رياح متجمدة وشمس بالكاد لها أيُّ دفئٍ هو ما يستقبل القاطنين في هذه المدينة إذ ان شتائهم القاسي قد بدأ بشكلٍ رسمي بالفعل منذُ بضعة أيام وأمامهم بالفعل عدة أشهر حتى الربيع القصير.إلا أن هذه القسوة لم تفعل شيئاً غير زيادة تماسك المجتمع في هذه المدينة ووعيهم لأهمية تكاتفهم مع بعضهم البعض.
"ياي! ، إن ملمس أصابع الصغير أورن لطيفٌ بحق! " كانت القلوب على وشك الخروج من عَينَيّ تيرا وهي تلعب بالأصابع الصغيرة للرضيع بينما تُلاطفه برفق.
كان هذا هو اليوم الثامن من الليلة التي تم إيجاد الرضيع فيها والذي أطلق عليه إسم أورن. لقد أشرقت الشمس بالفعل منذُ بضعة ساعات.كانت تيرا واقفةً بمفردها وهي تلاعب اورن الصغير بلطف بينما كانت جنجر قد تم مناداتها إلى مكتب المديرة منذُ بضعة دقائق.
" جنجر، هل كلُ شيءٍ بخير معك؟" نظرت المديرة كِلِينا إلى جنجر بتمعن وهي تستعلم عن حالها.
"نعم. كلُ شيءٍ يسير بسلاسة وأود إخبار المديرة أن في اليومين الماضيين أظهرت إحدى العائلات في المدينة اهتمامها لتبني إثنين من الأطفال في الميتم وهم يعدون الأوراق اللازمة لذلك حالياً" كانت إجابة جنجرعلى سؤال المديرة احترافية وهي تنتظر بصمت الكلام التالي لها.
" هذا جيد ، استمري على هذا المنوال"
"شكراً"
"لقد مضى بعض الوقت الآن لذا هل ظهرت أيُّ أعراض معينه على أورن أو هل لاحضتي أيَّ أمورٍ غريبةٍ عنه؟"
"كلا، ليس إلى الآن. فمما رأيته عنه فهو مثل باقي الأطفال الذين سبق و إهتمّتُ بهم لذا فكلُ شيءٍ جيدٌ حتى الآن"
"جيد، لكن لا تخفضي حذركِ أو تهملي باقي واجباتك بحجة رعاية الطفل حسناً؟"
"بالتأكيد!"
………
إنه الربيع الآن لكنه لم يكن هوَ في نفس الوقت، فهذا الربيع قد كان الربيع الثاني لأورن وقد مرَت عليه بالفعل سنة وبضعة أشهر ليصبح بعمر سنة ونصف تقريباً.
لم تحدث ايَّ احداث كبيرة طوال هذه الفترة وأكثر ما حدث هو تبني عدد من الأطفال من قبل بعض العائلات و إستقبال الميتم لبعضهم الأخر لكن لم يكن ايٌّ منهم بعمر أورن عندما وجدوه وأصغر الأطفال من بعده في الميتم هو صبي صغير كانت هذه السنة هي سنته الخامسة في عيش هذه الحياة.
لكن كل هذا تغير عند صباح أحد الأيام في هذا الربيع المفعم بالحيوية ، إذ توقفت عربة تجرها خيول بيضاء صغيرة نسبياً لكن يبدو عليها القوة. كانت هذه العربة غريبةً بعض الشيء فرغم بساطة مظهرها إلا أن هناك شعاراً محفوراً عليها يشع بالقوة والتكبر.
كان هناك شخصان في مقدمة العربة سائق العربة والذي كان رجلاً في منتصف العمر وما يبدو كخادم والذي كان رجلاً أيضاً لكنه كان في بداية العشرينات من عمره فقط.
فور توقف العرب نزل الرجل الذي يبدو كالخادم وفتح الباب المغلق للعربة و ليترجل منها رجلٌ حسنُ المنظر بشعر أسود قصير لم يتعدا جبهته وعيون خضراء .
مما يبدو من مظهرهِ فإن هذا الرجل لم يبدو أنهُ قد تجاوز الخمسة والثلاثين من عمره . كان يرتدي ملابساً مكونة من معطف أسود طويل وقبعة سوداء لتكمل مظهره. مع أن ملابسه تبدو ذي تصميمٍ بسيط إلا أنها وعند رؤيتها بعين الخبير فإنه سيجعل العين تتسع من ببذاخة المواد والإهدار لمثل هذه المواد على هكذا تصميم بسيط.
