قضى ماحي الأيام القليلة التالية في غرفته المتواضعة في نزل "العنقاء الصاعدة"، منغمسًا في مهمتين رئيسيتين: دراسة الكتاب المجلد بالجلد الأسود، وبناء هوية جديدة ومقنعة لنفسه.كان الكتاب مصدر إلهام وانبهار مستمر. كلما تعمق في رموزه الغريبة ورسومه المقلقة، كلما شعر بقوة سحر الظل تتجاوب معه. لم يكن مجرد تعلم تعاويذ؛ كان الأمر أشبه بإيقاظ جزء نائم من كيانه. بدأ بتجربة بعض التعاويذ البسيطة في سرية تامة داخل غرفته، مستخدمًا الظلال التي تتراقص في زوايا الغرفة بفعل ضوء المصباح الخافت. تعلم كيف يشكل الظل إلى أشكال بسيطة، كيف يجعله يتحرك ويتراقص بإرادته، وكيف يسحب الظلام من محيطه ليعزز قوته.كان حذرًا للغاية. لم يكن يريد جذب أي انتباه غير مرغوب فيه. كان يمارس فقط التعاويذ الأكثر خفية، تلك التي لا تترك أثرًا واضحًا ولا تتطلب مكونات مادية أو إيماءات صاخبة. كانت قوته تنمو بسرعة، وكان يشعر بأن سيطرته على الظلال تصبح أكثر دقة وقوة مع كل يوم يمر.بالتوازي مع دراسته للسحر المظلم، كان يعمل على بناء قصة "كالب من ريدجفيل". كان بحاجة إلى قصة تشرح كيف يمكن لتاجر قماش متواضع أن يكتشف فجأة موهبة سحرية كامنة ويقرر السعي للانضمام إلى أكاديمية السحر الملكية. كانت القصة التي توصل إليها مزيجًا من الحقيقة الجزئية (الممتصة من ذكريات التاجر) والخيال المحض.ستكون القصة كالتالي: كالب كان تاجر قماش ناجحًا إلى حد ما من بلدة ريدجفيل الصغيرة. خلال رحلته الأخيرة إلى زارغوس، تعرضت قافلته لهجوم من قطاع الطرق (أو ربما وحوش، لم يقرر بعد أي نسخة أكثر إثارة للشفقة). قُتل جميع رفاقه، ونجا هو بأعجوبة، لكنه أصيب بجروح خطيرة وفقد وعيه. عندما استيقظ، وجد نفسه وحيدًا ومصابًا، لكنه شعر أيضًا بشيء جديد ومختلف بداخله: قوة سحرية كامنة أيقظتها الصدمة والخطر. هذه القوة ساعدته على البقاء على قيد الحياة في البرية والوصول إلى زارغوس. الآن، بعد أن فقد كل شيء، أدرك أن مصيره الحقيقي يكمن في السحر، وقرر تكريس حياته لدراسته في الأكاديمية الملكية.كانت قصة ميلودرامية ومليئة بالثغرات، لكن ماحي كان يعلم أن الناس يميلون إلى تصديق القصص المأساوية، خاصة إذا تم روايتها بالشكل الصحيح. كان عليه أن يضيف بعض التفاصيل المقنعة، مثل اسم القافلة المزعومة، ووصف دقيق للهجوم، وربما ندبة مزيفة في مكان مناسب لإضفاء المصداقية.قضى بعض الوقت يتجول في شوارع زارغوس، يستمع إلى الأحاديث في الحانات والأسواق، ويجمع معلومات حول الأكاديمية الملكية وكيفية الالتحاق بها. علم أن الأكاديمية تقبل الطلاب الجدد مرة واحدة في السنة، بعد اجتياز سلسلة من الاختبارات الصعبة التي تقيم قدرتهم السحرية ومعرفتهم النظرية. كانت فترة التقديم قد انتهت للتو لهذا العام، مما يعني أنه سيتعين عليه الانتظار لمدة عام كامل تقريبًا، أو إيجاد طريقة أخرى لجذب انتباههم.لم يكن ماحي صبورًا بما يكفي للانتظار لمدة عام. كان بحاجة إلى الدخول إلى الأكاديمية الآن، بينما كانت قوته لا تزال في مرحلة النمو السريع، وبينما كان الكتاب المظلم لا يزال يكشف عن أسراره.