قادمتُ السيارة عبر الطريق المظلم، شوارع طوكيو بدأت تفرغ تدريجيًا من الزحام، والضوء الأصفر للإنارة ينعكس على زجاج البورش.

في المقعد المجاور، جلس راي – بذات هدوئه، نظره للأمام، لكن رأسه دائمًا منشغل بشيء آخر.

مددت يدي نحو درج جانبي، أخرجت علبة سجائر، تناولت واحدة،

ثم رفعتها نحوه بصمت.

أخذها دون أن ينظر إليّ.

أشعلت له، ثم أشعلت لي.

لحظة صمت ثقيلة، لم يُسمع فيها إلا احتكاك الولّاعة وصوت النار الصغيرة تلتهم التبغ.

نظرت إليه وسألته:

“ماذا تعرف عن المهمة؟”

نفث دخانًا مستقيمًا من فمه، وقال:

“جاءني الأمر من فيرموث…

لكن من يقود التنفيذ هذه المرة هو جين.”

أدرت المقود بانعطاف حاد، ودخلت إلى طريق جانبي مظلم.

“ومن الحاضرون؟”

قال راي وهو يُعيد السيجارة إلى زاوية فمه:

“جين… فودكا… فيرموث…

وأنت.”

ابتسمت نصف ابتسامة، وأجبت:

“تجمّع جميل.”

أوقفت السيارة في ممر ضيق تحت الأرض.

جدرانه من الإسمنت المتشقق، وإنارته خافتة ومتقطعة.

أمامنا، عند الزاوية البعيدة،

كانت هناك سيارة بورش سوداء قديمة، كلاسيكية، مغطاة بطبقة خفيفة من الغبار… لكنها لامعة.

“بورش 356 A… جين لا يقود سواها.”

قلت بصوت منخفض.

ترجلنا من السيارة.

كلانا سحب آخر نفس من السيجارة، ثم أسقطها وسحقها بصمت.

توجهنا نحو الباب المعدني الأسود في الجدار الجانبي.

الاجتماع على وشك أن يبدأ.

فتح راي الباب المعدني، ودلفنا معًا إلى الداخل.

الهواء بارد، رائحة الإسمنت والرطوبة تطغى، والإضاءة خافتة تتدلّى من السقف بأسلاك مكشوفة.

في نهاية الممر، وُجدت غرفة مفتوحة، داخلها طاولة معدنية دائرية، وثلاثة مقاعد.

فيرموث تجلس على طرف الطاولة، ساقًا على ساق، تنفث دخان سيجارتها ببطء.

جين يقف بجوار الحائط، يراجع ورقة صغيرة في يده.

أما فودكا … فكان واقفًا قرب المدخل، يعبث بزر سترته، يحاول أن يبدو حاضرًا.

دخلت، نظرت إلى فودكا، وقلت بصوت خافت وهو يسمعني:

“أوه، جيد أنك حضرت…

كنت أظن أنك مسؤول القهوة فقط.”

نظر إليّ، ولم يتكلم.

تابعت وأنا أمر بجانبه:

“هل أحضرت ملفات المهمة… أم أنك نسيتها بجانب أكواب البلاستيك؟”

ارتجف خفيفًا، همّ بالرد، لكن لم يمنحه أحد الفرصة.

صوت جين ارتفع بوضوح:

“اللذين سيدخلون إلى الموقع: بلموت… وأبسينث.”

نظرت نحوه، بينما راي بقي واقفًا بهدوء خلفي.

تابع جين:

“راي… ستكون القنّاص في حال فشل الاغتيال.

موقعك محدد.

إذا فشلوا… أطلق.”

سكت.

نظرت إليه، ثم قلت بهدوء:

“وفودكا؟”

نقلت بصري نحو جين مجددًا.

“ماذا سيفعل؟… يُصفّق؟”

جين لم يجب.

عيونه فقط التفتت ناحيتي لثانية، ثم قال بصوت حاد:

“انصرفوا.”

استدرت لأغادر، ومع كل خطوة نحو الباب، رفعت صوتي قليلًا:

“آنيكيي…”

قلت الكلمة بتهكّم واضح ، ونظرت إلى فودكا الذي شدّ ياقته بانزعاج دون رد.

أغلقت الباب خلفي.