كانت تصرفاته وحركاته لا تدل إلا على النبل والرقي الذي قد اعتاد على إظهارهُ للاخرين.
مشا الرجل النبيل والخادم إلى سور الميتم بينما بقي السائق يقف عند العربة وهو يعتني بالخيل.عند المرور من بوابة الميتم ما استقبل المجموعة هو مشهد جنجر وليڤان وهما يوبخان وتيرا التي كانت تلعب مع أورن ولتأخذ هما جنجر إلى داخل الميتم.
عند لمحهِ لأورن الصغير لمعَ الإرتياح والتوقع في عيني الرجل النبيل و ليتجه ناحية ليڤان وليتكلم خادمهُ نيابةً عنه.
"آححم، لقد جاء سيدي هنا هو يتمنى تبني أحد الاطفالِ هنا. لذلك هل بإمكانكَ إرشادنا إلى مديركَ؟"
عند سماع مطلبه تردد ليڤان قليلاً فلم يتعرف على ايٍّ منهما والذي جعله حذراً نوعاً ما ولكن عند تفكير في كون الرجل الواقف هنا قد يكونُ نبيلاً من مظهره وكون لهجة الخادم عند حديثه لم تكن سيئه ولا يبدو أنهم هنا لعمل المتعاب قرر إرشادهم إلى مكتب المديرة وترك الأمر بين يديها.
بعد دقيقة وداخل مكتب المديرة إجتمع الرجل النبيل مع المديرة بينما ضلّ الخادم و ليڤان في الخارج واقفَينِ بالقرب من الباب وهما ينتظران بصبر.
"إيثان مَاكْلِينْ، سعيدٌ بلقائكِ سيدتي" فور دخوله قدم الرجل نفسه وهو يتفحص السيدة الجالسة أمامهُ.
"تشرفتُ بلقائك سيد إيڤان ،أنا المديرة في هذا الميتم يمكنك مناداتي بـ كِلِينا فقط" ردت المديرة بالمثل لكن دون ذكر إسم عائلتها كونها لا تمتلك واحداً بالفعل فهي لم تكن أكثر من يتيمة في هذا الميتم والتي لم يتم تبنيها.
"إذن بماذا يمكن لهذه العجوز خدمتك يا سيدي؟" بعد لحظة من الصمت تكلمت المديرة، رغم أن كلامها قد يساءُ فهمهُ على أنه تذلل إلا أن لهجة المديرة لم تكن خاضعة ولا ذليلة بل العكس تماماً فلقد كانت مملؤه بالثقة والهيمنة.
"اريد تبني طفلٍ من ميتمكم لا أكثر" لم يضرب الرجل حول الأدغال ولم يهتم لعدم تأثير مكانته النبيلة على مديرة الميتم المتواضع هذا.
" جميل هل وضع السيد إيڤان عينه على طفلٍ معينٍ أم تريد مني أن أقدمهم لكَ لتنظر في الأمر؟"
"كلا، لا حاجة.أنا أعرف من اريد تبنيه بالفعل وكل ما أحتاجه وهو مساعدتك في جعل هذا الأمر سلساً قد الإمكان"
"إذن هذا يجعل الأمور أسهل بكثير. إذا جاز لي أن أسئل هل جهزت الأوراق اللازمة لذلك؟ وهل بإمكاني معرفة من هُو الطفل سعيدُ الحظِ الذي ستتبناه؟ فإن ذلك سيجعل من تسوية الأمور الفنية أسرع. فأنا لا أعتقد أن لرجلٍ نبيلٍ مثلك الكثير من الوقت لتضيعه على هذه الأمور التافهة، أليس كذلك سيدي؟" رغم كلام المديرة الذي يبدو بسيطاً ومراعياً إلا أن هذا الأعتقاد لا يكن أن يكون أكثر خطئاً فكلُ سؤال هو عبارة عن لغمٍ مموه ولم يساعد في ذلك عينيها التي تبدو كعينيّ الذئب عند تظاهرة بالرقة.
" لا تقلقي بشأن ذلك سيدتي. فلقد افرغت نفسي اليوم بالكامل لهذا الغرض بالفعل وها هي الأوراق المطلوبة لذلك" كان الرجل لايزالُ صامداً ولم يبدو عليه ايَّ شعورٍ معين. لا الغصب ولا الإرتباك المتوقع بل على العكس من ذلك فجو الثقة لم يفارق حديثه أبداً.
