السرداب كان مظلماً…
جدرانه من حجر رمادي متآكل، يتدلّى منه صدأ المواسير وأنين الماء المتساقط ببطء.
الهواء كان ساكناً، خانقاً، مليئاً برائحة رطوبة قديمة.
قُيّدت يداي بالسلاسل إلى كرسي معدني، وُضِع أمام باب حديدي كبير في نهاية الغرفة.
فُتح الباب ببطء.
خطوات ثقيلة، متزنة…
رجل طويل، شعره فضي بلون الرماد، يرتدي معطفاً أسود يصل إلى كاحليه.
سيجارة مشتعلة بين أصابعه اليسرى، وعيناه مخفيتان خلف نظارة شمسية ضيقة.
جين .
إلى يمينه…
امرأة ذات شعر أشقر متموج، ترتدي قبعة سوداء بظل عريض، ومعطف جلدي داكن.
كعبا حذائها الرفيعان يصدران صوتاً واضحاً في كل خطوة، وكأنها تمشي بثقة قاتلة.
فيرموث.
توقفت على بعد خطوتين مني، وضعت يدها على خصرها، ثم قالت:
“لماذا تحاول الهرب؟”
أجبت بصوت هادئ:
“المكان سيء… أريد الذهاب إلى المدرسة.”
ابتسمت فيرموث، انحنت قليلاً للأمام ونظرت إليّ بعينين لامعتين.
“لكن مكانك هو معنا.
منذ اليوم الأول لمولدك… كان مصيرك واضحاً.”
نظرتُ إليها، ثم قلت:
“اللعنة عليك.”
سكتُّ لثوانٍ، ثم نظرت نحو جين.
“ماذا عن تركي أذهب للجامعة… وأكمل المهام في نفس الوقت؟”
فيرموث نظرت إلى جين.
وجين… لم يتكلم.
وقف أمامي، أخرج مسدسًا أسود من داخل معطفه، ورفعه نحو رأسي.
عيناه لم ترمشا.
وجهه لا يحمل تعبيراً.
ثم قال بصوت منخفض:
“من هو؟”
قلت بصوت ثابت:
“إذا أخبرتك عن الخائن…
توافق على طلبي.”
-
جين ما زال واقفاً أمامي.
موجهًا المسدس إلى رأسي، إصبعه على الزناد، وعيناه لا تتحركان.
“من هو؟”
قالها بصوت هادئ… بلا أي نبرة.
نظرت إليه بثبات، ثم قلت:
“توافق أولاً على طلبي.”
لم يرد لثوانٍ.
ثم خفض المسدس ببطء، ودخّن سيجارته حتى نهايتها قبل أن يقول:
“موافق.”
رفعت رأسي، بصوت ثابت قلت:
“ باكفاست .”
فيرموث رفعت حاجبها، مائلة برأسها بخفة.
أما جين… فقد قال دون تردد:
“جاسوس لمن؟”
أجبت مباشرة:
“MI6.”
لحظة صمت طويلة…
ثم ابتسم جين، نصف ابتسامة بالكاد تتحرك.
“مهمتك القادمة… هي قتل الجرذ.”
لم أرد. فقط حاولت رفع إصبعي الأوسط، لكن السلاسل منعتني من رفع ذراعي.
فانخفضت يدي بصوت معدن ثقيل.
انفجرت فيرموث بالضحك ، تغطّي فمها بأناقة مصطنعة، ثم قالت بابتسامة ماكرة:
“ذوقك في الردود لا يقل عن ذوقك في الأسماء.”
⸻
أصوات خطوات جين تلاشت خلف الباب الحديدي.
بقيت وحدي… أو هكذا ظننت، حتى سمعت نقرة كعبيها.
فيرموث اقتربت ببطء، أزالت قفازها الأسود، وأمسكت بالسلسلة الأولى حول معصمي.
بهدوء، بدأت تفكّ القيد.
لم تنظر لي مباشرة، كانت تركز على القفل، حتى قالت بصوت خفيف:
“لماذا كل هذا الإصرار على الذهاب إلى الدراسة؟”
نظرت إلى الأرض، ثم قلت بهدوء:
“لأني أريد أن أدرس جيل المستقبل.”
توقفت.
لم ترد.
يدها ثبتت للحظة فوق القيد.
ثم أكملت، وكأنها تجاوزت الجواب:
“بعد المهمة القادمة… ستحصل على اسم كحولي.
اسمك الرمزي.”
رفعت عيني نحوها.
“حقاً؟”
أومأت بهدوء.
