الساعة كانت تشير إلى 1:12 ظهرًا.

جلست خلف الزجاج المعتم، أراقب الداخل عبر منظار حراري وعدسات متقدمة.

الطابق الثاني، الغرفة الخاصة… ثلاثة أشخاص على الطاولة، جميعهم في بدلات رسمية.

وفي الزاوية، يقف نادل بهدوء، لا يحمل صينية… بل يحمل وجهًا أعرفه.

رينجي كايدو… باكفاست.

كان يتحرك بانضباط مريب، يعرف متى ينظر، ومتى يخفض رأسه.

اقترب من الطاولة، وضع كوب الشاي أمام يوشياكي آريما ، الرئيس التنفيذي لشركة شينكا فارم.

ثوانٍ مرت.

آريما رفع الكوب بهدوء، رشفة واحدة… ثم أخرى.

ثم… بدأت الفوضى.

يده ارتجفت، والكوب سقط من بين أصابعه.

وجهه احمرّ فجأة، عروقه انتفخت، ثم أمسك بعنقه وهو يلهث كمن يبتلع الحديد.

أحد الحضور وقف، الآخر صرخ، أما باكفاست… فتراجع خطوة، يضع يده على طرف سترته بهدوء.

السم عمل بفاعلية.

أمسكتُ السماعة الصغيرة بجانبي، ضغطت زر الاتصال:

“راي… توجه إلى الموقع المحدد.”

صوت راي أتى هادئًا كعادته:

“علم .”

أكملت:

“أنا سأتوجه إلى الاتجاه الآخر…

الهدف القادم… ليس آريما.”

وضعت المنظار جانبًا، وقفت، وضبطت ساعتي.

“باكفاست… آن أوان ختامك.”

كانت الأرقام تنخفض بثبات أمام عينيّ على شاشة المصعد.

5

4

3

2

1

0

صدر صوت خافت، ثم فُتح الباب المعدني ببطء.

خطوت خارج المصعد دون تردد، معطف أسود طويل يلامس الأرضية المتسخة، يداي في جيبيّ القفازين.

خرجت من مدخل المبنى الخلفي، ثم انعطفت إلى اليسار… إلى الزقاق الضيق الذي يمر خلف المطعم مباشرة.

الشارع كان خاليًا، إلا من بعض صناديق الورق المبللة، ورائحة الرطوبة التي تملأ الهواء.

نظرت حولي، تأكدت من خلو الزاوية، ثم ثبت بصري على سيارة سوداء متوقفة دون حراك.

تويوتا سيدان سوداء، مظللة بالكامل… سيارة باكفاست.

وقفت بالقرب من جدار متآكل، على بعد خمسة أمتار من المركبة، وانتظرت.

صوت راكد خشن اخترق أذني عبر سماعة الأذن:

“الموقع مكشوف من جهتي… أربعمئة ياردة، دون غطاء واضح.”

كان صوت راي ، جافًا كعادته.

رفعت إصبعي للمذياع الصغير ورددت:

“علم.

إذا حدث غير المتوقع… أطلق عليه فورًا.”

لم يرد راي.

لم أكن بحاجة لرد. نحن لا نكرر الأوامر هنا.

ثوانٍ فقط.

ثم…

صوت صافرات.

متعددة، متداخلة.

الشرطة.

أنوار حمراء وزرقاء بدأت تظهر من الجهة الأمامية للمطعم، وصوت مكبرات ينادي الناس للابتعاد.

نظرت بسرعة نحو السيارة… ما زالت بلا حركة.

ضغطت على مقبض ساعتي الرقمية، وثبّت توقيت العد التنازلي في ذهني.

“إما أن يخرج الآن…

أو لن يخرج أبدًا.”

دخل رينجي كايدو العضو باسم رمزي باكفاست ، وهو ينظر حوله بعينين متوترة، كتفه مضغوط إلى الداخل، كمن يتوقع أن تُصوَّب نحوه البنادق في أية لحظة.

ثم وقعت عيناه عليّ.

تجمّد، ثم شهق بقوة:

“اللعنة عليك!”

صاح وهو يتقدم خطوة، يده تتحرك ببطء نحو داخل سترته.

رفعت يدي اليمنى بهدوء، وضغطت على زر في سماعة أذني… قطع الاتصال مع راي.

لا حاجة أن يسمع ما سيُقال.

قلت بصوت منخفض وواضح:

“تعلم أن الديون يجب أن تُرد…

أخبرتك سابقًا، لا تعبث بأسراري.”

أخرج مسدسه أخيرًا، رفعه نحوي، قبضته ترتجف:

“سأقتلك، كوربــ… أم يجب أن أقول، ماتسو—”

طلقة واحدة.

جاءت من جهة غير معروفة.

الرصاصة اخترقت كتفه، سقط المسدس من يده، وارتد جسده للخلف حتى اصطدم بجدار الزقاق.

مشيت نحوه ببطء.

