كان الكونتُ ليلحظَ الأمرَ حتماً وبدون أدنى شك لو حاول بوريس جلبه معه، لكن لانزي كان خادماً، ولم يكن الكونتُ ليعيرَ مقتنياته أي اهتمام.

حتى بوريس نفسه لم يخطر بباله في البداية سوى أنها حزمةٌ من السهام، تذكر كيف تساءل عن سبب إصرار لانزي على الحصول على قوس وبعض السهام قبل المغادرة رغم أنه لا يجيد الرماية.

"لمَ تذهبُ إلى هذا الحد من أجلي؟ أنت... أنت لا تعرف حتى من أكون حقاً..."

"لا أعرف، لكن لديّ تخميناتي."

بدت على وجه لانزي تعابيرُ اللامبالاة، مرّر يده على طول ظهر حصانه واتكأ عليه برفق، لم يرَ بوريس هذا الوجه عليه منذ زمن طويل، ناسبته تلك التعابير تماماً.

تماماً كما فعل عندما فكّ أزرار أكمامه وسرّح شعره إلى الخلف في الحفل.

"لكنني متأسف،" تابع لانزي حديثه.

"كان بإمكاني أن أجد لك فرصة أنسب لو أنني تأكدتُ من الأمور في وقت أبكر، كنتُ لا أزال أرتابُ في أمرك قليلاً، أيها السيد الشاب، من المؤسف أنني لم أتمكن من تفحّص السيف سابقاً، لو فعلتُ، لكنتُ قادراً على تبديد شكوكي بوقت أسرع بكثير، وحينها، لربما كنتَ في خطر أقل مما أنت عليه الآن."

في هذه الأثناء، لم يكن بوريس متأكداً تماماً بعد من قدرته على الثقة بـ لانزي، كان لانزي يقدم له معروفاً عظيماً لم يتخيل قط أن يتلقاه حتى في أشد أحلامه جموحاً، ومن واقع خبرته، كلما كبر المعروف، كبرت المؤامرة التي يحيكها ضده مُحسِنُهُ المزعوم.

"أي شكوك؟"

تغيرت النظرة في عيني لانزي تدريجياً من هدوءٍ محسوب إلى تلك النظرة التي لا يمكن أن تجدها إلا في عيني رجل حر.

كان يساعد بوريس بإرادته الحرة المحضة، ليس بدافع الولاء، أو لرد دين، أو لشعور بالواجب، بل ببساطة كشخص لآخر.

"منذ البداية، كان لدي شعور بأنك لم تكن هنا لمجرد أن تكون الابن المتبنى للكونت، أيها السيد الشاب. لكن لبعض الوقت، ظننتُ أنك شريكٌ في خطط الكونت، كنتُ مصمماً على كشف ما يدبره الكونت، ولهذا السبب كنتُ أراقبك في البداية، ربما لم تكن تدرك ذلك، أيها السيد الشاب، ولكن..."

ارتسمت ابتسامة باهتة على وجه لانزي وهو يتابع: "لقد كنتُ أعمل جاهداً للاستيلاء على أكبر عدد ممكن من أسرار المقاطعة حتى قبل وصولك، إنها طريقتي الوحيدة للنجاة. لقد هربتُ من النبلاء الأوائل الذين اشتروني، وكان الكونت يعلم ذلك عندما أخذني أنا وأختي تحت جناحه، في يوم من الأيام، إذا احتاج إلى ذلك، فمن المحتمل أنه سيستخدم لانزيمي ضدي ليجعلني أفعل شيئاً له لا أستطيع رفضه. ولدي فكرة جيدة جداً عما سيكون هذا الشيء."

شعر بوريس بأن أنفاسه تتثاقل.

"لقد كنتُ أعمل بلا كلل لجمع الأوراق التي يمكنني استخدامها ضده عندما يأتي ذلك اليوم، منذ أن وطأت قدماي قلعة بيلنور لأول مرة. لقد حصلتُ منذ ذلك الحين على مفاتيح مكتب الكونت، وغرف نومه، وحتى أدراجه المخفية، وكنتُ أقرأ أيضاً مقتطفات من وثائقه السرية. ثم أتيتَ أنت، أيها السيد الشاب، وصادفتُ اسم 'عتاد قاع الشتاء' بينما كنتُ أحاول معرفة خططك."

