10 - // // //—الفصل العاشر

الفصل العاشر

دوّت صرخة في الهواء، وأدرك كاو أنها صرخته. كان ينزل بسرعة صاروخية إلى الأسفل، وتشبثت ذراعا ليديا بجانبيه.

وفجأة، توقفا عن السقوط. تحركت ساقا كاو في الهواء الفارغ، وعادت معدته إلى مكانها الأصلي. انطلقت رصاصة في الهواء من مسدس، وسمع كاو الصوت الناعم للرصاصة وهي تخترق الخشب.

صرخ السيد ستريكهام: «أوقف نيرانك! ليديا!».

رأى كاو أغصان الشجرة تبتعد عنهما بسرعة كبيرة، فيما حدّق والد ليديا ورجال الشرطة صوب الأعلى بذهول كبير. ومع كل متر ارتفعته الغربان، أحسّ كاو أنه بات أصغر، وأن جسمه بات أكثر هشاشة. إذا سقط الآن فسيموتان حتماً.

تمتمت ليديا: «لا يمكن أن يحصل ذلك!». وهي تتشبث به بقوة.

نظر كاو قربه، ورأى كرامب تنقله حماماته. لا بدّ أن وزنه يبلغ ضعف وزن كاو، لكن طيور الحمام لم تواجه أية مشكلة على ما يبدو. تحركت معاً وكأنها جسم واحد، وحلقت في اتجاه بوابات الحديقة العامة، وبدا كرامب مثل شخص رثّ في قبضتها. خلف كاو، تحوّل رجال الشرطة إلى نقاط، فيما بدت البركة الدائرية تحتهم مثل قطعة نقدية نحاسية متسخة.

خرجت ضحكة فرح خالص من بين شفتيه، وقالت ليديا: «كاو، لا أصدق ذلك». وهي منقطعة الأنفاس نتيجة الحماسة.

كان خفقان أجنحة الغربان ناعماً ومطرباً. وفيما تبدد خوف كاو، أحسّ أن خفقان قلبه قد تباطأ للتناغم مع إيقاعها. ليديا محقة؛ لا يمكن أن يحدث ذلك. إنه يتحدى كل قوانين الفيزياء والجاذبية. إنه... سحر.

ازدادت سرعتهم، وارتطمت الرياح بأجسامهم. اجتازوا السكك الحديدية، وحلّقوا فوق دخان المصانع، ثم أخذوا المنحنى الشمالي فوق بلاك واتر. بدا النهر من السماء مثل أفعى ملتفة عبر المدينة. ثمة مراكب قليلة تركت فوق سطحه الداكن خطوطاً بيضاء. حدّق كاو بذهول في المدينة التي تحولت إلى شبكة من الشوارع، ورقعة من أسطح المنازل. رأى المكتبة التي بدت صغيرة كفاية للوصول إليها واقتلاعها من الأرض. بعدها، ظهرت أطراف المدينة، أطراف لم يحلم يوماً في أن يراها. انبسطت مراعٍ باللونين الأخضر والبيج على امتداد الأفق، وتناثرت بينها مساحات هائلة من الغابات الداكنة.

تشبثت به ليديا، ووضعت قدميها على قدميه، والتف شعرها حول وجهه، ونظرت إليه مبتسمة ابتسامة عريضة؛ على الرغم من تحول شفتيها إلى اللون الأزرق نتيجة البرد. أحسّ بشيء من الذنب. لم يكن يجدر به أبداً الشك فيها.

توجهت حمامات كرامب غرباً صوب مغيب الشمس وتابعت طريقها، فأمر كاو غربانه باللحاق بها ففعلت، مسوّية أجنحتها بشكل منزلق. منحت الشمس وجهه الدفء، فيما تلاعب الهواء بشعره. اجتازوا بلاك واتر مجدداً، ورأى قطاراً يتحرك فوق جسر سكة الحديد. كانوا مرتفعين جداً؛ حيث لم يتمكنوا من سماع هدير محركاته.