قرر أنه بحاجة إلى استعراض لقدراته، استعراض لا يمكن للأكاديمية تجاهله. لكن كيف؟ لم يكن يستطيع ببساطة الذهاب إلى بوابات الأكاديمية والبدء في إلقاء تعاويذ الظل. كان ذلك سيثير الشكوك والخوف، وقد يؤدي إلى اعتقاله أو حتى قتله.كان بحاجة إلى فرصة، إلى موقف يمكنه فيه أن يظهر بمظهر البطل، المنقذ، الشخص الذي يستخدم قوته المكتشفة حديثًا لمساعدة الآخرين. كان هذا هو القناع المثالي: الساحر الموهوب ذو القلب الطيب الذي ظهر من العدم.بدأ يبحث عن مثل هذه الفرصة. كان يتجول في الأحياء الفقيرة والمناطق الخطرة من المدينة، يستمع إلى الشائعات حول الجرائم والاضطرابات. علم بوجود عصابة من اللصوص تروع حيًا معينًا، وعن وحش غريب يقال إنه يختبئ في مجاري المدينة، وعن ساحر مارق يبتز التجار الصغار.كانت كل هذه فرصًا محتملة، لكنها كانت أيضًا خطيرة وقد تجذب النوع الخاطئ من الانتباه. كان بحاجة إلى شيء أكثر علنية، شيء يحدث في وضح النهار، أمام شهود يمكنهم نشر الخبر.ثم، في أحد الأيام، أثناء تجوله في ساحة السوق الرئيسية المزدحمة، وجد فرصته.كانت الساحة تعج بالناس: تجار يصرخون بأسعار بضائعهم، متسوقون يتفحصون السلع، أطفال يركضون ويلعبون، وحراس المدينة يقومون بدورياتهم المعتادة. فجأة، سُمع صوت صراخ عالٍ، تلاه ضجة واضطراب في أحد أركان الساحة.اندفع الناس في ذلك الاتجاه، بمن فيهم ماحي، ليروا ما يحدث. كانت عربة تجارية قد انقلبت، وحمولتها من الفاكهة والخضروات تناثرت على الأرض. لكن لم يكن هذا هو سبب الاضطراب. كان السبب هو المخلوق الذي هاجم العربة: غول رمادي ضخم، يبلغ طوله ثمانية أقدام، مسلح بهراوة خشبية ضخمة مرصعة بالمسامير الصدئة.كان الغيلان نادرين في المناطق المتحضرة مثل زارغوس، وعادة ما يلتزمون بالجبال والمستنقعات البعيدة. كان ظهور هذا الغول في وسط المدينة أمرًا صادمًا وغير متوقع. كان يزمجر بغضب، ويضرب بهراوته بشكل عشوائي، مما تسبب في حالة من الذعر والفوضى بين المتسوقين.حاول حراس المدينة الاقتراب منه، لكن الغول كان قويًا للغاية ومقاومًا لأسلحتهم العادية. أطاح باثنين من الحراس بضربة واحدة من هراوته، وتراجع الباقون بحذر، محاولين احتواء الموقف ومنع الغول من إيذاء المزيد من المدنيين.رأى ماحي فرصته. كان هذا هو الاستعراض الذي يحتاجه. كان الغول قويًا بما يكفي ليكون تهديدًا حقيقيًا، لكنه لم يكن ذكيًا، وكان من الواضح أنه يعتمد على القوة الغاشمة. كان بإمكان ماحي التعامل معه، خاصة باستخدام سحر الظل.لكنه لم يستطع استخدام سحر الظل علانية. كان ذلك سيثير الكثير من الأسئلة. كان عليه استخدام شيء يبدو أكثر... تقليدية. شيء يمكن تفسيره على أنه موهبة سحرية كامنة استيقظت للتو.فكر بسرعة في التعاويذ التي امتصها من فينياس. كانت معظمها بسيطة وغير فعالة ضد غول بهذا الحجم. لكن كان هناك تعويذة واحدة، تعويذة نارية صغيرة كان فينياس يستخدمها لإشعال نار المخيم أو لإخافة الحيوانات الصغيرة. كانت ضعيفة، لكن ربما يمكن لماحي تضخيمها باستخدام طاقته المتنامية.اتخذ قراره. دفع نفسه عبر الحشد المذعور، متظاهرًا بالشجاعة واليأس. "ابتعدوا!" صرخ بصوت عالٍ ليسمعه الجميع. "أنا... أنا أستطيع إيقافه!"