" جيد ، أوراقك كاملة بالفعل يا سيد إيڤان. إذن من هو الطفل الذي ستتبناه؟ إذا لم تكن تعرفُ إسمه بإمكانك وصفه لي وأنا متأكدةَ من أنني أستطيع جلبكَ له لتراه وحينها بإمكانك اتخاذُ القرار النهائي هناك"
"بطبع، ما أعرفه عنه أنه لم يبلغ من العمر السنتين بعد وأن شعره أبيض ولون عينيه أزرق. هل هذا كافٍ بالنسبة لكِ؟"
"هذا… نعم إنه أكثر من كافٍ فلا يوجد إلا طفلٌ واحد بهذه المواصفات لكن وإن كان هذا قد يبدو غيرَ لائقٍ من جانبي، هل بإمكاني أن أسئلكَ لم اخترت هذا الطفل بالذات؟ وما الذي قد جلب غريباً مثلكَ لدار الأيتام لدينا؟" لم تفارق الأبتسامة الإحترافية شفتي المديرة كِلِينا على طول حديثها هذا وبالإجتماع مع إسلوبها الخاص في الحديث يعطي ولا شعورياً الرغبة بالإفصاح عما هو مكنون.
"إن هذا أمرٌ شخصي ولا أعتقد أني مضطر إلى الإجابة على هكذا سؤال" لم تتعدا إستجابة الرجل أكثر من السلبية ليبدو كالحجر الذي لا يتزحزح مهما فعلتَ له. لكن هذا لم يوقف المديرة من الإبتسام ومتابعة كلامها.
" أنا أعلم ذلك لكن كل الأطفال في الميتم هم مهمون بالنسبة لنا لذا فنحن نتمنى دائماً الأفضل لهم وإن شخص غريب جاء على ما يبدو من خارج المدينة لتبني طفلٍ محدد لا يبدو أن هناك ما يميزه سيثير بالتأكيد بعض الشكوك و يبدو مريبا، لذلك أرجو أن تعذرني إن كنت أبدو وقحة في ذلك لكن أرجو منك تفهم حبنا وقلقنا على الأطفال الذين هم تحت وصايتنا" كلام ملغم، هذا الوصف الوحيد لما تقوله المديرة إذ أن خطوة واحدة خاطئه و كل المبادرة ستذهب إليها وبذلك ستكون واقعاً تحت رحمتها تماماً.
"آه، حسناً إذا كان هذا ما تريدن فلما لا؟ لكن لا يجب أن يكون لكِ عذرُ أخر لجعل الأمور صعبة عَليَّ"
" هذا عادل بما فيه الكفاية،ومجدداً أرجو منك أن تسامحني على فضاضتي"
"حسناً ، إن كل ما في الأمر أنه وإلى الآن لم نرزق أنا وزوجتي بذرية، لكنها أصبحت حاملاً في النهاية فقط ليسقط حملها والذي كان في العام الماضي وتصاب على إثره بكتأبٍ شديدٍ طيلة هذه المدة. لم أستطع تحمل مشاهدتها وهي تذبل أمامي هكذا لذا حاولت أقصى ما لدي لإرجاع ابتسامتها إليها فقط لأفشل فشلاً ذريعاً، لكن وقبل ما يقرب من عشرين يوماً تلقت من خدمي معلومات عن طفلٍ بالكاد بلغ السنة والذي يشبه وبشكل عجيب زوجتي في صفاتها الجسدية وبنفس العمر الذي سيكون فيه طفلنا لو بقيَّ حياً في ميتم هذه المدينة.
لم أستطع تحمل الجلوس ساكناً بعد أن علمت بوجود ما يمكن أن يعيد السعادة لحياتي فقدمت إلى هنا سريعاً وهذا ما قادني إلى ما نحن بصدده حالياً" ضلّ الرجل متماسكاً ورزيناً أثناء حديثه وحتى مع كل الضغط الذي تمارسه المديرة عليه لم يرفَ له جفنٌ ، لم يحمل صوته ايَّ غضبٍ أو تكبرٍ وضلّ هادئ وصافياً حتى بعد كلِ هذا.