لم تكن هناك ساعات كثيرة في اليوم يقضيها لانزي بعيداً عن بوريس أثناء إقامة بوريس في قلعة بيلنور، تُرى كم كان يعمل بجد طوال هذا الوقت؟

"استغرق الأمر مني بعض الوقت لربط هذا الاسم بالسيف الذي رأينا السيد وَلنيت يلوّح به في ذلك اليوم، لم تكن لدي أي فكرة عما كان آنذاك، حتى كتاب 'الأسلحة التاريخية'، أحد الكتب التي أوصيتك بها، لم يذكر 'عتاد قاع الشتاء' قط، أتتذكر؟"

لم يكن لانزي من النوع الذي يوصي بكتاب واحد دون سبب وجيه، ربما أوصى بوريس بالكتاب لكي يجسّ نبضه ويقيّم رد فعله.

"قررتُ أن أضع يدي على مفتاح معرض الكونت وألقي نظرة بداخله بنفسي بدلاً من التأكد من الحقيقة مباشرة معك، أيها السيد الشاب. هناك، رأيتُ نفس الشيء الذي رأيته أنت، استغرق الأمر مني عدة أشهر للوصول إلى هذا الحد، بالطبع، ثم منحتني أنت الفرصة لتفحّص السيف بالتفصيل."

تذكر بوريس كيف استلّ لانزي سيف وينترِر في ذلك اليوم الذي كانت تتساقط فيه أزهار الخوخ.

لقد درس لانزي شكل وينترِر ليقارنه بالصندوق الفارغ في المعرض.

"لو لم تخبرني عن أخيك الأكبر الراحل في ذلك اليوم، فربما كنتُ قد قررتُ أنك تتظاهر فقط بأنك سيد ذلك السيف لأنك كنت تعمل مع الكونت، أيها السيد الشاب."

لقد ساهمت تلك التجربة في التقريب بين الصبيين، حتى لو كان لانزي يقصد فقط الحكم على ما إذا كان بوريس يقول الحقيقة.

أخبر لانزي أيضاً بوريس عن ماضيه، وهو أمر لم يكن يشاركه عادةً، مقابل سماع قصة بوريس.

كانت حياة لانزي أشبه بالسير على حبل مشدود، وكانت أفظع مما تخيله بوريس، ولكن مع ذلك، لم ينسَ قِيَمَهُ الشخصية قط وأصدر حكماً نزيهاً بشكل مدهش.

حتى عندما تكون القدرة على البقاء نزيهاً هي أسهل ما يفقده الضعيف محاولةً للتحرر من قبضة القوي.

ثم سأل لانزي فجأة: "هل تبددت شكوكك؟"

أحرج بوريس أن يعرف أن لانزي كان مدركاً أنه لا يزال يشك في أمر الصبي الآخر، ومع ذلك، لم يستطع ببساطة تجاهل الأمر.

"مع ذلك، لمَ تعرض نفسك للخطر من أجلي؟ هذه مصيبتي أنا ، ما علاقة ذلك بك؟"

اعتلى لانزي صهوة حصانه الذي أصبح أخف حملاً الآن وأجاب: «لا أمتلك مواهب كثيرة، لكن الموهبة الوحيدة التي أمتلكها هي القدرة على قراءة تدفق القوة، أستطيع أن أرى من أين ستنشأ القوة وإلى أين ستتدفق... وكذلك أي نوع من الخاتمة ستؤول إليه بمجرد أن تأخذ مجراها، هناك كتلة من القوة متكتلة بداخلك، أنا ببساطة أحاول السماح لها بالتدفق، لم يحن الوقت بعد لتصطدم هذه القوة بشيء وتنفجر. أنا معجب جداً بأشخاص مثلك، لكن...»

صمت لانزي فجأة، وكأنه يبتلع الكلمات التي كان على وشك أن يقولها، ثم تابع: "أنا لستُ شخصاً صادقاً جداً."

اعتلى بوريس صهوة حصانه أيضاً، ثم سأل سؤالاً أخيراً.

"ماذا سيحدث لك بمجرد عودتك؟ إذا علم الكونت بما فعلته..."

هز لانزي رأسه، غير راغب في السماح لبوريس بإكمال كلامه، وابتسم ابتسامة عريضة: "لقد كان السيد نفسه هو من أمرني بأن أضع كل شيء جانباً وأن أجعل خدمتك أولويتي، أيها السيد الشاب. لذا، ليس هناك الكثير مما يمكنه قوله حيال ذلك."

كان بوريس يدرك تماماً أن لانزي كان يلقي مزحة سوداوية إلى حد ما.

هل سيكون لانزي بخير حقاً أثناء عمله لدى الكونت حتى بعد فعل هذا؟ أو، ماذا لو كان في الواقع يخطط لشيء آخر طوال الوقت؟

ففي النهاية، كان لانزي ذكياً جداً لدرجة أن بوريس بالكاد يستطيع مجاراته.

لم يكن يعرف، ولكن مع ذلك، كان عليه أن يغادر، ففي النهاية، كان قد قرر بالفعل أن يخرج منتصراً من مجرد آلام النمو.

