خرجت من الحمّام والبخار ما زال يملأ المرآة.

قطرات الماء تنزلق من شعري على رقبتي، تتابع مسارها حتى أطراف المنشفة المربوطة حول خصري.

مددت يدي، وسحبت منشفة صغيرة، مسحت بها المرآة حتى ظهرت صورتي جزئيًا.

نظرت إلى انعكاسي دون تعبير.

نفس العينين السوداوين… لا تزالا لا تبوحان بشيء.

دخلت غرفة الملابس.

أخرجت قميصًا أبيض بأزرار نظيفة، وسروالًا رماديًا رسميًا، وربطة عنق سوداء نحيفة .

ملابس طالب جامعي… أنيقة، خالية من التكلّف.

ارتديتها بدقة، أزرار القميص مشدودة، والحذاء ملمّع.

أخذت ساعتي، ربطتها على معصمي الأيسر، ثم التقطت سترتي ووثّقتها على كتفي.

نزلت عبر المصعد، خرجت من البناية،

كان الجو مشمسًا، السماء صافية، والشوارع لا تزال باردة.

البورش 911 السوداء كانت واقفة في مكانها المعتاد.

سيارة لا تصرخ فخامة… لكنها تعرف كيف تهمس بالقوة.

فتحت الباب، جلست في المقعد الجلدي، أغلقته بإحكام.

أخرجت سيجارة، وضعتها في فمي، ثم ضغطت زر نظام إشعال السجائر .

الدخان الأول خرج هادئًا… كأنني أتنفس ما تبقى من الليل.

شغّلت المحرك.

صوت ناعم، عميق، كنبض قلب جاهز للركض.

وضعت يدي على المقود، وانطلقت.

المدينة بدأت تتفتح حولي،

زحام الصباح، حافلات الطلبة، نساء يرتدين الكيمونو على عجل، ورجال يحملون حقائب العمل.

أنا… لا أنتمي لأيٍّ منهم.

لكني أتحرّك بينهم كواحدٍ منهم.

مررت بجانب نهر “سوميدا”، ثم انعطفت نحو الاتجاه الشرقي.

بعد أقل من عشرين دقيقة، ظهرت البوابة المزينة بحروفها الذهبية:

جامعة طوكيو – 東京大学

أطفأت السيجارة، فتحت النافذة، وأخرجت العقب.

“ها نحن ذا.”

أوقفت السيارة قرب الرصيف الجانبي، أطفأت المحرك، ونزلت.

أغلقت الباب خلفي بهدوء، ثم سرت بخطى ثابتة نحو بوابة المبنى الرئيسي.

طلاب كثيرون من أعمار متقاربة توافدوا إلى المكان.

بعضهم مع أولياء أمورهم، آخرون يحملون ملفات وأوراق في حقائب مرتّبة.

دخلت إلى بهو واسع، سقفه مرتفع وجدرانه مزينة بصور خريجين قدامى وشعارات الجامعة.

توجهت إلى قسم التسجيل.

وقفت أمام المكتب، ناولت الموظفة الملف المطلوب.

نظرت إليّ، ثم إلى الشاشة أمامها.

قالت بعد لحظة:

“كوربا رين…؟”

أجبت بهدوء:

“نعم.”

قلبت بعض الصفحات، ثم رفعت نظرها إليّ مرة أخرى:

“معدلك في الثانوية مرتفع جدًا.

لديك القبول في معظم التخصصات.

هل ترغب بدخول قسم اللغة الإنجليزية؟”

أومأت.

“هذا ما أريده، فقط.”

سجلت البيانات، ثم طبعت ورقة رسمية وختمتها.

بينما كنت أنتظر، نظرت حولي.

الردهة امتلأت بطلبة آخرين… وجوه جديدة، نظرات متفائلة، أصوات تتهامس عن أحلام جامعية لا علاقة لها بالسلاح ولا بالدم.

ابتسمت… ابتسامة صغيرة.

ولأول مرة منذ وقت طويل،

تمنّيت حياةً هادئة… مثلهم.

خرجت من مبنى الإدارة بخطى هادئة.

مررت بجانب عدد من الطلاب الجدد الذين يجلسون على المقاعد الخشبية أو يلتقطون صورًا تذكارية.

توجهت إلى زاوية بعيدة من الساحة، حيث كان هناك مقعد نصف مظلل تحت شجرة كرز لم تُزهر بعد.

جلست، وضعت الحقيبة بجانبي، وأسندت ظهري إلى المقعد.

أخرجت هاتفي.

المتصل: راي.

أجبت.

“نعم.”

سمعت صوته على الطرف الآخر، هادئًا كالعادة، لكن نبرته تحمل سؤالًا مترددًا:

“لدي سؤال لك.”

