ومن الواضح أن الفيكونت لم يكن من النوع الذي يهتم بكلماته أيضاً.
ولكن بدلاً من أن يغضب ، ضحك الكونت وأجاب قائلاً: "حسناً، ألستَ أكثر ريبة يا رفيقي؟ لماذا لا تحضر فقط إبنك الصغير الذي يحذو حذوك؟"
فتح الابن المذكور الباب ودخل الغرفة في ذلك الوقت.
لم يكن بوريس منتبهاً كثيراً للمحادثة لأنه كان مشغولاً بأفكاره الخاصة، لكنه دون أن يدري التفت في الوقت المناسب تماماً.
"تعال وألقي التحية يا غيتاف."
"حاضر يا أبي".
تذكّر بوريس أنه سمع أن غيتاف كان يتمتع بمهارة كافية في استخدام السيف لدرجة أنه كان يستعد للمنافسة في مسابقة الجمجمة الفضية.
لكن الصبي الآخر بدا أكثر ملاءمة لاستخدام الفأس أو حتى الصولجان الحديدي.
فقد كان يشبه بوريس من حيث الطول، لكن كتفيه وذراعيه ورقبته وخصره كانت عريضة جدًا لدرجة أنه كان يبدو حقًا كالدب ، كما أنه لم يكن يبدو رشيقًا على الإطلاق.
تصافح الفتيان، لم تكن يدا بوريس صغيرتين تمامًا، لكن يد جيتاف كانت كبيرة جدًا ومليئة بالشعر لدرجة أن يد بوريس دُفنت داخلها.
"لقد تأخر الوقت..لمَ لا ننام قليلاً هذه الليلة، وغداً يمكننا أن نأخذ الأطفال للصيد للإستمتاع قليلاً؟ سمعت أن هناك بعض الخنازير البرية تتجول في هذه الأنحاء في الآونة الأخيرة، لنرى إن كان بإمكاننا اصطياد واحد منها و إقامة حفل شواء، ما رأيك في ذلك؟"
كان أسلوب الفيكونت ميردير في الكلام عامياً إلى حد ما بالنسبة لنبيل.
استمرت الشكوك في الاستحواذ على عقل بوريس عند سماعه لذلك.
'هل كان ذلك الرجل نبيلًا حقًا؟ هل كان حقاً صديق الكونت؟ هل كان هذا حقاً منزله؟'
وتابع الكونت: "وأين ابنتك الجميلة؟ ربما لأني ليس لدي بنات من صلبي، لكني لطالما عشقتها ، هل تحاول إخفاءها عني؟"
"أصيبت روز بنزلة برد صغيرة وهي تتعافى في المنزل، كنت أودّ أن أحضرها على خلاف ذلك، خاصةً أنه قد مرّ وقت طويل منذ أن تنزهنا معًا."
"يا للأسف! أتمنى أن تتحسن قريباً."
كان الكونت يكذب عندما قال إن روزينيس كانت مصابة بالزكام، لكن بوريس لم يكن في مزاج يسمح له بالاهتمام بأكاذيب تافهة كهذه.
تجاوز الوقت منتصف الليل، و تم إرشاد الكونت وبوريس إلى غرفتيهما بعد تناول وجبة خفيفة بسيطة في وقت متأخر من الليل ، و بعد إنتهاء المجاملات.
لم يكن بوريس قادراً على النوم رغم أن الوقت كان متأخراً وكان متعباً بعد ركوب العربة طوال اليوم ، كان ينظر إلى كل شيء من خلال عدسة الشك جعله يشعر بأن كل من حوله يكذبون أو يتظاهرون.
ثم خطرت روزينيس فجأة على ذهنه، هل كانت مشاركة في هذه المهزلة أيضًا؟
قرر أن الإجابة ستكون بالنفي بعد أن هدأ، كانت روزينيس مخلصة لمشاعرها، حتى لو كان ذلك بسبب غرورها الكبير، عاشر بوريس روزينيس لفترة طويلة بما فيه الكفاية ليعرف على وجه اليقين أنها لم تكن قادرة على تزييف سلوكها بشكل يومي.
لقد كانت غير ناضجة إلى حد كبير لتفعل ذلك.
جلس بوريس.
كان يشعر بأنه يزداد يقظة كل دقيقة ، كان من المستحيل أن ينام. ربما مضت حوالي ساعة منذ أن دخل إلى غرفته، قرر أنها كانت فكرة جيدة أن يتعرف على محيطه بشكل أفضل بينما كان الجميع نائمين.
