47 - المحكمة العُليا

"قائد الرّهبان يطلُب مِن جميع القوى التوقّف حالاً والاجتماع في حُفرة أرَوان لِمُناقشة الأوضاع"

ارتجَفت قلوب السامعِين إلى هذا الصوت رغم أنه كان فقط أحد القادة الفرعيّين، وذلك لِأن الجميع يعلَمون بِأن جِنس الرّهبان هُم الأقوى، ولو كانوا يسعَون للسلطة فلَن يحكُم الأمراء أبداً، لذلك توقّف الجميع فجأة عن القِتال وبدأ القادة يتّجِهون تِباعاً إلى حُفرة أرَوان التي كانت مدرسةً في يومٍ من الأيام.

بعد خمسة أيام.. كانت ساحةٌ واسعةٌ بالقُرب من الحُفرة مليئةً بالأقوياء والمُؤثّرين من قادة الفصائل والجماعات والعشائر، وكان الملوك الخمسَة موجودين أيضاً مع الوُزراء والذين يُعتبرون جِنساً قوياً أيضاً، وكان أغلبُهم ينتظِرون قائد الرّهبان مُنذ أيام، لكنّه تأخّر عليهِم كثيراً على ما يبدو، ومع ذلك لم يجرؤ أحدٌ على التذمُّر خوفاً من العواقِب رغم أنه لا يوجد أكثر من خمسة رُهبان كِبار في كامِل التحالُف.

بعد انتِظارٍ طويل.. سمِع الجميع صوتاً وقوراً يأتي من السماء يقول

"يبدو بأني قد تأخرتُ عليكم كثيراً"

نظر الجميع للسماء فرأوا طاقةً نورانيةً بيضاء قوية تُعمي العيون، ودون إرادة.. بدأ القادة يَسقطون على الأرض الواحِد تِلو الآخر لِتقديم احتِرامِهم بالركوع والسجود، بل حتى أن بعضَهم قد أحسّوا بِرغبةٍ في البُكاء وكأنهم قد التقوا مع أحبابِهم الغائبين، ولم ينجُ من هذا التكليف إلا الملوك الخمسة بِسبب الطاقة الذهبية التي لا تتأثر كثيراً بالطاقة البيضاء الخاصة بالرهبان.

نزل قائد الرهبان بِبطءٍ حتى وقف أمام الجميع وكان رجلاً عجوزاً هزيلاً له شعرٌ أبيض ولِحيةٌ طويلة، ولم يكُن يلبِس شيئاً غير خِرقةٍ باليةٍ حول خصرِه، نزل على الساحة بِقدمَيه الحافِيتَين ونظر نحو الجميع قليلاً ثم قال بِلُطف

"انهضوا وعودوا إلى أماكنِكم، لديّ بِضع كلِماتٍ لأجلِكم"

نهض الجميع باحترامٍ فقال لهم

"كما تعلمون فنحن الرهبان لا نهتمّ كثيراً بشؤونِكم الدنيوية، لكن ما حدث هُنا يتجاوَز إدراككُم جميعاً، وهذا هو ما اضطرّني للتدخّل وحلّ هذا الصراع قبل أن يتفاقَم"

صمت قليلاً ثم نظر نحو الملوك وقال لهم

"بِما أنكم قد قتلتُم شويلّو بِأيديكُم فأنتُم لا يجِب أن تبقوا ملوكاً بعد اليوم، لكن عائلاتِكُم لا تزال لديها الفُرصة لاستمرارِها في الحُكم، ومع ذلك.. يجِب أن تدفعوا الثمن بِعمليةٍ إصلاحية"

عبس الملوك الخمسة ولم يجرؤوا على الاعتراض، تنهّد ثم أضاف

"بعد ثلاثة أيام.. ستَجلبون مصادِر الطاقة الذهبية إلى هُنا، وسيأتي أحد المُنفّذين من المحكمة العُليا لِجمع المصادِر الخمسة ودَمجِها لِتكوين دولةٍ واحِدة على أرض التحالُف، وسيمنَح عشرة مصادِر جديدة للطاقة الفضية لِأقوى القادة الذين شاركوا في الحرب لِيتحوّلوا إلى جِنس النبلاء"

ارتجفَ الجميع عِندما ذكر الراهِب بأن مُنفّذاً من المحكمة العُليا سيأتي لِحل المُشكِلة، لكن مشاعِرَهم قد تضاربَت بين فرِحٍ وحزينٍ عِندما ذكر المناصِب الجديدة، فبعضُهم سيُصبِح نبيلاً والآخرون سيفقِدون الحُكم، وهذه كانت بِداية عصرٍ جديدٍ لا أحد يعلَم كيف سينتهي بعد أن بدأ بمِثل هذه الطريقة الغريبة.