جلستُ على حافة الطاولة أراقب بلموت وهي تراجع خريطة مصغرة لقاعة الفندق.

أشعلت سيجارة جديدة، ثم رفعت نظري نحوي وقالت بنبرتها المعتادة، ناعمة… لكنها حادة:

“ماهي الخطة، تسأل؟”

أومأت دون أن أعلق.

قالت وهي تُمرر أصابعها على موقع البوفيه:

“ستكون نادلًا في الحفل.

مهمتك بسيطة… لفت الانتباه فقط.”

نظرتُ إليها، ثم ابتسمت:

“جميلة… لكن مع أشواك.”

ابتسمت بدورها، تقدّمت نحوي، ثم مدّت يدها ولمست خدي بخفة ، نبرة صوتها انخفضت:

“الأشواك… قد تكون سبب وفاتك، عزيزي.”

شعرت بقشعريرة صعدت من عمودي الفقري حتى أطراف عنقي، لكني لم أظهر شيئًا.

أخذت نفسًا عميقًا، وقلت بهدوء:

“ستكون وفاة أجمل من أن أُقتل برصاصة من جين.”

ضحكت… ضحكة قصيرة، ثم ابتعدت بخفّة، تخلع معطفها وهي تتجه إلى حقيبتها.

وقفت، واتجهت إلى الخزانة الجانبية.

أخرجت زيّ نادل فاخر، أسود بخيوط ذهبية خفيفة، مع سترة أنيقة وقفازات قصيرة.

وقفت أمام المرآة، ارتديته بدقة، عدّلت الياقة، ثم ربّتُّ على الجيب الداخلي حيث يُخبّأ السم إن احتاجته بلموت.

كنت أتحرك بين الطاولات، حاملاً الصينية الفضية فوق كفيّ، أوزّع المشروبات بهدوء، ملامحي محايدة، خطواتي محسوبة بدقة.

كل شيء يسير كما خططت بلموت.

حتى جاء الصوت… مألوف، صاخب كأنه طعنة في الهدوء:

“كوربا رين!”

تجمّدتُ لثانية.

“اللعنة…” قلتها في داخلي، ثم التفت ببطء.

ران موري، سونوكو سوزوكي، وشينيتشي كودو.

تقف الثلاثة بملابس أنيقة، لكن دهشة الطفولة ما زالت على وجوههم.

“نعم! إنه هو!” قالت سونوكو، تلوّح بيدها.

ابتسمت، رفعت رأسي قليلًا:

“ما الذي تفعلونه هنا؟”

أجابت ران بحماس:

“أتينا مع والدي، إنه أحد ضيوف الحفل… هيا، سأعرفك عليه!”

قبل أن أنطق، أمسكت كمي وسحبتني خلفها.

سرتُ معها بهدوء، أراقب بعيني محيط الحفل، وأحاول تقييم موقع بلموت.

توقفت فجأة، ثم أشارت إلى رجل يقف بجوار أحد أعمدة القاعة، بشاربه الكثيف وصوته العالي.

“والدي، هذا كوربا رين، طالب في جامعة طوكيو.”

توغو موري.

الشهير بصوته، بضحكاته، وبسقطاته… التي تخفي أحيانًا عبقرية لا تُرى.

مددت له يدي بابتسامة هادئة:

“لي الشرف بمقابلتك، المحقق العظيم.”

انتفخ صدره، ورفع حاجبيه بفخر:

“لي الشرف… لديك عينان تميّز العظماء!”

ضحك… تلك الضحكة الغبية الشهيرة التي جعلتني أحبس نفسي عن الرد.

ثم… أحاط بي الثلاثة كالسيل.

“ما سبب وجودك هنا؟”

“هل تعمل هنا فعلًا؟”

“هل هذا عمل جانبي؟”

ابتسمت، وأجبت بنبرة مرحة:

“الرواتب هنا جيدة.”

ضحكت ران وسونوكو…

أما شينيتشي، فظلّ صامتًا لوهلة، ثم قال:

“لكن… من يحتاج إلى المال وهو يقود بورش 911؟”

توقفت للحظة.

ثم نظرت إليه، وابتسمت:

“لقد اكتشفتني، كودو.”

ثم أكملت بنبرة أكثر هدوءًا:

“أنا هنا لمادة اختيارية في الجامعة…

موضوعها: الثقافة الغربية في الضيافة.”