أدرك أنهم متوجهون صوب دار عبادة، ارتفع برجها شاهقاً في السماء مثل خنجر. كان البناء محاطاً بأبنية منخفضة ومهدمة. حلقوا نزولاً، مباشرة فوق مرأب سيارات، صوب الباب العملاق لدار العبادة.

أسرعت الأرض صوبهم، وأحسّ كاو بنوبة ذعر مفاجئة. أفلتته بعض الغربان فهبط بضع أقدام، فيما عدّلت بقية الغربان تحليقها لتحمل الوزن. مدد ساقيه بطريقة فطرية، لكن الغربان انحدرت مع بعضها، وأرجعت أجنحتها إلى الخلف. وعلى ارتفاع متر تقريباً من سطح الأرض، أفلتته مخالبها.

صرخت ليديا بصوت عالٍ وأفلتت قبضتها، فارتطمت بالأرض وبرمت على نفسها. أضاعها بصر كاو فيما ارتطم بدوره بالأرض. عجز عن البقاء على قدميه، فثنى مرفقيه ووقع على جانبه؛ لينغرز الألم في ضلوعه.

وعندما توقف أخيراً، مرضوضاً ومضطرباً، رأى الغربان تتفرق في السماء مثل الرماد في الهواء. كل الغربان، باستثناء ميلكي وغلام وسكريتش. همس قائلاً: «شكراً».

ترجّل كرامب أمامهما وهبط بنعومة على قدميه. أخرج حفنة بذور من جيبه ونثرها على الأرض، ما جعل حماماته تنقضّ بسرعة لنقرها. يصعب التخيل فعلاً أنه قبل لحظات قليلة، كانت هذه الطيور تحمل إنساناً كاملاً في الهواء. ابتسم كرامب بطريقة ماكرة. «كان يجدر بي القول إن الهبوط صعب قليلاً».

وقفت ليديا على قدميها، ورفعت كاو إلى الأعلى وقالت: «حسناً، كان هذا مختلفاً».

أومأ كاو برأسه، محدقاً في ميلكي وسكريتش وغلام، وقال بهدوء: «أتعلّم بعض الأمور أيضاً».

قال كرامب مشيراً إلى المبنى الضخم: «أهلاً بكم في مقرّ كرامب، أو بالأحرى في دار عبادة سانت فرانسيس، مثلما كانت تعرف قبلاً».

قالت ليديا: «هل تعيش هنا؟».

لا بد أن دار العبادة كانت ضخمة قبلاً - مثل العديد من دور العبادة الأخرى في بلاكستون - لكن يتضح جلياً أنها تضررت كثيراً نتيجة حريق. فالحجارة باتت سوداء في رقع كبيرة، واختفت نصف ألواح السقف؛ تاركة خلفها قطعاً خشبية متفحمة ومفتوحة مثل القفص الصدري المكشوف. جعل ذلك كاو يفكر في كائن متحلل تنقره الحيوانات الكاسرة.

قال كرامب: «لا يمكننا جميعاً الحصول على أسرّة من الريش ومياه صحية». وأنزل شفتيه نحو الأسفل قليلاً قبل أن ترتسم الابتسامة مجدداً على وجهه. «هيا، ادخلا».

طارت الحمامات عن الأرض، وخرجت عبر الفتحة الموجودة في السقف، لتستقرّ على الروافد الخشبية العالية.

قال كرامب: «لا داعي للقلق بشأن السلامة هنا». فيما دفع الباب بكلتا يديه، ولحق به كاو وليديا.

كانت ثمة فوضى عارمة داخل دار العبادة؛ فقد كانت الحجارة مغطاة برسوم الغرافيتي، ولم تبقَ نافذة واحدة من النوافذ المتسخة غير مكسورة. فاحت رائحة الرطوبة والنسيان، فيما علقت في الجهة الخلفية لحنجرة كاو رائحة شيء لاذع. كانت المقاعد الخشبية متناثرة في الزوايا، وثمة رمز ديني كان موجوداً سابقاً على الجدار في الطرف البعيد، لكن كل ما بقي منه جزء أكثر شحوباً من الحجر. تساءل كاو عمّا إذا كان قد تم إنقاذه عند اندلاع النيران في المبنى أم تمت سرقته بكل بساطة.

