رائحة المعقمات، الصمت، والأضواء الباردة…

لا شيء في هذا المكان يوحي بأنه مستشفى حقيقي، باستثناء حقيقة أن من يدخل هنا… نادرًا ما يخرج كما كان.

جلست على السرير الطبي، ساقي ممددة أمامي، والضماد يلفها بإحكام.

الممرضة أكملت تثبيت اللفافة الأخيرة، رفعت عينيها وقالت:

“الشظية أُزيلت، لا ضرر على العصب…

لكنك ستتحرك بحرية خلال شهر، لا أقل.”

أومأت بصمت، ثم غادرت.

لحظات فقط، حتى سُمع صوت الكعب العالي يقترب.

دخلت فيرموث بخطوات هادئة، كعادتها، لكن هذه المرة دون ابتسامة.

وقفت عند طرف السرير، يداها في جيبي معطفها، نظرتها مستقيمة ومباشرة.

“أريد إجابة، أبسينث.”

قالتها دون مقدمة.

“لماذا غيّرت الخطة؟”

نظرت إليها بثبات، تنفست بهدوء، ثم أجبت:

“لأسباب شخصية.”

ارتفع حاجبها، وكأنها تنتظر ما هو أكثر.

لكنني أكملت، بصوت أخفض، ونظرة أثقل:

**“أردتُ… دفن المكان القذر.”

“بطريقتي.”**

صمتت.

عيناها لم تتراجع، لكن تعابيرها اختلفت.

“كان بإمكانك أن تُسأل عن هذا… أمام جين.”

ابتسمتُ بلا سخرية، وقلت:

“كان بإمكانه قتلي… لكنه لم يفعل.”

التفتت برأسها بخفة، ثم تمتمت:

“أنت تلعب بالنار.”

أجبتها دون أن أنظر:

“ومثلكِ… تعرفين تمامًا كيف لا نحترق.”

استدارت وغادرت.

وبقيت وحدي، أراقب السقف الأبيض…

في صمت… لا يُداويه حتى الدخان.

خرجت من غرفة العلاج ببطء، يدي في جيبي المعطف، وضماد الساق يقيّد خطواتي، لكنه لا يوقفها.

الممرات في هذا الطابق مختلفة… ليست للشفاء، بل للصناعة.

أبواب زجاجية محكمة، كاميرات مخفية، وملفات مغلقة داخل أقفال بيضاء.

مررت بأحد الممرات الجانبية…

وكان الباب مفتوحًا قليلًا.

توقفت للحظة…

نظرت من خلال فتحة صغيرة بالكاد تسمح برؤية الداخل.

كانت هناك.

فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تقريبًا، ترتدي معطفًا أبيض أطول من قامتها بقليل،

تُعدّ أنبوب اختبار بعناية، عيناها موجهتان نحو معادلة مكتوبة على سبورة خلفية.

حركتها هادئة… دقيقة… مُرَكَّزة.

همست دون وعي:

“شيهو انتي هنا ”

كان الاسم يخرج كما لو أنه عبر ذهني فقط،

لكن وقعَه كان حقيقيًا.

لم تتحرك.

لم تنظر.

لم تعرف أن أحدًا مر.

أدرت وجهي، وأكملت طريقي.

كأنني لم أرها…

وكأنني لم أنطق.

القاعة صامتة، أصوات أقلام وورق فقط، يتردد وقعها بين جدران الإسمنت الملساء.

جلست في المقعد الثالث من الصف الأوسط، ظهري مستقيم، ويدي تمسك القلم بثبات.

أمام عيني، ورقة الاختبار الأولى في مادة:

“التحليل الأدبي الإنجليزي – مدخل نقدي”

نظرت إلى الأسئلة.

بترتيب هادئ، قرأتها واحدة تلو الأخرى.

التحليل، المقارنة، الاستنتاج، الترجمة.

ثم بدأت بالكتابة.

لم أرفع رأسي.

لم أحتج أن أتوقف.

كل شيء كان جاهزًا… هنا، في رأسي.

بعد خمسٍ وثلاثين دقيقة فقط، وضعت القلم، نظرت إلى الورقة للمراجعة… ثم نهضت.

تقدّمت نحو مكتب الدكتور المشرف، وضعت الورقة أمامه.