صمت لثانية… ثم قلت:
“هل من الممكن أن تجعلي اسمي… أبسينث ؟”
نظرت إلي مباشرة.
لأول مرة… ملامحها لم تكن محكمة.
عيناها توسعتا قليلاً، وشفتاها فُتحتا بصمت.
“…مجنون.”
قالتها وهمست بعدها:
“سأحاول.”
⸻
فيرموث تقدّمت بخطى ثابتة أمامي، المعطف الأسود ينسدل خلفها مثل ظل أطول من جسدها.
“هناك عضو جديد سينضم إليك في العملية القادمة.”
قالتها دون أن تلتفت إليّ.
سرت خلفها، أمدّ يدي أفك تجاعيد قميصي وأزيح الغبار عن سروالي الرمادي.
“جليس أطفال؟ أم مراقب لأني سيء في الهروب؟”
لم تلتفت… لم ترد على استهزائي، فقط أكملت:
“وسيكون شريكك أيضاً… بعد نجاحك.”
توقفتُ عند نهاية الدرج الحجري، ثم قلت وأنا أنفض ياقة سترتي:
“ما اسمه الرمزي؟”
قالت بهدوء:
“راي.”
توقف الهواء حولي.
راي…؟
لم أقل شيئاً، لكن أفكاري انفجرت في رأسي.
أكاي… أكاي شويتشي… شسويتي يا فيرموث؟
نظرت إلى ظهرها بصمت…
مرحباً بك يا أكاي.
⸻
دخلت الشقة بصمت.
لم تكن واسعة، لكنها مرتبة بعناية.
كل شيء فيها في مكانه… كل قطعة لها هدف.
وضعت المفاتيح على الطاولة الخشبية قرب الباب، واتجهت مباشرة نحو الحمام.
خلعت قميصي أولًا، ثم بنطالي، ثم وقفت أمام المرآة.
بخلاف ما كنت أتوقع… لا ملامح شاب عمره سبعة عشر عامًا في انعكاسي.
شعر أسود مبعثر، عينان سوداوان لا تلمعان.
جسد مشدود، كل عضلة فيه تتحدث عن تدريب… وعن جروح قديمة.
تأملت وجهي للحظة، ثم همست بهدوء:
“ماتسودا جينبي.”
فتحت الدوش.
الماء انهمر بقوة، صاخبًا بما يكفي ليغطي كل الأصوات الأخرى… حتى الأفكار.
…
خرجت بعد دقائق، شعري مبلل، المنشفة على خصري، أمسك بها بيد، وبالأخرى أمسح شعر رأسي.
اتجهت نحو الجدار الجانبي، حيث توجد خزانة خشبية مدمجة، تبدو عادية.
مددت يدي أسفلها، وضغطت نقطة خفية.
كليك.
الدرج المخفي انفتح بهدوء.
أخرجت منه مسدساً نصف آلي مزوّد بكاتم صوت، وقميصًا أسود ضيقًا، سترة خفيفة، قبعة، وقفازات جلدية.
وضعت كل شيء على السرير.
…
تنغ.
صوت خفيف من هاتفي.
مشيت إليه، أمسكت به، وفتحت الرسالة.
من: Vermouth
“الموعد… المكان المعتاد.
غداً – الواحدة ظهراً.”
أغلقت الشاشة ببطء.
ثم جلست على طرف السرير، نظري على السلاح أمامي.
⸻
فتح الباب وأغلقه خلفه بهدوء.
كان الجو غائمًا، والشارع السفلي يعج بأصوات الحياة… رغم أنها لم تكن جزءًا من حياته.
نزل عبر الدرج، متجاوزًا الطوابق دون أن يستخدم المصعد.
وعند الطابق الثالث، فُتح باب شقة على الجهة اليمنى.
خرجت منه سيدة في الخمسينات، شعرها مرفوع بعناية، ترتدي كيمونو بسيطاً بنقوش أرجوانية.
ابتسمت له بلطف.
“صباح الخير، كوربا-سان.”
توقف لحظة، أومأ برأسه ورد بهدوء:
“صباح الخير.”
ثم تابع نزوله دون أي كلمات إضافية.
…
وصل إلى الشارع، حيث كانت بورش 911 سوداء متوقفة بجانب الرصيف، نظيفة، أنيقة… لكنها لا تصرخ “مال”، بل تهمس “خطر”.
فتح الباب، جلس خلف المقود.
أدخل المفتاح، أدار المحرك، صوت الطنين الهادئ انبعث كنبض قلب مستعد للركض.
ربط الحزام، سحب علبة السجائر من الجيب الداخلي لمعطفه الأسود، أخرج واحدة، أشعلها بهدوء.