بمعدل درجتين كل مرة، صعد كاو درجاً حجرياً ضيّقاً على شكل دوامة. لحقت ليديا بكاو، فيما خربشت مخالب الغربان على الحجر أثناء قفزها خلفهم. انتشر البرد في الهواء.

قال كرامب: «اندلعت النيران في كل هذه المنطقة خلال الصيف المشؤوم. لم تملك المدينة المال لإعادة تشييدها، وبالتالي تم هجر المنطقة».

كان ثمة باب منخفض في الأعلى يفضي إلى طابق آخر في الجهة الخلفية من دار العبادة. كانت الأرضية محطمة على شكل رقع، كاشفة عن روافد خشبية تحت ألواح الأرضية. احتشد المزيد من طيور الحمام في الطرف البعيد، حول ما بدا جمراً متوهجاً في برميل قصدير قديم. الصبي صاحب الشعر الأشقر المتسخ جلس قربها، وهو يحرّك شيئاً في قدر. نظر إلى الأعلى، ورسم ابتسامة حين اقتربوا منه.

قال كرامب: «أين أصبح العشاء بيب؟».

سأل بيب وهو يومئ إلى ليديا: «من تكون؟».

قالت: «اسمي ليديا. وأنت، من تكون؟».

تجاهلها بيب، وعاد للاهتمام بتحريك ما في القدر وقال: «أخذت وقتك».

مشى كرامب على الأرضية الخشبية وقال: «لا داعي لأن تكون فظاً مع ضيفينا. واجهنا مشكلة مع الشرطة، وتوجّب علينا المجيء عبر الهواء».

قال بيب وهو يوجّه إليهما نظرة ملحة: «هل رأياك؟».

أجاب كرامب: «أخشى ذلك. لم يكن لدينا الكثير من الخيارات». نظر إلى كاو وليديا. «هل أنتما جائعان؟ يحضّر بيب الطبق الذي يشتهر به؛ حساء اليقطين».

كان كاو على وشك اللحاق به حين لاحظ أن ليديا تحدّق خارج نافذة مكسورة، فيما بدا القلق على وجهها. سألها: «هل أنت بخير؟».

أجابت: «أوه، نعم. أنا بخير». توقفت هنيهة ثم تابعت: «كنت أفكر أفقط في أمي وأبي. قد يغضبان مني لمدى الحياة بسبب هذا».

نظر كاو إلى الأرض. «إذا أردت، أستطيع تدبر طريقة لأعيدك...».

قاطعته ليديا: «لا، تم نقلي للتو فوق المدينة بواسطة سرب من الطيور. لن أعود إلى المنزل قبل أن أعرف كل شيء».

من دون التفوه بكلمة أخرى، أسرعت ليديا خلف كرامب، ولحق بها كاو.

جلسوا على الأرض حول الموقد. بدأ الظلام يهبط في الخارج، فحمل كرامب علبة كبريت، وراح يشعل بضع شموع مغروزة في قناني شراب قديمة.

قالت ليديا وهي تنظر إلى كرامب أولاً، ومن ثم إلى كاو: «إذاً، أنت خارق. كلاكما خارقان!».

حمل كرامب عود الكبريت أمام وجهه، فظهرت قسماته تحت الظل والضوء البرتقالي. لوهلة، بدت عيناه أكبر سناً من بقية قسماته. أطفأ عود الكبريت وقال: «نعم، وبيب أيضاً».

حمل كرامب أكواباً خزفية متشققة، فيما سكب فيها بيب الحساء. ارتفع البخار عالياً، وحمله التيار الهوائي بعيداً عبر السقف. بدأت النجوم تتلألأ في الخارج، وكان كل شيء هادئاً باستثناء هديل حمامة بين الحين والآخر. ارتشف كاو الحساء الكثيف اللذيذ، فيما بدأ كرامب الكلام.