نظر إليه الحراس والمدنيون بدهشة وارتباك. من هذا الشاب الغريب الذي يرتدي ملابس تاجر ويدعي أنه يستطيع إيقاف غول هائج؟تجاهل ماحي نظراتهم، وركز على الغول الذي كان يستعد للهجوم مرة أخرى. رفع يده، وتمتم بكلمات التعويذة النارية التي تعلمها من فينياس. لكن بدلاً من استدعاء شعلة صغيرة، صب كل طاقته الممتصة، كل قوته المتنامية، في التعويذة.شعر بالحرارة تتجمع في يده، أقوى بكثير مما كان يتوقع. ثم، أطلق تيارًا كثيفًا من اللهب الأبيض الساخن مباشرة نحو الغول.فوجئ الغول بالهجوم. لم يكن يتوقع مقاومة سحرية. ضربه تيار اللهب في صدره، مما أدى إلى صرخة ألم وغضب. اشتعلت النيران في جلده الرمادي السميك، وبدأ يتراجع، محاولًا إطفاء اللهب بيديه الضخمتين.لكن ماحي لم ينته بعد. بينما كان الغول مشتتًا، ركز مرة أخرى، وهذه المرة استخدم لمسة خفية من سحر الظل الذي كان يتقنه. لم يستدع الظلام، بل استخدمه ليتلاعب بظلال الأرض تحت أقدام الغول. جعل الظلال تتمدد وتلتف حول كاحلي الغول، كأنها حبال غير مرئية، مما أدى إلى تعثره وسقوطه على الأرض بقوة.قبل أن يتمكن الغول من النهوض، تقدم ماحي، ويداه لا تزالان تتوهجان بالحرارة. وضع يده مباشرة على رأس الغول، وأطلق دفعة أخيرة من الطاقة النارية المركزة. اخترق اللهب جمجمة الغول السميكة، وأنهى حياته في لحظة.ساد الصمت الساحة المزدحمة للحظة، ثم انفجر الحشد بالتصفيق والهتافات. لقد هزم هذا الشاب الغريب، هذا التاجر المجهول، الغول الذي أرعبهم وأنقذ الموقف.تظاهر ماحي بالإرهاق، وترنح قليلاً، كأن استخدام هذه القوة الهائلة قد استنزفه. سمح للحراس بمساعدته على الوقوف، وقبل شكرهم وامتنانهم بتواضع مصطنع."من أنت يا فتى؟" سأل قائد الحرس، وهو ينظر إليه بإعجاب واحترام. "لم أر قط مثل هذه القوة النارية من شخص يبدو... عاديًا جدًا.""اسمي كالب،" أجاب ماحي بصوت ضعيف. "مجرد تاجر قماش. لقد... لقد اكتشفت هذه القدرة مؤخرًا، بعد حادث مروع. لا أعرف كيف أتحكم بها جيدًا.""موهبة كهذه لا يجب أن تضيع!" قال قائد الحرس بحماس. "يجب أن تذهب إلى الأكاديمية الملكية! يمكنهم تعليمك كيفية استخدام قوتك بأمان وفعالية.""الأكاديمية؟" تظاهر ماحي بالدهشة. "هل تعتقد أنهم سيقبلون شخصًا مثلي؟""بمثل هذه الموهبة؟ بالتأكيد!" أكد قائد الحرس. "سأكتب لك رسالة توصية بنفسي! سأخبرهم بما فعلته اليوم. لا يمكنهم رفض بطل أنقذ ساحة السوق!"ابتسم ماحي ابتسامة داخلية باردة. لقد نجحت خطته بشكل مثالي. لقد حصل على الاستعراض الذي يحتاجه، وحصل على توصية من قائد حرس المدينة. الآن، كانت أبواب الأكاديمية الملكية مفتوحة أمامه."شكرًا لك، أيها القائد،" قال بتواضع. "سأكون ممتنًا إلى الأبد."بينما كان الحراس ينقلون جثة الغول بعيدًا، وكان الحشد لا يزال يتهامس بإثارة حول "البطل التاجر"، وقف ماحي في وسط الساحة، يشعر بالرضا عن نفسه. لقد بنى هويته الجديدة، وأثبت وجوده في هذه المدينة. كان الآن "كالب، طالب السحر الموهوب". قناع جديد، ودور جديد ليلعبه في مسرحيته الكبرى نحو الكمال.