تدفقت الأفكار المكبوتة داخل عقل بوريس، مثل موجة مدٍ قوية، بينما كان يستمع إلى حديث وَلنيت.
ثم قال بحدة مفاجئة حتى له نفسه: "ومن يهتم إذا كنت جائعًا؟ سواء قررت أن آكل أم لا، فهذا خياري أنا وحدي! حتى لو انتهى بي الأمر جائعًا حتى الموت، فهذا قراري ومسؤوليتي.
"لماذا يجب أن يتدخل أحد في ذلك؟ وإذا لم يتغير شيء حتى بعد موتي، فما الفائدة؟ حتى لو أصبحت أقوى ونجحت في قتل كل المحاربين الأقوياء الذين تتحدث عنهم، فما الفرق؟ ليس وكأن ذلك سيعيد الموتى إلى الحياة!"
'هل هذا ما أردت قوله فعلاً؟'
'أن الموتى لن يعودوا للحياة أبداً؟'
لكن وَلنيت لم يمنحه أي اجابة واضحة.
حدق في وجه الصبي، ثم رد بهدوء: "أنت مخطئ! أنت تجوّع نفسك عمدًا، والنتيجة الوحيدة لذلك هي أنك ستذبل مثل الزبيب، أنت من قال إن الموت هو النهاية، فلماذا تربط قيمة حياتك بأشخاص ماتوا بالفعل؟ أليس لديك إرادة تخصك؟"
هز بوريس رأسه ببطء. لم يكن قادرًا حتى على فهم ما يعنيه أن تكون له إرادة خاصة، فما بالك بمحاولة امتلاك واحدة.
تجعد حاجبا وَلنيت قليلًا قبل أن ينفجر بغضبه مجددًا: "إذا كنت تؤمن حقًا أن الموت هو النهاية، فانسَ الموتى وعش حياتك. طارد رغباتك الخاصة، أو على الأقل اجتهد لتعيش حياتك بأقصى قدر ممكن! أنت لست خالدًا. لا يمكنك العيش من أجل الموتى من حيث الكم، لكن يمكنك أن تعوضهم من حيث الكيف. ولكن يجب أن تكون تلك رغبتك الحقيقية!"
لم يكن يهم ما الذي سيختاره بوريس؛ كل الخيارات كانت تقوده إلى نفس الطريق، مثل بوصلة تشير دائمًا إلى الشمال.
ومع ذلك، ظل الشك يتملكه.
لم يكن بوريس دائمًا هكذا، كان في الماضي يتمنى أن يكون لديه منزل مستقر، كان يتمنى، بيأس، أن ينجو شقيقه.
أما الآن؟
أصبح كل شيء رمادًا، مثل ما يخلفه انفجار ناري، لم تكن لديه سوى رغبة واحدة فقط – أن يتمكن من استخدام وينترر كما فعل شقيقه.
ولكن حتى تلك الرغبة لم تكن سوى امتداداً لرغبته في البقاء على قيد الحياة دون الحاجة إلى الاعتماد على أحد.
'هل البقاء على قيد الحياة وحده بلا معنى؟'
ولكن هذا ما أوصاه به يفجنين أثناء حياته، أخبره أن يعيش طويلاً بما يكفي ليكتشف كل الاحتمالات التي قد تقدمها له الحياة.
ولهذا السبب، رفض بوريس الموت دون قتال، رفض الاستسلام دون نضال.
لكنه لم يكن يعلم ما الذي يجب أن يفعله خلال السنوات الطويلة التي قد تنتظره...
كانت روزينيس هي من كسرت الصمت: "لماذا تستمر في معاملة أخي وكأنه فقير، معلمي؟ إنه بخير في منزلنا، لديه كل ما يحتاجه، لن يجوع هنا، لا أفهم ما الذي تتحدث عنه."
أومأ وَلنيت برأسه بهدوء.
لاحظ بوريس، بنظراته الخافتة، أن معلمه استعاد هدوءه.
"آه، نعم، أنت محق، لكنني جائع الآن وأحتاج إلى الطعام، اذهب إلى الطابق السفلي، لانزي، واسأل إن كان هناك أي شيء للأكل. سيكون من الجيد لو وجدت شيئًا دافئًا. وربما يمكنك إعداد المائدة في قاعة الطعام."
كان لانزي جالسًا يستمع بصمت طوال الحوار ، ألقى نظرة أخيرة على بوريس، ثم نهض وغادر الغرفة.
هكذا انتهى النقاش الغريب بين بوريس وَلنيت في ذلك اليوم الممطر.
◇ ◇ ◇
تصرفا بشكل مختلف تمامًا في الليل.