قال كرامب: «مثلما تريان، ليست بلاكستون مدينة عادية؛ إذ ثمة شيء مميز فيها. لا يعرف أحد ما هو، لكن الحقيقة هي أن هذا المكان يجذب أشخاصاً مثلنا. تواجد في ما مضى عدد أكبر من الخارقين هنا؛ أي أولئك الذين يملكون الموهبة ويستطيعون التحدث إلى الحيوانات. لم يبقَ الآن إلا القليل منهم».

أحسّ كاو أنه انتظر طوال حياته لسماع هذا.

قالت ليديا وهي تنحني صوب الأمام: «إذاً، كاو خارق مع الطيور؟».

أجاب كرامب وهو يوجّه إليها نظرة شرسة: «فقط مع الغربان. طيور الحمام من اختصاصي». أصبحت نبرته أكثر نعومة. «لكن الأمر لا يقتصر دوماً على الطيور...».

نقر بيب بأصابعه، فأخرجت فأرتان رأسيهما الصغيرين من جيب معطفه.

قالت ليديا: «هذا جميل!».

تورّد بيب خجلاً وقال: «يمكنك مداعبتهما. هاتان الفأرتان غير مؤذيتين».

تمددت ليديا إلى الأمام لملاطفتهما، فيما سقسقت الفأرتان بسعادة.

قال كاو: «إذاً، جاوبون ومامبا وسكاتل من الخارقين أيضاً».

قال كرامب وقد اكفهرّ وجهه: «إنهم أقوياء وأشرار». ابتلع آخر ما تبقى من حسائه. وعندما وضع كوبه أرضاً، رأى كاو بعض القطرات على لحيته. مسح كاو ذقنه بكمه.

سأل كاو: «أين الآخرون؟».

أجاب كرامب: «في كل أرجاء المدينة. البعض أعرفهم، والبعض الآخر لا. قبل زمن بعيد جداً، كان الأشخاص العاديون يعرفون كل شيء عن الخارقين. سمحوا لنا بالتواجد، والعيش بسلام مع العالم الطبيعي. لكن الأمور تبدّلت بعدها. بدأت باتهامات السحر والشعوذة، ثم تم القضاء على بعض الخارقين. اختبأ البعض، فيما كافح البعض الآخر؛ وهذا ما زاد المشكلة سوءاً. تم إنهاء العديد من سلالات الخارقين. بعد ذلك، تعلّم الناجون إبقاء قواهم سرية؛ فقد أصبحت موهبتهم لعنة».

قال كاو: «سلالات الخارقين؟ ماذا تقصد؟».

سكب كرامب لنفسه المزيد من حساء اليقطين وقال: «قوّة الخارقين تأتي من الأب أو الأم. حين يموت أهل الخارق، تنتقل الموهبة إلى الولد البكر».

بدت الغرفة وكأنها أظلمت، واضطرب عقل كاو ثم ركّز. «إذاً، أحد والدَيّ...».

أمال كرامب رأسه وقال: «ألم تكن تعرف؟».

قال كاو: «أعرف ماذا؟».

بعد الصمت لفترة وجيزة، تحدث كرامب مجدداً وقال: «إنها أمك. كانت تتحدث مع الغربان قبلك».

حاول كاو استيعاب الكلمات. إذا كان ما يقوله كرامب صحيحاً، فهذا يعني أمراً واحداً فقط. «لكني أملك هذه القوة الآن. إذاً لا بد أنها...».

تشارك كرامب وبيب نظرة سريعة، ثم أومأ كرامب برأسه برزانة، ووضع يداً على كتف كاو. «أنا آسف. ماتت أمك قبل زمن بعيد. ظننتك تعلم».

نظر كاو إلى الكوب بين يديه؛ كي لا يرى الآخرون الدموع المتلألئة في عينيه، وقال: «أعتقد ذلك». لكنه تشبث بالأمل طوال كل تلك الأعوام؛ بأن تأتي يوماً ما وتأخذه.

قال كرامب: «كانت امرأة شجاعة؛ مذهلة».

خفق قلب كاو بقوة وسأله: «هل عرفتها؟».

هزّ كرامب رأسه. «لا، لكني رأيتها بضع مرات حين كنت شاباً. لم أجرؤ حتى على القول «مرحباً»».

