52 - "الأشياء الثلاثة التي حدثت في الطريق إلى ليمي، أرض البحارة في الشمال" (١).

هَطل الغَيث.

كان بوريس مبتلًا بالكامل، لذا لم يكن ليتبلل أكثر مما هو عليه، كانت المياه تنهمر على جسده كله، لكنه أستمتع بذلك نوعًا ما.

هناك الكثير مما يتمنى أن يغسله الغَيث بعيدًا، كان يتمنى أن يبقى في الماء حتى يفقد أخيرًا رائحة الدم النتنة.

كان عباءته القصيرة مثقلة بقطرات المطر الغزيرة، وبدأ الماء يتجمع داخل حذائه، بدأ يمشي ليمنح حصانه المنهك بعض الراحة، لكنه لم يكن قادرًا على التوقف عن الحركة.

كانت الشمس تغرب، وكان بريق الأرجوان والأزرق السماوي الذي لوّن الأفق بين النهار والليل، أكثر سحرًا من السماء حين تكون بلونٍ واحدٍ صلب.

كيف له أن يرى أشعة الشمس الأخيرة وهي تغرب رغم المطر؟ لقد كان الطقس غريبًا بعض الشيء.

وصل بوريس إلى قرية صغيرة حين خيّم الظلام وتوقّف المطر، كانت قرية ضئيلة بحق، ربما لا يتجاوز عدد بيوتها العشرة.

كان ينوي أن يبيت ليلته في مكانٍ ما، إذ كان لديه بعض المال، كان صغيرًا في السن، لكنه كان يعلم أنه يبدو من الخارج كفارسٍ شابٍ ناضج، لذا لم يكن يخاف الناس كما كان الصيف الماضي.

إلا أنّ بوريس واجه أمرًا غير متوقع بمجرد دخوله القرية.

"اقتلوه!"

"اقتلوا هذا الحقير!"

كان هناك جماعة من الناس يحيطون برجلٍ واحد، يصرخون عليه ويلعنونه وهم يضربونه.

لم يكن أحدهم يحمل سيفًا، لكن بعضهم كان يحمل مذاري ومناجل، ومع ذلك، لم يلوّحوا بها فعليًا، بل اكتفوا بركله أو رميه بتفاحٍ فاسد.

"أتجرؤ على القدوم إلى قريتنا و تتفوه بهذه التفاهات؟!"

"يجب أن نرسله للملك ليُعدمه!"

"لا تجرّنا إلى هرائك هذا!"

كان الضحية، الذي يغطي رأسه بيديه، شيخًا يبدو متجاوزاً الستين من عمره، ما الذي فعله ليلاحقه القرويون بهذا الشكل؟

لم يكن بوريس يريد أن يتدخل، لم يكن نقيًا بعد الآن على أي حال.

فما الذي قد يصيبه إن تجاهل مأساة غريب؟ وفي المقابل، ما الذي قد يتغير إن قرر أن يساعد؟

فجأة، قفز الشيخ الذي كان يُغمر بالحجارة والبصاق واقفًا وتمتم بكلمات بالكاد تُسمع، ثم بدأ يصرخ فجأة، ارتبك من حوله.

استغرق الأمر من بوريس لحظة ليفهم ما يقوله الشيخ، ربما لأن الموضوع كان غريبًا عليه، لكنه التقط نهاية الخطاب فقط.

"... لقد فرّطتم في حقكم في أن تعيشوا كالبشر! اقتلوني! اقتلوني فحسب! لن أقف وأقاتل من أجل أمثالكم مرةً أخرى!"

عندها عاد الغاضبون إلى ركله دفعةً واحدة، ثم انكمش الشيخ على نفسه وسقط، غير قادر على قول كلمة أخرى،تراجع بوريس خطوة إلى الوراء.

ولحسن الحظ، لم يقتل القرويون الرجل، بل انصرفوا واحدًا تلو الآخر، يشتمونه وهم عائدون إلى بيوتهم، بعد أن أفرغوا غضبهم.