زفر أول نفس، ثم نظر إلى الساعة:
12:41
ضغط على دواسة البنزين، وتحرك.
الشارع امتد أمامه، والمدينة بدت كأنها تنتظر شيئًا…
الموعد… عند المكان المعتاد.
⸻
أوقفت البورش 911 على بعد أمتار من الباب المعدني الكبير للمستودع.
المنطقة كانت هادئة بشكل غير مريح. لا كاميرات… لا بشر… فقط أصوات الرياح تصطدم بالجدران الصدئة.
نزلت من السيارة، أغلقت الباب دون صوت.
رفعت بصري نحو الشخصين الواقفين تحت ظل الباب المفتوح.
فيرموث ، بشعرها الأشقر المموج، كانت واقفة بثقة، يداها في جيبي معطفها الطويل، نظرتها مرصودة نحوي.
بجانبها، رجل أطول منها.
أوروبي الملامح، شعره أسود طويل مربوط للخلف، ملامحه باردة، وحركته ساكنة .
لم تكن هذه المرة الأولى التي أرى وجهًا بريطانيًا… لكنها المرة الأولى التي أراه بهذه الحدة.
فيرموث قالت بصوت ساخر:
“لم تكمل الثامنة عشرة بعد، كيف تسوق بهذه الثقة؟”
مددت يدي بهدوء، أخرجت بطاقة مزورة من جيب المعطف، ورميتها نحوها.
“كوربا.
العمر: 18.”
أمسكت البطاقة بيد واحدة، قرأتها بصوت مسموع.
“كوربا… العمر 18، طالب.”
أومأت.
“جهزت كل شيء للجامعة.
مستندات، قيد، شقة بجانب الحرم.”
ثم التفتّ نحو الرجل الواقف بجانبها.
تقدّمت خطوة، نظرت إليه من أعلى الحذاء حتى طرف الشعر.
“أظن أنك جليس الأطفال… راي؟”
رد دون أن يهتز صوته:
“وأنت… أبسينث؟”
نظرت فورًا إلى فيرموث.
“لقد… جعلتِه حقاً اسمي؟”
ابتسمت… ثم ضحكت.
ضحكة غير متوقعة، قصيرة، لكنها خرجت بثقة ودهاء.
“ستكون مديناً لي، أيها الفتى الأخضر.”
أومأت برأسي، وأنا أنظر إليها للحظة أطول مما يجب.
ما هذه المرأة؟
وما حجم النفوذ الذي تملكه داخل المنظمة… حتى على الأسماء؟
⸻
وقفتُ على طرف السطح، أراقب المطعم أسفلنا.
“نيونوهانا” بدا هادئاً كعادته، لكن خلف إحدى نوافذه في الطابق الثاني… ستهتز الكواليس الليلة.
فيرموث إلى جانبي، معطفها يتمايل بصمت، وراي يقف متقاطع الذراعين، عيناه تراقبانني أكثر مما تراقبان المكان.
قالت فيرموث وهي تشير بيدها نحو الطابق الثاني:
“الغرفة الخاصة هناك… ستكون مسرح الاغتيال.”
أجبتها دون أن أشيح ببصري:
“الجاسوس سينفذ المهمة، ثم يُقتل.”
أومأت.
راي نظر إلي وقال:
“من الجيد أنك من كشفه.”
أجبت بصوت هادئ:
“كان من الواضح أنه لا ينتمي… أنفاسه لا تشبهنا.”
صمتت فيرموث للحظة، ثم قالت:
“رينجي كايدو… الاسم الحقيقي.
رمزه لدينا: باكفاست.”
أخرجت سيجارة، أشعلتها بهدوء.
“وما زال يظن نفسه داخل اللعبة.”
قال راي:
“هل تلقيت الأمر؟”
نظرت إليه، ثم إلى فيرموث.
أجبت ببرود:
“نعم.
أمر مباشر من جين.
أراقبه حتى يُنفذ اغتيال آريما… ثم أُنهيه.”
فيرموث ابتسمت، تلك الابتسامة نصف الهادئة ونصف القاتلة.
“يبدو أنك بدأت تكبر فعلاً، أبسينث.”
قلت وأنا أزفر دخان السيجارة:
“بل بدأتُ أُجيد السباحة في الوحل.”
راي تقدم خطوتين، عينيه على وجهي:
“سأتواجد بالقرب… لكنك وحدك .”
أومأت.
نظرتُ إلى المطعم مجددًا، ثم تمتمت:
“غداً…
سيكون صوت الرصاصة الأخيرة… لي.”
⸻