لم يضيع ماحي وقتًا. بعد ليلة اكتشافه المروعة لقدرته الحقيقية على امتصاص الحياة والمعرفة، وبعد حصوله على الكتاب الغامض المجلد بالجلد الأسود، أدرك أن بقاءه في قرية حافة الرماد لم يعد ممكنًا ولا مرغوبًا فيه. لقد استنفد كل ما يمكن أن تقدمه له هذه البقعة المعزولة من العالم. لقد تعلم أساسيات البقاء، وأتقن فن التظاهر، واكتشف مفتاح قوته الحقيقية. والآن، حان وقت الانتقال إلى مرحلة أكبر.كان عليه أن يغادر، وبسرعة، قبل أن يبدأ القرويون في ربط اختفاء الساحر المتجول بوجوده، وقبل أن تتمكن الشفاءة إيلينا من كشف حقيقته أو تحذير الآخرين بشكل فعال. لم يكن يخشاهم، فقوتهم مجتمعة لا تقارن بما بدأ يشعر به ينمو بداخله، لكن المواجهة المباشرة الآن ستكون مضيعة للوقت والطاقة، وقد تجذب انتباهًا غير مرغوب فيه من سلطات أعلى في مملكة تيراكرون.قضى اليوم التالي في التخطيط لرحيله. كان بإمكانه ببساطة أن يختفي في الليل، مستخدمًا قدرته على الاندماج بالظلال. لكنه أراد أن يترك انطباعًا أخيرًا، أن يزرع بذور الارتباك والشك، وأن يتأكد من أن لا أحد سيتبعه على الفور. قرر أن يودع الشخصين اللذين كانا الأقرب إليه ظاهريًا: جوران وليرا.وجد جوران يصلح شباك الصيد بالقرب من النهر الصغير الذي يمر بجانب القرية. اقترب منه ماحي بهدوء، مرتدياً قناع الحزن والارتباك الذي أتقنه."جوران،" قال بصوت خافت. "أعتقد أن الوقت قد حان لكي أغادر."نظر جوران إليه بدهشة. "تغادر؟ إلى أين؟ هل استعدت ذاكرتك؟"هز ماحي رأسه. "لا، لم أستعد شيئًا. لكنني لا أستطيع البقاء هنا إلى الأبد. أشعر بأنني عبء عليكم، وأشعر بأن هناك شيئًا ما... يناديني في مكان آخر. ربما إذا سافرت، إذا رأيت المزيد من العالم، قد أجد شيئًا يحفز ذاكرتي."عبس جوران. "لكن إلى أين ستذهب؟ العالم الخارجي مكان خطير، خاصة لشخص لا يعرف من هو.""سأذهب إلى مدينة كبيرة،" قال ماحي، متظاهرًا بالتردد. "ربما مدينة زارغوس، عاصمة تيراكرون. سمعت أنها مكان مليء بالفرص... والمعرفة. ربما أجد هناك من يستطيع مساعدتي.""زارغوس؟" اتسعت عينا جوران. "إنها رحلة طويلة وخطيرة عبر سهول الرماد والجبال. لا يمكنك الذهاب بمفردك!""يجب أن أحاول،" أصر ماحي. "لا أستطيع البقاء هنا، أشعر بالاختناق. أشعر بأنني يجب أن أبحث عن إجابات."تنهد جوران. "أنا قلق عليك يا ماحي. لكنني أفهم رغبتك في البحث عن نفسك. إذا كنت مصممًا على الذهاب، فعلى الأقل دعني أساعدك في الاستعداد. سأعطيك بعض المؤن، وخريطة بسيطة للطريق، وربما سكين صيد جيد.""شكرًا لك، جوران،" قال ماحي، وهو يضع يده على كتف الصياد الشاب. "لن أنسى لطفك أبدًا."كانت تلك كذبة، بالطبع. سينسى جوران والقرية بأكملها بمجرد أن يبتعد عنهم. لكن الكلمات بدت صادقة، وشعر جوران بالدفء تجاه هذا الشاب الغامض الذي أصبح يعتبره صديقًا.بعد ذلك، ذهب ماحي للبحث عن ليرا. وجدها تساعد والدها في المخبز، ووجهها مغطى بالدقيق. عندما رأته، ابتسمت ابتسامة واسعة، لكن ابتسامتها تلاشت عندما رأت تعبير الحزن المصطنع على وجهه."ماحي؟ ماذا حدث؟" سألت بقلق.أخذها جانبًا، بعيدًا عن أذني والدها. "ليرا، لقد اتخذت قرارًا صعبًا. سأغادر القرية.""تغادر؟" همست، وعيناها الزرقاوان تمتلئان بالدموع. "لماذا؟ إلى أين؟"كرر ماحي نفس القصة التي رواها لجوران، مضيفًا لمسة من اليأس الشخصي. "أشعر بالضياع هنا يا ليرا. أحتاج إلى البحث عن حقيقتي، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة المجهول. سأذهب إلى زارغوس.""لكن زارغوس بعيدة جدًا!" بكت ليرا. "لا تذهب! ابق هنا! يمكننا... يمكننا أن نجد لك حياة هنا!""أتمنى لو كان ذلك ممكنًا،" قال ماحي، وهو يمسك بيدها برفق. "لكن هناك شيئًا بداخلي يدفعني للرحيل. شيئًا لا أستطيع تجاهله."نظر في عينيها المليئتين بالدموع، ورأى الألم والحب غير المشروط. كان بإمكانه استغلال ذلك بسهولة، ربما إقناعها بالهرب معه، لتكون رفيقته وعبده المخلص. لكنه قرر أن ذلك سيكون معقدًا للغاية في هذه المرحلة. كان بحاجة إلى التحرك بسرعة وبحرية."