" أعترف بذلك،كانت هذه قصة مؤثرة للغاية وكل كلامك منطقي لكن يبقى لدي سؤالٍ واحد لا غير،هل بإمكانكَ ضمان أن زوجتك الكريمة لن ترفضه أو يُلقَى بهَ بعيداً بمجرد أن ترزقَ بطفلٍ أخر؟"
" نعم ، لقد فكرت كثيراً قبل مجيء إلى هنا وحتى في الطريق كنت قد فكرت في كل الإحتمالات بغض النظر إن كانت فشلت أو نجحت في تبني هكذا طفل وأنا أتعهد بأن لا يحصل أيٌّ من مخاوفكِ هذه" بلهجته المعتادة ودون تردد رد الرجل على هذا السؤال.
"إذن سيدي، من فضلك إتبعني لترى الطفل الذي تود تبنيه، و لتتخذ قرارك النهائي عندها" عند النظر والتفكير في كلِ شيء لم تستطع المديرة كِلِينا ايجاد ولا حتى سبب بسيط لعدم إجراء عملية التبني هذه ، لذا ودون سحب الأمور أكثر من ذلك قررت المضي قدماً في إجرائات التبني ورؤية ما الذي سينتج من هذا الأمر كُلِه.
لم يتكلم الرجل وأومأ برأسه فقط وهو يسير متبعاً المديرة كِلِينا بصمت ليخرج من الغرفة وهو ينظرُ إلى خادمه ويشير له بنظَرَاته ليبقى منتظراً في مكانه وعند رؤيته لعدم تحرك الخادم بقي ليڤان في مكانه أيضاً وهو يكمل دردشته الصغيرة مع هذا الخادم المثير للإهتمام.
في بضع دقائق وصل الثنائي إلى غرفة في الميتم وهي نفس الغرفة التي كان أورن ينام فيها عندما تمّ جلبه لأول مرة للميتم وقبل الدخولِ حتى، يمكن سماع الأصوات وهي ترن ، كانت هذه الأصوات مختلطة للغاية ففي تارة يمكن سماع الصوت لطفلٍ صغير وهو يضحك بشغف وتارة أخرى يرن الصوت البهيج لتيرا وهي تصدر أصوات غريبة مثل 'باه' و 'بوه' فقط ليسمع صوت جنجر وهي تؤنبها بتسلية.
وما هي إلا بعض ثواني من سماعهم لهذه الأصوات حتى دخل الثنائي الغرفة.
"احمم!" طهرت المديرة حلقها عند رؤيتهم قد تم استيعابهم تماماً في مرحهم هذا حتى أنهم لم يلاحضوا دخولهم تماماً ولتختفي الأصوات من كلَ من تيرا وجنجر ليبقى فقط صوت أرون وهو مازال يضحك بفرح.
" أسفه " عتذرَ كلاهما أثناء وقوفهما بسرعة وخفض رأسيهما بحرج بينما بقي أورن جالساً على الأرض وهو ينظرُ حوله بارتباك.
"لا عليكما، هذا هو السيد مَاكْلينْ وهو نبيل قد جاء اليوم إلى هنا لرؤية أورن وتفقدة نظراً لرغبته في تبنيه" عرَّفت المديرة كِلِينا الرجل الواقف بجانبها بينما بقي الرجل يحدق في أورن بذهول.
"احمم، سيد ماكلين كما ترى هذا هو الطفل الذي تنوي تبنيه وهو يدعى بـ أورِن. إن هذا الصغير قد كان لدينا منذُ أكثر من سنةٍ بقليل وأود أن أقول أنهُ بعد العديد من الفحوصات التي أجريناها فهو طفلٌ معافى تماماً لكن وكما ترى فإن ميتمينا المتواضع هذا يفتقر تماماً للوسائل اللازمة لقياس التقارب السحري لذلك فنحن لا يمكننا إعطائك كلمةً بشأن ذلك"
قصَّت المديرة حالة أورن وما تعتقد أن على هذا الرجل معرفة قبل إتخاذ قرارة النهائي.
"هذا لا يهمُ بتاتاً. كونه بصحة وعافية هو بالفعل نعمة لا تقدر بثمن، أما لهذه الأمور التافهة فهي غير مهمةٌ بالنسبة لي" لم يبدو من تعبيره الخداع وهو يتكلم بينما يسير ببطء ليقف مباشرة أمام أورن قبل أن ينحني وهو ينظرُ له برقة.
