51 - "بـداية الرحـلة الـحقيقية"

ثم انهمرت دموعه فجأة كالفيضان ، لم يكن يذرفها على القَتيل، لكنه لم يذرفها على نفسه أيضاً.

شعر بثقل في صدره، لم يعرف كيف يصف ذلك، لم يكن حزناً ولا ألماً ولا ارتياحاً.

لقد فعل شيئاً فظيعاً للتو، لكن لم يكن هناك أحد ليحتضنه ويقول له: "لا بأس" لم يستطع أن يحزن على موت الفارس ، يمكنه أن يحزن على طائر مات بعد سقوطه من عشه أثناء عاصفة، لكنه لا يستطيع أن يحزن على موت الفارس.

ففي النهاية، لم يكن سوى هو من وضع حداً لحياة الفارس، لا يمكن أبداً التراجع عن أي فعل، لكن هذا... كان هذا مخيفاً ومربكاً بقدر ما كان لا رجعة فيه.

في الوقت نفسه، خاف بوريس أيضاً من نفسه، يداه قتلتا شخصاً للتو، ماذا لو قتلتاه هوَ أيضاً؟

"أخي..."

بحثت شفتا بوريس عن أخيه الأكبر قبل أن يتمكن من منع نفسه ، وفي تلك اللحظة، تذكر ما قاله له أخوه وهو ينظر مباشرة في عينيه.

[أستطيع أن أفعل ذلك أيضاً، ليس فقط أبي... أستطيع أن أقتل الناس أيضاً.]

[وهكذا..يمكنك أنت أيضاً.]

كان يفنجين على حق، كان بوريس قاتلاً أيضاً الآن، هل كان هذا شيئاً يمكن لأي شخص فعله إذا اضطر لذلك؟

لقد أنجز بوريس للتو شيئاً لم يفعله من قبل، لكنه لم يشعر بأنه قد نضج، شعر فقط وكأنه اتخذ خطوة في طريق لا يمكنه العودة منه أبداً.

كانت البيئة المحيطة ببوريس تزداد إشراقاً، لكن قلبه المغطى بالدماء ، ازداد قتامة.

و سطعت الشمس المشرقة بثبات على الفتى المكدوم المضرج بالجراح، الذي ارتكب للتو أول جريمة قتلٍ له.

◈ ◈ ◈

"أأضعتموه؟!"

كان وجه الكونت بيلنور متجهمًا وغاضبًا وهو يستمع إلى التقارير التي أُبلغ بها.

لقد أرسل سبعين رجلاً إلى أنحاء بيلكروز و آرازون ليعثروا على الفتى قبل صباح الغد، ولكن لم يرَ أحد منهم له أثرًا ولا خيالًا، كان الكونت ساخطًا، وكان الغضب المكبوت فيه على وشك الانفجار.

كان كل رجلٍ منهم يعرف ملامح بوريس، وأكثر من نصفهم بدأ البحث منذ ظهر البارحة.

'متى بحق ، فرَّ الصبي؟ ولماذا لم يره أحد؟!'

عاد الكونت فورًا إلى قلعة بيلنور وفتّش غرفة بوريس رأسًا على عقب، لكن من البديهي أن وينترر لم يكن هناك، كانت هذه أول مرة يغادر فيها بوريس القلعة منذ أن أحضره الكونت إليها، لذا كان حريصًا شخصيًا على مراقبته مراقبة دقيقة.

لم يكن يدري كيف تمكّن الصبي من أخذ السيف دون أن يلحظ ذلك.

روزنيس، التي لم تكن على علم بما يجري، هرعت في الصباح الباكر وسألت عن أخيها، لكن الكونت لم يكن في مزاج يسمح له بمحادثتها.

"هل هَزم أخي؟ ألهذا طردتموه؟ أهذا ما حدث؟ صحيح؟ أرجوك أخبرني!"

"أخرسي واذهبي إلى غرفتك!"

سرعان ما اغرورقت عينا روزنيس بالدموع ، نادرًا ما كان الكونت يرفع صوته بهذه الطريقة.