ركلت المسدس بعيدًا، ثم انحنيت والتقطته، قلّبته في يدي كمن يختبر وزنه.

نظرت إليه. كان جالسًا أرضًا، يضغط على جرحه، ووجهه يتبدل بين الألم والرعب.

قلت له بصوت خافت:

“لقد حفرت قبرك بنفسك يا كايدو.

ألم أخبرك…

أن من يفتّش عن ملفاتي داخل المنظمة، لا يخرج حيًا؟”

اقتربت أكثر، حتى أصبح وجهي أمامه مباشرة.

“الاستخبارات البريطانية… لم تعد بحاجة إلى معرفة من أكون.

يكفي أن تعرف أني من أوقفك.”

عيناه اتسعتا، وجهه فقد لونه.

ذلك لم يكن رعباً من الموت… بل من الجهل.

من أن يموت وهو لا يعرف من أنا حقًا.

انحنيتُ والتقطت مسدس باكفاست من الأرض.

أخرجت من جيبي كاتم الصوت، ثبّتّه بدقة على فوهة السلاح.

تقدمت خطوة، حتى أصبح الجاسوس جالسًا مستندًا إلى الجدار، يتنفس بصعوبة، الدم يتسرّب من كتفه.

رفعت السلاح بثبات، وجعلت الفوهة تلامس جبهته.

عيناه تتوسلان… لكن فمه عاجز عن النطق.

تمتمت بصوت هادئ:

“في المرة القادمة… استمع لتحذيراتي.”

طَق.

طلقة مكتومة اخترقت جمجمته.

رأسه انحنى للجانب، وقطرة من الدم انزلقت على سترته السوداء.

استدرت، مشيت بهدوء نحو سيارة التويوتا السوداء.

فتحت الباب الخلفي، ثم المقعد الأمامي، وبدأت أفتش الأدراج بعناية.

درج جانبي، ثم صندوق القفازات… حتى وجدت ملفًا بسمك متوسط، مُغلّف بورق أسود.

فتحته.

في الصفحة الأولى…

صورتي.

الاسم: ماتسودا رينو

العمر: 17

الرقم التسلسلي…

لم أكمل القراءة.

أغلقت الملف بهدوء، نظرت للحظة إلى الغلاف دون أن أتحرك، ثم وضعته على المقعد الخلفي.

ذهبت الى الجثه

انحنيت فوق الجثة.

يداه متدليتان، رأسه مائل، الدم ما زال يتسرب ببطء من الجبين، يترك خطاً رفيعاً على عنقه.

وضعت السلاح جانبًا، ثم وضعت يدي تحت كتفيه وسحبته بصمت.

جسده كان ثقيلاً، باردًا… كأن شيئًا من العالم قد انقطع عنه نهائيًا.

فتحت باب المقعد الخلفي للسيارة، وسحبته إلى الداخل.

استلقى كما لو كان نائمًا، ممددًا على المقعد بزاوية مائلة، رأسه يرتكز على زجاج النافذة المغلق.

فتحت حقيبة صغيرة في مؤخرة السيارة، أخرجت منها عبوة بنزين معدنية ،

سكبت السائل ببطء… فوق المقعد، فوق ملابسه، وحتى على الأوراق المتناثرة تحت قدميه.

أغلقت باب السيارة بهدوء، وتراجعت خطوتين.

أخرجت ولاعة معدنية صغيرة من جيب سترتي.

أشعلتها… النيران الزرقاء ارتجفت في وجه الهواء الخفيف.

رميتها.

في اللحظة التالية، اشتعلت السيارة دفعة واحدة.

صوت انفجار خافت، تبعه زفير ناري ملأ الزقاق بلونٍ برتقالي مشتعل.

وقفتُ أمام النار، يداي في جيبي، عيني على اللهب الذي بدأ يلتهم كل شيء.

ثم قلت، بصوت هادئ:

“هذه جنازتك…

وتكريمٌ لشجاعتك.”

استدرت، وغادرت… دون أن أنظر خلفي.

ركبت السيارة بهدوء.

المقعد الجلدي كان دافئًا من وهج الشمس، ورائحة البنزين المحترق ما زالت عالقة في ملابسي.

مددت يدي إلى نظام تشغيل السجائر في لوحة التحكم.

ضغطت الزر، وانتظرت حتى ظهر القرص المعدني الساخن.

أمسكت بسيجارة، وضعتها في فمي، ثم سحبت القرص المشتعل من مكانه.

لكن…

أصابعي ارتجفت.

النار لامست طرف السيجارة، لكنها لم تستقر.

نظرت إلى يدي… كانت تهتز.

خفيفة، لكنها واضحة.

تمتمت بصوت لا يسمعه أحد:

“زادو واحد…

أصبحوا أحد عشر.”

أعدت السيجارة إلى فمي، وانتظرت ثانية.

ثم…

فتح الباب.

دخل راي وجلس بجانبي دون كلمة.