هرول الحصانان وهما يستديران، أشار لانزي بعيداً نحو الغرب، كان يشير إلى ألاجونغ، أرض النبيذ.

لم يلتفت بوريس إلى الوراء وهو يقول بهدوء: "لن أنسى هذا أبداً... وسأرد لك الجميل يوماً ما دون أدنى شك."

ثم بدأ حصانه بالعدو، انطلق مسرعاً أسفل الطريق المنحدر.

"سأناديك باسمك كما ينبغي في المرة القادمة التي نلتقي فيها."

كان ذلك آخر ما سمعه بوريس قبل أن يغادر، بدا صوت لانزي بعيداً وقد طغى عليه صوت عدو حصانه.

◈ ◈ ◈

حلّ الليل مرة أخرى.

وجد بوريس نفسه يعدو عبر سهل قبل أن يدرك ذلك، لمَ كان الظلام دامساً هكذا؟ لقد أخفاه الظلام عن الأعين المتطفلة عندما لم يكن يرغب في أن يُرى.

لمَ كان القمر والنجوم باهتان إلى هذا الحد؟ كان الأمر كما لو أنها تخبره أن ينسى كل ما يعرفه وأن يعيد تعلم كل شيء من جديد.

لم تكن لديه أي فكرة إلى أين يذهب، كل ما كان يعرفه هو أنه لا يستطيع العودة، كان خائفاً، لكنه لم يتردد.

كانت الأشياء التي يتركها وراءه تثقل قلبه، ولكن في الوقت نفسه، شعر بخفة وحرية كبيرتين، كما لو أنه قد خرج أخيراً من شرنقته.

مرة أخرى، كان وحيداً تماماً، لكنه كان أكبر سناً الآن.

سيستمر في الركض، لم يكن يهم إلى أين يقوده طريقه.

كان الظلام حالكاً، لكنه سيستمر في الركض في جوف الليل المظلم الذي يلف كل شيء.

و سيخترق هذه الليلة الغير مضيئة..

◈ ◈ ◈

شعر بوريس بالألم في كل أنحاء جسده بمجرد حلول الصباح، كانت عظامه وعضلاته تؤلمه بشدة، لقد ظل يمتطي حصانه لفترة طويلة جداً بينما كانا يندفعان عبر السهل.

لم تسنح له الفرصة لركوب حصان لفترة طويلة منذ وصوله إلى قلعة بيلنور، ولم يكن قد مارس ركوب الخيل منذ فترة أيضاً.

في البداية، كان يندفع إلى الأمام بهوس شديد لدرجة أنه لم يكن لديه الوقت للتفكير فيما سيأتي بعد ذلك.

لكن الأفكار المربكة في ذهنه استقرت أخيراً مع حلول الليل، وأصبح قادراً على اتخاذ قرارات متزنة مرة أخرى، أدرك بوريس، بمرارة، أنه وحيد مرة أخرى، لقد أصبح مرة أخرى متشرداً لا أحد يحميه.

كم من الوقت سيستغرق حتى يدرك الكونت أنه مفقود؟ ربما بدأ الكونت يشك في الأمر بحلول الوقت الذي فشل فيه في الحضور لتناول طعام الغداء.

من المحتمل أن يكون الكونت قد أمر فرسانه ببدء البحث، وربما استجوب لانزي أيضاً، تساءل بوريس عما قاله لانزي للكونت، بالكاد استطاع حتى التخمين.

من المؤكد أن الفيكونت ميردير كان لديه رجاله أيضاً، لذلك ربما كان يتعاون في البحث.

ومن المحتمل أنه تم إرسال رسالة إلى قلعة بيلنور أيضاً.

لن يستغرق الأمر سوى يوم واحد لراكب بريد سريع لنقل الرسالة، بعد ذلك، سيتم حشد بقية فرسان الكونت، مما يعني بدوره أنه سيصبح من الصعب على بوريس الاختباء في أي مكان.

'إلى أين يجب أن أذهب؟ مكان لا يوجد فيه أحد؟ أم ربما من الأفضل الذهاب إلى مكان يوجد فيه الكثير من الناس؟'

في كلتا الحالتين، لم يكن الأمر كما لو كان لديه خيار كبير، لم يكن لديه فقط الوسائل لإيجاد طريقه إلى أقرب قرية، بل لم يكن يعرف حتى ما إذا كان في بيلكروز أم ألاجونغ.

بدت كل سلسلة جبال ومساحة من السهول من حوله متشابهة، وكان تحديد الاتجاه الشمالي هو أفضل ما يمكنه فعله.