رفع عينيه عن أوراقه، ونظر إليّ:

“هل انتهيت؟”

قلت بهدوء، دون تردد:

“نعم.”

لم ينتظر تفسيرًا. فقط أخذ الورقة بيده، وأنا استدرت وخرجت.

خلفي، ما زال الطلاب منحنين على أوراقهم،

يتصببون عرقًا…

وأنا… كنت أتنفس كأن شيئًا لم يكن.

خرجت من المبنى بهدوء، وضعت يدي في جيب المعطف، وسرتُ نحو الساحة الخلفية التي تطلّ على الحديقة الصغيرة.

الجو بارد، لكنه لا يُقارن بالفراغ في داخلي.

توقفت عند أحد الأعمدة الخرسانية، أسندت ظهري، أخرجت علبة سجائر رقيقة من جيبي، سحبت واحدة، ثم أشعلتها.

أخذت نفسًا طويلًا…

أخرجته ببطء، ناظرًا إلى السماء الرمادية، كأن الدخان يرسم شيئًا لا أستطيع قوله.

كنت في انتظارها.

خطوات خفيفة من بعيد، ناعمة… مترددة.

نظرت من طرف عيني.

فتاة بشعر كستنائي طويل، ملامحها هادئة لكن عيناها تحملان خوفًا ناعمًا.

كانت ترتدي معطفًا رماديًا خفيفًا، وحقيبة صغيرة معلقة على كتفها.

أكيمي ميانو.

توقفت على بعد مترين، نظرت إليّ للحظة، وكأنها تتأكد أنني هو.

ابتسمتُ بخفة دون أن أزيح السيجارة:

“ظننت أنك لن تأتي.”

ردّت، بصوت خافت:

“ظننتُ أنك لن تنتظر.”

أشرت إلى المقعد الحجري بجانبي:

“أحيانًا… الانتظار يُعلّمك أكثر من المحاضرات.”

تقدّمت ببطء، وجلست.

الدخان تلاشى… لكن الهواء ثقل.

جلست أكيمي بهدوء على المقعد الحجري بجانبي.

الهواء خفيف، والدخان تلاشى، لكن الكلمات التي لم تُقال… كانت أثقل من كل شيء.

نظرت نحوي بصوت منخفض، وابتسامة خفيفة:

“كيف حال شيهو؟”

نظرتُ إلى الأمام، دون أن ألتفت، وأجبت:

“إنها بخير.”

ارتسمت راحة واضحة على وجهها، وانخفضت أكتافها المرتفعة قليلاً… كأن شيئًا انزاح عنها.

“سعيدة لسماع ذلك.”

ثم… صمتت.

نظرت إليها، رأيت في عينيها شيئًا لم تُفصح عنه.

سألت بهدوء:

“هل هناك ما يشغل بالك؟”

ترددت، ثم قالت بصوت منخفض، يكاد لا يُسمع:

“أريد… أن أعيش حياة طبيعية.”

نظرت إليها للحظة، ثم ابتسمت.

“ذلك حلم الجميع.”

ثم أضفت، وأنا أشيح بنظري إلى السماء:

“وبصفتي صديقك الوحيد…

سأساعدك، متى احتجتِ إلى ذلك.”

ابتسمت، ثم نظرت إليّ بنظرة مختلفة…

عيناها مليئتان بالإصرار.

قالت:

“شكراً لك، رينرو…

لكن لدي طلب آخر.”

نظرت إليها ببطء.

“اطلبي.”

قالت بصوت حازم، لا يرتجف:

“إن حصل لي شيء…

أريدك أن تحمي شيهو.”

لم أعلّق فورًا.

سحبت آخر نفس من السيجارة، ثم ضغطت عليها في المقعد، حتى انطفأت.

نظرت إليها، وقلت بهدوء:

“لك ذلك.”

ثم وقفت، رتبت ياقة معطفي، واستدرت.

خطوتي الأولى كانت ثقيلة… لكنها ثابتة.

ورحلت.

فتحت باب الشقة بهدوء، دخلت، وأغلقته دون أن ألتفت.

الداخل كما تركته:

نظيف، ساكن، كل شيء في مكانه… وكأن الوقت لا يتحرك هنا.

سرت باتجاه المشجب،

خلعت معطفي الجامعي، وعلّقته بعناية.