اقترب بوريس من الشيخ حين خلا المكان، كانت كلمات الشيخ تصدح في ذهنه، تشبه شيئًا قاله له شخصٌ ما لا يزال يسكن قلبه.

نظر الشيخ إلى بوريس حتى قبل أن ينطق، لكنه لم ينظر مباشرة إلى وجهه، وكأنه لا يكترث.

قال بصوتٍ متقطّع: "ما هذا الآن...؟ ما زلت هنا لتسخر مني؟ ابتعد! فالعالم لن يتغير على أي حال..."

سأله بوريس بهدوء: "هل أنت من أنصار الجمهورية، أيها العَم؟"

عندها انطلقت نظرة الشيخ فجأة نحو بوريس، ولم يدرك بوريس إلا حينها أن الرجل كان شبه أعمى، وقعت نظرة الرجل في مكانٍ ما حول ذقنه وهو يرد، "ومن أنت؟ صوتك كصوت طفل، لكن قامتك لرجل... لماذا تسأل؟ هل تنوي أن تأخذ رأسي وترسله للملك؟ حسنًا، خسارة عليك. حتى ذلك الملك الوغد لن يهتم برأس شيخٍ متعفّن، رائحته ستكون أكثر مما يحتمل."

لا أحد يجرؤ على سبّ الملك علنًا ما لم يكن مستعدًا للموت، وقف بوريس مكانه ينظر للأسفل إلى الرجل.

"لماذا تدعم الجمهورية؟ هل تظن أن جمهورية ترافاشيس مكانٌ يُحتذى به؟"

"ترافاشيس؟ ما الذي... تقوله...؟" بدأ الرجل يجمع نفسه ببطء، ثم جلس مستقيمًا

وبدأ صوته يصفو وعيناه العليلتان تحدقان في الهواء : "هل أتيت من ترافاشيس؟ ترافاشيس ليست جمهورية، هل يسمحون للعامة بالتصويت هناك؟ النبلاء هم من يصوّتون لاختيار المنتخبين، والمنتخبون يختارون رئيسًا يناسبهم، ومن الطبيعي أن تسفك الدماء حين يدخل التصويت في معركة ضيقة المساحة أصلًا،هذا لا معنى له..."

ثم سعل قبل أن يكمل، "كلها ذريعة لتقسيم الأحزاب السياسية أكثر مما هي عليه، والأمر واضح، من في السلطة بحاجة لكسب أكبر عدد من النبلاء لصالحه، لكن لا يوجد سببٌ وجيهٌ لإقناعهم، فيختلقون واحدًا. أوغاد فاسدون..."

كان بوريس يصغي في صمت، لم يغضب من نقد الرجل لوطنه.

"الرئيس نفسه يبقى ما لم تندلع الحرب، والأراضي تُورث في السلالات نفسها، ونبلاء تلك الأراضي هم من يصوّتون للمنتخبين، جمهورية مشوّهة كهذه حكومة مخيفة، لقد حاولت جمهورية أنوماراد أن تؤسس التصويت الشعبي لتجنب ذلك، لكننا بالكاد صمدنا أمام هجمات النبلاء، ولم يُعقد التصويت الذي ناضلنا لأجله إلا مرةً واحدة في كيلتيكا."

هل العامة أذكى من النبلاء؟ ألا يملكون رغباتهم أيضًا؟ لم يكن بوريس مقتنعًا بعد.

"معركة كيلتيكا... الجيش الملكي الجديد حاصرنا، وانتظرنا أربعة ليالٍ قبل أن يبدؤوا هجومهم الكاسح... لن أنسى ذلك ما حييت، بل ربما لن أنساه بعد موتي أيضًا، لم يرد أحد قبول طلبات الاستسلام التي يرسلونها كل صباح."

ارتجف صوت الشيخ وهو يتابع، "رأيت بعيني كيف اندفع جيشهم، الذي تعداده بالآلاف، ومزّق رفاقي الذين شكلوا سلسلة بشرية، مع بزوغ فجر اليوم الأخير، هممم... من ذا الذي يرضى بالعودة ليعيش كجثة حية، كعبد لا يساوي أكثر من بهيمة، بعد أن اختبر الحياة الحقيقية في الجمهورية؟ أتظن أن الأسرى فقط هم من يصبحون عبيدًا؟ لا—الجميع عبيد الآن، الجميع، ما عدا النبلاء!"