"أورن٫ هو إسمٌ جميل ولا أنوي تغيره لذلك سيكون اسمكَ من الآن فصاعداً هو أورن ماكلين. ستكون وتبقى إبني أنا إيڤان ماكلين بغض النظر عن ايِّ شيءٍ سيحدث من الآن فصاعداً" تكلم الرجل النبيل بهذه الكلمات المؤثره قبل تقبيله لأورن على جبهته .
" هـ هذا غير عادل بتاتاً!"
وبعد لحظة وعند رؤيتها لهذا المشهد تدفقت دموع الحزن من عيني تيرا وهي تصرخ بهذه الكلمات قبل أن تركض وتخرج من الغرفة وقطرات الدموع لا تتوقف عن
التساقط من خديها.
"اسفه" انحنت جنجر قليلاً وهي تعتذر قبل أن تخرج هي الأخرى وباحثةً عن تيرا لتهدئتها لكن فعلها هذا لم يمنع عينيها من الاحمرار والدموع تهدد بالتدفق دون حسيبٍ أو رقيب.
في الغرفة تخلخل جوٌ من الصمت المحرج الأرجاء فقط ليقطع بصوت أورن الباكي لمن يعلم لماذا. هل هذا ما يسمى بحساسية الأطفال؟ لم يعرف الرجل الجواب على ذلك لكنه أخذ على عاتقه تهدأته بأية حال وهو يحمله بين يديه و ليوجه نظره ناحية المديرة وهو يتحدث.
" سأبقى ليوم أخر في هذه المدينة لإعداد الأمور اللازمة للسفر لذلك يمكن لأورن البقاء هنا الليلة و لتودعوه بشكلٍ مناسب "
"شكراً لتفهمك سيد إيڤان"
"لا داعي للشكر، إن هذا مجرد شيء طبيعي"
"آه، في هذه الحالة لنكمل الإجراءات الرسمية للتبني" تهندت المديرة بمزيج من الراحة و الإستسلام فهي رغم خبرتها الكبيرة في إكتشاف نوايا وكذب الأخرين وعندما يتعلق الأمر بهذا الرجل لم تستطع إدراك الكثير فَتعبيره الجامد هذا لم يتغير طوال الوقت وفقط عند ذكر زوجته استطاعت رؤية لمحة من الحب والعشق فيه.
في النهاية لم تستطع إلا إكمال الأمر وإلا فسيعدُ ذلك تقصيراً من جانبها بعد التعاون الكامل الذي أظهره هذا النبيل فضلاً عن موقفه الذي لم يَظهر فيه غير مزاجه النبيل والصبور.
"سيد إيڤان لقد تم كل شيء. لكن كون مكان سكنكَ مما رأيت في المستندات التي قدمتها يقع في العاصمة وحسب علمي تستغرق الرحلة ما يقرب من هنا إلى هناك ما يقرب عشرين يوماً لذا أود أن أنصحك بأخذ مربية أو خادمةٍ كفء للإعتناء بالطفل وإلا فأنا لا أعتقد أن السيد بإمكانه القيام بذلك لوحده" بعد عشرين دقيقة تم إكمال جميع الإجراءات الرسمية للتبني لم تستطع المديرة كِلِينا إلا نصحه بالنصيحة التي أرادت قولها بعد رؤيتها لمكان الإقامة لهذا النبيل أما بالنسبة إلى أورن فقد تمّ تسليمه بالفعل إلى احدا العاملات في المبنى للإعتناء به.
" لقد فكرت بالفعل بذلك. لذا كنت قد تحدثت بالفعل في رسالة إلى مربية أعرفها والتي تسكن في مدينة قريبة والتي لا تبعد أكثر من نصف يوم وبمجرد خروجي سأرسلُ لمن يجلبها إلى هنا لذلك لا داعي لقلقكِ كثيراً سيدة كِلِينا فلقد خططت لرحلة العودة هذه مسبقاً " لم يسع المديرة كِلِينا إلا الإعجاب بدقة هذا الرجل في عمله وجديته في التفكير في هذه المسألة.
وبعد قليل كانت الظهيرة بالفعل كما ودع إيڤان المديرة عند البوابة وفقط بعد رحيلهم تماماً ستدار ليڤان إلى المديرة كِلِينا ليتحدث بما كان يدور في خلجهِ منذُ بعض الوقت.