ومع ذلك، كانت روزنيس عنيدة بقدر ما كانت طفولية : "أنا أكرهك يا أبي! لقد كان طيبًا جدًا معي... كيف تطرده من البيت لمجرد أنه هُزم؟ كنت أريد أن أودعه... لم أظنك ستكون قاسيًا هكذا يا أبي!"

غضبت روزنيس حين رفض الكونت الرد عليها حتى، فختمت كلامها وغادرت وهي تدوس الأرض بغيظ.

أما ذهن الكونت، فكان قد انصرف إلى أمرٍ آخر: "أحضروا لانزي حالًا!"

بدا لانزي مصعوقًا وهو يُسحب تقريبًا إلى الكونت، لكنه حافظ على رباطة جأشه وهو يحدق أمامه بثبات.

سأله الطونت بنبرة تحذيرية : "متى كانت آخر مرة رأيت فيها بوريس اثناء الصيد؟"

"عذرًا؟" بدا لانزي متفاجئًا كما لو أن السؤال أربكه، وكأنه لم يكن يتوقعه.

تردد لحظة، وتظاهر بأنه يبحث في ذاكرته، ثم أجاب: "حسنًا... لقد تفاجأ الجميع حين ظهرت ثلاثة خنازير برية فجأة... شعرت بالخوف، فلم أكن قد رأيت خنزيرًا بريًا من قبل، فاستدرت وهربت، أظن أن السيد الشاب تفاجأ كذلك... لكنني فقدت أثره أثناء الهرب، ولا أدري إلى أين ذهب..."

بدت روايته معقولة ، ضيّق الكونت عينه واستأنف استجوابه بحدّة: "أنا متأكد أنني رأيتكما تتجهان في نفس الاتجاه، أنت خادمه الخاص، هل يعقل أن تتركه يغيب عن نظرك كل هذه المسافة؟"

انهار لانزي فجأة على ركبتيه وانحنى برأسه: "أعتذر يا سيدي، سأقبل بأي عقوبة إن كان ما حدث نتيجة لتقصيري في واجبي، وإن كان السيد الشاب في خطرٍ بسبب فشلي في خدمته كما ينبغي، فإنني..."

بدا وكأن لانزي يعتقد أن بوريس قد تاه فحسب، أطلق الكونت صوت استهجان بلسانه من شدة سخف الموقف.

الفتى لا يعلم حتى سبب غضبه العارم. ولم يكن لديه وقت ليضيعه مع صبي جاهل كـ لانزي.

لم يخطر ببال الكونت بيلنور للحظة أن خادمًا تافهًا قد يكون يدبّر شيئًا منذ أمدٍ طويل ولم يتحرك إلا الآن، ففي نظره، جميع الخدم مجرد حمقى لا يعرفون سوى الخوف أو ما يمكنهم جنيُه إن كان أمام أعينهم مباشرة، ولا يملكون قدرة التخطيط لأبعد من أربعة أيام.

ومع ذلك، عزم الكونت على رفع صوته مرة أخرى. "أنت لا تكذب عليّ، صحيح؟ ستموت إن اكتشفت يومًا أنك رأيت إلى أين ذهب الصبي وسكتّ!"

ظلّ لانزي محافظًا على مظهره الحائر وهو يرد: "كيف لي أن أجرؤ على ذلك؟! سأقبل بأي عقوبة على تفريطي في مراقبة السيد الشاب حين كان يجب أن أكون إلى جانبه... لكن لماذا تتحدث وكأنه ذهب إلى مكان ما؟ أظن أنه تاه فحسب في الغابة..."

لم يكن الكونت مهتمًا لسماع المزيد من أقواله، كان قد استدار بالفعل نحو هيو الذي كان ينتظر ، وأمره: "تابعوا البحث عنه، وفتشوا كل من يعود دون نتيجة! من يكذب ويقول إنه لم يره، فليُعد ميتًا!"

"أمرك، سيدي!"

ظل لانزي جاثيًا على ركبتيه لبعض الوقت بينما كان الكونت يطلق أوامره واحدة تلو الأخرى، ثم نهض ببطء وغادر بعد برهة.