ثم وضعت المفاتيح على الطاولة الخشبية الصغيرة قرب الباب.

أضأت الإضاءة الخافتة، التي بالكاد تُنير الصالة.

مررت بالمطبخ، فتحت الثلاجة، سحبت زجاجة ماء، شربت منها جرعتين،

ثم تركتها مفتوحة على الرخام.

عدت إلى الصالة.

سحبت الستارة بنصف فتحة،

المدينة تلمع خلف الزجاج، لا تتوقف عن الحركة…

على عكسي تمامًا.

توجهت إلى الأريكة الرمادية،

جلست بهدوء، أسندت ظهري،

وأرحت ساقي المصابة على الطاولة المنخفضة أمامي.

صوت خافت من أجهزة التهوية…

ولا شيء غير ذلك.

الوحدة ليست ثقيلة… إنها معتادة.

مددت يدي إلى علبة السجائر على الطاولة،

سحبت واحدة، أشعلتها، وسحبت نفسًا عميقًا.

ثم مددت يدي إلى الحقيبة السوداء بجانبي،

أخرجت منها الحاسوب المحمول ، وضعته على ساقي، وفتحته.

سطع ضوء الشاشة في الغرفة المعتمة.

لحظة…

ثم ظهرت رسالة جديدة.

المرسل: .

الموضوع: هذا كل ما طلبته، رينرو.

فتحتها.

انفتح مجلد مضغوط، بداخله عدد من الملفات المرتبة.

قرأت العناوين:

• قاعدة بيانات أكاديمية الشرطة

• سجلات الخريجين خلال آخر عشر سنوات

• مسارات التوظيف الرسمية

• تقييمات داخلية

• تحركات غير معلنة

فتحت بعض الملفات سريعًا، قرأت عناوين فرعية، أرقام، تواريخ.

ثم…

تركت كل ذلك.

فتحت ملفًا آخر، بلا عنوان واضح… فقط رمز داخلي.

النافذة امتلأت بخمس صور.

خمسة رجال، مختلفو الملامح…

لكن الرابط بينهم لا يُرى في الوجه، بل في الخلفية.

أسماءهم:

• ري فوريا

• هيروميتسو موروفوشي

• واتارو تاكاغي

• كينجي هاجيوارا

• … وصورة خامسة لرجل آخر،

لكن الملف مشوّش جزئيًا… الاسم غير مكتمل.

تأملت الصور.

الوجوه لا تتكلم… لكنها تعرف الكثير.

أعدت السيجارة إلى فمي، وسحبت نفسًا هادئًا.

“هذا ما كنت أحتاجه…” تمتمت.

نقلت الحاسوب من ساقي إلى الطاولة.

السيجارة تحترق ببطء في المنفضة، والدخان يعلو في خطوط مستقيمة فوق الشاشة.

نقرت على صورة كينجي هاجيوارا .

فتح الملف.

الاسم: كينجي هاجيوارا

العمر عند الوفاة: 22

الرتبة: ضابط شرطة – وحدة التعامل مع المتفجرات

الوفاة: قبل ثلاث سنوات

سبب الوفاة: حادث أثناء محاولة تفكيك قنبلة

الملف مُصنّف كمغلَق… لكن في هذا الجهاز، لا شيء مغلق.

تحت المعلومة الرئيسية، وُجد رابط:

[فتح قضايا هاجيوارا]

ضغطت.

انفتح سجل متسلسل بالقضايا التي شارك فيها.

قضية رقم 042-A / ملف خاص:

“تفكيك قنبلة في مجمع سكني – وفاة الضابط المنفذ.”

فتحت القضية.

صور…

تقارير فنية…

إفادة صوتية مشفّرة من موقع الحادث…

خريطة المكان، ومخطط القنبلة.

توقفت للحظة.

ثم قمت من مقعدي، وفتحت أحد الأدراج الجانبية.

أخرجت وصلة USB للطابعة الصغيرة ، شبكتها في الحاسوب.

فتحت كل ملف داخل القضية،

وضغطت على: طباعة.

الطابعة بدأت تعمل.

الورق يخرج تباعًا،

جلستُ على الكرسي، يدي لا تزال تمسك بآخر صفحة من ملف قضية هاجيوارا.

سحبت نفسًا من السيجارة، ثم أطفأتها ببطء، ونظرت إلى الهاتف.