هل كان حقًا مهمًا أن يصوّت العامة ويختاروا من يمثلهم؟ هل هذا يجعلهم متساوين مع النبلاء؟ وهل الثروة والسلطة أهم من أصل الإنسان؟ التصويت لا يمنح الناس مالًا، ومن لا يملك المال لا يملك القوة.

سأل بوريس بعد تفكير: "أحقًا كل ما في الأمر هو هذا؟ هل مات كل أولئك الناس فقط من أجل حق التصويت وانتخاب الممثلين؟ فقط من أجل هذا؟"

بدا أن السؤال أنعش الشيخ بطريقةٍ غريبة، تقوّت نبرته وهو يرد: "الممثلون الذين يُنتخبون عبر التصويت... يفقدون مناصبهم إن خسروا في التصويت التالي، ولهذا لا خيار أمامهم إلا أن يعملوا لصالح الشعب، فما هي السياسة إذًا؟ أولًا وأهم شيء، هي سنّ القوانين العادلة، وإذا وُضعت قوانين منصفة للنبلاء والعامة على السواء، فستُوزع السلطة والثروة بعدلٍ كذلك."

هز بوريس رأسه معارضًا: "وهل سيقوم كل أولئك الناس بالصواب دومًا؟ أتقول إن البشر جميعًا طيبون بالفطرة؟ هناك الكثير ممن يتجار بالأطفال ويسرق من غيره ليحصل على أقل المكاسب، كيف لمجموعة كهذه أن تتفق على ما هو صائب؟"

كان بوريس يتحدث من واقع تجربة مؤلمة، هل يوجد في هذا العالم من هو صالحٌ بلا شروط؟ ربما، لكنهم قلة نادرة، أما معظم الناس فيتربّصون، ويبتزون متى ما سنحت الفرصة.

نظر الشيخ إلى الفراغ.

"عدد من هم أشرار من الجذور أقل بكثير مما تظن، الناس يشعرون بالخزي حين تُفضَح جرائمهم أمام الجميع، حتى أولئك الذين يرتكبون أسوأ الجرائم لا يريدون أن يُحكموا من قبل شيطان، ثم إن معظم الجرائم تُرتكب حين تكون ظروف العيش صعبة، من يُسحقون على يد النبلاء لمجرد أنهم خدمٌ يصبحون بدورهم بلا رحمة تجاه من هم أضعف منهم."

فرد بوريس: "وإن كان هذا هو الواقع، فلماذا يدهس النبلاء الأغنياء خدمهم؟ أليس الجشع البشري بلا نهاية؟ إن كان لشخصٍ واحد كنوز كثيرة، ولآخر كنزٌ واحد، أليس من الطبيعي أن يحاول الأول أن يأخذ الكنز الوحيد للثاني؟"

'تمامًا مثل الكونت، الذي يملك العديد من الكنوز بالفعل...'

قال الشيخ بعد لحظة تأمل: "أنت صغير، لكن يبدو أنك رأيت أهوالًا كثيرة، لكن إن كان لأحدهم فكرةٌ عادلة ونزيهة، فلا بد أن هناك وسيلة لإيصالها، والتصويت هو أول خطوة في هذا الطريق، النبلاء يريدون للعالم أن يبقى كما هو، لكن تأمل... كم من الألم والمعاناة يمكن لملكٍ شرير واحد أن يسبّب؟ هل يجب علينا أن نتحمّل حكم ملكٍ جائر كما نتحمّل المجاعة أو الفيضان؟"

تراجع بوريس خطوةً وهو يرد: "قد يتوجّس الناس من بعضهم حين يتجمّعون، لكنهم قد يرتكبون جرائم أفظع إن انساقوا خلف عقلية الجماعة، نعم، القدرة على خلع ملكٍ ظالم أمرٌ جيد، لكن ماذا عن كل من سيُضحّى بهم في الطريق؟ هل يُفترض بالناس أن يتقبلوا فقدان من يحبّون لأجل سعادة الأغلبية؟ إن كان الأمر كذلك، فأنا أرفضه. الناس تفضّل ما ينفعها أكثر مما تفضّل الصواب، هناك الكثير ممن سيطعنوك من أجل مكسبٍ تافه، لا يمكنني أن أضحي بمن هو أعزّ عليّ من حياتي لأجل أمرٍ متقلب كهذا."