أشار قائد الرهبان بِيدِه نحو الحُفرة العملاقة ثم قال

"أرَوان ستُصبِح عاصمة الدولة الجديدة، ومَن يحكُمها سيتمّ اختِيارُه اعتِماداً على الرغبة المُقدّسة للطاقة الذهبية، هل مِن اعتِراض ؟"

ركَع الجميع على رُكبِهم ومِن بينِهم الملوك الخمسة هذه المرة لِأن الأمر صار مُتعلّقاً بالمحكمة العُليا، همهَم قائد الرهبان ثم قال

"جيد، دعونا نتحدّث عن الشخص الذي خدعكُم جميعاً، أنتم لا تعلمون بأنه شخصٌ خطير ويستحيل الإمساك بِه، وحتى نحن الرّهبان لم نستطِع اكتِشاف هويتَه الحقيقية أو مكانَه الآن"

عبس الجميع لِأن الرهبان هُم الحل الوحيد في مِثل هذه القضايا غير المألوفة، تنهّد ثم قال

"ومع ذلك.. توجد طريقةٌ نستطيع مِن خِلالِها الانتقام مِنه، لكنّها تستوجِب وجود شخصٍ حاقدٍ عليه ويكون مُستعداًّ لِدفع ثمنٍ كبيرٍ لقاء هذا الانتقام"

قال هذا ثم نظر إلى ملِك فلوريم، فهِم الملِك ما يقصِدُه فقال بارتجاف

"السيد العظيم، ابني الأحمق حاقدٌ على ذلك المُجرِم، لكنّه ليس الخِيار الأفضل لأنه مُجرّد جبان"

عبس قائد الرهبان قليلاً لأن ملك فلوريم ضحّى بِسُمعة ابنِه مُقابِل إنقاذِه، وقبل أن يقول شيئاً.. نهض مُدير أرَوان وقال باحترامٍ شديد

"أعتقِد بأني أملِك شخصاً كهذا"

أراد المُدير استِغلال الوضع بعد أن فقدَ كل شيءٍ خلال الأسابيع الماضية، فالمدرسة قد تدمّرَت في عهدِه وأتباعُه صاروا لا يُطيعونَه مثل السابِق ولم يعُد يملِك شيئاً من السلطة، لذلك سيكون من الجيد مُساعدة قائد الرهبان لعلّه يحصُل على أحد مصادِر الطاقة الفضّية ويتحوّل إلى جِنس النبلاء، لذلك قال هذا ثم انطلَق مُسرِعاً لِيجلُب الشخص الذي ذكرَه، وبعد بِضع دقائق.. عاد وهو يحمِل شاباً رقيقاً ذا وجهٍ حادّ وعينَيه مليئتَين بالإصرار، نظر إليه قائد الرهبان باهتِمامٍ ثم ابتسم وقال له

"إذا منحتُ لك فُرصة الانتقام لأختِك.. فما هو الثمن الذي ستدفعُه لي ؟"

كان هذا هو أخ تالين، ويبدو بأن الراهِب قد قرأ ذاكِرتَه مِن مُجرّد نظرةٍ وعلِم كل شيءٍ عنه، وكانت هذه إحدى مهارات الرّهبان في قراءة العقول، اهتزّ قلب الشاب ثم سقط راكِعاً وهو يقول

"حياتي ... أنا مستعدٌّ لِدفع حياتي"

قهقَه الراهِب ثم قال بِسعادة

"موتُك لا ينفعُني، اتبَعني وسأمنَح لك الانتقام الذي تُريدُه"

اقتربَ مِنه أخ تالين فأمسَك الراهِب يدَه وبدأ يطير بِه في السماءِ فقال ملك فلوريم باهتمام