أخرجت علبة السجائر من جيبي، وضعت واحدة بين شفتيّ، أشعلتها، وسحبت أول نفثة ببطء.

قلت:

“اسأل.”

قال بعد ثانية:

“أكيمي ميانو ”

لم أجب فورًا.

أعدت السيجارة إلى جانب فمي، ثم قلت بنبرة باردة:

“ماذا عنها؟”

قال راي:

“اعلم انها في المنظمة… لكن أختها ما زالت هناك.

و الأمر مكتم عنها."

حدقت أمامي، نظري عالق في الهواء.

ثم أجبت:

“هذا الملف تحت صلاحيات جين مباشرة.

الفتاة الثانية… لها قيمة لا تُقدّر.

أمرها لا يُفتح… ولا يُناقش.”

أضفت بنبرة أكثر جدية:

“لا تتسبّب في مقتل أكيمي… بسبب فضولك.”

ساد صمت قصير.

ثم…

أُغلق الخط.

أعدت الهاتف إلى جيبي، وسحبت نفسًا عميقًا من السيجارة.

بعض الأسئلة… تُكلف أكثر من الجواب.

ما زلتُ جالسًا على المقعد تحت ظل الشجرة اليابسة،

والسيجارة تحترق ببطء بين أصابعي.

هواء طوكيو في هذا الوقت خفيف… لكنه يحمل أصواتًا من بعيد.

ثم رأيتهم.

باصات مدرسية توقفت على الجهة الأخرى من الساحة.

أبوابها فُتحت، ونزل منها عشرات الأطفال بزيٍّ موحد، يحملون حقائب صغيرة، ووجوهًا لم تُلوثها الحياة بعد.

حدقت في الاسم المكتوب على جانب الباص:

“مدرسة تيتان المتوسطة – 帝丹中学校”

رفعت حاجبيّ قليلًا.

“أليست هذه مدرسة شينيتشي كودو… وران موري؟”

سألت نفسي بصمت.

عمرهم لا يتجاوز الثانية عشرة، ضحكاتهم تملأ المكان، يركضون في مجموعات، ينظرون حولهم بفضول الطفولة.

ظننت أن لحظة المشاهدة ستمر كأي لحظة عابرة…

حتى سمعت صوتًا نسائيًا يعلو من بين الأطفال:

“سونوكو! أسرعي!”

التفتُ فورًا.

كانت هي.

ران موري.

بشعرها الأسود القصير، تركض بخفة نحو إحدى زميلاتها.

وبجانبها، تمشي فتاة بشعر بني فاتح مرفوع، أنيقة رغم عمرها – سونوكو سوزوكي.

لكن الذي شدّ عينيّ… كان ذلك الفتى الذي يمشي خلفهما،

بهدوء، وبنظرة حادة تفوق سنّه.

شينيتشي كودو.

وجهه مألوف… ملامحه ثابتة… ونظرته تسبق عمره بعشر سنوات.

جلست في مكاني دون أن أتحرك.

راقبتهم يعبرون الساحة، يتحدثون، يضحكون…

بينما سيجارتي تنتهي شيئًا فشيئًا

جلست على المقعد الحجري بجوار أحد المسارات الجانبية.

أطفأت السيجارة وسحقتها بنعل حذائي، ثم رفعت بصري.

من خلف الحشود، اقترب فتى بملامح مألوفة… عينان حادتان، خطوات ثابتة.

شينيتشي كودو.

توقف أمامي، يرمقني بنظرة تحقق.

قال بنبرة حذرة:

“أنت لست طالبًا هنا، صحيح؟”

رفعت نظري إليه، وابتسمت قليلًا:

“وأنت… شينيتشي كودو، أليس كذلك؟”

ارتبك قليلًا، حاجباه ارتفعا، وسأل بدهشة:

“تعرفني؟”

قلت:

“أنت ابن الكاتب الشهير، يوساكو كودو…

هل من الممكن أن أحصل على توقيعه؟”

من خلفه، وصلت فتاتان صغيرتان.

ران موري بشعرها القصير، تبتسم بهدوء،

و سونوكو سوزوكي بنبرتها المعتادة، قالت وهي تنظر إليّ من رأس قدمي حتى شعري:

“من هذا الوسيم؟”

ابتسمت، ووقفت بهدوء.

مددت يدي بتحية بسيطة وقلت:

“كوربا رين، طالب في جامعة طوكيو.”

تبادل الثلاثة النظرات، ران ابتسمت أكثر، وسونوكو أمالت رأسها باهتمام، بينما شينيتشي… اكتفى بالصمت، وعيونه تحاول فك شفرتي.