كانت أنوماراد شاسعة بشكل مروع، كان في الأساس مجرد نقطة صغيرة بالمقارنة، ولن يتمكن من الهروب من حدودها حتى لو استمر في السباق طوال اليوم.

جاء فريق البحث بمجرد أن بدأ ضوء النهار يضحو عبر السماء.

لم يصب بوريس بالذعر.

فقد كان يعلم بالفعل أنه قادم، ولم يكن هناك سوى طريق واحد يمكنه اتباعه بعد نصف يوم من السفر على ظهور الخيل.

تألف فريق البحث من فارسين، حفزا خيلهما بشكل أسرع بمجرد أن لمحا الصبي.

لم يكن هناك أي شخص آخر في الجوار، كان ضوء مزرق ينتشر عبر الحقول المضاءة بالفجر، كانت الجبال تقف شامخة خلفه، وكانت الصخور والحجارة المتعرجة متناثرة في جميع أنحاء الطريق غير الممهد...

"هاه!"

(سووش!)

كان حصان بوريس منهكاً.

رسم الهارب ومطاردوه قوساً واسعاً عبر الحقل العشبي، قفزت الصخور من كل الأحجام في وجهه وهو يمر، شد ساقيه بقوة أكبر ليحث حصانه على المضي قدماً، لكنه كان يعلم أن حصانه لا يمكنه الاستمرار على هذا النحو لفترة أطول.

السبب الوحيد الذي جعله يصمد كل هذا الوقت في المقام الأول هو أن الفيكونت قد أعاره حصاناً ممتازاً.

ثم رأى رقعة من الأرض الجرداء مغطاة فقط بالأعشاب الجافة.

ترك الغبار الذي أثاره حصانه طبقة من المسحوق الأبيض فوق عباءته ، انبطح بوريس على حصانه قدر استطاعته.

خطر له فجأة أنه كان يفعل ذلك تماماً كما علمه أخوه منذ زمن بعيد.

لكن البراعة في هذا الأمر كانت بلا جدوى الآن، ما فائدة كل ذلك إذا لم ينجُ؟ لا يهم إذا كان فارساً ماهراً بالنسبة لعمره.

لم يهتم البالغون الذين يطاردونه، إن تقييم قدراته، بغض النظر عن مدى موضوعيته، لم يكن سوى مجموعة من الكلمات الفارغة.

حان وقت القتال تقريباً، كان الحصانان اللذان يطاردانه على بعد اثنتي عشرة خطوة أو نحو ذلك الآن.

كان أحد الفرسان يحمل رمحاً، و كان سلاح بوريس أقصر بكثير بالمقارنة، ولم يكن يعرف كيف يقاتل فارساً على ظهور الخيل في المقام الأول.

'أين يجب أن أترجل؟'

نظر بوريس حوله ورأى أن هناك سرباً من الطيور يحلق في الهواء أمامه مباشرة ، انقض أحد الطيور فجأة إلى الأسفل كالسهم، ثم حذت بقية الطيور حذوه حتى اختفت جميعها عن نظره.

عندها قرر أن يخوض مقامرة خطيرة.

'فقط القليل بعد، فقط أقرب قليلاً.'

لم يكن بوريس يبالغ في تقدير قدراته، لم يكن لديه خيار آخر، كان حصانه يعتصر آخر قطرات قوته وهو يندفع إلى الأمام.

كاد بوريس يشعر وكأنه يسير بسرعة كبيرة جداً.

وصل إليه في غمضة عين.

'هل هو هنا؟ هل يجب أن أذهب أبعد قليلاً؟ هل تجاوزته بالفعل...؟'

"هاه!"

شد بوريس لجامه بقوة واستدار بأقصى حدة ممكنة، لم يكن من السهل جعل حصان في حالة عدو كامل ينعطف فجأة إلى اتجاه آخر، لكن اليأس كان دافعاً قوياً.

الفشل يعني الموت!.

بالكاد تمكن بوريس من جعل حصانه ينعطف إلى اليمين، واقتربا بشكل خطير من السقوط من حافة الجرف، الصخور التي ركلها حصانه وهو يستدير سقطت في الأعماق السحيقة.

(طقطقة، طقطقة...)

"آك!"

شق صراخ حاد الهواء، صهل حصان، وتفتت الصخر الأساسي محدثاً ضجة.

اخترقت الضوضاء بوريس أعمق مما كان يعتقد وجعلته يرغب في سد أذنيه، لكنه لم يجرؤ على ترك اللجام.

'هل نجحت؟ هل سقط كلا الفارسين؟'

تلاشت الصرخة محدثةً صدىً، و كُتمت بسبب بعد المسافة..

2025/06/09 · 10 مشاهدة · 1995 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025