سأعود يومًا ما، ليرا،" كذب ببراعة. "عندما أجد من أنا، سأعود إليك.""هل تعدني؟" سألت بصوت مكسور."أعدك،" قال، وهو يميل ويمسح دمعة عن خدها. كانت بشرته الرمادية باردة الملمس.عانقته ليرا بقوة، متشبثة به كأنها تستطيع منعه من الرحيل. سمح لها ماحي بذلك للحظة، مستمتعًا بضعفها ويأسها، قبل أن يبتعد عنها بلطف."يجب أن أذهب الآن، لأستعد لرحلتي. سأغادر الليلة.""وداعًا، ماحي،" همست ليرا، وقلبها ينفطر. "كن حذرًا.""سأكون كذلك،" أجاب، واستدار ليغادر، تاركًا إياها تبكي في صمت.لم يكلف نفسه عناء توديع أي شخص آخر. كان يعلم أن إيلينا ستكون الشخص الوحيد الذي قد يشك في دوافعه الحقيقية، وفضل تجنب أي مواجهة محتملة معها. لقد حصل على ما يحتاجه من هذه القرية، ولم يعد هناك سبب للبقاء.مع حلول الليل، جمع ماحي المؤن البسيطة التي قدمها له جوران: بعض اللحم المجفف، قربة ماء، خريطة بدائية، وسكين صيد حاد. وضع الكتاب المجلد بالجلد الأسود في حقيبة صغيرة ربطها بحزامه. ارتدى العباءة الداكنة التي أصبحت جزءًا من مظهره المعتاد، وخرج من الكوخ للمرة الأخيرة.كانت القرية هادئة ومظلمة، والقمر مختبئ خلف السحب. استخدم ماحي قدرته على الاندماج بالظلال، وتحرك عبر القرية كشبح، متجنبًا أي دوريات ليلية محتملة أو أي شخص قد يكون مستيقظًا.عندما وصل إلى حافة القرية، توقف للحظة ونظر خلفه. رأى الأضواء الخافتة في بعض الأكواخ، بما في ذلك كوخ ليرا وكوخ إيلينا. لم يشعر بأي حنين أو ندم. شعر فقط بالازدراء لهذه الحياة البسيطة والضعيفة التي كان يتركها وراءه.ثم، عند أطراف القرية، رأى شخصية تنتظره في الظلام. كانت إيلينا."كنت أعلم أنك ستغادر الليلة،" قالت بصوت هادئ، وعيناها الرماديتان تلمعان في الظلام.توقف ماحي، لكنه لم يشعر بالدهشة. "جئت لتوديعي، يا شفاءة؟""جئت لأحذرك،" أجابت إيلينا. "أنا لا أعرف ما أنت، يا ماحي، ومن أين أتيت. لكنني أعرف أن هناك ظلامًا في داخلك، ظلامًا عميقًا وخطيرًا. العالم الخارجي سيغريك، سيقدم لك القوة التي تتوق إليها. لكن تذكر، كل قوة لها ثمن.""أنا مستعد لدفع أي ثمن لتحقيق ما أريد،" قال ماحي ببرود."أعلم،" تنهدت إيلينا. "وهذا ما يخيفني. اذهب الآن، قبل أن أغير رأيي وأحاول إيقافك. لكن اعلم هذا: إذا جلبت الدمار إلى هذا العالم، فسأكون هناك لأعارضك.""أتطلع إلى ذلك،" قال ماحي بابتسامة خافتة وباردة. ثم استدار، وذاب في ظلام سهول الرماد، تاركًا الشفاءة العجوز وحدها مع مخاوفها.سار ماحي طوال الليل، مبتعدًا عن قرية حافة الرماد، متجهًا نحو الشمال الشرقي، نحو مدينة زارغوس. كانت الخريطة التي أعطاها له جوران بدائية، لكن معرفته الممتصة من فينياس أعطته فهمًا أفضل للجغرافيا المحيطة. والأهم من ذلك، كان يشعر بجاذبية غامضة تقوده في هذا الاتجاه، جاذبية نحو مراكز القوة والسحر.كانت سهول الرماد مكانًا خطيرًا في الليل، مليئة بالوحوش المفترسة التي تنجذب إلى الظلام. لكن ماحي لم يكن خائفًا. لقد شعر بالوحوش تقترب، وشعر بظلامها يتجاوب مع الظلام الكامن في داخله. لم تهاجمه. بدت وكأنها تعترف به كواحد منها، ككائن ينتمي إلى الليل والظلال.بينما كان يسير تحت السماء الملبدة بالغيوم، فتح الكتاب المجلد بالجلد الأسود. لم يستطع قراءته في الظلام، لكنه شعر بالقوة تنبعث من صفحاته، قوة قديمة ومحرمة. كان هذا الكتاب هو دليله، هو سلاحه، هو طريقه نحو الكمال.لم يعد ماحي الكائن المرتبك الذي خرج من الأرض قبل بضعة أسابيع. لقد أصبح الآن مفترسًا، متعلمًا، ومخططًا. لقد ترك وراءه قناع البراءة، وكان مستعدًا لاحتضان طبيعته الحقيقية.كانت رحلته قد بدأت للتو، وكانت مدينة زارغوس هي وجهته الأولى. مدينة كبيرة، مليئة بالفرص، وبالضحايا المحتملين. مدينة ستكون بمثابة بوتقة تصقل فيها قوته وتوسع معرفته. مدينة ستكون الخطوة الأولى في طريقه للسيطرة على هذا العالم الناقص وإعادة تشكيله حسب رؤيته المثالية والمظلمة.

2025/04/30 · 12 مشاهدة · 1099 كلمة
Abdelmalik
نادي الروايات - 2025