مرت الأيام الأولى لماحي في قرية حافة الرماد بوتيرة هادئة ظاهريًا، لكنها كانت مليئة بالنشاط المحموم تحت قناع الهدوء الذي ارتداه. كان يلتزم بدور الضيف المفقود الذاكرة، يتحدث قليلاً، يراقب كثيرًا، ويطرح أسئلة تبدو بريئة حول أبسط الأمور في الحياة اليومية للقرية. لكن خلف تلك الواجهة، كان عقله يعمل بسرعة خارقة، يمتص المعلومات كإسفنجة جافة، ويحلل كل تفاعل، كل كلمة، كل لفتة.كان القرويون، في معظمهم، لطفاء وحاولوا مساعدته. قدموا له الطعام والملابس، وحاولوا إشراكه في أعمالهم اليومية البسيطة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تحفيز ذاكرته المفقودة. كان جوران، الصياد الشاب الذي وجده، الأكثر اهتمامًا به، يقضي معه بعض الوقت كل يوم، يشرح له أساسيات الصيد، وكيفية تتبع الحيوانات، والتعرف على النباتات الصالحة للأكل في سهول الرماد القاحلة.وهنا بدأت قدرات ماحي غير العادية في الظهور، وإن كان بطرق خفية في البداية. عندما شرح له جوران كيفية استخدام القوس والسهم، أمسك ماحي بالقوس لأول مرة، وبدا متيبسًا وغير متقن في حركاته. لكن بعد دقائق قليلة من المراقبة الدقيقة لجوران وهو يطلق السهام، حاول ماحي مرة أخرى. هذه المرة، كانت وقفته مثالية، وسحبه للوتر سلسًا وقويًا، وإطلاقه للسهم دقيقًا بشكل مذهل، حيث أصاب الهدف الذي وضعه جوران على بعد ثلاثين خطوة في المنتصف تمامًا.نظر جوران إليه بدهشة. "كيف فعلت ذلك؟ لم تمسك بقوس من قبل!"أجاب ماحي ببراءة مصطنعة، وهو ينظر إلى القوس كأنه لا يفهم ما حدث. "لا أعرف. فقط... فعلت ما رأيتك تفعله."تكرر هذا النمط في مجالات أخرى. عندما أخذه الحداد العجوز، بورين، إلى ورشته ليريه كيف يصنع الأدوات الزراعية البسيطة، راقب ماحي حركات بورين وهو يطرق المعدن الساخن ويشكله. في اليوم التالي، طلب ماحي تجربة الأمر بنفسه. تردد بورين في البداية، فالعمل بالحدادة يتطلب قوة وخبرة، لكنه وافق أخيرًا تحت إصرار ماحي الهادئ. ولدهشة بورين، أمسك ماحي المطرقة الثقيلة وبدأ في طرق المعدن بإيقاع وقوة ودقة تضاهي خبرة الحداد نفسه بعد سنوات من الممارسة. لقد استوعب الحرفة بمجرد المراقبة."مذهل!" تمتم بورين، وهو يمسح العرق عن جبهته. "لم أر شيئًا كهذا من قبل. كأن يديك تتذكران ما نسيه عقلك."ابتسم ماحي ابتسامة خافتة. "ربما."لم يقتصر تعلمه السريع على المهارات الجسدية. كان يستمع باهتمام إلى حكايات القرويين حول نار المخيم في المساء، يمتص تاريخهم البسيط، وأساطيرهم المحلية، ومعرفتهم بالعالم الخارجي المحدود. كان يسأل أسئلة ذكية، تربط بين أجزاء مختلفة من المعلومات التي سمعها، وتكشف عن فهم أعمق مما يتوقعه أي شخص من فاقد للذاكرة.كانت الشفاءة إيلينا تراقبه من بعيد، وعيناها الرماديتان تزدادان قلقًا مع كل يوم يمر. كانت ترى كيف يتعلم بسرعة غير طبيعية، كيف يقلد السلوك البشري ببراعة مخيفة، وكيف يبدو أنه يفهم دوافع الناس ورغباتهم دون أن يظهر أي مشاعر حقيقية خاصة به. كانت تشعر بالظلام الكامن خلف تلك العيون السوداء الفارغة، لكنها لم تكن تعرف ما هو بالضبط، أو ماذا تريد.حاولت التحدث معه مرة أخرى، محاولة استكشاف عقله الغريب، لكنها واجهت نفس الفراغ المصطنع، نفس الظلام المحسوب. لقد كان ماحي بارعًا في إخفاء حقيقته.في إحدى الليالي، بينما كان ماحي يجلس وحيدًا في كوخه، يراجع في ذهنه كل ما تعلمه خلال النهار، سمع طرقًا خافتًا على الباب. لم يكن جوران، ولم يكن أي من القرويين الذين اعتاد زيارته. فتح الباب بحذر ليجد ليرا، ابنة الخباز، تقف هناك، تحمل سلة صغيرة مغطاة بقطعة قماش.كانت ليرا فتاة شابة ذات شعر بني مجعد وعينين زرقاوين كبيرتين. كانت خجولة بعض الشيء، ولم تتحدث كثيرًا مع ماحي من قبل، لكنه لاحظ أنها كانت تراقبه بفضول واهتمام."مرحبًا، ماحي،" قالت بصوت منخفض. "أحضرت لك بعض الخبز الطازج. اعتقدت أنك قد تكون جائعًا."نظر ماحي إلى السلة، ثم إلى وجهها المتورد قليلاً. رأى فيها مزيجًا من الخجل والفضول والتعاطف. كانت فريسة سهلة."