كل ليلة ، عندما تدق الساعة الحادية عشرة يخرج بوريس حاملاً سيفه في يده.
وفي كل مرة ، دون أن يتخاذل، كان المعلم وَلنيت ينتظره خارجاً حاملاً وينترر في يد وقضيباً من خشب السنديان في اليد الأخرى.
كانا يقفان وجهاً لوجه ، تحت ضوء القمر المتوهج ، يحدقان ببعضهما بترقب.
"حسنًا إذًا، هل نبدأ؟"
سحب بوريس سيفه في صمت.
كان وَلنيت يحمل غمد وينترر الأبيض في يده ، وقد بدا وكأنه يتحدى بوريس ليستعيده، ركله على الأرض وبدأ يركض.
رطم!
تراجع بوريس للخلف بمجرد أن اصطدم سيفه بالقضيب الخشبي المتين.
لم يستخدم وَلنيت إلا قضيب السنديان الخشبي لصد بوريس ، مع ابقاءه لوينترر مدسوسًا تحت ذراعه الأخرى.
لم يُخدش القضيب ولم ينكسر مهما كانت عدد المرات التي ضربه فيها بوريس ، و لم يتمكن من خدشه حتى.
كافح بوريس ضده بشراسة، قبل أن يقفز للخلف ويستأنف هجومه، دار وَلنيت حوله ليراقبه لبعض الوقت.
كان بوريس يستخدم سيفًا حقيقيًا - سيفًا يمكنه أن يقطع بالفعل، لهذا السبب كان متردداً في البداية.
ولكن ليس بعد الآن، لم يكن قادراً على اختراق قضيب وَلنيت الخشبي حتى لو كان يستخدم سيف وينترر بدلاً من مجرد سيف عادي، وإن كان لا يزال حاداً.
كانت هذه المبارزة الغريبة تكرر كل ليلة في مثل هذه الساعة منذ أن سرق وَلنيت وينترر.
لكن بوريس لم يمتلك بعد المهارة الكافية لاستعادته.
لم يستطع حتى أن يُحدث خدشًا واحدًا على ملابس وَلنيت.
"أنت سريع حقاً، ألست كذلك؟"
اعتاد يفجنين أن يثني على بوريس أيضًا، عندما كانا يتدربان على السجال ضد بعضهما على تلك التلة.
لكن هذه المرة، بدا الأمر وكأن وَلنيت كان يسخر من بوريس، أو ربما كان يحث الفتى كي لا يستسلم.
وفي كلتا الحالتين، رفض بوريس الاستسلام واستمر في الهجوم بلا هوادة.
تعثر، وسقط، وتأذى، بل ونَزف، لكنه رفض التوقف، حتى ولو لالتقاط أنفاسه، حتى انتهى الوقت المحدد له لهذا اليوم.
كان يضرب ويضرب ويضرب ويضرب مرة أخرى.
ذات يوم، سيتمكن يومًا ما من تحرير نفسه من طمع الآخرين ويعيش حياته دون عائق...
كان بحاجة إلى أن يكون قويًا بما يكفي لاستخدام سيفه بحرية إذا أراد تحقيق ذلك.
في نهاية المطاف ، كان الكثير من الناس الطامعين يسعون وراء ذلك السيف ، حري به أن يكون قويًا بما يكفي لحمايته منهم.
لكن ذلك كان مجرد وسيلة لتحقيق غاية، لم يكن هدفًا حقيقيًا.
أراد بوريس أن يصبح قويًا بما فيه الكفاية ليعيش حياة هادئة، لكنه أبى أن يصبح أقوى من ذلك.
يمكن للأقوياء أن يتقاسموا القارة فيما بينهم إذا رغبوا في ذلك.
هو لم يهتم، كل ما أراده هو كهف صغير حيث يمكنه أن يبقى مختبئًا لبقية حياته.
المكان الذي يمكنه أن يكون فيه بمفرده، حيث يمكنه أن يفكر فيما يشاء دون أن يقلق او يخاف.
حيث يمكنه أن يكون حزيناً ويبكي كما يحلو له.
كان يختنق.
كان قلبه، المثقل من وطأة الكبت، عاجزاً عن التعبير..
"عقلك شارد!"
قام وَلنيت، الذي كان حتى تلك اللحظة يدافع فقط عن نفسه، بشن هجوم مضاد فجأة.
أسرع بتحريك عصاه الخشبية وأطلقها نحو كتف بوريس. حاول الأخير مراوغتها، لكنه فقد توازنه وسقط على الأرض.
تدحرجت حبة عرق على شفتيه بطعمها المالح، وانتهى بها الأمر بالسقوط على حصاة أثناء سقوطه.