" لقد تحدثت قليلاً مع الخادم ومما فهمته عن عائلة هذا الرجل فإن حتمال كونه الأب الحقيقي لأورن هو صفرٌ تقريباً. فما هو رأيكِ في ذلك؟"
" إنه تماماً كما قلت. فما لم يكن كلُ شيء بشأنه خداعاً وكذباً فهو لا تمده أيُّ صله بالطفل وإنما صادف وأن إكتشفه لكن لا داعي للقلق بشأن ذلك فمما رأيته في لقائنا والكلام الذي تحدث به فهو يمكن أن يكون أبً جيداً لأرون"
"أنا أمل ذلكَ حقاً"
...
بالعودة الفتاتين فلقد كانتا تجلسان بجانب بعضهما في زاوية من زوايا المطبخ ومن دون إصدارَهما لايِّ صوت وهما غارقتان في افكارهما.
"هاي، تِيرا" رن صوت جنجر ليكسر هذا الصمت وهي تنادي على تيرا.
"ماذا؟" كان رد تيرا متأخراً ومليئاً بالحزن.
"أنا أعلم أنكِ لطالما أرتي أن يكون لكِ عائلة لكن أنا لا أريدكِ أن تكرهي أحد أو ما هو أسوأ ككرهكِ للحياة وأن تيأسي منها فقط لأنه لم يتم تبنيكِ.
فكما ترين لقد عشت في هذا الميتم منذُ أن كنت صغيرة ورغم كل الوقت لم يتم تبنيني أبداً. ومع ذلك فكما ترين ما زلت كما أنا و ما زالت الحياة كما هيَ لذلك لا تحزني فكلنا من أجلك ونحن كذلك عائلةٌ لكِ إن أرتي أنتِ ذلك" كانت المشاعر التي أرادت جنجر إيصالها كثيرة وقد تبدو معقدة بعض الشيء لكي تفهمها طفلةٌ مازالت في السابعة من عمرها، لكنها كانت متأكدة من أن هذه الفتاة ذكية وناضجة بما يكفي لذلك.
" مخطئة، أنا… لا أبكي من أجل ذلك فأنا أفهم ما تقصدين جيداً وإنما ما أنا حزينةٌ من أجله هو أورن، فقط بعد أن اعتدت على اللعب معه ووجوده في حياتي ها هو ذا ذاهبٌ بعيداً عني. أنا لا أعلم ماذا أفعل حقاً. أعني أنني يجب أن أكون سعيدةً لرؤية أورن وهو يحصل على عائلةٍ تحبه لكن لا يُمكنني ذلك، فصدري… إنه يحرقني ولا يمكنني إلا أن أبكي وأحزن على فكرة ذهابه بعيداً هكذا فقط" مع كل كلمةٍ تقولها تيرا تسقط معها دمعةٌ لامعة وبين كل كلمة وأخرى يمكن سماعها وهي تتناهتُ من بكائها و لِتحضنها جنجر من الجانب مواسيتاً هذه الفتاة التي تمَّ كسرُ قلبها دون ما سابق إنذار.
………
في صباح اليوم التالي كانت نفس العربة واقفةً بالقرب من الميتم كما حضر كل من إيڤان وخادم بالإضافة إلى امرأة في منتصف العمر تقف معهم وهي تحمل أورن بين يديها ونظراتها تطل عليه باللطف والحنان.
بينما من جهة أخرى تقف جنجر وتيرا مع المديرة كِلِينا جنباً إلى جنب مع ليڤان. لقد كانوا هنا لإعطاء أورن وداعاً أخيراً ويبدو من وجوه كل من الفتاتين وبالأخص تيرا أنها قد تقبلت الواقع. فها هي هنا لتعطي أورن ما قد يكون الوداع الأخير بينهما وهو ما لا تأمله بالطبع.
"إذن إلى اللقاء جميعاً وعسى أن نلتقي في يوم من الأيام مستقبلاً وشكراً لكم جميعاً على عملك الجاد في إدارة هذا الميتم. الوداع " ودّع إيڤان الجميع قبل أن يسير قدماً لركوب الحافلة و لِتتبع من ورائه المربية التي تحدث عنها سابقاً وهي تحمل أورن في أحضانها.
فور دخولهما العربة أغلق الخادم باب العربة وتوجه ليجلس بجانب السائق و لتنطلق العربة مسرعةً في طريقها إلى عاصمة هذه البلاد وليبدأ بذلك فصل جديد من حياة 'أورن'.