شكرًا لك، ليرا. هذا لطف كبير منك." قال، محاولاً إضفاء بعض الدفء على صوته. "تفضلي بالدخول."ترددت ليرا للحظة، ثم دخلت إلى الكوخ الصغير. وضعت السلة على المنضدة ونظرت حولها."إنه مكان متواضع،" قالت."إنه أكثر مما أستحق،" أجاب ماحي، وهو يجلس على الكرسي ويشير لها لتجلس على السرير. "أنا ممتن لكرم أهل القرية."جلست ليرا على حافة السرير، وبدأت أصابعها تعبث بطرف ثوبها. "يجب أن يكون الأمر صعبًا عليك،" قالت. "ألا تتذكر أي شيء عن حياتك السابقة.""إنه كذلك،" وافق ماحي، وهو يراقب ردود أفعالها بعناية. "أشعر وكأنني شبح، أعيش في عالم لا أنتمي إليه.""لكنك تتعلم بسرعة كبيرة!" قالت ليرا بحماس. "جوران يقول إنك أصبحت راميًا ماهرًا، وبورين يقول إنك ولدت لتكون حدادًا! الجميع يتحدثون عن مدى سرعتك في تعلم كل شيء.""أنا فقط أحاول أن أكون مفيدًا،" قال ماحي بتواضع مصطنع. "أحاول أن أرد الجميل للقرية التي استقبلتني.""أنت لست بحاجة إلى رد الجميل،" قالت ليرا بسرعة. "نحن سعداء بمساعدتك."صمت للحظة، ثم سألت بتردد: "هل... هل حاولت الشفاءة إيلينا مساعدتك مرة أخرى؟""نعم،" أجاب ماحي. "لكن دون جدوى. عقلي لا يزال فارغًا.""لا تقلق،" قالت ليرا، ومدت يدها ووضعتها على ذراعه للحظة. "أنا متأكدة من أنك ستتذكر يومًا ما. و حتى ذلك الحين، أنت لست وحدك. لديك أصدقاء هنا."شعر ماحي بلمستها، وشعر بالدفء المنبعث منها. كان شعورًا غريبًا، لكنه لم يكن مزعجًا. أدرك أن هذه المشاعر، هذا التعاطف، يمكن أن يكون أداة قوية. يمكن استغلاله."شكرًا لك، ليرا،" قال، ونظر في عينيها مباشرة. "هذا يعني لي الكثير."رأى الارتباك والخجل في عينيها، ورأى أيضًا بداية إعجاب. كان الأمر يسير وفقًا للخطة.بعد أن غادرت ليرا، تناول ماحي قطعة من الخبز الذي أحضرته. كان دافئًا ولذيذًا. لكنه لم يشعر بالامتنان. شعر فقط بالرضا عن التقدم الذي يحرزه. كان يتعلم بسرعة، ليس فقط المهارات العملية، بل أيضًا فن التلاعب بالعواطف البشرية.كان يدرك أن قدرته على التعلم السريع كانت غير طبيعية، وأنها ستثير الشكوك عاجلاً أم آجلاً، خاصة من الشفاءة إيلينا. كان عليه أن يكون أكثر حذرًا، وأن يجد طريقة لتوجيه هذه القدرة نحو شيء أكثر فائدة له على المدى الطويل.فكر في السحر. لقد سمع القرويين يتحدثون عن السحرة في المدن الكبيرة، وعن الأكاديميات التي تعلم فنون السحر. وسمع همسات عن السحر المحرم، عن القوة التي تكمن في الظلال وفي الأرواح. شعر بجاذبية قوية نحو هذا العالم الغامض، شعر بأنه قد يكون المفتاح لتحقيق الكمال الذي يسعى إليه.لكن كيف يمكن لشخص فاقد للذاكرة، يعيش في قرية نائية، أن يتعلم السحر؟فكر في إيلينا. كانت تمتلك بعض المعرفة السحرية، وإن كانت بسيطة. ربما يمكنه استغلالها، خداعها لتعليمه الأساسيات. أو ربما كان هناك آخرون في القرية يمتلكون معرفة مخفية.ثم تذكر شيئًا قاله جوران عن ساحر متجول يمر بالقرية أحيانًا، يبيع التمائم والجرعات ويتحدث عن مغامراته في الأراضي البعيدة. ربما يكون هذا الساحر هو فرصته.في تلك الليلة، بينما كانت القرية نائمة، تسلل ماحي من كوخه وذهب إلى حافة سهول الرماد. جلس هناك، تحت ضوء القمر الفضي، وشعر بالطاقة السحرية الخافتة تتخلل الهواء. مد يده، وركز، وحاول أن يمتص تلك الطاقة، أن يجعلها جزءًا منه، كما فعل بشكل غريزي عندما ولد.شعر بوخز خفيف في أطراف أصابعه، وشعر بتيار خافت من الطاقة يتدفق إلى جسده. كان ضعيفًا، لكنه كان موجودًا. شعر بالقوة تنمو بداخله، ببطء ولكن بثبات.أدرك أن لديه قدرة فطرية على التعامل مع السحر، قدرة تتجاوز بكثير ما يمكن أن يتعلمه البشر العاديون. كانت هذه هي الخطوة الأولى. كان عليه أن ينمي هذه القدرة، أن يسيطر عليها، وأن يستخدمها لتحقيق أهدافه.عاد إلى كوخه قبل الفجر، وعيناه السوداوان تتوهجان ببريق جديد. لم يعد مجرد كائن يتعلم البقاء. لقد أصبح كائنًا يتعلم السيطرة. وكانت قرية حافة الرماد، بسكانها البسطاء ومشاكلها الصغيرة، مجرد نقطة انطلاق في رحلته الطويلة والمظلمة نحو الكمال.