تدفقت الأسئلة إلى عقل كاو، وحدّق في غربانه. وحده ميلكي كان ينظر في اتجاهه، بطريقة عمياء ومباشرة في الوقت نفسه. أما سكريتش وغلام فحوّلا ناظريهما.

قال للغربان بهدوء: «كنتِ تعرفين أيضاً، أليس كذلك؟». فجأة، بدا الأمر منطقياً؛ الغربان تحمله بعيداً في ذاكرته. لقد أمرتها أمه بأن تفعل ذلك؛ تماماً مثلما أمرها اليوم هو نفسه. كرر بصوت أعلى: «لا بدّ أنك كنت تعرفين». لم يعد بوسعه إيقاف الدموع المنهمرة. ونظرت إليه ليديا بحزن.

أخيراً، رفع غلام منقاره وقال: سمعنا. وصلت إلينا الحكاية. مرّت أعوام طويلة أيضاً. لم نجد الوقت مثالياً أبداً لإخبارك. كنا بخير وكنت بأمان.

مسح كاو أنفه وحبس دموعه. «لكن... كان بوسعك إخباري. طيلة ذلك الوقت، لم أفهم ما حصل مطلقاً. ظننت أنهما تخليا عني، غلام».

قال غلام: أرسلاك بعيداً للحفاظ على سلامتك. فقد جاء لقتلهما.

فجأة، بدت الغرفة أكثر برودة بعشر درجات تقريباً، وتراءت له صورة في عقله، صورة جريئة ومرعبة جداً. جسم موشوم بالحرف M، وثمانية أرجل زاحفة...

قال: «المتكلم مع العناكب».

بدا كرامب متفاجئاً هذه المرة وقال: «كيف استطعت...».

قال كاو: «كان في كابوس راودني. أعتقد أن له علاقة بقتل الآنسة والاس أيضاً». صمت وهو يشعر بالذنب.

قال كرامب: «أهي المرأة التي كانت في المكتبة؟».

أخبر كاو كرامب بكل ما رآه؛ عن رسوم الغرافيتي خارج منفذ الحريق، وشبكة العنكبوت فوق فم المسؤولة عن المكتبة.

بدا وجه كرامب شاحباًَ - جداً تحت كل الأوساخ. أما بيب - مثلما لاحظ كاو - فكان يرتجف. قال كرامب: «جاوبون والآخران. كانا من أتباعه عندما كان حياً. لكن رسم علامته الآن...».

سألت ليديا: «ماذا يريدون؟».

صمت كرامب قليلاً، ثم قال: «الخارقون الجيدون يعملون بتناغم مع حيواناتهم. أما الأشرار فيفرضون إرادتهم على الحيوانات. خارق العناكب كان الأسوأ. وقد أطلق على نفسه اسم «الرجل الدوّام» Spinning Man.

لمع شيء ما في دماغ كاو عندما سمع الاسم. وتذكّر ليديا في المكتبة حين رسمت شكل العنكبوت. قالت إن جسم العنكبوت كان على شكل S، وفي وسطه الحرف M الشائك. «الرجل الدوّام» Spinning Man.

ارتعد كاو. «أخبرنا كل شيء».

تابع كرامب الكلام: «لم يكن الرجل الدوّام Spinning Man راضياً بالبقاء مختبئاً بين البشر العاديين، بل أراد القوة. ولهذا، جمع بقية الخارقين المرتدّين وحاول الاستيلاء على المدينة. حصل ذلك قبل ثمانية أعوام».

قالت ليديا: «الصيف المشؤوم!».

ارتعد كرامب بشكل ملحوظ. «لم أكن أكبر سناً مما أنتما عليه الآن. حدد مهمته في العثور على كل الخارقين الجيدين و... القضاء عليهم. وقد نجح في ذلك تقريباً. شكّت أمك ربما في أنه آتٍ لقتلها. لو عرف الرجل الدوّام بوجودك لقتلك أنت أيضاً».

سأل كاو: «ماذا عن والدي؟».

قال كرامب: «تم العثور عليه معها. وقف معها... ودفع الثمن».

قالت ليديا هامسة: «أوه كاو، أنا آسفة جداً». ووضعت يدها في يده وشدّت عليها بقوة.