أغلق الشيخ عينيه وقال: "لعلّك من سلالة النبلاء، لا تتحدث أو تتصرف كنَبيل، لكنك لست من العامة."

كان لانزي قد قال شيئًا مشابهًا ذات مرة، لم يردّ بوريس.

أكمل الشيخ: "نعم، الجمهورية لا تنمو إلا على الدماء، لكن من لم يولد إنسانًا مثلُك لا يندم على الدماء التي يريقها ليصبح إنسانًا، لا بد أن تملك شيئًا أولًا لتكون لديك خسارة، فما الذي يخشاه من لا يملك شيئًا؟ ومع ذلك، فهم من لا يملكون شيئًا هم من يُطعمون هذه البلاد ويبقونها حية، يزرعون، ويحاربون، ويبنون الجسور، ويصنعون البضائع، أترى أنه من العدل أن يعانوا؟ أن تجوّعهم الدولة؟"

عجز بوريس عن الرد، ثم فجأة قال: "من أنت؟"

كلما طال حديثه مع الرجل، ازداد إحساسه بثقلٍ غامض، لقد أحبّ الشيخ الجمهورية، أحبّها رغم أنه رأى بعينيه من يُقتل في سبيلها.

لا شك أن عائلته وأصدقاءه كانوا من ضمن المقتولين، ما المعنى الذي وجده أولئك الذين ماتوا في كيلتيكا وهم يرفضون الاستسلام؟ هل تقبّلوا الموت فقط لأنّه سيسعد أناسًا لم يعرفوهم قط؟

كان كثيرٌ من الناس في ترافاتشيس يتحدثون عن "الحق"، لكن القليل فقط منهم مستعد للموت لأجله.

كان من الأسهل فهم أن يُضحي المرء إن أمره سيده، فلماذا كرّس كل هؤلاء حياتهم لنظامٍ سياسيٍّ محفوفٍ بالخطأ؟ بالكاد يُمكن حثّ الناس على الولاء لحاكمٍ يروْنه ويكلمونه، فكيف لنظامٍ مجرّد؟

قال الشيخ: "أنا حجرٌ بلا اسم، ظننت أنّي سأكون صخر الأساس للجمهورية، لكني وجدت نفسي ملقىً في البرية."

حين رآه أول مرة، ظنّ بوريس أنّه لا يعدو أن يكون شيخًا مجنونًا مضروبًا، ولم يكن ليتحدث إليه لولا كلماته تلك التي صرخ بها فجأة.

كان بوريس يعتقد يقينًا أن الجمهورية تفرّق الناس، وكان يخاف الطاغية الذي يُدعى "المأساة الناتجة عن الانقسام" أكثر بكثير من السياسة ذاتها.

فالطاغية واحد، ويمكن للجميع أن يكرهوه سويًا، وهذا خير من أن يُجبروا على التراجع وذبح من يحبّون.

ومع ذلك، بدت الجمهوريّة أغرب فأغرب كلما عرف عنها، كانت تشدّ الناس إليها، وتصبح لهم شيئًا لا يمكن تعويضه، أشبه ما تكون بسحرٍ شرير، أو لعلّ بوريس لم يستطع فهمها... فقط لأنه "ابنُ نَبيل".

وقف الشيخ على قدميه، واستدار نحو مخرج القرية وقال: "أدعو أن تلتقي بالكثير من الناس الطيبين في حياتك، وأن يأتي يومٌ تؤمن فيه بصلاح الكثيرين."

2025/06/10 · 11 مشاهدة · 1610 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025