اقترب من النافذة ونظر إلى الخارج، كان في الطابق الثاني، لكنه كان مصمماً تماماً على القفز من النافذة إذا كان الموقف يستدعي ذلك.
لكن لسوء الحظ، كانت هناك أشواك شائكة تحت نافذته مباشرة، بعد ذلك، شق طريقه إلى الباب وأدار المقبض ، انفتح الباب ليكشف عن أن الممرات كانت مضاءة بمصابيح ساطعة.
عندها فقط تذكّر بوريس قول الفيكونت ميردير أن الأنوار في القصر لم تنطفئ أبداً بسبب وجود الكثير من الحيوانات البرية في المنطقة.
عاد بوريس إلى فراشه وهو يحتضن سيفه في حالة حدوث أي شيء.
وبما أنه لم يكن لديه أي نية للهرب بدون وينترِر، كان خياره الوحيد هو الاستمرار في تصرفه في الوقت الحالي ومعرفة كيفية التسلل من قلعة الكونت في وقت لاحق.
◈ ◈ ◈
لسوء الحظ، خرج ببوريس للصيد باليوم التالي ضد رغبته.
كان مرهقًا لأنه لم يتمكن من النوم لحظة واحدة، ولكن لم يكن بوسعه فعل الكثير حيال ذلك.
انتقى الكونت سبعة من فرسانه الاثني عشر، بينما استدعى الفيكونت عشرات الصيادين تحت إمرته ، أعد الفيكونت ميردير أيضًا قرابة عشرين كلبًا للصيد، وكانت ساحة القصر الأمامية تعج بأصوات نباحها.
قال: "سأُعيرك خمسة من الصيادين وثلاثة عشر كلبًا. ما رأيك برهان؟ أنت وابنك أم نحن—من منا سيمسك بالخنزير أولًا؟"
فأجاب: "يبدو عرضًا جيدًا. لكني من سيختار الصيادين الذين أستعيرهم."
ضحك الفيكونت قائلًا: "آه، كما تشاء أيها الماكر، هل سخرتُ منك يومًا؟"
منذ أن غادروا القصر، لم تتح لبوريس فرصة لرؤية لانزي عن قرب، وكان من الغريب أن يفترقا بعد كل الوقت الذي قضياه سويًا.
حين التقت أعينهما، اتسعت عينا لانزي قليلاً ورفّ جفنه، مما أربك بوريس، إذ لم يعرف سبب ردة فعله تلك.
عندها قال الكونت لبوريس: "دع خادمك هنا، الصيد يتطلب أن تركب على ظهر الخيل."
وخطر لبوريس خاطر في تلك اللحظة، فاستدار بسرعة وقال: "في الحقيقة، أود أن يصحبني، لأني عديم الخبرة في أمور كهذه، أيمكن ذلك؟"
قطّب الكونت حاجبيه وقال بينما ينظر إلى الفتى: "أشك في أنه سيكون ذا نفع... هل تعرف ركوب الخيل؟ إن كان كذلك، يمكنك اصطحابه."
شعر بوريس بالقلق، فقلّ من الخدم يجيدون ركوب الخيل، لكن سَبق و أن أظهر لانزي براعة لافتة في المبارزة.
وبعينين مطرقتين، أجاب لانزي: "أجل."
"هممم... حسنًا إذًا. يمكنه الانضمام إلينا."
رغم أن الكونت بدا غير راضٍ، إلا أنه لم يستطع أن يمنع الإذن بعدما علم أن لانزي يجيد ركوب الخيل، وكان واضحًا أنه لم يتوقع ذلك.
أما الحصان الذي أعاره الفيكونت ميردير لبوريس بتفاخر، فكان حصانًا أسودًا بأنفٍ أبيض، قال الفيكونت إنه يعتني به عناية خاصة، في المقابل، أعطى لانزي حصانًا بنيًا بطبع أكثر هدوءًا.
وبعد أن ركب الجميع خيولهم، انطلقوا غربًا نحو الغابة.
كانت الغابة لا تزال رطبة من ندى الصباح، وتطايرت قطرات الماء من الأغصان المعلقة فوق الدرب لترتطم ببوريس كلما أسرع.