فتحت قائمة الاتصال الخاصة، وضغطت على اسم:

[Vermouth]

رنّ الهاتف مرتين… ثم جاء صوتها الناعم والمعتاد:

“أبسينث… ما الذي يدفعك للاتصال الآن؟”

قلت مباشرة، دون مقدمات:

“أريد مساعدتك في التنكر.”

صمتت لحظة، ثم ردّت بنبرة مائلة إلى الاهتمام:

“التنكر؟ على شكل من؟”

قلت:

“ضابط شرطة معين.”

سألت:

“متى؟”

نظرت إلى التاريخ المحفور في ذهني، ثم قلت بهدوء:

“في السابع من نوفمبر.”

لم ترد فورًا.

ثم جاء صوتها، هذه المرة أقل سخرية… وأكثر جدية:

“أنت تلعب في دائرة حساسة… من الهدف؟”

أجبت:

“ليس الهدف… بل الذاكرة.”

قالت:

“أرسل لي الاسم والصورة، وسأتولى الباقي.

لكن تذكّر… كل قناع تلبسه، يقربك أكثر من أن تُكشف.”

أجبت:

“ولهذا لا ألبس الأقنعة… بل أخلقها.”

وأغلقت الخط.

نظرت إلى تاريخ القضية في الصفحة الأولى…

“7 نوفمبر”… الذكرى التي لم تُكتب بعد.

جلست على الكرسي، أعدت فتح الحاسوب المحمول،

يداي تتحركان بخفة فوق لوحة المفاتيح، وكأن كل خطوة مكتوبة مسبقًا.

فتحت مجلدًا مشفّرًا بعنوان:

[MPD – RANKED / LEVEL B]

تصفّحت الأسماء… الصور… الملفات الشخصية.

توقفت عند واحدٍ منها:

“شيراتوري نينزابورو”

الاسم، الرتبة، المسار الوظيفي،

صور ببدلة رسمية، مقاطع فيديو من المؤتمرات، وحتى بصمة صوته.

كامل البروفايل.

ضغطت على زر التشفير، ثم أرفقت الملف برسالة بسيطة:

“المستهدف: شيراتوري.

التنكر الكامل، يحتاج مطابقة صوت، وبنية وجه.

الموعد: 7 نوفمبر.”

أرسلتها إلى: [Vermouth – Shadow Line]

وقفت، أغلقت الحاسوب.

نظرت عبر النافذة إلى ضوء المدينة.

—-

كوخ معزول في ضواحي طوكيو

6 نوفمبر – الساعة 11:42 مس

المكان مظلم، صامت، لا يسمع فيه سوى صوت الرياح تدفع أوراق الخريف عبر أرضية خشبية متهالكة.

في الداخل، كانت الأنوار خافتة…

رائحة خفيفة من الكحول الطبي، والحبل مشدود بإحكام.

شيراتوري نينزابورو مربوط إلى الكرسي المعدني،

رأسه مائل، ما زال يحاول مقاومة ما تبقى من وعي.

أنا كنت واقفًا أمامه، أرتدي قناع وجه سري أسود بالكامل ،

يغطي كل ملامحي.

سحبت من جيبي الداخلي إبرة محضّرة مسبقًا .

اقتربت، دون كلمة،

غرست الإبرة في عنقه، ببطء محسوب.

همست بهدوء:

“نم.”

سحبت الإبرة، وضغطت بقطعة قطنية.

نظرت خلفي وسألت دون أن ألتفت:

“هل سيبقى نائمًا يومين؟”

جاء صوتها ناعمًا من خلف الظل:

“نعم… تركيبة دقيقة، جرعة محسوبة.”

كانت بلموت واقفة عند الباب، تراقب بصمت، كعادتها.

سألتني بعد لحظة:

“لماذا لم تقتله؟”

نظرت إليها بعينين بلا ندم، وقلت:

“هل تريدين تحويل الأمر إلى قضية وطنية؟”

صمتت. لم تجادل.

ثم قالت، وهي تستدير نحو الباب الخشبي:

“فلنذهب.”

أومأت، وتبعتها…

وتركنا خلفنا جسد الشرطي يتنفس ببطء…

في مكان لا يبحث فيه أحد.

2025/05/22 · 128 مشاهدة · 1594 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025