في اللحظة التي انغلق فيها الباب…

اختفت الرعشة.

وضعت المفتاح في مكانه، وأدرت المحرك.

صوت التشغيل كان ناعماً، مألوفاً… كأن السيارة تعرف ما جرى، لكنها لا تعلق.

قاد السيارة ببطء خارج الزقاق.

لم ينظر أحدنا إلى الآخر.

كنا نعلم…

أن الحديث ليس له مكان الآن.

سارت السيارة بهدوء وسط الطرق الجانبية، ضوء الشمس يتكسر على الزجاج الأمامي، والمدينة تمر كأنها تراقب بصمت.

كسر راي الصمت:

“لماذا قطعت الاتصال؟”

صمتّ لثوانٍ، لم ألتفت إليه.

ثم قلت بصوت منخفض:

“هنالك أشياء…

لا يجب أن تعرفها.

وإلا… ستكون نهاية رحلتك هنا، يا مستر الولايات المتحدة.”

فجأة، شعرت بالحركة بجانبي.

التفت قليلاً لأرى فوهة مسدس موجهة إلى رأسي.

“كيف علمت؟”

صوته كان ثابتًا، لكن عينيه كانتا تبحثان عن أكثر من إجابة.

“لا… بل من يعلم غيرك؟”

لم أجب.

أخذت رشفتي من السيجارة بهدوء، أخرجت الدخان من النافذة، ثم قلت:

“لا أحد يعلم.

الـFBI ما زالوا مزعجين.

وأكاي شويتشي… قناص محترف، عبقري في التحليل.”

لمحت الصدمة في وجهه… كانت سريعة، لكنها حقيقية.

أكاي.

نطقت بالاسم كأنني أسقطت قنبلة.

أضفت بنبرة محايدة:

“لا تقلق… لست عدوك.

بل شريكك.”

رن الهاتف.

أخرجت الجهاز من جيبي، نظرت إلى الشاشة:

“جين”

نظرت إلى راي، وسألته دون أن أغيّر نبرتي:

“هل أجيب… أم تفضّل أن تصمت الحقيقة؟”

لم يتكلم.

لم أنتظره.

ضغطت الزر، رفعت الهاتف إلى أذني:

“هل انتهيت؟”

كان صوت جين.

أجبت بهدوء:

“نعم.

تم قتل الجرذ.”

صمت في الطرف الآخر.

أضفت:

“الآن… سأكمل استعدادات الجامعة في طوكيو.”

أغلق الخط دون رد.

نظرت إلى جانبي.

رأيت راي يُخفض سلاحه ببطء، ويعيده إلى جانبه.

سألته، بصوت عادي:

“ألن تقتلني؟”

لم يرد.

أضفت وأنا أتابع الطريق:

“هناك حالة واحدة فقط…

ستجعلني عدوك، يا أكاي:

أن تتدخل في شؤوني.”

ظلّ صامتًا.

السيارة تابعت طريقها نحو الموعد التالي…

نحو فيرموث.

توقفت السيارة أمام باب المستودع المعدني.

أطفأت المحرك، نزلت أولًا، وراي تبعني بهدوء دون كلمة.

دفعنا الباب، ودخلنا إلى الداخل.

رائحة زيت قديم، معدن، وركود الهواء… كانت تملأ الفراغ.

وفي زاوية المكان، قرب دراجة نارية سوداء بطلاء لامع،

كانت فيرموث متكئة على المقعد، إحدى ساقيها ممدودة، وذراعها تستند على المقبض.

نظرت نحونا بنصف ابتسامة، وقالت:

“هل تم الأمر؟”

أجبت دون تردد:

“نعم، تم التخلص من باكفاست.”

نظرت إلى راي، الذي وقف خلفي، صامتًا، ساكنًا كعادته.

قلت بسخرية هادئة، دون أن ألتفت:

“لا تقلقي عليه… إنه يُجرّب علاجًا نفسيًا جديدًا.

اسمه الصمت العلاجي.”

فيرموث رفعت حاجبها، ثم نظرت إليّ بنظرة طويلة، وكأنها تزن كلماتي.

قلت بابتسامة جانبية:

“الغضب يُفسد وجهك الجميل، فيرموث.

احرصي عليه.”

لم ترد.

اكتفت بأن أخرجت بطاقة بنكية سوداء من جيب معطفها، ورمتها نحوي.

التقطتها قبل أن تلمس الأرض.

قالت:

“هذه تغطي جميع احتياجاتك للدخول إلى الجامعة.”

ثم تابعت:

“لكن…

لن تدخل أي محاضرة.

ستُجري اختبارات المواد مباشرة.”

نظرت إليها، أغلقت زر معطفي بهدوء، وقلت:

“هذا… عدل.”

سكت الجميع.

لم يبقَ سوى صدى صوت بعيد، ونظرات لا تُترجم.

2025/05/22 · 177 مشاهدة · 1409 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025