"هل يستطيع إمساك ذلك المُجرِم وإرجاعَه للمُحاكمة ؟"

عبس قائد الرهبان ثم قال بِنبرةٍ جافّة

"حتى في مثل هذا الوقت.. لا زِلتَ تُفكّر في مصير البِلّورة البنفسجية ؟"

طأطأ ملك فلوريم رأسَه لأن هذاالراهِب يعرِف نواياه الحقيقية، صمت الراهِب قليلاً ثم قال

"لا، لن يستطيع إمساكَه أو قتلَه، لكنّه سيفعَل بِه شيئاً آخر أسوأ من الموت"

قال هذا ثم حام في الهواء مع أخ تالين قبل أن يَختفِيا بِطريقةٍ غريبةٍ وكأنه انتقالٌ آني.

.......................

في بُرجٍ مُرتفِع.. توجد قاعةٌ سوداء مليئة بالرائحة الكريهة، وعلى جُدران القاعة توجد جُثثٌ بشرية لأطفالٍ صِغار تم ذبحُهم وتعليقُهم حتى جفّت أجسادُهم من الدماء، ظهر فجأة شخصان في وسطِها وكانا الراهِب وأخ تالين، وما هي إلا ثوانٍ قليلةٍ حتى دخل أربعة رُهبانٍ آخرين يُشبِهون قائدهُم في الشكل واللباس، نظروا إلى أخ تالين قليلاً ثم أحاطوه مِن بعيدٍ دون أن يتحدّثوا لأنهم يتفاهَمون فيما بينهم عبر التخاطُر.

خاف أخ تالين قليلاً فقال له قائد الرهبان

"إذا أردتَ الانتقام فيجِب عليك أن تكون ذا عزيمةٍ كبيرة، سنُطبّق عليك تقنيةً قويةً تمنحُك مهارةً فريدة، لكنّك لن تبقى مِن جِنس المُواطنين بعد الآن، ولن تستطيع الرجوع إلى شكلِك القديم"

أومأ بِرأسِه وقال

"لا يهم ماذا يحدُث لي، المهم هو أن أنتقِم"

قال الراهب

"ستأخُذ العملية أكثر مِن ساعة، بعدَها.. ستتَمكّن مِن انتِقامِك، استعدّ"

قال هذا ثم أعطى الانطلاقة للرهبان الآخرين فأخرَجوا حِبالاً من الطاقة البيضاء وجعلوها تربِط جسد أخ تالين فبدأ يصرُخ من الألم لِبعض الوقت قبل أن يتجمّع دُخانٌ أسود فوق رأسِه ويدخُل إلى جسدِه مِن فمِه وأنفِه، ومهما نظرت إلى هذا الدخان فسيبدو لك وكأنه كائنٌ حيٌّ له إرادتُه الخاصة.

.......................

في قريةٍ صغيرةٍ خارِج دولة تاليمار.. كان آيدين يعيش حياةً هنيئةً بين أشخاصٍ بُسطاء جداً، تنكّر في البِداية بلِباس القرويّين وأخبرهُم بأن عشيرتَه قد تدمّرَت بالسّيول فسافر للبحث عن مكانٍ يؤوِيه، وأنه كان يتدرّب على الحِدادة عِند سيّدِه ويعرِف القليل عن صهر المعادِن وتشكيلِها، لذلك استقبلَه حدّاد القرية واتّخذَه تلميذاً وعامِلاً مُساعِداً مُقابِل المَبيت والطعام، ومع ذلك كان سكان القرية يُراقِبون تصرّفاتِه بِما أنه غريب، لكنّهم بدؤوا يتآلفون معه بعد مُضيّ أكثر من ثلاثة أسابيع ولم يعلموا بأنه هو الذي كان مُحتاطاً مِنهُم وليس العكس.

في إحدى الليالي، وبينما كان مُستلقياً على صخرةٍ قريبة من الوادي الذي تسقي مِنه القرية، شعر بِأن شخصاً ما يتسلّل مِن خلفِه بِهدوءٍ مُستغِلاًّ سِتارة الظلام، عبس وانتفضَ صارِخاً

"مَن هُناك ؟"

2020/03/13 · 766 مشاهدة · 1124 كلمة
abox33
نادي الروايات - 2024