أحسّ كاو بإرهاق شديد. الأمل في أن يكون والداه على قيد الحياة تلاشى الآن بالكامل. وجاء كل اعتراف ليلقي ضوءاً جديداً ومؤلماً على ماضيه. فجأة، لم يعد والداه مجرد صورتين في كابوس، ووجهين يتحولان إلى لا شيء فيما تحمله الغربان بعيداً، بل كانا شخصين حقيقيين أحباه وضحيا بحياتيهما لإنقاذه. أحسّ كاو أن قلبه على وشك الانفجار.

تابع كرامب القول: «تقول كتب التاريخ إن الصيف المشؤوم انتهى فجأة. لكن الحقيقة أن الرجل الدوّام قتل. لهذا السبب، توقف سفك الدماء أخيراً». جلس فجأة بطريقة منتصبة، وبات وجهه أكثر قساوة فيما حدّق في النار المشتعلة في الموقد. «حاربنا بكل ما لدينا - بالذين بقوا - وآخر واحد منا قتله. احتاج ذلك الأمر إلى كل قوتنا، ومات العديد منا». بدت عيناه وكأنهما تحدقان مباشرة في اللهب.

«طبعاً، اكتفت السلطات في بلاكستون بالقول إنها موجة جرائم. وأُلقِي باللوم على هستيريا جماعية. لكن من دون زعيمهم لإرشادهم، أصبح أتباع الرجل الدوّام مستهترين، ونجحت شرطة بلاكستون في إلقاء القبض على العديد منهم، فيما هرب آخرون ونجحوا في الاختباء. عاد السلام؛ لغاية الآن...».

قالت ليديا: «انتظر لحظة. قلت إن الخارقين الجيدين قتلوا الرجل الدوّام. لكن، لماذا لا يزال أتباعه يستخدمون شعاره؟ ماذا عن رسوم الغرافيتي؟ ماذا يعني كل ذلك؟».

سأل بيب: «لقد مات، أليس كذلك؟». بدا فجأة صغيراً جداً.

أجاب كرامب: «أوه نعم، لقد مات. لكن...».

قالت ليديا: «لكن ماذا؟».

إلى جانبه، لمح كاو ميلكي مضطرباً، وينفض ريشه.

قال كرامب: «لقد رأيت شعار الرجل الدوّام أنا أيضاً؛ كان مرسوماً على مقعد في الحديقة العامة، ومرشوشاً بواسطة الرذاذ على غطاء محرك سيارة، ومخربشاً على حائط مستودع قرب النهر. لا بد أن أتباعه يلتقون مجدداً. لهذا السبب، صادفناك خلف مطعم الوجبات السريعة كاو. كنا نراقب المدينة ونتأكد من أن أصدقاءنا القدامى في أمان. أنا واثق الآن من أنهم ليسوا في أمان. ما من أحد منا في أمان. شاهدت كوابيس غريبة أيضاً؛ مثلك تماماً. كوابيس عن العناكب. لا أعرف السبب».

أحسّ كاو أنه يخفي عنهم شيئاً ما؛ شيئاً مهماً. «لكنك تملك فكرة عنه، أليس كذلك؟».

وقف كرامب ومشى بعيداً عن الموقد، منتصباً تحت السماء المتلألئة بالنجوم. وقف عند حافة ألواح الأرضية، ونظر إلى حماماته في مسكنها، غارقاً في أفكاره. وبعد نصف دقيقة من الصمت، استدار صوبهم. «ليس الأمر بسيطاً مثلما يبدو؛ مسألة حياة وموت».

قالت ليديا: «بلى، الأمر بسيط. إما أن تكون حياً أو تكون ميتاً». ونظرت إلى كاو، وقد اكتسب وجهها لوناً من الموقد، ولمعت عيناها دلالة على الخوف.

قال كرامب: «ربما. أتمنى ذلك».

فكّر كاو في والديه اللذين قتلهما الرجل الدوّام وأتباعه، وملأ الغضب كيانه. إذا لم يكن بوسعه الانتقام من خارق العناكب نفسه، فلا يزال جاوبون وسكاتل ومامبا على قيد الحياة. لا بدّ أن يدفعوا الثمن.