وأصدرت الأعشاب حفيفًا تحت حوافر الحصان، بينما داعبت أشعة الشمس الدافئة—دون أن تكون حارة بعد—عنقه، زال الصداع الذي أثقل رأسه من التعب، واستمتع بإحساس الحصان يتحرك تحته، لم يركب منذ وقت طويل، ومع التوغّل في الغابة، بدأ الضباب حول ذهنه ينقشع.
صرخ الفيكونت ميردير بحماس: "هناك!" لقد كان متحمسًا ليُظهر مهارة رجاله وكلابه أمام ضيوفه، وقد لمح خنزيرًا بريًا في وقت أبكر مما توقع.
علا صوته وهو يصدر الأوامر بشغف: "آزوف، تابع المطاردة! داول، اقطع طريق الهروب نحو الجنوب! حاصروه عند الجدار قرب النهر حيث الحجارة المنصوبة. فهمت؟!"
(نباح...!)
دوّى صوت نباح الكلاب إلى الأمام ، وبدأ الخنزير يندفع نحو الجنوب.
ضحك الكونت وقال: "من الصعب التفوّق على خبير، بالفعل."
لكن الوقت لم يكن مناسبًا للضحك؛ إذ خرج فجأة ثلاثة خنازير أخرى من أعماق الغابة كالسهم في الاتجاه نفسه الذي سلكته الكلاب، وقد أرعبتها على ما يبدو ، وكان من الواضح أنها تسير اليوم في مجموعة.
"عجباً!"
لم يُتح للصيادين الوقت الكافي حتى لتهيئة سهامهم، تفرقت الخيول، وراحت الكلاب تغرس أنيابها بشراسة في جلود أقرب فريسة إليها، لم يتمكنوا من وضع خطة هجوم منظمة بسبب وجود ثلاثة خنازير برية.
صرخ الصيادون في الكلاب، يأمرونها بمهاجمة خنزير واحد فقط، لكن الحماس استبد بها فلم تُصغِ للأوامر، وما زاد الأمور سوءًا، أن الخنازير الثلاثة بدأت بالفرار في اتجاهات متفرقة.
صفر أحد الصيادين وصاح: "كارل! دولبو! كريل! من هذا الاتجاه! إنه هنا!"
كان صيادو الفيكونت ميردير قد طاردوا أول خنزير، لذا لم يتبقَ في المكان سوى فريق الكونت.
ومع ذلك، لم يفقد الكونت رباطة جأشه، وأمر بهدوء: "انقسموا إلى مجموعتين وابدأوا بمحاصرة الخنزير الذي فرّ إلى اليسار فقط! ديليمر وجروميير، احموا الجانب وتأكدوا من أن الخنازير الأخرى لن تعود لمهاجمتنا!"
لم يكن الفرسان متحمسين كثيرًا للصيد، لكن لم يكن أمامهم خيار سوى أن يشهروا سيوفهم امتثالًا لأوامر الكونت، تولّى الكونت على الفور قيادة إحدى المجموعات وانطلق يعدو بجواده، ليختفي داخل الغابة.
كان الدرب ضيقًا بسبب الأشجار، وكان الصيادون يعيقون تقدم الفرسان، بدأ أحد الفرسان بالشتم حينما ركل أحد الخيول شخصًا وصرخ من الألم.
"أترغب بالموت؟! لمَ كنت تسد الطريق...؟"
جاءه الأمر كالصاعقة ، لقد سمع بوريس تلك الكلمات من قبل.
تذكرها بوضوح، كان آنذاك مرهقًا جسدًا وروحًا، لا يملك شيئًا يعتمد عليه، عندما قيلت له هذه الجملة بالذات، ولعلّ ذلك ما جعلها تنطبع في ذاكرته بهذا الشكل، كيف له أن ينساها؟
"آ-أنا آسف..."
لكن الصياد لم يتصرف كما فعل بوريس حينها، ففي ذلك الوقت، لم يكن لبوريس من سلاح سوى عناده، أما الفارس الذي يدعى ديليمر، فقد زفر وأدار جواده مبتعدًا عن الصياد الذي انسحب على مضض عن الطريق، وكان يحمل سوطًا في يده.
لِمَ لم يدرك الشبه إلا الآن؟ لقد جُعل كلعبة بائسة يُعبث بها، وتحطّم كل ما آمن به على الفور.
ثمانية فرسان، الكونت الذي قال يومًا إنه لا يسافر إلا مع اثني عشر فارسًا، حين عاد من ترافاشيس يرافقه ثمانية فقط، أربعة فرسان هاجموه أمام النزل.
