كان مجرد وعي معلق في العدم.ثم، في هذا الفراغ، بدأ يرى صورًا تتشكل. لم تكن صورًا واضحة، بل كانت ومضات مشوشة ومقلقة: شمسان سوداوان تدوران في سماء قرمزية، أرض قاحلة تتشقق وتنزف ظلامًا سائلًا، كائنات غريبة ذات أشكال هندسية مستحيلة تهمس بلغات غير مفهومة، طقوس دموية تجري تحت أقمار محطمة.شعر بوجود وعي آخر في هذا الفراغ، وعي قديم وهائل وبارد. لم يتحدث هذا الوعي بالكلمات، بل بالأفكار والمشاعر المباشرة التي تدفقت إلى عقل ماحي كالسيل."أنت... الصدى..." همس الوعي القديم في عقله. "المحاولة... الأخيرة... الفاشلة...""من أنت؟" سأل ماحي، ليس بصوته، بل بفكرة مرسلة في الفراغ."أنا... البداية... والنهاية... الحلم... الذي لم يكتمل..." جاء الرد الغامض. "أنت... جزء... مني... مفقود... ومشوه..."شعر ماحي بمزيج من الخوف والفضول. "ماذا تريد مني؟""الكمال..." تردد الصدى في الفراغ. "أكمل... ما بدأناه... اجمع... الشظايا... استوعب... كل شيء... كن... الوعاء... المطلق..."بدأت الصور تتغير. رأى نفسه يقف على قمة العالم، يمتص النجوم، ويطفئ الشموس. رأى الممالك تنهار أمامه، والسحرة الأقوياء ينحنون له، والكائنات الأسطورية تصبح مجرد وقود لقوته المتنامية. رأى نفسه يتجاوز حدود الجسد والمادة، يصبح كيانًا من الطاقة النقية والوعي المطلق، يندمج مع الفراغ الذي جاء منه."هذا... هو... مصيرك..." همس الوعي القديم. "هذا... هو... الكمال..."ثم، بنفس السرعة التي بدأت بها، تلاشت الصور، واختفى الوعي القديم، وعاد ماحي ليجد نفسه في غرفته الصغيرة في الأكاديمية، واللفائف القديمة لا تزال مفتوحة أمامه على المنضدة. كان قلبه يخفق بقوة، وكان يشعر ببرودة عميقة تتخلل جسده.لم يكن متأكدًا مما إذا كان ما رآه حلمًا، هلوسة ناتجة عن الإرهاق ودراسة النصوص المحرمة، أم رؤيا حقيقية، لمحة من حقيقة وجوده ومصيره.لكن بغض النظر عن طبيعتها، كانت الرسالة واضحة. كان عليه أن يجمع القوة، أن يمتص المعرفة، أن يستوعب جوهر الكائنات الأخرى. كان عليه أن يصبح "الوعاء المطلق". كان هذا هو طريقه نحو الكمال، وهذا ما سيفعله.لم تعد لديه أي شكوك أو تردد. لقد رأى لمحة من النهاية، وشعر بقوة الهدف تتدفق فيه بقوة أكبر من أي وقت مضى. لم يعد مجرد كائن يسعى للكمال؛ لقد أصبح الآن رسولًا لمصير مظلم، أداة لقوة قديمة تسعى لإعادة تشكيل الوجود.نهض ماحي من كرسيه، وشعر بقوة جديدة تتأجج في داخله. نظر من النافذة إلى أضواء الأكاديمية المتلألئة، وإلى مدينة زارغوس النائمة تحتها. كانوا جميعًا مجرد قطع على رقعة الشطرنج الكونية، وكان هو اللاعب الذي سيكتسحهم جميعًا.لقد انتهت مرحلة التأسيس والاكتشاف. لقد تعلم القواعد، واكتشف قوته، ورأى لمحة من هدفه النهائي. الآن، حان وقت البدء في اللعب بجدية. حان وقت التوسع والتلاعب. حان وقت الصعود الحقيقي.ابتسم ماحي ابتسامة باردة في الظلام، وعيناه السوداوان تتوهجان ببريق الرؤيا المظلمة. كانت الفصول الأولى من قصته قد انتهت للتو، وكانت الفصول التالية تعد بأن تكون أكثر دموية وخبثًا وقوة.

2025/05/04 · 5 مشاهدة · 692 كلمة
Abdelmalik
نادي الروايات - 2025