قال: «علينا إيقافهم! علينا المواجهة».

قالت ليديا: «يجب وضعهم في السجن».

قهقه بيب كاسراً الجو المتوتر؛ وضع خارق الفئران يداً فوق فمه.

سأل كاو: «ما المضحك في الأمر؟».

قال بيب: «لا شيء. الأمر فقط... لم تسنح لك الفرصة».

«ماذا تقصد؟». امتعض كاو من الابتسامة المتكلفة على وجه الولد الصغير.

قال كرامب بنبرة تحذيرية: «بيب...».

امتلأت نبرة بيب بالتحدي. «لا. كنت أراقبك كاو وأنت تتسلل خلسة في الحديقة العامة، وبالكاد تعثر على طعام كافٍ لتتناوله. بالكاد تجرأت يوماً عن الابتعاد عن ذلك العش. أنت تعيش مع هذه الغربان الثلاثة الرثة...».

هاي! صرخ كل من سكريتش وغلام.

قال كاو وهو يقف قرب بيب: «أنا أقوى مما تظن».

قال كرامب بطريقة بدهية: «بيب محق. لا يمكنك السيطرة على قواك».

قال كاو: «أنقذت ليديا ووالدها. كان جاوبون على وشك قتلهما!».

قالت ليديا: «وساعدتنا غربانه على الهروب من الشرطة في المكتبة».

أومأ كرامب برأسه وقال: «تملك الشجاعة. أعترف لك بذلك. لكن، هل يمكنك مواجهة الخارقين الآخرين مع كل حيواناتهم؟ ماذا لو أحضر جاوبون مجموعة كاملة من الكلاب معه؟ أو أحضرت مامبا دزينة أفاعٍ بدل الأفعى الواحدة؟ أنت محظوظ لأننا أنقذناك. رهاننا الأفضل الآن يتمثل في الاختباء».

تذكر كاو خوفه في المكتبة، عندما ثبّته كلب متوحّش ضخم ووجد نفسه عاجزاً تماماً عن الدفاع عن نفسه، فأحس أن ثقته بنفسه تختفي منه.

قال: «أنت محق».

قالت ليديا بصرامة: «لا، ليس محقاً كاو. طاردت الأفعى في منزلي أيضاً. لا تستسلم».

أمال كرامب رأسه، ونظر إلى ليديا وهو يقطّب جبينه. «تذكرينني بشخص عرفته؛ شخص شجاع جداً».

قالت ليديا: «أراهن أنه لم يستسلم، أليس كذلك؟».

هزّ كرامب رأسه. «لا، لم تستسلم».

حفّز تشجيع ليديا حماسة كاو فقال: «حسناً، فلنحارب إذاً. نجحت في جمع سرب كامل اليوم. أستطيع التعلم».

قال كرامب: «ليس بسرعة كافية. سوف يقتلونك كاو؛ تماماً مثلما قتلوا أمك».

جاءت الكلمات مؤلمة جداً. «دعني أجرّب!».

نظر كرامب وبيب إلى بعضهما، وهزّ بيب كتفه.

قال كرامب: «اسمع، دعني أريك ما تواجهه. سنخوض أنا وأنت مبارزة؛ اختباراً للقوة. لقد تمرّنت طوال اثني عشر عاماً، ورغم ذلك لا أستطيع الوقوف في وجه جاوبون أو سكاتل أو مامبا. عندما ترى كيف سأتغلب عليك بسهولة، فقد تعيد النظر بالأمر ربما».

قال كاو: «مبارزة؟».

قال بيب: «سيكون ذلك مرحاً».

زمّ كاو شفته، وقال لنفسه: إنهما يضحكان عليّ.

قالت ليديا: «يمكنك فعل ذلك!». وضربته بقوة على كتفه.

أحسّ كاو بنظرة ميلكي العمياء على وجهه، وفي تلك اللحظة عرف أنه لن يتراجع، وقال: «أنا موافق».

2020/03/06 · 248 مشاهدة · 2849 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024