مدّ شينيتشي كودو يده نحوي، صافحني بثقة.

قال وهو ينظر إلى راحة يدي:

“أنت طالب جامعي صحيح…

لكن يداك ليستا يدَي شخص معتاد على الدراسة فقط.”

رمق يدي مرة أخرى، ثم تابع بثقة:

“هذا النوع من الندوب والخشونة… قديم.

أنت تمارس نوعًا من الرياضة… أو بالأحرى، فنون الدفاع عن النفس.”

ابتسمت، لم أُظهر دهشة، فقط نظرت إلى عينيه وأجبت بهدوء:

“إجابة جيدة…

تحليل ذكي، قدرتك على القراءة باللمس مثيرة للاهتمام.”

سحبت يدي ببطء، ثم أضفت وأنا أنظر إليه بتقدير:

“يبدو أنك من المعجبين بشيرلوك هولمز،

بل تلميذه ربما؟”

رأيت لمحة من الارتباك تمر في عينيه.

ابتسمت، ثم أكملت بنبرة أكثر دقة:

“من توزيع عضلات ساقيك مقارنة بذراعيك…

أنت رياضي، لكنك لا تمارس فنون القتال.

بالنظر إلى هيئتك، وارتكاز القدمين، هناك احتمالان فقط:

كرة القدم… أو ألعاب القوى.”

تسارعت ابتسامة ران ، وصفّقت سونوكو بخفة وهي تقول:

“واو! عرض مذهل!”

نظر شينيتشي إليّ للحظة، ثم أدار وجهه بخفة، يخفي ابتسامة محرجة.

انحرج.

قلت له بنبرة دافئة:

“لا تقلق…

التحليل القوي لا يُقاس بعدد الإجابات الصحيحة، بل بنوع الأسئلة التي تطرحها.”

تراجع شينيتشي خطوة صغيرة، يُحاول إخفاء ابتسامته المترددة.

كانت ران وسونوكو ما تزالان تتابعانني بنظرات إعجاب خفية، لكن الوقت كان قد انتهى.

أشحتُ بنظري عنهم، وقلت بصوت هادئ:

“تشرفت بلقائكم…

حافظوا على هذه الأيام، لن تُدركوا قيمتها إلا متأخرًا.”

ثم التفتّ، وسرت بخطوات واثقة نحو الممر الجانبي.

شمس الظهيرة انعكست على زجاج السيارة البورش 911 السوداء الواقفة على الطرف.

فتحت الباب، جلست في المقعد، وأغلقت الباب بهدوء.

وضعت يدي على المقود، لكن لم أشغّل المحرك فورًا.

من المرآة الجانبية… رأيتهم ما زالوا واقفين.

شينيتشي يحدق في السيارة بصمت،

ران تهمس له بشيء، و سونوكو تنظر بدهشة واضحة.

أشعلت السيجارة، سحبت منها نفسًا بطيئًا.

ثم شغّلت المحرك…

وصوتها الخافت ملأ الساحة كنبضة تُعلن الانسحاب.

انطلقت.

وتركت خلفي ثلاثة وجوه…

ستتذكر هذا اللقاء طويلًا،

دون أن تعرف من كنت.

دخلت الشقة بهدوء، أغلقت الباب خلفي، ثم وضعت الحقيبة على الطاولة.

الجو في الداخل كان ساكنًا… كما تركته.

أزلت سترتي، ووضعتها على ظهر المقعد.

فتحت النافذة قليلاً، وسحبت نفسًا من السيجارة… قبل أن يهتز الهاتف.

المتصل: جين.

حدّقت في الشاشة للحظة، ثم ضغطت زر الإجابة.

رفعت الهاتف إلى أذني، وقلت:

“نعم.”

صوت جين أتى باردًا، واضحًا، دون أي تحية:

“لديك مهمة اغتيال.”

أغمضت عيني، وقلت بهدوء:

“متى؟”

“الأسبوع القادم.”

ابتعدت عن النافذة، وسرت ببطء نحو المكتب.

“من الهدف؟”

ساد صمت قصير.

ثم جاء صوت جين منخفضًا:

“عضو في الحكومة.

اسمه سيُرسل إليك عبر قناة مؤمنة خلال يومين.

لكن… الاستعداد يبدأ من الآن.”

وضعت السيجارة في المطفأة، ثم سحبت الكرسي ببطء، وجلست.

“ماذا عن الموقع؟”

“فندق بارك ميناتو.

ثلاثة أيام من الآن… ستكون ضمن قائمة الحضور.

بهو الدور الخامس.

أغلقت الخط.

لم يكن يحتاج إلى المزيد.

2025/05/22 · 147 مشاهدة · 1305 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025