أشرت إلى زيّ النادل:

“ومن شروط هذه الوظيفة…

إتقان اللغة الإنجليزية.”

ساد الصمت لحظة، ثم أومأ شينيتشي برأسه، وكأنه اقتنع… جزئيًا.

لكن عيناه لم تتوقفا عن تحليلي.

ابتسمت لهم ابتسامة خفيفة، ثم قلت:

“أعذروني… يجب أن أعود للعمل، المشرف يراقب.”

أومأت ران بلطف، وسونوكو رفعت يدها مودعة، بينما شينيتشي ظلّ يراقبني بنظرات حذرة.

استدرتُ بهدوء، وعدت بخطوات منتظمة إلى خلفية القاعة، قرب باب الخدمة المؤدي للممر الخلفي.

ما إن ابتعدت عن الأنظار، حتى رفعت يدي إلى أذني، وضغطت قطعة الاتصال الصغيرة المثبّتة بدقة خلف شحمة الأذن.

خفضت صوتي:

“بلموت، سيحدث تغيير في الخطة.”

صوتها أتى عبر السماعة، ناعمًا كعادته:

“ما الأمر؟”

نظرت حولي، تأكدت من خلوّ الممر، ثم تمتمت:

“ستقع حادثة… حريق مصطنع في القاعة.

أنا سأفتعل الفوضى.

في اللحظة التي يُشتّت فيها الحراس والأنظار… استهدفي الهدف.”

ساد صمت لثانية.

ثم ردّت بصوت خافت، لكن حاد:

“فهمت… اغتيال في قلب اللهب.

دقيقة التنفيذ؟”

“ستعرفينها عندما ترى الدخان.”

أغلقت الاتصال، واستدرت نحو الخزانة الجانبية في المطبخ الخلفي.

عيني وقعت على الأسطوانة المعدنية الصغيرة المثبتة خلف جهاز التهوية…

أخرجت هاتفي القديم من جيب داخلي، رقم لا يخزّن، لا يتكرر، ولا يرد عليه أحد… إلا هو.

ضغطت الأزرار بهدوء، ثم وضعت الهاتف على أذني.

رنّ مرتين فقط، ثم جاء الصوت:

“ماتسودا، مرحبًا.”

أجبت بصوت خافت، دون مقدمات:

“أريد خدمة…

أطفئ جميع كاميرات فندق ميناتو، الآن.”

صمت لثانيتين، ثم قال:

“علم.

سأحتاج إلى دقائق قليلة… لا أكثر.”

“حسنًا.”

أغلقت الخط، وأعدت الهاتف إلى جيبي دون تردد.

تابعت طريقي بهدوء عبر الممر، حتى وصلت إلى باب المطبخ الخلفي.

دفعت الباب، ودخلت.

الطباخون مشغولون.

كلٌّ يركض نحو طبق، يصرخ في مساعده، لا أحد لاحظ دخولي.

مررت خلفهم، وواصلت حتى وصلت إلى صندوق الغاز الرئيسي خلف معدات الطهي.

مددت يدي، وأدرت الصمام… حتى فتحته بالكامل.

صوت الهسيس ارتفع… الغاز بدأ بالتسرب بقوة.

استدرت وغادرت بهدوء، دون أن يلاحظني أحد.

عدت إلى مدخل المطبخ، واقتربت من أحد الطباخين، وسألت:

“هل تشم رائحة غريبة؟

غاز ربما؟”

رفع رأسه، شَمّ… ثم فجأة صرخ:

“غاز! هناك تسرب! أوقفوا كل شيء!”

الحالة انقلبت إلى فوضى.

الطهاة بدأوا بالهرب واحدًا تلو الآخر، بعضهم أطلق إنذار الطوارئ، والهواء امتلأ بالصراخ.

ابتعدت بخطوات ثابتة إلى نقطة آمنة داخل الممر،

انحنيت، وسحبت المسدس الصغير من كاحلي.

ركّبت كاتم الصوت بسرعة.

نظرت باتجاه باب المطبخ المغلق خلفي…

طلقة واحدة.

“بوم!”

الانفجار دوّى خلفي، ارتجّت الأرض تحت قدمي، والحرارة صعدت كلسعة لهب مفاجئ.

شظايا زجاج وأدوات مطبخ تطايرت من الباب… وارتطمت بالسقف والجدران.