سار في الممر حتى وجد نفسه قد توقف أمام باب الغرفة في الطابق الثاني من برج ضوء القمر. لقد جاءت به قدماه إلى هنا دون وعي منه.

ولعله لن يجد سببًا ليأتي إلى هذا المكان مرة أخرى.

ابتسم لانزي بمرارة ونظر من النافذة، كان طائر صغير قد انفصل عن سربه، يطير بيأس عبر الحقل.

وضع لانزي روزنكرانز يده فوق عينيه ليقيهما من الشمس، وظل يراقب الطائر طويلًا.

◈ ◈ ◈

كان دواريت، الحداد، يطوي صفحة يوم بطيء في عمله، كانت حدادته قرب مقلع الغرانيت، الذي يبعد قليلًا عن القرية، ومع ذلك لم يكن يواجه أي صعوبة في كسب رزقه، إذ كان الجميع في الجوار يعلمون مدى براعته.

لم يزره زبائن غرباء في ذلك اليوم بالذات؛ لم يكن سوى بعض الفلاحين من قرية مجاورة جاؤوا ليصلّح أدواتهم، وصبي واحد طلب منه أن يلمّع سيفًا فولاذيًّا قديمًا ورثه عن أبيه.

ظل دواريت يعمل حتى وقت متأخر من المساء لأنه كان يُتمّ مهمة تسلّمها قبل عدّة أيام ، ولم يكن مقيدًا بوقت محدد للعمل، فهو أعزب لم يتزوج قط، ولا ابناء له، رغم تقدمه في السن.

لم يكن يشعر برغبة في تناول العشاء تلك الليلة، ربما سيذهب إلى البلدة ليشرب كأسًا بدلًا من ذلك.

أعاد منفاخ النار ومنديله إلى مكانهما، وخلع مريوله الجلدي وعلّقه، حين لمح شخصًا قادمًا من الحقل.

لم يكن من المعتاد رؤية الناس يتجولون في هذه الأيام، فقد اقترب موسم الزراعة، تُراه مسافرًا جاء من بعيد؟

اقتربت الهيئة أكثر، عصفت الرياح في الحقل كجناح طويل، وعبثت بشعر القادم الأسود، كان راكبًا على صهوة جواد، وملابسه تشي بأنه مسافر، لكنه بدا ضئيل الحجم بالنسبة لشخص بالغ.

خلع الحداد قفازيه ووضعهما على الرف، ثم التفت فإذا بالمسافر قد أصبح على بعد خطوات منه فقط، كان صبيًّا ناعم الوجه، كما توقّع.

لكنه كان مبللًا من رأسه حتى أخمص قدمَيه، كأنه سقط في الماء في مرحلة ما، لم يكن عجبًا إذًا أن يرتجف بهذا الشكل.

فرغم أن الفصل المناخي كان ربيعًا ، إلا أن الليالي لا تزال باردة.

قفز الفتى عن حصانه، وتقدّم نحو الحداد : "هل أنهيت عملك اليوم؟"

كان صوته خافتًا، وحملُه خفيف بالنسبة لمسافر، فلم يكن معه سوى طرد صغير يبدو أنه وجبة مربوط على السرج، وسيف واحد في يده.

لكن ذلك السيف لم يكن عاديًّا، فالحداد، المخضرم في مهنته، لم يسبق له أن رأى غمدًا بمثل هذه الصناعة المتقنة.

"هل أتيت لطلب شيء؟"

"أريد غمدًا جديدًا لسيفي."

"تريد أن تستبدل هذا؟" سأل الحداد بدهشة لم يستطع كتمانها.

فالغمد بدا سليمًا من كل عيب، سطحه الأبيض الخالص لم يكن مهترئًا ولا مخدوشًا حتى، وكان مناسبًا تمامًا للسيف، لم يستطع الحداد فهم سبب رغبة الفتى في استبدال غمد لا عيب فيه كهذا.

نظر الفتى إلى وجه الحداد وكأنه قرأ أفكاره، كان وجهه قاتمًا، وعيناه الغائرتان المظلمتان لا تتناسبان مع عمره اليافع، كانت تلك نظرات من رأى ما لا ينبغي أن يُرى... قطّب الحداد حاجبيه وهو يسترجع ذكرى قديمة.