الألم الحاد الناتج عن ذلك انتشر من ركبته إلى ربلة ساقه، وشلّها للحظة.
لكن الجوز لم يكن شقيقه الأكبر ليهرع إليه ويسأله "هل تأذيت؟" بينما يضع يده على خده مواسيًا.
لم يترك بوريس لنفسه فرصة لالتقاط أنفاسه.
ففي اللحظة التالية، هجم وَلنيت عليه مرة أخرى، موجّهًا عصاه نحو ظهره، قفز بوريس على الفور نحو الجانب.
تلطخت وجنتاه، اللتان كانتا بالفعل مبللتين بالعرق، لكنه تمكن من رفع نفسه باستخدام ركبته السليمة قبل أن تأتي الضربة التالية.
لم يستغرق الألم وقتًا طويلاً حتى يتلاشى، مسح العرق المتصبب على شفتيه بكمه، ثم استعد للوقوف في وجه خصمه مجددًا.
كان رأسه يتلألأ بالعرق المتصبب، وبدت أشعة القمر البيضاء وكأنها تلتف حوله.
"ها أنا ذا!"
اندفع بأقصى سرعة، مستهدفًا حلق وَلنيت، رغم أن هذا الأخير كان أطول قامة بكثير.
خفض وَلنيت وضعيته، كما لو كان يتحدى بوريس أن يهاجمه، قبل أن يوجّه ضربة سريعة نحو خصره.
ركل بوريس العصا بعيدًا بمهارة، لكن قوته لم تكن كافية لإبعادها تمامًا.
"لست سيئًا!"
حاول بوريس مهاجمة معصم وَلنيت بعد هبوطه، لكن وَلنيت كان أسرع، وضرب يد بوريس دون أن يسقط سيفه.
مع مرور الوقت، أصبح بوريس أكثر إصرارًا.
كان يدرك أنه لن يهزم وَلنيت، لكن شعور التنافس كان يغلبه، لا سيما مع ضغط الوقت، إذ كان يملك ساعة واحدة فقط كل ليلة.
كانت هذه الساعة تمضي بسرعة، وعندما يدق جرس منتصف الليل، تنتهي فرصته اليومية.
كانت هذه الساعة الذهبية تختفي بسرعة مع اقتراب منتصف الليل، وهو الوقت الوحيد الذي سُمح له باستخدام السيف الخشبي.
أما باقي اليوم، فقد كان وَلنيت يقضي وقته في مبارزة روزينيس، غير مكترث بما إذا كان بوريس يتدرب أم لا.
وفي ساعات النهار، كان بوريس يتدرب مع لانزي، الذي كان الوحيد الذي يتابعه عن كثب.
"آخر مرة!"
كانت لدى وَلنيت قدرة غريبة على تحديد الوقت بدقة. ومع كل إعلان عن قرب انتهاء الوقت، اشتعلت روح التحدي في بوريس أكثر.
'يجب أن أستعيده، لا خيار آخر!'
وأخيرًا، للمرة الأولى، اخترق سيف بوريس حارس العصا الخشبية. تراجع وَلنيت عن الهجوم ولوح بسيفه بقوة ليصد الضربة.
تصاعد الغبار الأبيض في الهواء، وأصاب سيف بوريس خدشٌ واضح، بعد أن كان سليماً تمامًا.
ورغم أن وَلنيت كان يمسك بعصاه بيد واحدة، إلا أنه كان يكفي للتعامل مع بوريس الذي استخدم كلتا يديه. حاول بوريس دفع الهجوم بكل ما أوتي من قوة.
التقت عيناه بعيني وَلنيت، وارتسمت على وجه الأخير ابتسامة هادئة وسط الصمت.
للحظة، شعر بوريس أن الأمر أشبه بوهم.
ثم ارتسمت ابتسامة مشابهة على شفتي بوريس، وكأنهما يعترفان بصمت بتحسن بوريس الملحوظ.
"لقد تخلّيت عن حذرك!"
انزلقت عصا وَلنيت إلى مقبض سيف بوريس، موجّهة ضربة قوية إلى يده.
وفي لحظة واحدة، خذلته ذراعاه، وطار السيف بعيدًا عنه ليسقط على الأرض.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يفقد فيها بوريس سيفه بعد ليالِ طويلة من النزال و المقاومة.
حتى بعد أن خسر كل تلك النزالات العديدة لم يترك سيفه
ولو لثانية، حتى لو كان على وشك الاغماء.
مع ذلك..
أنزل وَلنيت سيفه و تفحص وجه بوريس ، بدأ ذقن الاخير يرتجف بتوتر ، شعر بشيء يخرج من صدره.
شعر و كأن شيء ما يضغط على صدره.
لم يستطع تحمله...