سقطت على ركبتي…

ألم مفاجئ اخترق ساقي.

نظرت إليها… جرح ناتج عن شظية معدنية.

لكنني نهضت.

الدم يسيل، لكن الوقت لا يسمح بالضعف.

اندفعت من الممر الخلفي إلى قاعة الحفل،

الهواء كان مشبعًا بالدخان، والصراخ يمزق الأركان.

الطهاة الذين أصيبوا خرجوا يترنحون، بعضهم يحترق طرف لباسه، وآخرون يسعلون بدموع خانقة.

الضيوف في القاعة هرعوا بكل الاتجاهات،

الطاولات انقلبت، الكؤوس تحطمت، والإنذارات تصرخ من كل جانب.

وبين الفوضى… وقعت عيني على الثلاثة.

ران، سونوكو، شينيتشي.

كانوا محاصرين وسط الحشود المتدفقة، يُدفعون، يُسحبون، يتعثرون.

تقدّمت فورًا.

ران انهارت على الأرض، تمسك رأسها،

سونوكو وقعت بجانبها، مغمى عليها تمامًا، وجهها شاحب من أثر الغاز.

شينيتشي كان يحاول سحب إحداهن، لكنه فقد توازنه وسط اندفاع الأجساد.

ركضت نحوهم.

“شينيتشي!”

نظر إليّ بعينين واسعتين، مليئتين بالذعر.

“اتبعني!”

انحنيت بسرعة، رفعت سونوكو على كتفي الأيسر، ثم حملت ران على كتفي الآخر.

الوزن ثقيل، وساقي المصابة ترتجف… لكن الوقت لا يسمح.

اندفعت عبر الزحام، أُبعد الأجساد بمرفقيّ، أركل الطريق بعقلي قبل قدمي.

شينيتشي ركض خلفي، يسعل، يغطي فمه بكم سترته.

وصلنا إلى المخرج الجانبي.

الباب انفتح بقوة، الهواء البارد اندفع نحونا كأن المدينة تحاول إنقاذنا.

خرجت.

وقبل أن أستدير لأتفقدهم،

جاء صوت هادئ في أذني… عبر السماعة الصغيرة.

“المهمة تمت.”

أغمضت عيني لثانية، ثم نظرت إلى السماء الرمادية.

خرجت إلى الهواء، والباب خلفي يُغلق بانفجار صراخ جديد.

وضعت ران و سونوكو برفق على العشب، قرب الرصيف، حيث كان طاقم الطوارئ يتجمع، والحشود تُدفع من كل اتجاه.

قبل أن أتحرك، سمعت صوتًا مألوفًا يصرخ من بعيد:

“ران! سونوكو!”

نظرت.

توغو موري كان يركض بارتباك، مع سترته المفتوحة، يبحث بعينيه وسط الناس.

تقدّمت نحوه، ولوّحت له.

ركض باتجاهي، وعيناه تتعلقان بجسد ابنته.

“ران!!”

ركع بجوارها، أخذها بين ذراعيه، وعيناه تتفقدان سونوكو بقلق.

نظرت إليه، وقلت:

“ستنقلهم سيارة الإسعاف، يبدو أنهن استنشقن كمية من الغاز، لكنها ليست قاتلة.”

رفع رأسه نحوي، عيناه ممتلئتان بالامتنان.

“شكراً… شكراً لك، كوربا رين.”

ابتسمت، دون أن أرد.

استدرت، ومشيت مبتعدًا.

صوت محرك ناعم وقوي اخترق الضوضاء.

نظرت جهة اليسار،

البورش 911 السوداء تقدّمت بهدوء، توقفت أمامي.

الباب الجانبي فُتح.

جلست في المقعد، أغلقت الباب، التفتّ.

راي يجلس خلف المقود، ينظر إلى الأمام دون أن يتكلم.

بعد لحظة، قال:

“اذهب إلى الموقع المحدد.”

نظرت إلى يدي التي ما زالت عليها آثار الدم، ثم إلى الجرح المغطى في ساقي.

أومأت بصوت خافت:

“علم.”

السيارة انطلقت،

وتركت خلفها حريقًا، وصرخات… وأسرارًا ستدفن تحت رماد الليل.

2025/05/22 · 124 مشاهدة · 1565 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025