حتى الأحمق كان ليستطيع أن يربط بين الأمرين.
وكان هناك ما هو أكثر، فالفرسان استخدموا حينها كلمة "نَبيلاً"، لكن لا أحد في ترافاشيس يصف نفسه بهذا اللقب.
سمع بوريس همسة لانزي يقول له: "من هذا الطريق، يا سيّدي الصغير."
تماسك بوريس وسار خلف الفتى الآخر بذهن صافٍ، كان الجميع يتبعثرون في كل اتجاه، بعض الفرسان قرروا مطاردة أحد الخنازير الأخرى، إذ لم يكن لديهم ما يفعلونه، أما الصبيان، فانطلقا بأقصى سرعة خلف المجموعة الأولى.
وما هي إلا لحظات حتى وجد بوريس نفسه مع لانزي وحدهما، يعدوان بمحاذاة أطراف الغابة، كان لانزي يتصدر المشهد، يقود حصانه برشاقة معتادة، وشَعره الأزرق الفاتح يتمايل بإيقاع متناغم.
بدا من الخلف كأنّه فارس نبيل على صهوة جواده، وبدأت أصوات الآخرين تبهت شيئًا فشيئًا.
لم يلتفت لانزي، ولم يتوقف، تابع التقدم مباشرة نحو الجزء الأعمق من الغابة، حيث الأشجار كثيفة ومتشابكة، واصل التوغل حتى لم يعد في الأفق شيء سوى ظلال الأغصان.
(رفرف..!)
انطلقت طيور سوداء من ظلال الغابة الداكنة، ارتسمت أجنحتها في الهواء كأنها ريشات تسقط بلطف في اللحظة، كضوء على حافة الظلام.
كان المكان يعج بالأصوات، لكن بوريس وجد في ذلك سكونًا من نوع خاص، قطرات الماء المتساقطة، حفيف الأوراق ، و صفير الريح، وأشعة الشمس تتناثر تاركة خلفها ظلالًا فقط، شعر بأن تنفسه صار أيسر، كأنه يستنشق هواءً نقيًا بعد خروجه من نفق طويل، ربما كان يتوهم، لكنه أراد الاستمرار في الجري.
وأخيرًا، توقّفا.
(صهيل..!)
أطلقت الخيول صهيلاً ،وكان العرق المتلألئ على جلد الحصان الأسود يلمع كأنه هالة من الضوء ،كانا قد توغّلا في أعماق الغابة حتى لم يعد بوريس يعلم أين هو ، حوطت البقعة التي توقفا فيها بالأشجار من كل جانب، غارقة بدفء شمس الربيع.
استدار لانزي بحصانه وقفز من على ظهره. فنزل بوريس أيضًا. ثم ارتجفَت شفتا لانزي قليلًا قبل أن يبتسم ويقول:
"لم تستطع الرحيل في النهاية، أليس كذلك؟"
لم يستطع بوريس الرد، واكتفى بالتحديق في وجه لانزي، لكن لانزي لم يكن ينتظر جوابًا ، قال وهو يمدّ يده نحو جواده: "لا وقت لدينا لنضيعه."
وكما الآخرين المشاركين في الصيد، كان هناك رزمة غداء وجعبة سهام معلّقة بجانب حصان لانزي، فكّ الرزمة وناولها لبوريس.
"لانزي، أنت..."
"ألن تقبلها؟"
كادت ذراعا بوريس أن تنهارا حين أمسك الرزمة، لم يكن ذلك لأنّها ثقيلة، فرغيف من الخبز وبعض الجبن هو كل ما كان ينبغي أن تحتويه، لكنه لم يتوقع أن يكون وزنها هكذا.
"ما هذا؟"
"شيء ستحتاج إليه حتمًا إن كنت تنوي السفر بعيدًا."
'لا شك أن بداخلها مالًا ولوازم للسفر، لكن كيف حصل لانزي على كل هذا؟'
وأردف لانزي: "و... أيضًا."
فكّ جعبة سهامه، وعندها فقط انتبه بوريس إلى وجود رزمة طويلة ورفيعة بداخلها، راح يحدق في لانزي، عاجزًا عن النطق بكلمة واحدة رغم محاولته.
وبرز مقبض سيف مألوف من داخل الرزمة حين أخرجه لانزي.