"أرجو أن تجعل الغمد الجديد بسيطًا وعاديًّا، لا يلفت الأنظار، سأدفع لك ثمنه بالطبع، لكن ليس لديّ وقت كثير للانتظار... هل من الممكن أن أشتري غمدًا جاهزًا لديك؟ لا بأس إن لم يكن مناسبًا تمامًا للسيف."

أمعن الحداد النظر في وجه الصبي، تذكّر أن لابن أخيه الراحل ذقنًا حادًّا كذقنه.

كان قد أقسم أن ينتقم ممن قتل والده، وانتهى به المطاف أن قضى نحبه على يد عدوه، ولمّا عجز دواريت عن منع أخيه أو ابن أخيه من حتفهما، قرّر ألّا يُنجب أبدًا، بعد أن سرق جثة ابن أخيه التي طُعنت على رمح، ودفنها سرًّا.

"ادخل."

مضى الحداد إلى الداخل، وأخرج مجموعة الأغماد التي صنعها، عارضًا إياها على الفتى ليختار ما يشاء.

كانت بعضها رائعة الصنع، صنعت للورد المحلي أو لزبائن أثرياء، وزُيّنت بالبرونز وجُعلت فيها جواهر خشنة، أو نُقشت عليها زخارف فاخرة.

لكن الفتى اختار غمدًا عريضًا كان في الأصل مخصّصًا لسيفٍ ضخم (زفاين‌هندر)، وكان في طرفه قطعة فولاذ مستديرة حتى لا يهترئ بسهولة، إذ كان ذا مظهر خشن.

استلّ الفتى سيفه، فلم يستطع الحداد كتم تنهيدة إعجاب، لقد عاش أكثر من أربعين عامًا في هذه الحرفة، ولم يرَ في حياته سيفًا كهذا.

تساءل لحظةً إن كانت حياته كلها قد ضاعت سُدى، فبريق المعدن، وتناسق الخطوط، والتقاء الأجزاء بسلاسة وثبات، كان يبهر البصر.

طرح الفتى غمده الأصلي أرضًا، وأخفى بهاء سيفه داخل الغمد البسيط، أشعر ذلك الحداد بشيء من الأسى.

و أن يُفرّق بين هذا الثنائي الكامل... أن يُدنّس هذا الجمال النقي بهذا الغلاف القاسي.

"سآخذ هذا، كم ثمنه؟"

"ألستَ مجبرًا على استبداله؟ هذا الغمد لا يليق بجمال سيفك..." لم يكن الحداد طامعًا، بل قال ما قاله حبًّا في السيوف لا غير.

لكن الفتى هزّ رأسه نافيًا : "لا يهمني، أنوي التخلص من الغمد الأصلي على أي حال، يمكنك الاحتفاظ به إن أردت."

كان الحداد على وشك الرفض، لكنه تراجع وهزّ رأسه بالإيجاب، التقط الغمد الأبيض الذي طرحه الفتى وتأمّله بانبهار، ثم هزّ رأسه أخيرًا: "لا حاجة لأن تدفع شيئًا، بل لعلّي أنا من ينبغي له أن يدفع ثمن هذا الغمد."

وقبل أن يُبدي الفتى اعتراضه، التفت الحداد وسحب من ركن الورشة حزامًا جلديًّا.

كان الحزام مزوّدًا بحبلَين طويلين بما يكفي ليلتفّا على الصدر والكتفَين، وهو مناسب تمامًا لحمل سيف كبير على الظهر ، و كان الجلد من نوعية فاخرة، ومشبك الحزام أيضًا عالي الجودة.

همّ الفتى بالرفض، لكنه غيّر رأيه أخيرًا وهمس بشكرٍ مقتضب، ثم ارتدى الحزام وثبّت سيفه عليه.

لم يتبادلا سوى وداعٍ موجز، قبل أن يعتلي الفتى صهوة جواده ويرحل مبتعدًا في الأفق..

2025/06/10 · 10 مشاهدة · 1708 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025